كمال عبدالحميد
(مصر)

الفاتحة
تبَارَكَت أَسّماءُ أطفالِنا في الغيب

كمال عبد الحميد

****

" إذا وَجَدَ رجلٌ فتاةً عذراءَ غير مخطوبةٍ فأمسكها واضطجعَ بها فوُجِدا، يُعطي الرجلُ الذي اضطجعَ معها لأبي الفتاة خمسين من الفضّةِ، وتكونُ هي له زوجةً مِنْ أجل ِأنّهُ قد أذلَّهَا.. "

الإصحاح الحادي والعشرون
(28-29) الكتاب المقدّس

*****

ولمّا كانتْ السنةُ الخامسةُ والضالُ مهتدٍ، وآمنٌ قلبه، أنكرتْ الرسولةُ ما جاءتهُ بهِ فحدثَ له فزعٌ وخوفٌ كبيران، وإذا هو في هذيانٍ إلى يومِ الدين، وإذا أمّه مقهورةٌ وسط أخوته: " لا بِيرْ ولاَ مَيَّهْ دا ما فيش لا بِيرْ ولا مَيَّهْ عَنْد التُّرْبَهْ.. ما فيش لا بِيرْ ولا مَيَّهْ لا بِيرْ ولا جنينهْ.. دا عَنْد التُّرْبَهْ لا بِيرْ يا ضنايا ولا جنينهْ مقهورة والقهر بان على وشي نِزلتْ دموعي خلّتني ما شوفشي "

اسمي كمال عبد الحميد
ولا لقبَ لي
لَمْ أمتْ كما يموتُ الناس لَمْ أرَ شجراً طيباً يلوّح لَمْ يكن ثمةَ أبٌ وأمٌ وأخوة لَمْ تكنْ صرخةٌ في وداعي
أنا المقتولُ في الطابقِ الحادي عشرْ أَبكي خارجَ جثتي أَهذْي في النارِ السابعةِ: الماءُ الثّأرُ
تقولُ المستحيلةُ: - تعبتُ من الغامضِ البعيدِ - خُذْ الحكمةَ من النارِ والحيادِ - كُنْ طيّباً في الموتِ - تركتُ فيكَ ما لا يُشْفَى بَعْدِي - اللَّهُ معكْ
خمسةُ أسطرٍ مقابلَ خمسِ سنوات كيف تجرئين على التواضُعِ في القَتْل؟ أنا كَمَالُكِ في الظُّلْمَةِ والسرِّ كيف تخرجينَ إلى الضوءِ وحيدةً؟ كيف تتركينَ جثتي تشتهي الصراخَ في الطابقِ المنسي في الغرفةِ المنسيةِ في مارسِ الممطرِ؟
مَنْ يصعدُ أحدَ عشرَ طابقاً ليشدَّ الغطاءَ على هَذَياني؟
أعطني ما يدلُّ عليَّ ما انْتَقَتْهُ أَظَافِرُكِ مِنْ شَعْرِ يديَّ رُدِّي إليَّ موهبتي في البكاءِ استردِّي صوتَكِ مِنْ صَوت
لا تَقْتليني بعيداً عن رائحةِ الترابِ

أنا قتيلُكِ في النارِ السابعةِ أَنْتَظِرُكِ في غباءٍ مُؤقَّتٍ
انتبهي.. خَلفكِ أَمشي أَمَامَكِ أمشِي بَينَكِ أمشي أينمَا تُوَلِّينَ وجهكِ أخرجُ من جثتي.. وأمشي
أنا قتيلُكِ الذي يعرفُ: تكذبينَ في الوقتِ والوردِ، البطاقةِ والإهداء،ِ الكلامِ والكتابةِ، البكاءِ والمسرَّةِ، الوجهِ والهاتفِ، الأُلْفَةِ والشهوةِ، الضوءِ والظلِّ. تكذبينَ في النقمةِ والشَّكوى، الوعدِ والقَسَمِ، الصلاةِ والدُّعاءِ تكذبينَ في المرايا، في النصيحةِ، والتحيةِ، والسلامِ يغفرُ اللَّهُ لعبادهِ لكنَّهُ لا يغفرُ الخطيئةَ في الكلامِ
غداً.. أَراقِبُكِ في موتي وأَضحكُ: كيفَ تستبدلينَ الوردَ بالوردِ، العطرَ بالعطرِ، الأسماءَ بالأسماءِ؟
ما اسْمُ صاحِبُكِ في بطاقةِ الإهداء؟ أُخمِّنُ سطرَكِ الأول أخمِّنُ النقاطَ الصمَّاءِ (............) أخمِّنُ فاصلةَ التاريخِ والتوقيعِ والأمنيات ما اسْمُ صاحِبُكِ في قُبْلَةِ الأوراقِ والزجاجِ؟ كيفَ تنتسبينَ إلى آخرَ في عَقْدِ الزواج؟ أعرفُ كيفَ تقُولِينَها بوداعةٍ: (زَوَّجتُكَ نَفْسي)
غداً.. أَخرجُ مِنْ جثَّتي: على الرصيفِ والرخامِ، تحتَ الوهجِ والرذاذِ، فوقَ الطاولةِ والوسائدِ والستائرِ، في قصاصاتِ الورَق والجرائدِ، في الأبوابِ والصناديقِ والأدراجِ، في البراويزِ المدوَّرةِ والمائلةِ والمستطيلةِ، في مصادفةِ الأرقامِ والتواريخِ والأسماءِ، في تشابِهِ الأمكنةِ والأصوات، في مشهدِ فيلمٍ قديمٍ تسألينَ عن صاحبهِ، في تداخلِ الرمزِ والحقيقةِ، في تفاهةِ المسلسلِ المسائي، في النغمة ِالسوداء في اللحنِ، في البيتِ، في الشارعِ، فوقَ سريركِ المعطَّرِ برائحةِ ليلةِ الخميسِ.
ما اسْمُ سيدكِ الجديدِ؟ كيفَ تقدرينَ على مِلءِ فمِهِ بالطُمأنينةِ؟ كيف تشدِّينَ الغطاءَ على قدمَيْهِ.. كأنَّما لَمْ تشدِّي الغطاءَ على قدميَّ؟

أنا قتيلُكِ عظامي في القبرِ باردةٌ أشياؤكِ تشقُّ قمصانَها وتكلِّمُ اللَّه: " نحن الفانونَ نَمَرُّ كعابري سبيل ونُسْحَقُ بين الرمالِ.."
انتبهي.. أنا قرينُكِ في التَجْرِبةِ أعرفُ كيفَ تُجَهِّزينَ باقةَ الزفافِ، كما تُجَهِّزينَ الموتى كيف تتكررينَ بدهاءٍ في الحبِّ والقتلِ وتبتكرينَ الكذبَ الشاهقَ على الرملِ

أعرفُ.. كيفَ تنتقِينَ الحلوى والألبوم، وتذكرةَ الذهابِ لمدينةٍ لم نَزُرْها

ما اسْمُ صَاحِبُكِ في تأشيرةِ المطارِ؟
ما اسمُ صاحبكِ في رائحةِ السريرِ؟ أنا الرَّائِي مِن فَوقِكُمَا.. أقولُ: هذِه الأحلامُ.. لي اللمسةُ المفاجِئة لظهرِهِ.. لي اللفتةُ الجانبيةُ...، الطبقاتُ الموصولةُ بالعطرِ.. لي هذا الهمسُ في الفَمِ.. لي الرعشةُ المكتومةُ في البدءِ، العرقُ المبذولُ في هيبةٍ، الشهيقُ، الزَّفيرُ، الصَّمتُ، فَرْطُ الغيبةِ، خاتمةُ الماءِ والنارِ.. لي لي وحدي ما تهبُ الرُّوحُ للرُّوحِ، الجسدُ للجسدِ

كيفَ تجرئين على النظرِ في عينيهِ، كأنَّما لم تَنْظري في عينيَّ؟ بإذنكِ تنسحبُ الرحمةُ من حولي والنملُ هداياكِ الأخير

كيف لَمْ نمتْ وجهاً لوجهٍ؟ كيف لم يقتلني غَيْرُكِ بحقدٍ أقل؟

تباركتْ يداكِ تباركتْ نذالة الحبِّ والوردِ، النوايا الحسنة للقبيلة، تَفَاهَتُكِ القديمة، أكوابكِ السامةِ في فمي. تَمَجَّدَتْ الأطباقُ والأوراقُ والأقلامُ َتمَجَّدَتْ القهوةُ والمقهى واللفائفُ الملونةُ الصغيرةُ العطورُ والشموعُ والأركانُ، السريرُ والأريكةُ تباركَ ما يَسقطُ مِنْ شَعْرِكِ على الأرض
تَمَجَّدتْ الشامةُ والعلامةُ وحارسةُ الكنوزِ تَمَجَّدتْ الألقابُ والأنسابُ والفضيلةُ تَمَجَّدتْ أسماءُ أطفالنا في الغيبِ تَمَجَّدتْ عطاياكِ.. وخطاياكِ تباركتْ ما صنعتْ يداكِ من قبور تَمَجَّدتْ راياتُكِ البيضاءُ على الهاتفِ

تباركَ الخَذَلانُ والنسيانُ، العنادُ والفجيعةُ، الصَّمتُ والنَّفْطُ، الرَّملُ والملحُ، الهروبُ والفرُّ، السقوطُ والهزيمةُ.. تباركتْ شجرةُ البيتِ العتيقةُ، والأصواتُ خلفُكِ، المكيِّفُ والحديقةُ، الشوارعُ والبناياتُ، المراكزُ والمخابزُ، إشاراتُ المرورِ والغرورِ، الرسائلُ الظاهرةُ والباطِنةُ، الهواتفُ المحمولةُ والثابتةُ، أرقامُنَا القديمةُ والجديدة.. تباركتْ أسماؤنَا في النميمةِ تباركَ الخليجُ والنَّهرُ، الكتمانُ والجهرُ..

تَمَجَّدتْ المدنُ القريبةُ والبعيدةُ: أبو ظبي، القاهرة، بيروت، دمشق، أثينا، باريس، مدريد، والإسكندرية الماريَّة.. تباركتْ (البِنْدَارُ) في الفَقْدِ والغُبار

تَمَجَّدتْ أسماؤكِ في القطيعةِ: القاتلةُ، الخائنةُ، الكاذبةُ، الضَّالةُ، المضلَّةُ، الشيطانةُ، الرهينةُ، المرهونةُ، الأسيرةُ، الأمَةُ، الباكيةُ، البكَّاءةُ، الخائفةُ، الخوَّافةُ، الرخيصةُ في الأسواقِ، المجهولةُ قَبْلِي، المعْلومةُ بالغدرِ، الزائلةُ، المهْلكةُ، المدَّعيةُ، المبتدئةُ في كل شيءٍ، التامةُ في الحِقدِ والقتلِ، الخاويةُ، المقطوعةُ من شجرٍ مجهولٍ، المتحركةُ كالرملِ، المنطفئةُ، المأهولةُ بالريحِ والقيامةِ، المعقَّدةُ كخيوطِ كَفِّها، المخطوفةُ بصُفرةِ الموتِ

تباركتْ ألقابك في القيامة السَّجِينةُ، السجَّانةُ، المسمَّاةُ بنقيضِها، الظامئةُ، المقيَّدةُ بالظَّنِ والخَيْبَةِ، الخَاسرةُ، الخَسرانةُ، المسيَّجةُ بالنقمةِ، الغارقةُ في شِبرِ ماءٍ، المسطَّحةُ، المجرَّدةُ من الرحمةِ، الراغبةُ في السِّر، الملعونةُ في الكتابِ والسُّنةِ، الواقفةُ على مائةِ قبرٍ، المجرورةُ بالطاعةِ العمياءِ، المأمورةُ بالنَّفي والرفضِ، الهيِّنةُ، الهشَّةُ، المهانةُ بِالقبولِ، المأخوذةُ بالظَّاهرِ، الناسيةُ طَوْعاً وغصباً، المنسيَّةُ عَنْ قَصدٍ..

تباركتْ أَسْمَاؤكِ في الظَّلامِ: جَهنَّمُ ومِنْ فَوقِها لَظَى، ومن فَوقِها الحُطَمَةُ، ومِنْ فَوقِها سَقَر، وِمْن فَوقِها الجحيمُ، ومِنْ فَوقِها السعيرُ، ومِنْ فوقها الهاويةُ... تَمَجَّدَتْ أسْمَاؤكِ السبعةُ
تباركَ السَّوَادُ في السَّوَادِ
بِسمِ الله بِسم ِموظف البدالةِ ندخلُ سيرةَ الزُّجاجِ

كرِّر المحاولةَ تَجِئْكَ قيامةُ الأصواتِ من السوقِ اضغطْ زِرِّ المربعِ باحثاً عن قارةٍ سوداء، تمشي في الظلِ باحثاً عن شهودِ أكلةٍ الفستقِ، والنوافذِ

لأجل امرأةٍ سيِّئةِ الحظِّ يقولُ الغريبُ للغريبِ: ابتسامُتَها في جيبي يبكي في هروبِ صوتِها حتى تسقطُ آلهةُ الرحمةِ بينَ يديهِ

لأجلِها، كرِّر المحاولةَ مرَّتين اضغط كفَّ الساحرِ خلفَ الرقمِ صفر ماذا تخسرُ الآن على طاولةِ البليارد؟
عفواً الرقمُ الذي أدخلتَهُ غيرُ صحيح هكذا يقولُ الهاتِفُ والتي أدخلتني الخامسةَ والثلاثين بلا هدايا التي أدخلتني سؤالَ ما وراءَ السيراميك تصعدُ أحدَ عشرَ طابقاً لتسألَ
هكذا أموتُ بين قارَّتينِ أصعدُ في زجاجٍ وأهبطُ في زجاجٍ أُجَهِّزُ لغتي الثانيةَ: I want my coffee- what ?-

أحتاج مسدساً عِيارَ 9 مللي وكاتمَ صوتٍ، وعربةً مُجَهَّزَةً لنقلِ جثماني أحتاجُ حفرةً بعمقِ بئرِ يوسُف أحتاجُ ممثلتينِ محترفتينِ تبكيانِ خلفي فيحسدُني جاري ويُحْصِي الأصدقاءَ الخونةَ Sorry, What do you want? Nothing- Nothing-

خمسةٌ وثلاثون عاماً.. وأنا أُرَبِّي أكاذيبي في السرِّ
هكذا أموتُ بينَ قارتينِ أمسكُ بِطرفِ السريرِ: لا أحدَ لا رائحةَ لا بساتينَ أغرقُ ببطءٍ في مائِها.
هكذا أُبعَثُ وحيداً وأكتفي باسْمِكِ على الأرضِ

حسناً سأروي لكِ حكايتين: براويز الصور السِّرية وبكائي الأولُ في الليلةِ الخامسةِ حسناً سأنامُ بحرائِقي المجهولةِ لعاملِ المصعد

في الصباح في الطريق ِمن منازلِ الموتى لن أتكلمَ كثيراً كعادتي في شارعِ الجلاء وفي المساءِ في الطريقِ إلى منازلِ الموتى تتخمَّر اللغةُ في ألمِ الأسنانِ فأضحكُ بلا سببٍ في منتصفِ الوحدةِ الليلة سأخونُ المارلبورو وأجرِّبُ حرائقَ أخرى

وحيداً في البيتِ وحيداً في الشارع ِوالمقهى والكوابيس أهبطُ في برودةِ الرُّخامِ أكشفُ عن أسماءَ تُغَادرُ أصحابَها.. أولئكَ الموتى الـمُرَقمِينَ كالبنايات
الموتى في أصابعي يقرأونَ الجرائدَ في البانيو يأخذونَ حصةَ الهبوطِ والصعودِ يشتهونَ الهامورَ في الثانيةِ صباحاً الموتى في أصابعي يضجّونَ في أحاديثَ تنتهي دائماً بفاصلةٍ (ما علينا) أولئكَ الذين يعبرونَ الشرفةَ صامتين يموتون بلا مقابلٍ على ناصيةِ (إليكترا)

اللّيلةَ أحتاجُ قائمةً بأسماءِ قتلةٍ خرافيين لأفتحَ لكِ طاقةً على روحي أحتاجُ سحابة ًواحدة ًتمرُّ بينَنا لأدلّكِ على حرائقي

الليلةَ أحتاجُ نبوءةً أخيرةً لأطلُّ على جحيمِ رامبو لأقولَ لحرّاسِ جهنم: اللَّهُ أجملُ مما قالتْ صديقتي وأَرْحَمُ من كتابِ (عذاب القبر)

ما اسمُكِ؟ - يُفْسِدُ القتلُ أسماءنا
هذا صباحُ الله، مساءُ الأسماء التي تثقلُ أبدانَنا، فَكَمْ رصاصةً تلزمُ لألحقَ بعربتكِ الخرافيةِ. قيل إن لسائقها حفرةً في وجهِهِ وإنه أشارَ إليكِ وخاطبَكِ باسمكِ حتى ظنَّ البعضُ أنَه يعرفُكِ مِنْ قبل وقيلَ: لمْ يكنْ للعربةِ سوى مقعدٍ واحدٍ وحصانٍ وحيدٍ لهذا لمْ يستوقفْ أحداً غيرَكِ ولمْ يتركْ ما يدَّلُ عليِهِ سوى حفرةٍ واحدةٍ في وجهِهِ

وَحْدَكِ الآن مهدَّمةً دونَ سببٍ ما دون حاجةٍ لتأويلٍ مبتكرٍ عن الحياةِ والموتِ

أنتِ مَطْوِيِّةٌ بإتقانٍ كافٍ لأن نتبادَلَ العزاءَ ونمضي
فمَنْ أوْهمَكِ أننا شركاءُ للأبدِ وأننا لن نكتفي بعدَك بالتبغِ والشايِ وما تيسَّرَ من ذِكر اللهِ

من أوهمَكِ أننا سنطرُق أبوابَكِ بعنفٍ مُحَمَّلينَ بالهدايا لحرَّاسِكِ الخرافيِّين
هذه ميتتُكِ وحدَكِ فَخُذِيهَا كاملةً

هُناكَ- حيثُ يكتفي الموتى بأرواحهم- أَخْبِري اللّهَ كيفَ اختارَكِ الرصاصُ لمهرجانهِ مقابلَ الغموضِ والفوضى مقابلَ كل هذا الكلام عن الملكوتِ، والمقابر المطليَّةِ بالخرافةِ

يَخطر لي أَنْ أمُسِكَ الشمسَ وأشطرُهَا نصفينِ لا.. لأعطيَكِ نصفَها بل لألهو بها في وحدتي يبدو الأمرُ دعابةً لكنَّهُ ليسَ كذلكَ حيثُ أُخْرجُها مِنْ جيبي لأدفَعها أمامي كالكرةِ وربما أجدُ مبرراً لأصفعَها بقوةٍ حتى تفسِّرَ لي: لماذا أبقى وحيداً طالما اللَّهُ فوقَنا؟

منذ سبتمبر لم أتخيَّر طعامي كما ينبغي وإن كنتُ أُدخِّن جيداً أحجزُ لك مقعداً بجواري كلَّ صباحٍ فيزهو المحصلُ بفراستِهِ ويَغْمِزُ لي هكذا يظنُّ أنني على موعدٍ عاطفي لكنني جادٌّ في جنوني أردِّد بصوتٍ رخيمٍ: (الناسُ نيامٌ.. إذا ماتوا.. انتبهوا)

هنالكَ- حيثُ اللَّه كاملٌ كما الحقيقةُ- تعرفينَ الآن كيفَ دبَّرَ اللَّهُ كلَ شيء بعنايةٍ كيف انفرَطتْ مَحَاسِنُكِ في أبدِ الرمادِ وأنتِ تبحثينَ عن فتنةِ الموتِ..

الفتنة التي تفضِي إلى اللَّه وشوارعِه الرخامية وأَشبَاهِكَ الطيبين هؤلاء الذينَ قايضوكِ بحصيلةٍ وفيرةٍ من الفراشاتِ هؤلاء الذينَ امتلأتْ أفواههم بالنبيذِ والعَتْمةِ والحِكايات هَلْ ألقتْ بمعطَفِها؟
كنتُ أتهجَّى ما قالَهُ " مالك ٌ" في الخمرِ وأحسبُ ما في سواد عينيها من دمٍ وماءٍ.
كنتُ أعُدُّ فضائحي التي ستجيءُ بعد كأسينِ
بعد كأسين رأيتُ فيضَ انشغالِها يتفرَّقُ في حِمَى البار
بعد كأسين كنتُ أجمعُهَا كلَّما هَمَّتْ ببلوغِ اعترافي

أظنُّها أَلقتْ بمعطفِهَا.. التي وصفتْ عابريها بالجرادِ وهي تشغلُ خلاءَها بالحقدِ أخذتْ سيجارتي الأخيرة وبكتْ لأن ليلةً بالثلجِ لا تُعِيدُ غائبَها

أظنُّها مالتْ قليلاً واهتزتْ أوقفتْ قَمراً بالبابِ وقالت: خُذني
هذا اسمُها في فضاءِ " لابريوش " فوقَ طاولةٍ لا تشِفُّ عن قراصنةٍ عبَروا بياضَها هذا اسمُها منسوبٌ لأمسِ غرفةِ الخيانات

هذا قاتُلُها هذا أسودُ هامشِهَا هذا صائدُها وصانعُ غيبتِها وهذا خرابُها ليسَ بيدي

أظنُّها اقترحتْ حائطين لتصلَ إلى آخر البارِ..
التي أحدِّثكم عنها في الكأسِ الخامسةِ هي التي بكتْ ومالتْ َورَوَتْ ما لمْ أصدِّقْهُ عن رجلٍ تتساقطُ أطرافُه في سَريرِها

لأيةِ غايةٍ تذكرُ قاتليها بالاسمِ وتشيرُ إلى زمنٍ لمْ يكنْ لها؟ لأيةِ ليلةٍ تقصُّ شَعْرَها وتسألُ: مَنْ رآني.. يُخْبرني

هل رأيتَها في الكأسِ الخامسةِ، تكشفُ عن ظهرِها باكيةً وتصعدُ شجراً في الهواءِ
كأنكَ تراها اثنتين في الجدارِ في الخلاءِ في الممرِّ البعيدِ

هي ذاتُها انفتحتْ بوابةُ فراشاتِهَا في الغيبةِ التامةِ
في الكأسِ الأخيرةِ رأيتُ معطفها نجمة سوداء كل شيء رأيته اثنتين: البارمان نباتات الظل أسماؤنا الأولى وما تذكرناه من شوارع وخونة وأحقاد
في الكأس الأخيرة رأيتُ ظاهرَها وباطنَها قلتُ: أي خمرٍ ذهبتْ بنا؟

الغيبةُ الأولى: ما اسمُ عطرِها ما اسمُ رائحةٍ على خشبِ سريرِها تقودُني إلى الغامضِ البعيدِ؟

الغيبةُ الثانيةُ: كأنها شَقَّتْ عن صَدرِها ملأتْ راحتَيْهَا دماً وثعالبَ أعطتْ أصابعَها لصاحبِ البارِ لتعرفَ

كأنها مَشَتْ إلى النارِ أخذتْ حكمتَها وبكتْ
* الغيبةُ الثالثةُ: أوقفتُ قمرَ التي ألقتْ بمعطفها وقلُت: خُذني
* ما قالَتّهُ بالنصِّ: متى يتوقفُ القَصْفُ أو نموتْ ؟

* ما قالَتْهُ بالتأويل: - مَنْ يُنقِذُنِي سوى كراهيتي - تلك رائحتي مَنْ دخلها فهو آمنٌ - الليلةَ مُكررةً: اللَّهُ يرانا
لم أكنْ أعرفُ أن خمس سنوات تكفي لاختصارِ شارعِ المرور في سلامٍ عابرٍ
كنتُ أعُدُّني لمنافسةِ الملاكِ الحارسِ في عينيكِ وحذَّرتُ سائقَ الشاحنةِ: هدِّىء السرعةَ

لَمْ أكنْ أعرفُ أن صباحك الملوَّنَ بالأكاذيبِ يؤرِّخُ لرمادِ حضارة سوداء
تهجمُ من عينيكِ في حيادٍ
لَمْ أكنْ جاهزاً لشتاءِ المطعمِ الرُّخاميّ حين بدَتْ أصابعُكِ فضاءً بارداً لحفرياتِ قطيعةٍ تبدأُ الآن.

الآنَ يبتكرُ كلٌ منّا وجعاً أخفَّ لاجتيازِ هواءِ الآخر
ماذا أرى خلفَ (صباح الخير.. مع السلامة)
أرى أبي يُقْسِمُ في أولِ البكاءِ أنني لا أُشْبِهُهُ وأنني خيَّبتُ ظنَّهُ ثلاثَ مراتٍ حين أشرْتُ عمداً إلى أسودِ عينيكِ أرى سماءً تمطرُ عرباتٍ وعرائسَ ومصابيحَ أرى شوارعَ لي وحدي أرى صوراً في مقهى.. المقهى في قطارٍ القطارُ في عربةٍ العربةُ في كَفي
بالأمسِ كنتُ غامضاً على سجائري أطفأتُهَا واحدةً.. واحدةً ودبَّرتُ حِيلةً مكشوفةً لعناقِكِ أمامَ حارسِ السنترالِ
كنتُ غامضاً على صديقتي الجديدةِ حدَّثْتني عن مدينتينِ تحتَ قميصِها حدثَّتها عن قراءةٍ أخرى لهامشِ الغرفةِ السوداءِ
كنتُ غامضاً على فضولِ جارتي. أعطيتُها نميمةً للعشاء عن امرأةٍ بيضاءَ أعددتُّ فراشَها مرتين وأغلقتُ بابَها على شهوةٍ في التاسعةِ عشرةَ
جسدُها هذا الذي يضجُّ في قداستي، يخرجُ من نُبُوءَةٍ مَنْسِيِّةٍ على مقعدٍ مِنْ رمادِ المرأةِ ذاتها

جسدُها هذا الذي يتطايرُ مشاهدَ صامتةً يمشي مُحْترِقاً كطحالبَ عمياء جَسدٌ أعطيتُهُ - عبر هواء بيننا- ما لَمْ تأخذهُ امرأةُ العزيزِ في مكانٍ آخرَ كلُّ شيءٍ يحدثُ برتابةِ: المنسيون يملأونَ الميدانَ بلا قصدٍ، الباعةُ يقتسمونَ الخيبةَ بامتنانٍ وحزنٍ أقل، ماسحُ الأحذيةِ يجاهِرُ بسعال ٍحادٍّ هكذا.. كلّ شيء يحدثُ لا أحد تابعَ حريقَها الـمُجَهَّز
تماماً كأن التي بكتْ رائحتَها على فمي لَم ْتَكُنْ طريدَتي بالليلِ والنهارِ
أقولُ: غداً كلما حدَّثَتني بغزوةِ الجسدِ المطلِّ على مائي أقولُ: غداً والماءُ أصابعُ الروحِ لصعود بنايةٍ من دمٍ ولحمٍ.
رأيتُ رجفتَها حينَ انعكستْ.. فضيحةً مدهشةً في زجاجٍ هكذا أعرفُ أجل كتمانها بحركتينِ مرتبكتينِ:

* الأولى حركة يدين تستبدلان عرقَ أهدابِها بهواءٍ صامتٍ كأن قبائلَ تهتاجُ في أنفاسِها. كأن عذراءَ ريفيةً تعرَّت في مشهدٍ على حائطٍ. كأنها انفلتتْ من حَجرِ تماثيلها بشهوةٍ مصوَّرةٍ كأنها تقولُ: (أعزُّ ما أُخِذَ.. ما سُلِب)

* الثانية حركة نثرية لجسدٍ يرتجُّ طواعيةً سيكونُ ليلُها هجمةً طويلةً سيكونُ ضجيجُها في كل مرةٍ شاهداً على ظلمتي كضجيجِ قطةٍ في خَلاء ليلُها غزوةٌ خَسَارَتُهَا ماءٌ دافقٌ ونصرُهَا ارتجافةٌ ممطورةٌ في عرقٍ رائقٍ سأبدأُ..

أبدأُ بإثارةِ عشبٍ يموتُ هنا بين بياض عمودِها الرُّخامي
هنا فوقَ خِصْرٍ فائرٍ يبارِكُ صعودي في شهوةٍ داكنةٍ
هُنا على شهدِها السرِّي عشبٌ يصلي لسحابةٍ سوداء
هُنا سأفضُّ رسالةَ جسدٍ لا يُقْرَأُ شفاهةً سأتركُ هنا وليمةً مِنْ ماءِ ونارٍ
- منذ متى نَتَكَلَّمُ - أعطني أنفاسَكَ تحتَ المطرِ أعطني دقيقتينِ حتى أُغني: " ساعة بقرب الحبيب " دعنا نجرِّب أنفسَنا آلهةً صغيرةً على الهاتف
- حسناً، سيغلقُ المقهى ستطيرُ الببغاواتُ إلى شجرٍ قديمٍ في عصيرِ المانجو، وربما انتقتْ غصناً مائلاً في قميصِ الجرسونةِ العمياءِ: ماذا لو أنها غابةٌ
أكادُ أُكْمِلُ اللعبةَ: سأضيفُ عازفاً يجيء متأخراً ويأكلُ فمَ المغنيةِ، فيرتجُّ صدرُها ساذجاً كالموسيقى، وسأضعُ في الركنِ بَحّاراً قُطِعَ لسانُهُ لسببٍ ما ودون حسابٍ ختاميٍّ سَـأُرفِقُ أَصْدِقَائي الخونة إلى المشهدِ ولِمَ لا هُمْ عاطلونَ عن الغِناء
الببغاواتُ تركضُ في الركنِ المعتمِ والبحّارُ يشيرُ إلى لوحةِ الغرقى والعمياءُ القصيرةُ التي ترعى نهديها بعنايةٍ ادَّخرتْ لهما من بياضِهَا النصفَ والمارةُ الذينَ استداروا.. باركوا أشباحي ملعونةٌ كلابيَ الضالةُ كلابيَ المباركةُ في سَيْرِهَا أَسْفَلَ الضَّوء كلَّما لَعِبْتُ تعرَّتْ العمياءُ كلما قلتُ: أصدقائي.. هجمتْ الذئابُ على الطاولةِ الذئابُ التي تشتري الأسماكَ من السوقِ الذئابُ التي تضغطُ أَثْدَاءَها في الكلامِ
يا أصدقائي لنكُنْ طيبين في الموتِ حتّى نرى اللَّه
حسناً، سيغلقُ المقهى التفاهةُ المقدسةُ تمشي إلى البحرِ التفاهةُ التي أخذتْ اسمي التفاهةُ التي تُراقبني في تقاطعِ البناية والشارعِ تفاهةُ الشياطينِ في عَصبِ الأسنانِ.. الشياطينَ التي تنامُ بالملحِ والمخدِّرِ تفاهةُ الشهيقِ والزفيرِ، النعمةِ والنقمةِ، المكيِّفِ والرخامِ والسؤالِ عن نسبةِ الرتابةِ في الموتِ خمسةٌ وثلاثون عاماً وأنا أخاطبُ آلهةً في الرمل
لم تعطني تفاهتي كاملةً وأحبّها

****

تمام الجحيم

أنتظركِ في غباءٍ مُؤَقّت