تقديم: خلف علي الخلف

رياض الصالح الحسين:
كلما تراكم غيابه ازداد نصه حضورا

موت لم يكتمل: تأريخ السيرة

رياض الصالح الحسين:حتى في العصر الحديث لازال هناك خلاف على تاريخ ولادة شاعر، فرياض كما هو مذكور في (وعل في الغابة ) الذي صدر بعد وفاته عن وزارة الثقافة « وُلِدَ رياض الصالح الحسين في مدينة درعا في 10/3/1954 لأب موظف بسيط من قرية مارع في شمال حلب. كان والده يتنقّل مع عائلته بين المدن السورية ثلاثين عامًا. منعه الصمم و البكم من إكمال دراسته، فدأب على تثقيف نفسه بنفسه. اضطر إلى ممارسة العمل مبكرًا، كعامل و موظف و صحفي، و عانى من مشكلة البطالة. كان مستمرًّا في كتابة الشعر و الموضوعات الصحفية منذ عام 1976.. كتب في الشعر، القصة القصيرة، قصص الأطفال، المقالة الصحفية، و النقد الأدبي » (1) بينما في تراجم أعضاء اتحاد الكتاب العرب في سورية نجد أنه « ولد في مدينة (درعا) عام 1953. تلقى تعليمه في درعا، وعمل في الشركات الاهلية للغزل، وفي مؤسسة الأمالي الجامعية في مدينة حلب وفي أعمال عديدة وآخر عمل له في مكتب الدراسات الفلسطينية»(2). ويذكر د. علي حافظ أن « رياض انتقل في منتصف السبعينيات إلى دمشق بحثاً عن حياة (ليست عادية) على حد تعبيره. لكن هذه الحياة ـ الحلم كانت تتوارى بين أصابعه كالزئبق، وقد عمل رياض بداية مع أخيه عند الخياط علي الدخيل بالمرجة ببناية العابد! (...) في هذا الوقت بدأ رياض الصالح الحسين يشق طريقه الصعب في الحياة، ويخط معالم مسيرته الأدبية بنجاح ملحوظ، ناشراً نتاجاته الإبداعية بمطبوعات العاصمة: (المسيرة)، (الثقافة الأسبوعية) و(الثورة).، لكنه لم يكن سعيداً ومسروراً بهذا، إذ إن ظروفه الاجتماعية غير مستقرة، وأوضاعه المعيشية معقدة، وحالته الصحية السيئة تضغط على روحه وجسده » (3)، و يستند في المقالة التي كتبها عن رياض الى رسالة كان قد أرسلها رياض الصالح الحسين الى الشاعر الفلسطيني محمود علي السعيد بتاريخ 16 أيلول 1975شاكراً إياه على وضع اسمه ضمن لائحة الشعراء الشباب الذين سيشاركون بالمهرجان الشعري السنوي المقام بالنادي العربي في حلب، ومعتذراً عن عدم حضوره لفعالياته بسبب الظروف الصعبة والقاهرة المحيطة به في العاصمة!! (...) كما أنه يرسل قصيدة (العاشق القادم من البحر الخامس) طالباً من الشاعر محمود علي السعيد المساعدة على نشرها بجريدة (الجماهير) الحلبية، راجياً أن يكون هذا (دون حذف، أو بتر أصابع، أو نزع أضلاع)، كما يحدث عادة في أغلب صحفنا! لكن القصيدة للأسف لم تنشر لأسباب غير معروفة! " (4) وكذلك فإن تاريخ وفاته، يحوي اختلاف طفيف. إذ كما هو مذكور في " وعل في الغابة ". توفي في مستشفى المواساة بدمشق عصر يوم 21/11 / 1982بينما ذكر د. علي حافظ في نفس المقالة أنه كتب على شاهدة قبره (هنا يرقد الشاعر رياض الصالح الحسين الذي توفاه الله بيوم السبت الواقع 4 صفر 1403، والموافق 20 تشرين الثاني 1982 ميلادية). لكن الثابت مكان دفنه إذ دفن في قريته مارع شمال حلب.

بورتريه: من سيرة الحاضرين

في غالب أحاديث المثقفين حينما يتناولون فترة السبعينات وبداية الثمانينات، خصوصاً أولئك الذين عاشوا في حلب أو دمشق، لابد أن تأتي سيرة رياض الصالح الحسين. وإذا كان لازال بالامكان تدوين بعض التفاصيل عن حياته ممن كانوا قريبين منه، فإنه سيأتي اليوم الذي يصبح فيه تدقيق معلومات عن رياض أمراً ليس هيناً. وإذا كنت قد سمعتُ الكثير من المرويات الشفهية من الروائي فيصل خرتش عبر حسه الساخر لبعض مفارقات تلك الفترة شفاهاً، فلم يتح لي أن أقرأ روايات فيصل خرتش لأعرف إن كان قد ورد كأحد الشخوص في وراياته أم لا، وبعضها تناول جانباً من حيوات المثقفين في تلك الفترة. إلا أن جزء من حياة رياض الصالح الحسين ترد في رواية خليل صويلح ( بريد عاجل ) (5) و التي كانت أحد الزوايا التي اشتغلت عليها هي تأريخ حياة جيل الثمانينات من المثقفين في دمشق. رغم أن الرواية لم تذكره بالاسم. وإذا كان نذير جعفر يرد أيضاً في تلك الرواية كأحد شخوصها، دون إسمه إيضاً، فإنه نشر جزءا من مخطوط عن ذكرياته مع رياض في السبعينيات وتحدث فيه عن الأنسة س التي وردت كثيراً في شعر رياض « غنّى رياض أغنية فيروز: " بكتب اسمك ياحبيبي عالحور العتيق .. " التي حفظها مع بعض أغاني فريد قبل أن يفقد سمعه, وكان لا يغنيها إلا في ساعات التألق العاطفي واللحظات الحميمة, ثم قرأ المقطع الذي يحمل عنوان: "الآنسة س" من قصيدته (سطور من كراسة الحطابين الأشرار) التي عددتها حينذاك نقلة نوعية في تجربته, وفي كل سهرة تطلب منه أن يلقيها على الحضور، وعندما استمعت إلى رياض بحضور الآنسة " س " بدا وكأنك لا تعرفه, فقد احمرّت وجنتاه, واشتعلت عيناه بوميض شفّاف, وتهدّج صوته, فأدركت أنه عاشق حقيقي في هذه اللحظة, ولما سألته معقبا على ما قرأه: هل " س " التي تتحدث عنها هي غير " س " التي تجلس معنا الآن ؟ فقال: إنها هي نفسها» (6) وفيما ذكر د علي حافظ أنه جزء من رواية قيد الطبع « أياماً وأياماً أبحث في قريتي عن ذكريات طفولتي.. عن أصدقاء الزمن الجميل!
من بيت لبيت.. من شارع لزقاق.. من مقبرة إلى مقبرة.. من فاتحة إلى فاتحة.. من حي إلى ميت، ومن ميت إلى حي...أقف عليهم طويلاً.. أحدثهم بشأن حياتي، يحدثونني بشأن مماتهم الحي، خالد أنت في الذاكرة يا رياض، يا رياض الصالح الحسين!
وقفت عنده تأملته.. تأملني.. لمسته بروحي المحترقة.. لمسني بقصائده: (بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس)، جاء صوته مرحباً مع صوت ابن عمي الراكض بتداخل نبراته: (جهز الحلوى أيها الغريب القادم.. ها هو ذا صديقك الغريب الآخر الذي تبحث عنه يقف بين يديك). » (7) وربما كان موت رياض المبكر هو ما جعل أصدقاءه يكتبون عنه " بحرية " أكثر من الأخرين الذين ما زالو أحياء، إلا أنه كما بدى مما كتب عن تلك الفترة أنه كان أحد الأشخاص الذين لا يمكن تجاهلهم حين سرد الوقائع الحياتية لذلك الجيل. وتزداد المفارقات المروية ( شفاهاً على الأقل ) عن رياض تحديداً نظراً لوضعه " الصحي "، وما تشكله طرقه في التعبير من رفع المفارقة الى سقف أعلى، مما لو حصلت مع آخرين. إلا أن هذه المرويات ما كان لها أن ترسخ لولا موته المبكر أولاً، وتشكيله علامة فارقة عبر منجزه الشعري في جيله وما تلاه.

قصاصات الشهود: عن إرثه الشعري

إن أي كتابة تعنى بمنجز قصيدة النثر في سوريا وتتناول فترة الثمانينات ونهاية السبعينات سيكون رياض الصالح الحسين حاضراً فيها بكل تأكيد. وإذا كان السوريون نادراً ما يجمعون على شيء فإن كل من كتب أو تحدث، منهم، عن قصيدة النثر السورية في تلك الفترة، لا بد أن يأتي على ذكره كأحد أبرز ممثلي " تيار " ما اصطلح على تسميته لاحقاً القصيدة اليومية أو الشفوية، وممن سلطوا الضوء عليها الناقد (حينذاك ) محمد جمال باروت موصّفا إياها بإنها « قصيدة اليوم، قصيدة الكلام وقصيدة الشعور ذات البعد الواحد أو الصوت المفرد والمناخ الغنائي، ذات البنية الخيطية وذات الرؤية الجزئية (اهتمام بالأشياء الصغيرة) » وقد اعتبر باروت أن الماغوط يشكل مرجعية أساسية لهذا التيار إذ « استطاع الماغوط بقدرة إبداعية نادرة أن يترجم هذه المشاعر وهذه الحياة فنّيّاً وأن ينقلها من حقل الكلام اليوميّ المتكرر والمستهلك، إلى حقل الكلام الشعري الخصوصي والمتفرّد في مساحة غنائية، مظلّلة بخلفيّة رومنتيكية (نهلستيّة). لقد حقق الماغوط التّوافق الخلاّق مابين التّقنية والتّجربة الداخلية (المضمون). فالتّقنية تستمدّ ملامحها من حقل الكلام اليوميّ » (8) ويرى باروت أن قصيدة النثر بصغتها تلك اقتربت من جماليات الحياة إذ « عبرت "الحساسية الجديدة" في شعر السبعينات في سورية عن هذا العالم، حيث تقوم إشكاليتها الجمالية ـ الشعرية على البحث في "النثري" عن لغة شعرية ممكنة خارج لغة الرؤيا والخطابة. ولا نعني بـ "النثري" المعنى اللغوي للكلمة، بل المعنى الجمالي لها الذي قصده "بيلينسكي" والذي يشير إلى "الوقائعي اليومي". ومن هنا تقترب "الحساسية الجديدة" من جماليات "نثر الحياة"، وتبحث في تفاصيله ولحظاته ووقائعه عن عوالم شعرية أليفة، تعكس أحلام ورغبات وأحاسيس "الإنسان الصغير" المهمش في الظل، ومن هنا فإن "الإنسان الصغير" هو البطل الحقيقي في هذه العوالم، وليس "البطل القادر" أو "المنقذ". وكأن هذه العوالم ترى عالمها خالياً من "البطولة" و"والأبطال". ويمكن القول أن هذه العوالم في مناخها النثري الحياتي الوقائعي تقترب من "أحلام الإلفة" التي تحدث عنها باشلار. حيث تقوم على "المتناهي في الصغر" مقابل "المتناهي في الكبر" الذي قامت عليه بنيتا الرؤيا والخطابة. وبهذا المعنى فإنها تنمذج "الإنسان الصغير" بعلاقاته وتجاربه ولحظاته وأحاسيسه. فهذا الإنسان في شعر رياض الصالح الحسين هو "ذلك الطفل.. تلك المرأة" و"الجندي" و"الفنان" و"الرجل" و"الولد/ الفتاة" و "رجل متعب عائد إلى البيت"...» (9). ويرد رياض الصالح الحسين كأحد أبرز الاسماء التي تقدمت بـ هذا " التيار " أشواطاً إلى الأمام فحسان عزت يعتبر ان « التيار الآخر – الأول هو تيار قصيدة الدراما والتنامي الملحمي- هو تيار أوسع من حيث العدد والانتشار الكمي، لكننا سنجد القصيدة عنده أميل الى السرد والمباشرة ، والايقاع السريع، والصورة التي لا تكاد ترى.. وهنا سنقع على القصيدة الومضة والبرقية، والفقاعة، وحفنة الكلمات .. واللغة عادية يومية هي لغة الناس، لا مرجع لها إلا العابر والمستهلك، في حالات كثيرة ستكون القصيدة أشبه بالبيان القصير، وخبر الرادين، والرسالة العاجلة وشكوى الحال، والخاطرة .. وتوحي بمقاربة للترجمة والاغتراب وتأتأة اللغة، والقصيدة عند أصحاب هذا التيار هروب من عقد ومحرمات واوجاع بعيدة، وفك ارتباط مع المطلق والتراث والأساطير والرموز والتاريخ، فأساطير شعرائها يومية ، والخراب خراب دورتهم الدموية، فهم وعول هاربة الى الغابة، بسطاء كالماء واضحون كطلقة مسدس .. وهذه العبارات مأخوذة من عناوين مجموعات الشاعر الآفل رياض الصالح الحسين » (10). بينما اعتبره عهد فاضل في كتابه ( تعريف الشعر) (11) أحد الذين نجو من الإرث السبعيني. وجعلوا الحياة تتدفق في القصيدة فعاد الإنسان الطبيعي إلى مملكته بدون كلفة الترميز والشحن الماورائي أو الذهني.
وقد احتج منذر مصري حين كرست إحدى المجلات الفرنسية الفصلية (Poetique Action الحركة الشعرية) أحد أعدادها، لملف خاص عن الشعر السوري المعاصر. ولم يترجم رياض الصالح الحسين حينها « يوجد هناك أسماء مكرسة ليس يسيراً القفز فوقها وعدم إيرادها، وذلك لأهمية صوتها الشعري وفرادتها، مثل بندر عبد الحميد وعادل محمود والراحل رياض صالح حسين، أسماء هامة لا ريب يستغرب المرء غيابها. في الوقت الذي كان يمكن لتواجد قصائدهم، على حساب تقليل عدد القصائد الواردة لكل شاعر في الملف، أن تغنيه لحد كبير، بالقدر الذي يساعد على أخذ صورة أشد كمالاً للشعر السوري. » (12) فهو يرى أن قصيدة «الخنجر» المنشورة في مجموعة «وعل في الغابة» هي واحدة من أفضل وأجمل مااستطاع «جيلنا الشعري الركيك والضائع أن يقدمه» (13) وقد اعتبر عزت عمر في سياق تقديمه لأنطلوجيا شعر التسعينات في سوريا، والتي رأى أنها استندت الى ارهاصات مرحلة الثمانينيات، في تغيّر التوجّهات الشعرية السورية من حيث المضامين، وكذلك تغيّر أنماط الخطاب من حيث الشكل ؛ بحيث اندفعت عميقاً إلى الذات الإنسانية و قد رأى أنه « ربّما كانت تجربة الشاعر رياض الصالح الحسين تشكّل منعطفاً حاسماً في التأسيس لهذه اللغة الجديدة والمختلفة حتى عن لغة شعراء مجلة شعر وتنظيراتهم، وكان على هذه الولادة الجديدة أن تقحم في مواجهات شديدة وعلى أكثر من صعيد، ولم يكن شعراء التفعيلة في هذه » (14) وفي تقديم سعدي يوسف لأعمال لقمان ديركي رأى أن « ليس لدى لقمان مرجعية شعرية مقررة مقدّسة. لكنّ لديه اعتبارات: رياض صالح الحسين أولاً وربما أخيرا. لماذا يمضي بعيداً إن كان رياض مضى أبعدَ مما يتحمّل ويُحتمَل؟ الدرسُ قائم، مستمر. المرجعية شخصيةٌ تماما. » (15) بينما يعتبر حسين عجيب أن قراءة رياض الصالح الحسين صدمته وغيرت توقعاته « كلمة"الادّعاء" بقيت ملاصقة للشعر والشعراء وواصفة لهم, حتى قرأت لأول مرة رياض الصالح الحسين بعد أعوام من دخولي الجامعة, صدمني وغيّر توقعاتي, وأحببت ذلك النمط من الكتابة » (16) ويؤكد بعد ذلك انه عندما « يتعود السوريون، التسامح والتفكير الهادئ، سوف توضع سنية الصالح مع الماغوط، إلى جانب رياض الصالح الحسين، في الكتاب المدرسي. » (17) وقد ظلت تجربة رياض حاضرة على الدوام في المتابعات الصحفية التي تكتب في الصحف السورية وشكلت مثالاً في الغالب للقياس. إذ أنها أصبحت مرجعية منجزة يتم الاحتكام لها في ماهية قصيدة النثر خصوصا تلك التي تمثل "التيار اليومي" فقد كتب طارق عبد الواحد أن رياض كان يتملك الوعي الشعري « الذي يقبل كل التناقضات دون تفلسف ودون مراوغة, ليس لأنه لم يكن ناضجاً كفاية, بل على العكس..لأنه على وعي بالثنائيات المأساوية وجدلها الذي يقود الى الموت, لذلك آثر الصالح الحسين أن يعقد أواصر الصداقة مع التفاصيل..احتفالاً بالحياة. لقد أراد أن يعيش الحياة لحظة بلحظة: (الموتى الجميلون/ذوو الأسنان البالية/ والوجوه الناتئة/ تذكروا وهم في قبورهم/ضوء القمر وخضرة المراعي/ تذكروا أنهم لم يعيشوا كما ينبغي/ لم ينتبهوا الى الأصوات والألوان/ الموتى عرفوا/ ربما للمرة الأخيرة/ كم هي لذيذة حياة الأحياء)-من نص بعنوان: كم هي لذيذة, في مجموعته: وعل في الغابة« ويضيف « إنّ تأمل الأدوات الشعرية عند رياض, وتفحص البنى النصية عنده يأخذنا الى المجال الحيوي للشعر باقتراحاته الحديثة..حيث الابتعاد عن تهاويم اللغة واغراءاتها وانحيازها الى منطقها الخاص..فاللغة ها هنا لم تعد تقود الشاعر, والتحكم بالمسافة بين الأشياء وبين طرائق التعبير عنها هو وظيفة الشاعر. وقد اختار رياض تقليص هذه المسافة والتصرف بها دون فذلكة, أو انشائية, أو بهلوانيات لغوية, لقد اختار أقصر (وأبسط) الطرق لتحقيق النص الشعري دون أن يقع (غالباً) في فخ التقريرية. إن الشعرية ليست في اللغة فقط, بل في الحياة كذلك, وبالاتكاء على هذا المنطق استطاع الصالح الحسين أن ينجز لحظات الدهشة, وكأنه يرى أن في إعادة ترتيب الأشياء الرتيبة..يمكن قنص اللحظات الحاسمة, اللحظات الإنسانية العارمة التي توفر فرصة التحرر والانفكاك من قسوة الزمن..‏ » (18) ويعتبر علي سفر أن ملامح القصيدة الشفوية اليومية المتوافرة في شعر رياض الصالح الحسين جعلته دائما نموذجها الأبرز. و « الكثيرون ممن يكتبون الشعر الآن في سورية يدّعون وراثة هذه القصيدة رغم أن من مات من شعرائها؛ واحد هو رياض الصالح الحسين وكأنها مُلكٌ يُورَّث وبينما تتعزز الصورة في اليومي بالاستغراق في التجربة كما فعل الشعراء الذين ظهروا في السبعينيات، ينحاز هؤلاء الورثة إلى حكمةٍ مُدَّعَاةٍ أو ألقٍ لغويٍ بلاغي (...) القصيدة التي تنمو بعيداً عن العائلة هي قصيدة رياض الصالح الحسين وهي ذاتها " التي ولدت في مناخات التأثير والتأثر بلا ادعاء " وهي حقاً القصيدة التي يجدر بجيل الشباب من الشعراء أن يحاولوا دراسة بنيتها ومن ثم تمثلها أو التوليد منها أو التضاد معها.. لا تلك القصيدة التي تكتب وكأنها استنساخ للمناخ النفسي واللغوي الذي عاشه السبعينيون. » (19) وقد ترجمت لرياض الصالح الحسين قصائد الى الكردية منها " الراية " و "غرفة الشاعر " وقد ترجمها الشاعر الراحل فرهاد جلبي ونشرت في مجلة زانين ( المعرفة ) في العدد الثاني، أيلول 1991 والعدد الثالث، تشرين الثاني 1991 (20)إقفال المقدمة وترك السيرة مفتوحة

لم تكن هذه المقدمة بأي حال " دارسة " في منجز رياض الصالح الحسين، بل هي محاولة لتسليط الضوء على هذا الشاعر، من خلال مجايليه ومعاصريه، في الغالب. فهو لا زال حاضراً، و راهناً، في المشهد الشعري السوري، وسواء تمت قراءته بعجالة أو بتأنٍ، فاننا سندرك حجم التأثير الذي تركه على من تلاه، من اولئك الذين " ورثوا " القصيدة اليومية. وقد بقيت - في الغالب - نصوصهم على ضفاف نصه. وندرك المسافة التي قطعها رياض في اشتغاله على نصه، عندما نقارن بين قصيدته التي لم تضمها أيّاً من مجموعاته الشعرية وبين ما شهده لاحقاً نصه من تملك لاأدواته الفنية، واعلائه لـ " اليومي " ليكون شعراً. و رغم ما قد يجده الدارس هنا وهناك من تعثر لبعض النصوص، كالحضور الواضح للايدلوجيا في شعره، وكذلك وفي السياق نفسه حضور الخطابية " الاشتراكية " في الكثير من النصوص. وكان ذلك سمة اليسار الشعري السوري الذي رغب بتغيير العالم من خلال الفكر. وحين لم يتحرك الواقع قيد " نملة " احتج عليه بالشعر. إلا أنه رغم ذلك فهو يقدم التجربة الأنضج في قصيدة التفاصيل التي تحيك الشعر من يوميات الحياة العادية، تلك التي لا يأبه لها أحد ربما. وقد يوافقني البعض القول أن تجربة رياض الصالح الحسين هي أكثر اكتمالاً مما قدمه الماغوط في هذا السياق بل انها قادت قصيدة الماغوط - إذا كان لابد من اعتبارها الأب الروحي لها – الى هدوء داخلي. يقودها نحو الذات أكثر من المحيط.
في النصوص المنشورة هنا تمت مقارنة نسخة ورقية من " وعل في الغابة " إضافة لنسختين ( ملفات وورد ) وضبطهما مع النسخة المنشورة في موقعه والذي أنشأته الشاعرة اللبنانية سوزان عليوان (21) قبل سنوات وشكل أحد أهم المنافذ لقراءة هذا الشاعر، لجيل لم يسمع به ربما. مما يجعل انتشاره على المستوى العربي، لدى " جيل النت " مديناً لها. لأن أحداً لم يعد طباعة أعماله. ونأمل أن نسهم من خلال تقديم الأعمال الشعرية الكاملة لرياض الصالح الحسين بصيغة كتاب الكتروني في الحفاظ على إرث هذا الشاعر على الاقل، إن لم نسهم في زيادة قراءته.

الرياض: 9- 3 - 2007

****

خراب الدورة الدمويَّة
إلى الدنيا و الناس

دخان

كئيبًا و منفتحًا كالبحر، أقف لأحدِّثكم عن البحر
مستاءً و حزينًا من الدنيا، أقف لأحدِّثكم عن الدنيا
متماسكًا و صلبًا و مستمرًّا كالنهر،
أقف لأحدِّثكم عن النهر
و عندما يصبح للنافذة عينان تريان يأسي
و للجدران أصابع تتحسَّس أضلاعي
و للأبواب ألسنة تتكلَّم عنِّي
و عندما يصبح للماء طعم الماء
و للهواء نكهة الهواء
و للحبر الأسود هذا رائحة الحبر
و عندما تهيّء المطابع الأناشيد للقرَّاء بدلاً من الحبوب المنوِّمة
و تهيّء الحقول القمح بدلاً من الأفيون
و تهيّء المصانع القمصان بدلاً من القنابل...
سأقف، أيضًا، سأقف لأحدِّثكم عنِّي
لأحدِّثكم عن الحبّ الذي يغتال المراثي
عن المراثي التي كانت تفتح دفترها الملكي
لتسجِّل أسماءكم في قائمة القتلى
عن القتلى المتشبِّثين بالضمَّاد و الميكرو كروم
الذي لم يأتِ
و سأقف، أيضًا، سأقف
لأحدِّثكم عنِّي
مثلما يتحدَّث الديكتاتور عن سجونه
و المليونير عن ملايينه
و العاشق عن نهدي حبيبته
و الطفل عن أمِّه
و اللصّ عن مفاتيحه
و العالم عن حكَّامه
سأحدِّثكم بحبّ، بحبّ، بحبّ
بعد أن أشعل سيجارة!.

الرجل السيء

"الموت!
فن، ككل شيء آخر
و أنِّي أتَّقنه تمامًا"
سيلفيا بلاث

و أذكر أنَّ المرأة الزرقاء عندما رأتني أبكي جثثًا و فقراء
قالت: عيناك مرآتان لخمسين قارَّة من الوجع
و الانتظار
و قالت المرأة التي ترتدي العاصفة و الوحوش:
أنت تعرف الكثير عن صبايا الأزقَّة المغلَّفات
بالأقفال البلاستيكيَّة الملوَّنة
و الأطفال الأغبياء المتمسِّكين بالأحصنة الخشبيَّة
و نهود الأمَّهات
و قالت المرأة بعد أن فتحت شاشتي عينيها:
(كان ثمَّة عاشق يرعى فيهما شجرًا و معتقلات)
يداك قاسيتان و وديعتان
و أصابعك نحيفة و معذَّبة
فهل لمست بهما الرغيف الثمين أو الشفاه الرماديَّة المرتعشة؟
هل قبضت على العالم؟
و قالت المرأة لي:
أنت تهذي كثيرًا بأسماء الأسماك و الأعشاب البحريَّة
و تفتح مملكة دماغك ليل نهار لقوافل الغجر التائهة
و تمزِّق بأظافرك لحم الأبواب و الجدران السميكة
فأيّ الأشياء أحبّ إليك:
أن تمضغ بشراسة رؤوس العصافير؟
أو أن تكسّر الصحون و الموائد المصنوعة
من خشب الجوز؟
و قالت لي أيضًا
و هي تنظر إلى الرأس
المشوّه المتوتّر في لوحة لسعد يكن:
أمك بجانبك تنحني عليك كيمامة
و أصدقاؤك يقبلون في المناسبات
و أنا أدفئك في ليالي تشرين الباردة
و أرسل إليك الأحلام الشاسعة و المكاتيب
فماذا تطلب غير ذلك؟!..
أتريد أن تفجّر النبع؟ أم تودّ أن تحرث المجرّة؟
و قالت المرأة القاسية:
أبتكر لك الدنيا..
خمسة جدران بيض
و سريرًا أبيض
و وردة بيضاء في كأس:

و كان يمكن أن أبتكر نعشًا
-أنا الرجل السيء-
لفاطمة العنيفة و نزيه الخائف و البحر التعيس
للأقفال الكريستالية السوداء.
للقرى الصاخبة بالعنب و الديوك و البطون المقعرة
للأغاني الممزقة في سلة المهملات
للمعاملات العقارية المبطنة بالأختام
لحبوب الأسربين و العشاق
لمصارعي الثيران الأذكياء في إسبانيا
للمجرفة الصلبة و الفلاح الرقيق
للدم الأخضر و مرتزقة الانقلابات
أنا الرجل السيء
كان عليّ أن أموت صغيرًا
قبل أن أعرف المناجم و الدروب
المرأة التي تغسل يديها بالعطور
و الملك الذي يزيّن رأسه بالجماجم
الولد الخبيث ذا اللثة الطرية الذي يقشر
الحليب من البكتيريا و الحروب من الانتصارات

أنا الرجل السيء
كان عليّ أن أموت صغيرًا
قبل أن أعرف الأشجار الارهابية و مافيا السلام
وفاة بائع المرطبات على سكة القطار
و الغجرية التي أهدتني تعويذة و قبلة
و كثيرًا من الأكاذيب
أنا الرجل السيء
كان عليّ أن أموت صغيرًا
قبل أن تفترسني الوردة،
و ينحت الفنان النظيف من عظامي القلائد
و الأقراط:

الفنان النظيف و الوردة النظيفة
يرسم الفنان النظيف الوردة النظيفة
في حجرة ممتلئة بزجاجات البيرة
و العرايا
لافتة الفنان النظيف

الفنان النظيف يحب الوردة
الحب للوردة و الوردة للسكاكين.

أيتها السكاكين المسكينة
أيها الجسد الإنساني القذر
أيتها الكلاب المعبأة بالمقانق و المحبة و عبير النعناع
أنا رياض الصالح الحسين
عمري اثنتان و عشرون برتقالة قاحلة
و مئات المجازر و الانقلابات
و للمرة الألف يداي مبادتان:

للمرة الألف يداي مبادتان
كشجرتي فرح في صحراء
الشمس الشمس
الشمس الناضجة
الشمس المدورة كنهد
المنتشرة كالطاعون في القرن التاسع عشر
المضيئة كعيني طفلة بقميص شفاف على البحر
الشمس الشمس
تمرّ بأسنانها على عنقي اليانع
و تقضم أيامي كما يقضم الطفل تفاحة أو قطعة بسكويت
فتنقفل يداي على صدري
يداي، كخطى الجنود، مبادتان
أسأل صديقتي
(صديقتي لحم و دم و خراب)
في الشارع أسأل صديقتي
(الشارع ضيق عندما نبكي
قليل عندما نشتاق)
أسأل صديقتي:
لماذا، للمرة الألف، نباد؟
منقطعان عن الحب
ممتلئان بالخنادق كامتلاء دمية بالقش
و بعد قليل يغطي الغبار جسدينا
بعد قليل نتشبث بغصن التعب.
متعبان اليوم
و ربما غدًا، أيضًا، نكون متعبين
فمي مباد و لذا لا أستطيع أن أسرقك
من البرد
في المقهى ننام
في الشارع نبكي
من الحقل مطرودان

من المدينة أيضًا
السيارة أداة للقتل
و غصن الزيتون مشرط لإقتلاع جلدة الرأس.

جرثومة النبع

و الآن تعالوا لنحتسي قليلاً من الدهشة
و الآن تعالوا لنمزّق خطانا المترددة
و نلفّ أوجاعنا بورق السجائر الرقيق و ندخنها باطمئنان
فالمرأة و الرجل
الصحاري و البحر و أشجار الصفصاف
الدموع و معامل الإسمنت و الحيوانات
كلها الآن مغلفة بالكرتون و الخشب الافريقي الراقص
تنتظر على السفينة الكروية الصلدة
و بعد قليل ستتقدم البذلة الأنيقة
التي تحتوي رجلاً لامعًا
لتقدم الهدية إلى وحش رؤوسه بعدد
القارات و المدن و القرى
وحش لا يملك أوصاف داريكولا
فأنيابه مهذبة للغاية
و لديه امرأة جميلة و لطيفة
تأكل قلوب الأطفال ببراعة لاعب شطرنج ماهر
و أما هو فيحبّ الويسكي المثلج
و قزقزة الحبال الصوتية للبلابل
و أنا..
"تعرفون أن أنا هو أنتم"
-هكذا يقول شاعر شحيح من بلاد القبعات الواسعة
و المسدسات السريعة الطلقات-
..أنا أحتفي بقدوم المآسي
و لديّ قدرة مذهلة على هضم الأوجاع و الصفعات الرتيبة التي تأتيني كل صباح مع فاتورة استهلاكي للأوكسيجين من المنتزهات العامة
أحبّ صبيّة بعيون و أضراس و أنف و قدمين
صغيرتين مقشّرتين بمساحيق غسل الثياب
و في إحدى زوايا غرفتي قميص و بنطال و حذاء
للرقص زائد عن الحاجة
أوقاتي مقطعة
و مساحات عمري بتضاريس تجريدية
و أما جسدي فوكر للفئران
و أما جسدي فمصيدة للفراشات الهاربة
و كم أودّ لو يأتي يوم
لا يكون فيه السندويتش بثمن
و القبلة بثمن
و القبر بثمن
فعندما يمرض النبع
و تضع زهرة المشمش السمّ في فنجان القهوة الصباحي
لزهرة البرتقال
سيتساقط الليل بغزارة
و الزجاج بغزارة
و الفقراء بغزارة
و الرصاص بغزارة
و المدن بغزارة
و عندما نحب بعضنا تمامًا
و تقول لي البلاد كل سنة أن جواربها
العشبية قد تمزقت بحمّى الفرح
فسأزرع أمام كل بيت دمية للطفل المشاكس
و أعطي صبيّة لكل فتى كئيب من بلدان العالم الثالث
و قيدًا للقنابل النيترونية الخرقاء
و زجاجة عطر لأمي في عيد ميلادها
و لحبيبتي جسدي
و الراتب القليل الذي أحصل عليه
لقاء قراءة المراثي على قبور أصدقائي.
انظروا.. انظروا
أنا لصّ الأزقة الخرساء
أحمل بيدي مفاتيح العالم
مفاتيح دور سينما ملّ روّادها الحالمون
النظر إلى مسدس الشريف و القبلات
الهوائية
مفاتيح بنوك متخمة بالمعاملات و الموظفين
و الشرطة
مفاتيح قرى تلملم نساؤها روث الحيوانات
من الحقول ليخبزن عليه فطائر
الزعتر الشهية
مفاتيح لمخترعي الأسلحة الذين يصنعون كعك
الموت لأقاربهم و أطفالهم الأعزاء
مفاتيح بيضًا للسلام
مفاتيح حمرًا للثوار
مفاتيح زرقًا للعشاق
و لكن –و أقولها بأسف شديد-:
إن المفتاح الزيتي الصغير الذي كان تحت وسادتي
يوم الخميس قد سرقه أحد الأغبياء-
و ها أنذا أقضم أظافري و أفكر بحزن:
فليلة السبت لن أستطيع أن أنسلّ إلى بيت
حبيبتي لألعب معها بالورق
و لذا قررت أن أموت لمرة واحدة
بدلاً من الموت سبع مرات في الأسبوع
و بما أنني لا أملك تابوتًا و لا قبرًا و لا كفنًا
فلقد قررت أن أحيا بعدد الموتى
و أفتح دكانًا لتوزيع الحب عليكم من خلال هذه القصيدة!

أقمطة و نياشين و ولاّعات للرجال السعداء

-لا ماء في البحر
لا حياة في القبلة
لا عدالة بين نابي أفعى
و لا شمس ساطعة في قلبي
قطيع من الموتى في فمي
و الغسيل على الشرفات-

موظفون لزرق الكآبة في الشرايين
ملائكة بقوانين حمورابية لإغتيال الموتى و الأحياء و القبور
محاسبون لإحصاء الأظافر و الأيدي
و الرؤوس المتعبة
ثيران بقوائم لطيفة لشرب البيرة و إصدار المراسيم
حشرات ملوّنة على الشرفة
و فراشات كالحة على الرمال
عشاق فاشلون
لوحات تشكيلية فاشلة
ربطة عنق ناجحة
دوائر، و امرأة محطمة
صورة بإطار. صورة بلا إطار
صورة بيضاء. صورة سوداء. صورة سكوب بالألوان
و لكن ليس هذا هو العالم كله:
فالرمال ما زالت ناعمة و دافئة
و البحر ما زال يرسل للصيادين الخرافات و الأسماك
ماء النهر صافٍ
و الأطفال ما زالوا يحبون الفستق
ثمة رجل يبحث في جيوبه عن امرأة
ثمة امرأة تبحث عن حذائها في الطريق
و الصغار يستطيعون أن يبتكروا ألف لعبة
بإصبع واحدة من الطباشير
إذن، لا تحلموا بالشمس كثيرًا
فالشمس ستشرق في الساعة السادسة
و الثلاثين دقيقة حتمًا
إذن، لا تسألوا العصافير عن لون السماء
في البلاد البعيدة
لا تسألوا الزمن عن الذكريات
لا تسألوا الأشجار عن نكهة الفؤوس في الخاصرة
لا تسألوا الصعاليك عن رطوبة الأرصفة
لا تسألوا التوابيت عن رائحة الموتى
لا تسألوا القتلة عن رائحة الدم
و لا تسألوا سمر عن قلبي
فالأسئلة البسيطة قذيفة
الأسئلة المعقدة انتحار
و نحن سكان الأرض الأسوياء
من الأفضل أن نوزّع الأقمطة و النياشين على مغتصبي العالم:

"من الأفضل أن نوزّع التعب الإسبارطي و النقود البيزنطية على الناس بالتساوي"
هذا ما قالته المرأة الواسعة التي مسحت أحذية القادة
بلسانها الملتهب
و كانت تقول لي:
و أصابعها تتحرك كقطيع من الوعول في شَعري:
ألديك غرفة بطول قامتي؟
و هل نافذتها تطلّ على الشارع أم على المقبرة؟
المرأة التي عبرت المجنزرات بين نهديها كسرب من النوارس البيضاء
كانت تقول لي أيضًا و هي تنتحب بانفطار:
لماذا لم أعد أراك؟
لماذا لم أعد أراك في المطر؟
هل أخذوا منك معطفك الداكن ليمسحوا به أحذية الملوك؟
المرأة التي تركت على سترتي صوتها المضيء
تهتم بالحب و الأغاني المكتوبة
و تقول لي:
أتريد أن تقبلني؟
أتريد أن أقبلك؟
إذن، اغمض عينيك و دع الشرفة مفتوحة
المرأة التي لم تقبّل أحدًا منذ معركة واترلو
معركة العلمين
مذبحة دير ياسين
و مذابح العالم الأول و الثاني و الثالث و الرابع
كانت تقول لي و هي تضع يدها الطرية
على صدري:
قلبك لم يعد طريًّا
و نبضك يدق ببرود
فهل جعلوا من قلبك منفضة لرماد سجائرهم؟
و من شرايينك أحزمة لبواريد جنودهم؟
المرأة التي كانت تبكي في الأزمنة البعيدة
كانت تقول لي:
ألديك أصابع؟ أين هي أصابعك؟
هل سرقوها منك دون أن تدري؟
هل أخذوها عنوة بمساعدة السكاكين؟
هل سقطت منك و أنت تركض في الليلة
الفائتة وراء ظلّك؟
و كانت تقول لي –المرأة اليابسة كقشور الكستناء-
الممتلئة كالكستناء
الناعمة كالكستناء
الطيبة كالكستناء:
أمس لم يسأل عنك أحد
لا ماء في البحر
و لا سمكة على الشاطئ
أمس لم يسأل عني أحد
زارني الموت و لم يكن على الرفّ قهوة
و لأن الموت يحب القهوة مثل جميع الناس
فلقد قلب شفتيه و صفق الباب وراءه
و مضى في قطار العتمة.
و كانت تقول لي:
أنت لا تبكي
أنت لا تبتسم
فمن احتسى دموعك بدلاً من الفودكا بالبرتقال؟
و من أكل ابتسامتك بدلاً من فطائر الكبد المشوي؟
فمك مغلق، و لسانك مصفّد
تُرى، هل تختبئ في فمك أغنية أم نقالة موتى؟
حديثًا عن عطلة نهاية الأسبوع؟
أم طفلة بعينين مفقوءتين؟
هل نسفوا لسانك أيضًا؟
أم ثبتوه بسقف حلقك بالدبابيس الفضية؟
و كانت المرأة التي تعدّ على أصابعها قتلى
حروب الطبقات تقول لي:
هل تعرف نيرون؟
هل قرأت عن نيرون؟
نيرون لم يكن مذهلاً لكنه أحرق روما
أنا هي عاصمتك المحترقة
و أعرف أنك لست نيرون
و لكن قل لي:
هل تحبني؟ هل تحبني؟ هل تحبني؟

هذا ما قالته المرأة الواسعة قبل أن تحمل
مظلتها الضيقة
و تمضي في المطر الناري
و أنا –المهذب، المهذب، المهذب-
إلتففت بمعطفي و مضيت

و أنا أذكر أنها قالت:
من الأفضل أن نبتلع المجنزرات
بدلاً من حبوب الكورسيدين!.

سطور من كرّاسة الحطابين الأشرار

لصرير مفاتيح الريح
لوجه القمر المجدور
لنهار دثّر بالضوء المدن المضنية بالضجّة و الزوّار
المدن المحقونة برئات الموتى و حبوب الـ SIPON
لأيدٍ تحمل أزهارًا أو أسلحة
لجماجم من قُتلوا في الليل
و كان القمر كثيفًا
ليعاسيب الأحراش المغسولة بالخضرة و الدمّ
و للحب و للحرية كنّا نغني
نحن الحطابين الأشرار
نذهب في جهة ضيّقةٍ
أو قنبلة سيئةٍ
نكتب أسئلة فوق ضروع الأشجار:

1 – الحب

أن تحب امرأةً من صفصاف و أعشاب نارية
أن تمتلئ يداك بالمسامير و البراكين الميّتة
أن تسوّي من خصلات شعرك بيتًا صغيرًا
لعجوز وحيدة
أن تذكر أكثر مما ينبغي:
- الضفادع المنفوخة على ضفاف المستنقعات
- الصنوبر المنثور على الألواح الطينية
- القرنفل الأسود الذي حمله دوري بمنقاره الصغير
إلى ساحرة تعيش في كهف معتم
على قمة الجبل
أن تشرب كل يوم برميلاً من بول الموتى
و تأكل ستّ فؤوس و صمامًا لعنفة معطلة
أن تعبئ قلبك بمصانع الأحذية و الثلوج الملوثة
بالطين و الأرانب المسلوخة ببلطة كان يجب أن تقطع عنق نابليون أو غارودي أو تقطع عنقك

أن تموت بشكل مناسب و بإذعان فأرة وجدت نفسها في مصيدة فولاذية و لا أبواب أو نوافذ للريح

أن تحب امرأة بجنون أحلام هتلر الذي كان
من الممكن أن تكفي رصاصة واحدة لتفجير دماغه
أن تضع المسدس على صدغك مثلما تضع قطعة كاتوه في فمك
أن تضغط على الزناد مثلما يضغط عاشق بائس
بكفيه على كتفي حبيبته
أن تنظر بشراهة إلى الأفق الرمادي البعيد
و أنت ترتدي قميصًا من الطحالب
و البثور، و حذاء من البكاء و الأقبية
و أجنحة الدجاج
أن تحب امرأة:
- تحت إبطها يجري نهر أزرق
- في فمها تعوي حقول الإجاص
- في مركز السرّة تمامًا سهل أخضر بين فكي شمس
أن تحب. أن تمتلئ. أن تسوّي. أن تذكر.
أن تشرب. أن تعبئ. أن تضع. أن تضغط.
أن تموت. أن تنظر. أن تحب. أن تحب-
يعني ببساطة بأنك تستطيع أن تكون
جديرًا هذه القصيدة:

2 – الأيدي

بيدين ملطختين بالأزهار
بيدين معجونتين بالحمى و الحشرات المؤذية
بيدين متسعتين كقلبي
بيدين تستطيعان أن تستكشفا أسرار الأزهار
و أسرار المصفحات الرهيبة
بيدين من أوراق الدوالي و الأفران و السهول
و الرغبات المحمومة
بيديّ هاتين أبسط لكِ سجّادة الزمن البارد
-أيتها المرأة الوسيمة-
و أدعوك للحياة بحرارة
و أدعوك لنسيان السمكة التي هربت من البحر
لتتلقفها السماء و ترسلها مخفورة بالعواصف إلى الأرض
ليتخذها الشرطي خليلة لبضعة أيام
و يقتلها، من ثم، بالغازات المسيلة للدموع.
و بيدين مصفدتين بالأسمال و البواخر المثقوبة
و البعوض
أمزق –أمامك- أنسجة جسدي
لتري الفوهات المعتمة
التي حفرتها فيه الأسلحة البيضاء و السوداء
لمن امتلكوا –طبقًا للقوانين النافذة-
فرح العالم كله
و تركوا لنا:
- المحارم الورقية الرخيصة لمسح العرق
- الأيدي لنستمر بانتاج قوارب السباق الشراعية
- العيون لمشاهدة حياتهم الباهرة
على شاشات التلفزيونات الملوّنة
و نحن ملوّنان أيضًا:
في عنقك أغمدت ثلاث كرزات
و سرقت من فمك وردة
و نحن ملوّنان أيضًا:
على ظهري سبع عشرة حفرة زرقاء
و من حلقي يندف الثلج بغزارة
و ها أنني أبتسم لك بهدوء
سأحبك أيها (أيتها) العشب
سأشرب حليبك الوفي دائمًا
و مع ذلك سأظل جائعًا بشكل ما إلى الخبز و المسرّة
و لأنّني مهشّم كثيرًا بالفؤوس
التي صُنعت لتقليم الأشجار
و لأنني أشتعل لأضيء قبور موتاهم
و لأنني أهتم بالقبلة أكثر مما أهتم بالماركات الجديدة
للمسجلات اليابانية
سأستطيع، إذن، أن أرسم الخطوط الصغيرة
و أحلّ ببساطة معادلة الحياة التالية:

3 – الحب، أيضًا:

لقد قدّموا لنا خبز الجوع في صحن من الكريستال اللامع
لأن بطوننا الصغيرة لا تستطيع
أن تتحمل كثافة منتجات الأرض الغذائية
لقد قدّموا لنا جثة الأرض في تابوت من المرجان
بدعوى أنهم لا يعرفون كيف يمكن حفر قبر لائق بها
لقد قدّموا لنا الأوبئة لنتمكن من المحافظة
على ضغط السكان في المدن الكبيرة
بمعدله المتوسط
لقد قدّموا لنا الرصاص لنتسلى بقتل أنفسنا
بدلاً من أن نتسلى بالشطرنج و المطالعة
و النزهات و اختراع طرق جديدة للتقبيل
أما نحن فلا نستطيع أن نقدم لهم الحب
لأننا نريد أن نعيش:

4- الآنسة "س":

أنا صديق الآنسة "س"
ذات الشَعر الخرنوبي الخفيف
"س" التي يركض في شَعرها حصان هائج
و ساقية أنين
تبيع (الشيكلس) في المحطات حتى الغروب
و تعود إلى بيتها بصدر معبأ بالليل و النجوم
و الأحلام اليابسة و قصاصات الجرائد
و "س" التي اكتشفت قبل أيام أن فورستر
يفرم ألسنة الأطفال الافريقيين
و يصدّرها معلبة إلى القارات الخمس-
نامت في فراشي البارحة
بعد أن نفضتْ عن شعرها الخرنوبي الخفيف
ستَّ مدرعات محطمة
و حقلاً من الذرة الصفراء
"س" المملكة المفتوحة للجميع
بجسدها المتين و قلبها الطيب كالدراق-
سألتني مرة بخبث: ما الأرض؟
قلتُ: "الأرض جرح متوهج و دم غزير
و ألم مرتبك"
و عندما كان العمال الموسميون
يبنون بأعضائهم شاليهات لبورجوازيي المدن
سألتني مرة ثانية بخبث أشدّ و هي ترسم
بإصبعها الأنيق على الرمل تفاحة معطوبة:
ما الأرض؟
قلتُ: "الأرض سرير تنام فوقه امرأة ميتة
و بجانبها يبكي رجل بائس"
و في اللحظة التالية
و مثل أي شيء آخر
تنشقت "س" الغبار الأسود الذي تفرزه
سيارات تملكها ثيران بقرون ذهبية،
و أضافت: إذن، ما الفرق بين
السرير و الجرح!؟
(لقد دفعتُ ثمن السرير جرحًا
و ثمن الجراح حاضرًا قتيلاً
و لم أستطع أن أشتري لـ "س" زهرة لوتس
أو اسوارة بلاستيكية
بعملة عمري المحطم
فماذا يقول السيد كارتر الذي يتبرع كل يوم
بعشرة سنتمترات من دمه لأحد قرود حديقة حيوانات تكساس؟
و أنا صديق الآنسة "س"
ذات الشعر الخرنوبي الحفيف
التي تتعفن تحت لسانها ليمونة من الأسئلة
البسيطة و المخيفة
انتظرتها على السطح
فجاءت بقميص مطعون بالنجوم و الأحلام اليابسة
و كان عليّ أن أقبّلها
و أعتقد بأنني فعلت ذلك بشكل جيد.

خراب الدورة الدمويّة

استلقي باص جسده
أو انتظريه في المحطة التالية
فهو الآن متهم لأنه قتيل
و متهم بتخريب الدورة الدموية:
القبلة الأولى رصاصة
الطلقة الأخيرة حب.

1 – صورة شخصية لـ ر. ص. ح:

يركض في عينيه كوكب مذبوح
و سماء منكسرة
يركض في عينيه بحر من النيون
و محيط من العتمة الطبقية
في عينيه –أيضًا-
تركض صبيّة جميلة بقدمين حافيتين
يغنّي:
لقد كانت طريّة.. طريّة
كالثلج و الينابيع
لقد كانت سنبلة طريّة
و لذلك التقطتها بمناقيرها العصافير
لقد كانت طريّة.. طريّة
تركض بقدمين حافيتين فوق سهل أجرد.

2 – حلم:

منْ يقطن في جسد "يانافالينتوفا"
الطافح بالغزلان و أشجار البلوط
المعبأ بالمعجزات الأرضية المشاعة؟..
منْ يغتسل من محيط عينيها
و يتبلل بالنوارس و أصابع الصيادين السعداء؟..
ها أنذا أتفقد مكتبة أيامي
فاتحًا كرّاسة الأنهار،
لأقرأ في خطوط يديها:
تضاريس الريح
و أمجاد الأمواج البرية
أتفتت في مناخ قبلاتها:
أسماء خضراء و غابات سالكة
ممالك تفتح أبوابها لفرسان الدهشة
لعصافير الدوري المتفجرة بالغبطة و الأناشيد.

3 – عشب:

جلسَ العاشقان على العشبِ
جلسَ العاشقانْ
خلفهما جثة لا تحدُّ
و بينهما جثة و دخانْ

4 – أغنية:

مزرعة للوفي، يدك التي تمتدّ لا ترجعيها
شفتي لغة ملطخة بالضنى..
الآن تتمدد على سرير جسدك الوثير
ترتمي بين أشجار عينيك ذاكرتي
و أنا متشبث بضفائر يديك
أفتح نافذة للحديث..
و بلحظة يقتنصك الغياب
أو تصبحين فريسة للأغاني!.

5 – أسئلة:

أيتها البلاد المصفحة بالقمر و الرغبة و الأشجار،
أما آن لكِ أن تجيئي؟!..
أيتها البلاد المعبأة بالدمار و العملات الصعبة
الممتلئة بالجثث و الشحاذين،
أما آن لكِ أن ترحلي؟!..

6 – مدينة:

يركض في دهاليزها فرس شوكيّ
يحكّ بقوائمه ظهرها الطافح ببثور الجرب
هي.. هي
المدينة-المئذنة
ثمة طاووس وحيد في حديقتها الواسعة
يفرد بزهو ذنبه الملوّن، لينظر إليه:
      أ- ماسح أحذية ذو عينين حزينتين
      و وجه ملطخ بالبويا
      ب – امرأة شقراء عيناها جرح و وجهها كآبة
      ج – بائع بطاقات يانصيب خاسرة سلفًا
      د – كاتب هذه القصيدة المطرود من عمله لأنه حاول التأكيد على أن الأرض توقفت عن الدوران، و أن الأبيض لم يزل أبيض و الأسود لم يزل….

7 – حوار:

قلتُ: للبحر أجنحة
و مراكبنا الريح قد سرقتها
و تناثر شاطئ البكارة في حقائب قراصنة البرّ
فإلى أين أذهب
و أنا متسخ و عارٍ
مثلما القمر في منتصف ليلة صيفية؟.
قلتِ: اغتسل بماء صوتي
و ارتدِ قبلاتي
قلتُ: قاطرة الوقت قد أنهكتني
فالقرى مدية تحتزّ وريدي
و المدن الصخرية امتلأت بي ضجرًا
و ها أنا أتيبّس بين اثنتين:
- خطوة و سكاكين..
- خطوة و قرنفل..
أصبح الصوت سوطًا
و الحذاء قبعة
و الحدائق مستشفيات
و مكاتيب الغرام قنابل موقوتة..
فمن أين أبدأ؟.
قلتِ: فلتكن في البداية مذبحة الأبجدية!..

8 – رقص:

أسقط في حضن حبيبتي
شمسًا باردة
هواءً مختنقًا
أسقط في حضن حبيبتي
جسدًا مسكونًا بالجوع
مصفدًا بالحبر و الأحذية
أفتش في حضن حبيبتي
عن أغنية شرسة
و لحن مفترس
و…
- هل تحبين الرقص يا حبيبتي؟!....

9 – امتلاك:

حادّة كالشفرة
صلبة كحربة فولاذية تخترق القلب
واسعة كالمحيط
جميلة كالفرح
مضيئة كالضحكة

حبيبتي الممتلئة بالأعياد
شهية كرغيف الخبز
طيبة كبرتقالة
أما أنا..
فلا أملك إلا هذه الكلمات
و بعض الذكريات التعيسة
المحفورة بضراوة على ميناء جسدي.

مارسيلين العصر النيتروني

في عصر الحب البلاستيكي و القلوب البلاستيكية
ثمة قطارات تذهب بالجنود إلى الموت في الأعياد
و ثمة مهرجون يبكون على أنفسهم سرًّا
و يُضحكون الآخرين على الحلبة
في عصر المدافئ الغازية و الاختناق بالغاز
أشم أصابع حبيبتي
و أشرب ذكرياتها البليدة
هذه الفتاة تثرثر كثيرًا عن الحقول
و تجمع صور الأطفال
كهاوية طوابع محترفة
حتى أنها لا تستطيع أن تقتنع
بأن الأمهات سيكففن عن الإنجاب
لأننا نعيش في العصر النيتروني

إننا نعيش في العصر النيتروني
عصر القبلات السريعة في الشوارع
و الإندحار الفادح في الشوارع أيضًا
إننا نعيش عصرنا الضاري
عصر الجواسيس الذين يقدمون لك القهوة
مع المورفين
عصر الطائرات التي تطعم البشر القنابل
و الألعاب
إنه عصرنا النيتروني
عصر الأحذية المثقوبة و الكلابات
عصر التعب البطيء
من الساعة (صفر) حتى الساعة الخامسة و العشرين
و من عصرنا النيتروني
عصرنا ما قبل الأخير
ندعوكم: تعالوا..
أيها البرجوازيون التعساء
تعالوا و شاركونا النحيب و السجون و الأغاني

و هنالك قيد واحد و هناك أغانٍ تترية
و هنالك أسرّة بعدد العشاق
و توابيت بعدد اللصوص
و هنا.. هنا
رجل معتم و امرأة معتمة و سبعة عيدان من الكبريت
عود كبريت واحد يكفي:
لإضاءة شمعة
أم لتفجير مدينة؟
عود كبريت واحد يكفي:
لتحضير كأسين من الشاي
أم لتحضير محرقة للملحدين؟
عود كبريت واحد يكفي:
لتنظيف الأسنان
أم لإخفاء معالم جثة مغتصبة؟
و هنا.. هنا
حتى الموتى يمكن أن يتألموا
و حتى الموتى يمكن أن يتقنوا الرقص
و حتى الموتى يمكن أن يتلوثوا
إننا ملوّثون للغاية
ملوّثون بالحروب و ملوّثون بالمجاعات
نحن الموتى الموسميون:
شراييننا محقونة بالضجيج و مقابرها
محقونة بالدخان.
نحن العشاق الموسميون:
قلوبنا ملطخة بالأرق و ليالينا ملطخة بالآهات

نحن العمال الموسميون:
مرهقون دائمًا و ليس أبدًا
مرهقون منذ الأهرامات و حتى جوهرة
بوكاسا الفريدة

في عصر الرؤوس المفلطحة
و مصانع الحب التكنيكي
و أرغفة الجوع الفاتك
في زمننا الحقيقي الاسطوري هذا
نخرج إليكم.. نخرج إليكم
لا من القبور و لا من المحيطات
لا من الكتب و لا من الجدران
نخرج إليكم.. نخرج إليكم
و بأيدينا كل شيء..
بأيدينا القمصان الملطخة بالزيوت و الطين
بأيدينا مساحيق الـ د. د. ت
شفرات الناسيت الحادة
انتظارنا العادل و دساتيركم البارعة
نخرج إليكم.. نخرج إليكم
لسنا أشرارًا و لا مهذبين
لا نحب العنف و لا نكره الطيور
و أجسادنا تفوح دائمًا برائحة المعادن و اليانسون
نخرج إليكم.. نخرج إليكم
بشرفاتنا و أيامنا التي تتساقط كالذباب
بزمننا المعطوب
ببيوتنا المعطوبة
بأجسادنا المعطوبة
بأحلامنا المعطوبة و فاكهتنا المعطوبة
نخرج إليكم.. نخرج إليكم
نحن مواطنو العصر النيتروني
عصر الرؤوس المزروعة بالألغام
و القلوب الطافحة بالأغاني

إنه عصرنا النيتروني
عصر المساطر و المراثي و الدبابات
إنه عصرنا النيتروني
عصر الشجر النووي و العصافير النازية
و الإذاعات و عصر المواعيد الفتية:
مع المدافن نهار السبت
مع الحزن نهار الأحد
مع الخنازير نهار الاثنين
مع الجنون نهار الثلاثاء
مع الرشيشات نهار الأربعاء
و مع الموت الوسيم
إنه عصر المواعيد الفتية الخائفة في جميع الليالي
و في جميع الليالي
في جميع الليالي
لكِ موعد مع قلبي.

عيد للقبلة... أعياد للقتل

- منذ سنة صدمت امرأة وحيدة في الشارع
تلبس بذلة باهتة و لكن عينيها لامعتان
صرنا أصدقاء بسرعة
و بعد أيام تبادلنا القبلات و الأحلام
و كان اسمها: س –

-1-

كان اسمها: س
تحب الماء
و الرحيل في زورق إلى المدن الجميلة
شعرها يتطاير مع الريح كالعصافير الخائفة
و يداها زهرتان حول عنقي
و كانت تحب غرفة صغيرة في قطار
و كتابًا لرامبو تخبئه بين ملابسها الداخلية
في حقيبة سوداء تحت السرير
و كانت، أيضًا، تحب الأعياد و الأطفال
و تكره الجواسيس و القتلة القانونيين
كان اسمها: س
ضفيرتان من أوراق البرتقال و الملمس الناعم
تحب الرمل و القبلة
و تحبني أيضًا:

"حينما كنت صغيرًا كغرسة الحمص و أليفًا كالهرة
سألتني سيارة هرمة
بعد أن لطخت وجهي بالطين:
بماذا ستغتسل في المستقبل؟
آنئذٍ، فتحت الباب و دخلتْ "س"

- 2-

فتحتُ لها الباب و هي خائفة
جلستْ على السرير بانفعال
نظرت إلى زوايا غرفتي كلصّة و تنهدت
- علينا أن نأكل كثيرًا يا صديقي و نموت
فما عاد في الأرض متسع لنا
قرأتُ لها قصيدة فبكتْ
حدثتها عن العمل
و حدثتني عن الأقفاص النظيفة
- حبة برتقال واحدة
و سبعة عشر ألف متسوّل
ماذا يعني؟ -
خلعتْ قميصها و اغتسلت و جلست على السرير
نظرتْ من النافذة الضيقة و تنهدت
- غدًا من الممكن أن أنتحر
الآن علينا أن نحب.
وضعت على عينيها منديلها الملوّن و نامت
أما أنا..
فلقد نظرت إلى صدرها المتدفق بإمعان
و رقصت بلا رغبة:

"في التاسعة عشرة وضعت على رأسي قبعة
و حملت كلاشينكوف
أكلت السردين كثيرًا و الغبار
و كنت كلما جرّدت مَنْ يقتله الأعداء مِنْ أشيائه القليلة
أجد بينها صورة فوتوغرافية لـ: س"

- 3-

على الرصيف تقابلنا
كانت تمزق دفتر مذكراتها و تبكي
أمسكت يدها بعنف و سرت معها
و في زاوية ما
في مقهى ما
في شارع ما
شربنا الشاي و تبادلنا القبلات
لكن جسدها النحيل ظلّ يرتعش بقوّة
حتى خفتُ أن يتفتت
مثل كتلة من الطين لم تر الشمس
منذ ألف عام:

"من روزا لوكسمبورغ حتى فاطمة برناوي
كان جسد من أحبها معجونًا بالجراثيم
و القنابل الموقوتة
و كان قميص من أحبها مبلّلاً بالزهور
و أناشيد الرعاة.
من روزا لوكسمبورغ حتى فاطمة برناوي
كانت يداها تضيقان تضيقان
حتى تصبحان بحجم جثة
و عيناها تتسعان تتسعان
حتى تصبحان بحجم قبلة
و أما قلبها فبصخب كان يدقّ، و باستمرار أيضًا
تك. تك. تك:
نحن معًا في الطلقة
و نحن معًا في الأغاني
من روزا لوكسمبورغ حتى فاطمة برناوي
سأقول لكِ: حدثيني
عن الطفل الذي يرضع الحمّى من ثدي الأرض
عن الدروب المقفلة
عن العيون المفتوحة على جهنم
و عن الأجساد المفتوحة على البحر
سأقول لكِ حدثيني.."

لقد قدّمت نفسها للبحر
ببساطة و حب و لامبالاة
قدّمت نفسها للبحر
هل هذا شيء مثير للضجة؟
هل ستتحدث عنها النسوة تحت القناديل؟
هل سيحتفظ الرجل برسائلها في صندوق
بثلاثة أقفال
أم سيقدم للنار كلماتها المعذبة؟
الأمر الوحيد هو أنها قدّمت نفسها للبحر
كما تقدم الأم حلمة ثديها لأول مرة
للوليد الجديد
و البحر الواسع، الصاخب، الممتلئ
تلقف جسدها بشفتيه الرقيقتين و سكت
أما هي..
فلقد ضمّته إلى صدرها بقوة و.. عاشت
كانت امرأة وحيدة
بلا أساور أو بيت أو عشيق
و لذا قدّمت نفسها للبحر
فهل هذا شيء مثير للاهتمام؟

"أصبحتُ في الثالثة و العشرين
رجل بوجنتين شاحبتين و مستاء للغاية
ودعت (س) بعد أن تركت على عنقها
دمعة حارة كالفلفل
و ها أنذا أعمل لأشتري لها تفاحة و رغيفًا
و لكن ثمة من أخبرني
بأني سأجد في التفاحة دودة
و في الرغيف صرصارًا ميّتًا
فإذا تركت الرغيف و التفاحة سأموت
و إذا أكلتهما سأموت
و في الحالتين سأخسر نفسي
في الحالتين سأخسر س"

- 4 -

ماذا نفعل
إذا كان ثمة عيد واحد للقبلة
و أعياد كثيرة للقتل
ماذا نفعل؟

رقصة تانغو تحت سقف ضيّق

قلبي سائغ للقضم
ملجأ للأرانب الزرقاء
سمكة قرش بزعانف من صبار شرس
قلبي سائغ للقضم
و يتحرك ببطء على بلاطك الشوكي أيتها الأرض
أيتها الأرض الممتدة من الموت بجدارة
على نصال الخناجر
إلى الموت بجدارة أشد
بواسطة حبل يتدلى من شجرة زيتون مغبّرة
أيتها الأرض المعبأة بالأخاديد
المطلية بالحصى و الرصاص
المرتدية عباءة من جسور تصل دائمًا:
بين القبور و الموتى
بين الجرح الأبيض القانوني
و الجرح الأسود الخارج على القانون
بين القفص الفضيّ الجميل
و القفص الذهبي الجميل أيضًا
أيتها الأرض المكفّنة بالصور الملوّنة لتيمورلنك
و سالومي
مدّي لي لسانك البارد لأعضه بعيظ
مدّي لي شفتيك المهترئتين
لأانثر فوقهما رماد جسدي
فمن الممكن جدًّا
أن تنفلق ذرّة واحدة على الأقل
لتنسلّ منها زهرة بيضاء
مثلما انفلقت –بالأمس القريب- الخلية الأولى
ليخرج منها البشر مسلّحين بالمِدى
الحيوانات مسلّحة بالأنياب
الجبال مسلّحة بالبراكين
السماء مسلّحة بالصواعق
و أنا مسلّح بقلبي
قلبي السائغ للقضم
باستطاعة أية امرأة أن تمدّ يدها إلى صدري
و تسحب قلبي منه بمرونة

و هذا ما حدث تمامًا:
ثمة امرأة وضعت قلبي
-قلبي السائغ للقضم-
في كأس صغير
و أضافت عليه قليلاً من الماء و السكَّر
و كان بودّي أن أسألها بمرارة:
لماذا شربت قلبي على أنه عصير برتقال
و لم تأكليه على أنّه برتقالة؟
و لكنها –على الأرجح-
كانت ترقص التانغو تحت سقف ضيّق!.

مساء هادئ فقط

هذا المساء هادئ أكثر مما ينبغي
هذا المساء ليس هادئًا
فأنا رجل أو حزمة ديناميت
و تحت إبطي إوزّة حمراء أو خرتيت أسود
المرأة ذات النهد المعشب و اليدين الصريعتين
نامت مع زوجها على السطح
إذن، هذا المساء ليس هادئًا
الفلاح الملتحي لم ينم هذا المساء
فلقد سرق دجاجة سمينة بالأمس
و ضبطت المفرزة الجنائية عظامها في برميل الفضلات
إذن، هذا المساء ليس هادئًا
فريتا الجريحة ماتت في الغابة
و غطتها الأغصان الكثيفة و المستنقعات
إذاعة (مونت كارلو) لم تذكر شيئًا عن ريتا
سيداتي، سادتي:
قُتلت القطة لوسي تحت عجلات القطار
و لم يستطع المستر X
أن يمارس واجباته
الزوجية بعناية
المساء هادئ جدًّا
على ضفة الميسيسبي إحدى العاهرات
تغزل الصوف و تحيك الجوارب لقتلى حروب العدالة
الشعراء يتحدثون عن الشعر...
العمال يتحدثون عن العمل
العشاق يتحدثون عن الحب
الفلاحون يتحدثون عن الأبقار
و لكنْ قل لي أيها القارئ الوسخ
عمّ يتحدث الموتى
في هذا المساء الهادئ؟
إنهم بالطبع لا يتحدثون عن لعبة الهوكي
أو الأمجاد التي حصلت عليها أميرة موناكو
لأنها عرضت ملابسها الداخلية على جمهرة من اللصوص
إنهم يتحدثون عن الموت
هل الموت قالب كاتوه أم نسناس دانمركي؟
أهو تفاحة أم بلياتشو بأنف يشبه التفاحة؟
هل الموت حلم أو حقيقة
و إذا كان حقيقة
فلِمَ لمْ يزل هتلر يفكّر بحشر الضعفاء
في أنابيب الغاز؟
و لِمَ لمْ يزل هولاكو يغتال الفلاحات
في حقول القطن؟
في هذا المساء الهادئ
ثمة شخص يرثي الجميع:
لقطّاع الطرق و أسراب النوارس المهاجرة
للغيوم الكالحة و القتلة المهذبين
و مراسيم حصر الجنسية
للعشاق الفاشلين و كلاب المدن الضالة
و في هذا المساء الهادئ
سأغلق باب غرفتي ورائي متجهًا نحو النهر
عليّ أن أتوقّع قبلة على الخدّ
أو خنجرًا في العنق
و من الممكن أن ينتظرني قمر أو قنبلة

زهرة بنفسج أو قبر
عليّ أن أتوقّع كلّ شيء
فالمساء هادئ
المساء ليس هادئًا!

خنجر أبيض

في الصيف
كان ثمة صبيّة شقيّة بعينين صاخبتين
إلتقت بي في قطار التاريخ
و أعطتني كتابًا و إصبعًا من الموز
بعد أن نظرتْ بخوف إلى الرجل الضخم
و هو يداعب فوهة مسدسه البارد في جيب سترته
و حينما طلبت منها أن تعطيني عنوانها
قالت: لا بأس
و مصّت إبهامها اللذيذ و فكرت
ثم كتبت شيئًا ما على ورقة صغيرة.
في الشتاء
حينما ذهبتُ إلى المقهى لأراها
كان وجهها أصفر و عيناها رماديتين
و في ظهرها خنجر أبيض
تتراكض عليه العصافير!

النهر

و نحن أيضًا – عرّفته بنفسي-
نسفّ حبوب العدس في الليالي المقمرة
منتظرين أن تشقَّ الشمس شارعًا
في قلوبنا الطرية
و نحن أيضًا –عرضتُ عليه صورة لغجرية
وجهها زلزال-
نحب الجسد التفاحي
و النار الزرقاء
و الأسرّة الصاحية
و في الصباح ننحدر نحو الجدول
لنغسل أصابعنا من الدبق
و قلوبنا من المسرّات
و نحن أيضًا
-أردتُ أن أجدّد كآبتي أمامه-
نبكي على نوافذ تعاستنا
منتظرين أن يأتي نهر الحرية
لنشرب منه إلى الأبد!
يحدث أن..

يحدث أن ترى بعض الأطفال يلعبون بالكرة
و هم يتحدثون عن الأسعار المرتفعة
للبيبسي كولا و البسكويت
يحدث أن تسمع بأن رجلاً في صحراء الربع الخالي
يتكلم كثيرًا عن البنكنوت و المراوح الكهربائية
يريد أن يبتلع بيضة الثورة
كما تبتلع الرتيلاء ذكرها المسكين
يحدث أن تقرأ عن امرأة أمريكية
وهبت بكارتها لسبعة آلاف رجل
و مع ذلك ما زالت تنام و هي بردانة
كالقطة في حجرة من الفخار
يحدث أن تحسّ و أنت في هذه الغرفة
بأن فاكهة الدنيا كلها
لن تستطيع أن تمنحك القدرة على الاكتفاء
و لكن الشيء الذي لم تره
أو تسمع عنه

أو تقرأه
أو تحسّه
هو أن ضوء القمر اللطيف
قد يأتي إليك أحيانًا
و جيوبه محشوّة بالديناميت و القنابل اليدوية!

العدالة

العدالة هي أن أركض مع حبيبتي
في أزقّة العالم
دون أن يسألني الحرّاس عن رقم هاتفي
أو هويّتي الضائعة
العدالة هي أن ألقي بنفسي في البحر الشاسع
و أنا واثق بأن أحدًا لن يمسكني من أذني
و يقودني – مرّة ثانية إلى القبر
بدعوى أن الإنتحار لا تقرّه الشرائع
و القوانين
العدالة هي أن آكل رغيفي بهدوء
أن أذهب إلى السينما بهدوء
أن أغني بهدوء
أن أقبّل حبيبتي بهدوء و أموت بلا ضجة

أساطير

1 – نهر. نهر. نهر:

أكسّر بالحصى مصابيح عينيك
و أفترش صخرة العتمة
أحلم بأن يديّ نهاران
و رأسي شجرة ليمون
و جسدي مزرعة للعدس
نهر. نهر. نهر
نهر من القرنفل و العشاق و العصافير الشاردة
و صديقتي لؤلؤة قمحية مخبأة في تابوت
نهر. نهر. نهر
نهر من الرماد و القتلى و المدن المهزومة
و صديقتي تضع جبينها على الوسادة و تبكي
نهر. نهر. نهر
نهر من الغضب اليابس و القبضات الصدئة
و صديقتي تفرّ إليّ سربًا من الذعر
و تختلط بي.

2 – النافذة و الرصيف:

تدخل الشمس من النافذة كملكة
من النافذة يدخل الغبار كعنكبوت
حبيبتي تطلّ من النافذة
و من النافذة أرقب شلاّلات النجوم
من النافذة تترجل رصاصة بمهابة
و تخترق جسدي بكبرياء
أتدلى من النافذة بعينين عشبيتين
و أقفز بارتياع في بحر الأرصفة.

3 – زهرة بريّة لعيني نيرون:

أنا المقيّد المنتشر
أسطحة ذاكرتي تراب
أحمل لحبيبتي أقراط اللوز و أساور العنب الأسود
زهرة بريّة لعيني نيرون
سيّد الخراب و القصور الجائعة!
و مثلما الأفراح النارية تختلج على قيثارته اليتيمة،
أختلج على أوتار حبي
مشنوقًا بأوراق الزيزفون و غبار المدينة المتهدمة
افتحي لي بوابة النهر لأغتسل
اغلقي خلفي نافذة اليباب لأنام
امتلكي دهشتي و خطاي
قبل أن أصبح دمية محطمة
ادخلي فضاء قلبي
كوكبًا مائيًّا صغيرًا
و مزّقي رئتي بالقبلات
فأنا المنفتح شراعًا فوق مركبة الخذلان
أحمل لنيرون زهرة بريّة بيدي اليمنى
و باليسرى أقبض على جمجمة البحر المتفتتة
و من شفتي تسيل ملكة الحزن و الانكسار
و أمام مذبح الوقت
أعرّي أجيالي بغبطة
أغسلها بلفائف التبغ و مقصلة الكلمات
ليغتصبها هيكلي الجوعيّ قطعة قطعة.

4 – كان وقتًا جميلاً:

لم يكن وجهها بيدرًا
حين بعثرني الوقتُ
قلتُ لها: أنت لي..
و أخذتُ رمادي من الشرقِ و الغربِ
من جهةٍ صلبتني
و من جهة أمسكتْ خطوتي قبل أن ألمسَ النهرَ
أعطيتها جسدي و بطاقةَ حبّ ملوّنةٍ
و بكيت قليلاً على صدرها الشجري
رحلتُ. وقفتُ:
ليس لي غير صوتي و نافذة و ترابْ
ليس لي غير هذا الغبار الصغير
سيخنقني جسدي
الآن تأتين مقصلة و يباب
إقرع الكأسَ بالكأسِ
موعدنا جثتان
إقرع اليأسَ باليأسِ
مدّدني جبلاً في الطريق
فشاحنة أينعت في فمي:
وردة و مصابيح ذئبية
و جزيرة موت
و لا أنتهي..
كان وقتًا جميلاً جميلاً
ضفة و رمال، و مشنقة تتدلّى
و شاخصة (سيدي) لن تش
كانت الأرض عرسًا بسيطًا
و ها جثّتي في يديّ كحبة توتْ
و بحارة ينشدون:
لقد كنت قنبلةً يا حبيبي
تفجرني، و تموتْ.

5 – لوسيفورس يقشر برتقالة البحر:

أصعد النافذة المفتوحة على ثديي قروية ترضع الأرض
شفتاي مكبلتان بالسخام و تعب الصحراء
أصعد، حاملاً المدينة تحت إبطي
بيوتًا ملطخة بالقهر و الابتسامات الباردة
أرى:
لو سيفورس يقشر برتقالة البحر
أنتحب بين يديه
لو سيفورس، اعطني سكينك و خذ جسدي
- لو سيفورس، اعطني قدميك و خذ ذاكرتي
الطافحة بالأسماك الجميلة الميتة
- لو سيفورس، اهدني مسدسًا أثقب به
جمجمة الليل أو اهدني موتًا حقيقيًّا..
فلمّا أزل متوغلاً في نفق البكاء،
أترك أثرًا، زنبقة في صدر امرأة، و أموت.
و لمّا أزل أستلقي على أرصفة الدنيا،
أحلم كخروف بالحشائش و التبغ و الجدران الخمسة
و في الصباح أترك أثرًا، بقعة دم متجمدة،
و أموت.
الرسائل أيضًا
أدسّ فيها زهور اللوتس و جوعي
و أوزّعها على بريد العالم
فيرسلون لي في طرد مضمون قنبلة ناعمة
تنسفني، و أموت.
لو سيفورس..
هل رأيت الشمس و هي تتدلى من حبل مشنقة؟
لقد كانت أمي تحبها كثيرًا
و تطرز لها في الشتاء قميصًا من خيوط شجرة عينيها.
هل تعرف أين تختبئ الأقمار القديمة؟
مرّة فتحت تلميذة صندوقها الخشبي الصغير
الذي تضع فيه كتبها المصوّرة
و كنت أختلس النظر كقط ذكي
فرأيتها:
عشرة أقمار..
عشرة أقمار صغيرة لامعة!

صورة: - لوسيفورس يأكل برتقالة البحر-
صوت: -لوسيفورس، أطعمني، فأنا جائع.

6 – المهدورة:

تنبئني امرأة كبريتية
فمها وكر للخفافيش و الأسلاك الشائكة:
- زمنك المتقدم على قدمين من زجاج،
سينكسر قبل أن يصلك.
تنبئني امرأة طائشة:
- زمنك المنكسر يأتي إليك بلا أيام
محمّلاً بالتوابيت و بطاقات التعزية.
تنبئني امرأة تدخن الماريجوانا
في مقهى البحر المتوسط:
- زمنك الميت، مكتئبًا يسير في أزقة المدينة
يسأل عنك الأرصفة الرطبة
و يفتش في جيوب الشحاذين عن عنوانك المحترق.
ينبئني زمني:
- امرأة تخبئ في عينيها كلّ الأفراح
المهدورة و الأعراس الممزقة..
قادمة من بين يديك،
فاستقبلها.
.........
مطر أشقر و فرس زرقاء
و جثتي في الشارع وحيدة
و ما زلت أكتب العصافير على ورق الجدران
و أرسم تفاصيل حبيبتي الكئيبة
مدن من زهر النعناع
و قرى من نفايات المدينة
جثتي في الشارع وحيدة
و أنا أصرخ في بوق الريح:
أيها الزمن السيء، أيها الزمن اللعين
يا رغيفًا من حشرجات و وطاويط
ألم تر حبيبتي الكئيبة
سمراء. قمحية. مدمرة. بحر
ملفوفة بالأعشاب و الغيوم الكتيمة
عيناها سمكتان و نهدها غزالة
و سلّم سترتها طويل
درجة أولى و ساعتي رطبة
ماذا تطلب أنت؟
- زجاجة بيرة و صحنًا من الأحزان المقلية
قصائد مملحة بجوع الفقراء
و أشجارًا مبادة بالأسلحة الكيميائية!
تعلّم، إذن، كيف تحب العالم
تعلّم كيف تبتلعه.
درجة ثانية و سلّم سترتها طويل
لا تصعد هذا الوجع
قد تطلع من الحائط نسمة بحجم جبل
قد يخرج خرتيت من بطن خزانة محشوّة
بالثياب الفرنسية موديل 2000
و ربما يطل برأسه ديناصور رهيب
من كتاب يتحدث عن الحب و الأزهار
إقرأ كتاب النار و لا تشتعل
دخّن لفائف قهرك الرخيصة
فالدرجة الأخيرة آتية
و سلّم سترتها طويل
ضمّد جراحك بالأرصفة و رسائل المساجين
فمعدن حبيبتك مزوّر
و أنت لم تتعلم فن الضحك في مدرسة
دريد لحام
و لم يعلمك أوفيد فن الحب
إنسان بسيط أنت
تريد أن تأكل و تتزوج و ترقص!
جسد حبيبتك شمس
إذا اقتربت منها ستحترق
كفّا حبيبتك مدينتان
إذا دخلتهما ستصاب بالانفصام
شفتا حبيبتك رغيفان
إذا أكلتهما ستصاب بالتخمة

مطر أشقر و عيون زرقاء
و أنتِ ممددة على معطفي الممزق
المدينة نائمة و نحن وحيدان
.و سندريلا في ردائها الطويل تطارد المذبحة
أنا جائع جائع
كعصفور على صخرة نائية في بحر متسع
و لكني لا أريد أن أموت
أنا مقهور مقهور
كورقة صفراء لم تأخذها الريح في الخريف
و لكني لا أريد أن أسقط في الفراغ
أنا معذب معذب
مثل ديك بعنق مقطوع يركض في أزقة
خاوية و دمه لا يتساقط منه
أنتِ جميلة و المطر أشقر و نحن وحيدان
و لكن لا أريد لموتي أن يتسع

أيتها الرائعة الخاوية حتى من جسدي
أيتها البلاد المثقوبة كالخرز أو كالجراح
ها أنذا أعطيك نهرًا قبل أن أغتسل
.!فيه

أساطير يوميَّة

"لقد قلت لك، أيُّها الرئيس، أنَّ كل ما يجري فوق هذه الأرض، غير عادل، غير عادل، غير عادل! و أنا دودة الأرض، زوربا الحلزون، لا أوافق على ذلك".

نيكوس كازانتزاكي، "زوربا"

حرب. حرب. حرب

عاشق ذاهب بين حشرجة النازحين و حشرجة الكلمات
عاشق مثل هذي البراري المدمَّاة و الجثث الذهبيَّة
يخرج من زمنٍ ليغنِّي
و يدخل في وطنٍ ليغنِّي
يبتاعُ أرغفةً و معاول
يبتاعُ أرصفةً و معامل
يبتاعُ حزنًا شديدًا
و دبَّابةً سقطت بين فكَّيْ زهرة دفلى
يبتاعُ قبرًا وسيمًا لطائرة
و غصونًا خضراءَ من فرح أبديّ للعاشقات

عاشق ذاهب بين حشرجة النازحين و حشرجة الطلقات
عاشق قال:
هذه هي الحرب
تخلع قمصانها الخشبيَّة
تكشف عن عريها الحشريّ:
دماء و أرصفة
و دفاتر مبتلَّة بالنشيج
دماء و عاشقة و دفاتر مبتلَّة بالدماء
دماء و أرغفة
و أساور ضيِّقة
و مآذن واسعة
و طيور تهاجرُ...
مجزرة و شعوب
مجزرة و زهور
هذي هي الحرب تفتح نافذة الحبّ للقاتلين
و للعاشقين ستفتح نافذة للقبور

في الحروب التي ذهبتْ
في الحروب التي بقيتْ
في الحروب التي حاولت أن تجيء
كان وجه أليف لعاشقة يتمرَّغ في الرملِ
و الألم الطبقي
كانتِ العاشقات الوسيمات يخرجنَ للشرفاتِ
و يعرضنَ أجسادهنَّ المدمَّاةَ لله
و الله كان يجيء القرى و بصحبته الجند
كان يعبئ مئزره الملكيّ حروبًا و ينثرها في البيادر
كانت بيادر من فضَّة و مواعيد
كانت بيادر من فضَّة

ثمَّ كانت حروب
و هل تذهبين إلى البيتِ
أم تذهبين إلى الموتِ
هل تذهبين إلى العشبِ
أم تذهبين إلى الحربِ
كنَّا نسير نسير و تثقبنا الطلقات
و كنَّا نسير نسير بدائرة قطرها ألف حزن
يدًا بيد و نغنِّي
يدًا بيد و نموت
و يا أيُّها الموت لا تأتِ في الصيف
إنَّ الطيور تشاطرنا الصيف
يا أيُّها الموت لا تأتِ في مطر خائف و بعيد
لا تأتِ
فالأرض عطشانة
و المواسم مكسورة
و الشعير سينضب
و العاشقات سيبكين عشاقهنَّ
و لا تأتِ... لا تأتِ
لكنَّهُ الموت يأتي
و لكنَّها الحرب تأتي بهيئتها الحشريَّة
تدخل من ثقبِ بابٍ
و من ثقبِ نافذةٍ
تتناسل في حانة – صحف – كتب
تتناسل في جثث العاشقات
ثمَّ تنده للقاتلين: "استريحوا... استريحوا"
و تطعمنا البؤس و الطلقات

عاشق قال:
بعد نهارين من تعب و رصاص
تجيء من الأرض عاشقة
و تمدُّ يديها إلى مطر و إجاص
تمدُّ يديها إلى الماء
تغسل ألسنة الخطباء و ألسنة الرقباء
تسجِّلُ أرصدةَ الفقراء التي ابتلعتها الحروب
على دفترٍ شجريّ
تمزِّق قبَّعة الجنرال
و قبل مسائين من مطر و إجاص أرى:
تحت قبَّعة الجنرال قرىً مصمصت عظمَ أطفالها
و يدين تقطَّعتا
و أرى تحت قبَّعة الجنرال:
دمًا ساطعًا
و جماجمَ مكسورة تتهجَّى حروف
و في كل حرف مشاريع من حلم فاسد
و أرى تحت قبَّعة الجنرالات
مشروع حرب على الزهر
مشروع حرب على النهر
مشروع حرب على الفقراء
و بين يدين تقطَّعتا
يهرب العاشقون من العشقِ
و الميِّتون من الموت
و الفقراء من الفقر
من ثمَّ تسقط قنبلة و يجيء الغزاة الأشدَّاء
من كأس شايٍ و سيجارة و صباح
و من كأس شاي و سيجارة تبدأ الثورة العالميَّة
أو تبدأ الأمنيات الكثيرات
يبدأ الخطباء خطاباتهم
و الجنود رصاصاتهم
ثمَّ أفرغ من الحزن
أقذفه تحت قبَّعة الجنرال
و أركض في مقتل لا يحدُّ
أنا الآن مقتنع ببلادي
و مقتنع باضطهادي
و في زمن لا يحدُّ أرى من أحبُّ على شاطئ
تستريح من اليأس
تسألني عن مكان لذيذ بلا شرطة
نتبادل فيه الأناشيد و القبلات
أجيب: هو البحر
قالت هو البحر. قالت هو البحر
و ابتسمتْ.

بعد ثلاثة أيَّام

ما الذي سيحدث في هذا الضياء الواسع
إذا لم تشرق الشمس
لمدَّة ثلاثة أيَّام؟
ما الذي سيحدث في هذا الفضاء الواسع
إذا توقَّفت العصافير عن الزقزقة
لمدَّة ثلاثة أيَّام؟
ما الذي سيحدث في هذا الجحيم الواسع
إذا تعطَّلت أجهزة اللاسلكي
لمدَّة ثلاثة أيَّام؟
ما الذي سيحدث في هذا المستنقع الواسع
إذا توقَّفت الضفادع عن النقيق
لمدَّة ثلاثة أيَّام؟
ما الذي سيحدث في هذا القبر الواسع
إذا فقدتْ السجائر من الأسواق
لمدَّة ثلاثة أيَّام؟
ما الذي سيحدث في هذا الخنجر الواسع
إذا توقَّفت أمريكا عن أكل لحوم البشر
لمدَّة ثلاثة أيَّام؟
ما الذي سيحدث في هذا العالم الواسع
إذا أضربنا عن اليأس
لمدَّة ثلاثة أيَّام؟
و ما الذي سيحدث في قلبي الواسع
إذا لم أحبك
بعد ثلاثة أيَّام؟
منذ القبلة الأولى على رقبتك الطويلة
و حتَّى الحرب العالميَّة الثالثة
التي لم تأتِ بعد
كنت أوزِّع الحبّ على النازحين
و هم يوزِّعون بطاقات الإعاشة
كنت أوزِّع الحبّ على السجناء
و هم يوزِّعون الصدمات الكهربائيَّة
كنت أوزِّع المصانع في الصحاري
و هم يرصدون سجنًا لكل مصنع
منذ انبثاق النار من احتكاك حجرين
و حتَّى اختراع القنابل العنقوديَّة
كنت أوزِّع الحبّ في القلوب
كما يوزِّعون الرصاص
كنت أنثر الأغاني في الطرق الجبليَّة
كما ينثرون الألغام
منذ أن جلس بوكاسا على عرشه العريض
و أنا أحاول أن أحبُّهُ
بعدَ ثلاثة أيَّام
بعد ثلاثة أيام
ستقابل عاملة في مصنع للنسيج
رجلاً يصنع التوابيت
بعد ثلاثة أيَّام
السماء ليست سوداء
و الأحاديث ستكون أجمل
بعد ثلاثة أيام
ستقابل العاملة رجلاً
هي لا تحمل حقيبة
و هو لا يضع ربطة عنق حمراء
بعد ثلاثة أيام
ستحدث مهزلة بسيطة
-رغم أنَّ كلا منهما لا يملك أجرة تكسي-
عندما تقول له:
لا استطيع أن أحبك
إلاَّ بعد ثلاثة أيام
راعي بقر مكسيكي
يمتطي دبَّابة سمينة
أسنانه في نهد خطّ الاستواء
و أصابعه تلعب البوكر في داريا
جزمته في طهران
و دماغه في واشنطن
راعي بقر مكسيكي
أطلق قذيفة واحدة
فأصاب ثلاث عائلات
الأولى: لم تسمع بالأمم المتَّحدة
الثانية: لم تسمع بالأمم المتَّحدة
الثالثة: لم تسمع بالأمم المتَّحدة
راعي بقر مسكيكي
أطلق قذيفة واحدة
فثقب قلبي من ست جهات
شحذت سكِّيني ببرود
أيُّها الراعي... أيُّها الراعي
تعال لأحبَّك!
بعد ثلاث قبلات
بعد ثلاث قذائف
بعد ثلاثة أرغفة
بعد ثلاث مجاعات
بعد ثلاث حروب
بعد ثلاث جرائم
بعد ثلاث مصفَّحات
بعد ثلاث مراوح كهربائيَّة
بعد ثلاث جثث
بعد ثلاثة أرانب
بعد 24 سنة من التعب البارد
من يستطيع أن يحبّني
بعد ثلاثة أيَّام؟.

نيكاراغوا. نيكاراغوا

دم أبيض و أزهار سوداء
نوافذ تطلّ على البحر
و نوافذ تطلّ على المقابر
فتاة جائعة تمشّط شعرها بإتقان
مياه صلدة
أغانٍ بليدة تتحدَّث عن الحبّ و الفراق
عجوز معبَّأة بالذكريات و السعال
دفاتر ممزَّقة و نشيج مكتوم
نيكاراغوا
مصانع لإنتاج الأدوية الغالية
و أخرى لإنتاج الأمراض الرخيصة
طائرات لنقل البشر إلى الحروب
و أخرى لنقل البشر إلى الغابات الجميلة
أراضٍ لزراعة البرسيم و القمح و البترول
و أراضٍ لزراعة الفيروسات و الجماجم و التوابيت
نيكاراغوا
مدينة عذبة بشفتين ناريّتين
شوارع عريضة للنمور و الفئران و السجون
و شوارع ضيِّقة للأبقار و العصافير و الحريَّة
نيكاراغوا
مكاتب لاستئجار و تأجير البيوت
مكاتب لاستئجار و تأجير المقاعد
مكاتب لاستئجار و تأجير الصحاري
مكاتب لاستئجار و تأجير الكتَّاب
مكاتب لاستئجار و تأجير النجوم
مكاتب لاستئجار و تأجير الأسماء
مكاتب لاستئجار و تأجير الهواء
مكاتب لاستئجار و تأجير القمر
نيكاراغوا
نابليون يتبادل الأنخاب مع القيصر
بريتون يشتم سلفادور دالي
الليندي يتنازل عن السلطة للفاشيِّين
بردي يصبّ في الميسيسيبي
شعراء يشتركون في سباق الخيول
و حدَّادون يكتبون الروايات الجميلة
نيكاراغوا
سندويتش مهرّب عبر الحدود
ساحرات يقطنَّ علب الكبريت
أرانب تتعلَّم ركوب الدرَّاجات
نسانيس تشرب الكازوز في الشواطئ
جيوب محشوَّة بالمدرَّعات
ألسنة مطليَّة بالنيفيا
تحيَّات مثلَّجة
قبلات عوراء
سياط ملوَّنة كالطواويس
و طواويس بلا ذيول معروضة في الحدائق العامَّة
نيكاراغوا
برَّادات لحفظ الجوع من الذوبان
طناجر بخاريَّة لطبخ الألم و الضياع
ستائر لطرد الشمس من البيوت
رصاص لطرد الثوَّار من الحياة
مختبرات لمعالجة الغازات المسيلة للأرواح
إذاعات لترويج العنف و المقانق و البضائع الكاسدة
و تلفزيونات لترويج الأكاذيب
و متاحف لعرض الجثث و صور الأحياء
نيكاراغوا
كتب محكوم عليها بالإعدام
فراشات محكوم عليها بالأشغال الشاقَّة المؤبَّدة
مياه آسنة تسيل من سقف مثقوب
عاشق ينظر من الثقب و يغنِّي لحبيبة بعيدة
حبيبة بعيدة معلَّقة من نهديها في الساحة العامَّة
فلقد حلمت مساء البارحة بصياح الديكة
نيكاراغوا
نون نائمة تحاول أن تستيقظ الآن
ياء يائسة عثرت على وردة في الطريق
كاف كئيبة يعزف تحت نافذتها رجل بالأكورديون
ألف آهلة بالرقص و الثورات
راء رطبة تجفِّف جسدها من الفاشستيِّين
غين غريبة ضمتها ذراعان دافئتان
واو واسعة تتَّسِعُ للجميع
نيكاراغوا
امرأة مجنونة و شعر محلول
أغنية ساقطة تبحث عن ملحِّن
نيكاراغوا
منفضة سجائر بحجم نيكاراغوا
مجمرة طويلة و دخان كثيف
نيكاراغوا
أسلحة في الشوارع
أسلحة في الثلاَّجات
أسلحة أثريَّة معلَّقة على الجدران
أسلحة بيضاء مخبَّأة في الأحذية
أسلحة صغيرة تحت الوسائد
أسلحة كبيرة على الأسطحة
أسلحة في الأصابع
أسلحة في الأدمغة
أسلحة في القلوب
نيكاراغوا
أرغفة تصفع الناس في الصباحات الباردة
رجل يخلع جواربه و يقفز إلى السماء
امرأة تخلع عينيها و تطارد الغزلان
طفل يفجّر بالونه و يطالب بمسدَّس
نيكاراغوا
نيكاراغوا ورق أبيض و كتاب مفتوح
نيكاراغوا آتية
نيكاراغوا قريبة
نيكاراغوا على بعد ثلاثة أمتار من هذه القصيدة

ذات يوم فوق سرير شاسع

للمرَّة الألف أرجوكِ لا تذهبي
للمرَّة الألف آخذكِ بيديَّ
و أركض في حقول الألغام
في حقول الدم
في حقول الحنطة
و أرجوكِ لا تذهبي
لا تذهبي و في عينيكِ غزالة مذبوحة
لا تذهبي و تحت جلدك يصفّر الموتى بشفاههم المعطَّلة
لا تذهبي يا عزيزتي لا تذهبي
تعالي و قبِّليني قبل أن تذبح شفتيكِ المرتعشتين
سكاكينهم الطويلة
تعالي لنثرثر بسهولة و ألم
تعالي لنتحدَّث مثلاً:
عن الديدان التي تغزو السنابل
عن المعادن التي تقزقز أصابع العمَّال بطريقة عجيبة
حدِّثيني عن السهول ذات الخضرة الضارية
عن الوعول التي تقفز بسعادة بالغة
و هي تقضم عشب الفرح بحريَّة لا تشبه إلاَّ قلبي
حين يخفق بأعلامه السوداء
فوق ثكنات المحاربين الذين يحلمون فقط
- بثلاثة أمتار من الراحة
- بدوش ماء بارد
- بامرأة تغنِّي بصوت حزين
و طفلة تقول لكل رجل تصادفه: أريد بابا
حدِّثيني عن الدنيا و قارَّاتها الخمس
و حدِّثيني فيما بعد عن الزمن
و حدِّثيني عن العصور جميعًا
إبتداءً من العصر الحجري القاتل
و انتهاءً بعصرنا السفَّاح
حدِّثيني عن السفَّاحين المنتشرين في:
السفارات، الأزقَّة، دور السينما، المطابخ، علب الكبريت، زجاجات مياه بقين، أحذية باتا، ولاَّعات رونسون، شركة ميكروفيلم، جوارب أوغاريت...
حدِّثيني لأحبَّكِ
حدِّثيني لأحبَّكِ
"أحبُّكِ"
هذا ما يقوله السنديان للمطرقة.
"أحبُّكِ"
لي نهار في المعصية
و لي أزهار في الطرقات
"أحبُّكِ"
هذا ما أقوله أنا
هذا ما يقوله الرجل الذي من خلفه النوافذ تهوي
و من تحته الأرض تئنُّ
"أحبُّكِ"
لي ثلوج في جميع المدافئ
و لي وحل في جميع الشتاءات
لي الحائط الكتيم
الأصفاد الثقيلة
الزمن البطيء
و لي الزهر الذي يتدفَّق من رئتيكِ
تنفَّسي يا حبيبتي تنفَّسي
فهوذا الهواء ينبح في الأزقَّة بصوته البليد
هوذا الدم يسيل فوق لحم الشرفات
و أنا ملتفٌّ بقلبي
و قلبي يقرع أجراس الأجساد الرثَّة
أيَّتُها الأجساد الرثَّة المغسولة بالحبّ و عصير البرتقال
أيَّتُها الأشجار الصاخبة
المغلَّفة بالأيقونات و صور القدِّيسين
أيَّتُها الأحجار، المقابض، الأسطحة، الأحذية، الأعلام، القواميس، الرجال، النساء، القطط، الفؤوس، الهراوات، الشياطين...
تعالوا و استمعوا إلى خرير الإرهاب في الشوارع
تعالوا إليَّ جميعًا
تعالوا إليَّ بدون استثناء
- أيَّتُها المرأة تعالي لأضمَّكِ
- أيُّها الطفل تعال لأقصَّ عليك حكاية الذئب و الأرنب
- أيُّها العاري تعال لأكسوك بالقبلات
- أيَّتُها الحقول الجافَّة تعالي لأهبكِ خضرة دمي
- أيَّتُها الشمس لماذا ترتعشين من البرد
و حطب قلبي مهيّأ للاشتعال؟
و يا أيَّتُها الأسئلة
يا أيَّتُها الأسئلة
تعالي لنكسر معًا زجاج النوافذ
التي تحجب عنَّا نضارة الصراخ
سأسأل الصبايا:
لماذا أنتنَّ مكتئبات
و موسيقى ديميس روسوس معبَّأة في زجاجات الكازوز
سأسأل الجائعين:
لماذا لا تأكلون أطنان التفَّاح
التي يهدرها الإمبرياليّون في البحر يوميًّا؟
سأسأل أشجار الزيتون في ضواحي دمشق:
من اختلس أوراقك في الليل
و جعل منها وسادةً للسفَّاحين؟
سأسأل السفَّاحين عن الأشجار
الأشجار عن الشوارع
الشوارع عن الاضطهاد
الاضطهاد عن حبيبتي
و أقول لحبيبتي
أقول لحبيبتي التي تبيع الجنارك و المانجة في باب توما:
إنَّني مرهق كثعبان ابتلع بيضة
و أقول لحبيبتي
و أنا أصغي إلى زقزقة الموتى في التوابيت
إلى هديل الحرب في البلاد:
تعالي لنمشي و نتذكَّر كيف كان الملوك ينتحرون
لأنَّ عينين حافيتين انطفأتا
لأنَّ قلبًا وسيمًا أضاء
تعالي لنتفاءل بذات يوم فوق سرير شاسع
ذات يوم فوق سرير شاسع، حيث:
- العصافير تقصف الطائرات
- الشهداء يضعون القتلة على الكراسي الكهربائيَّة
- الزهور تسنُّ للرصاص شفرات المقاصل
و الحريَّة
تغتصب
السجون
ذات يوم فوق سرير شاسع
أفتح ثغرة في لحمك الذي يحترق أيَّتُها الأرض
و أقذف إليك بدماري.

أساطير يوميَّة

"الفن هو فرح الإنسان في أن يكون ذاته، بأن يحيا و ينتمي إلى المجتمع".
فاغنر

الوقت/القبلة

رأيت أنَّ الأرض مثلَّث بيرمودا واسع
يبتلع الأطفال و الشجر و الفلاَّحين
ثمَّ اكتشفت، فيما بعد، أنَّ الأرض كرويَّة
ففكَّرت بوجود بعض الأمكنة
لا يبتلع فيها الماء شيئًا
أمكنة صغيرة جدًّا...
على سبيل المثال:
ثمَّة رجل يقبِّلُ امرأة
دون أن ينظر إلى ساعته.

الولد/الفتاة

"- إذا لم تحبني
أيُّها الولد اللطيف
سأردُّكَ إلى أمِّكَ...
- إذا لم تحبِّيني
أيَّتُها الفتاة الشرِّيرة
سأردُّكِ إلى القبر."
و أنا أتذكَّر أنَّ بين شجرة الليمون و المستنقع
بين الهواء و الضفائر الساطعة
بين الأسنان الجائعة و اللحم
بين الموسيقى و الغبار
بيني و بين أمِّي
بيني و بين قبري:
فتاة لطيفة
و ولدًا شرِّيرًا!

لماذا

لماذا نحبُّ بعضنا بعضًا
ما دام جيبي محشوًّا بالأجراس
و جيبك محشوًّا بالجثث؟
لماذا نقبِّل بعضنا بعضًا
ما دام فمي رأس أوزَّة حمراء
و فمك عمود كهرباء متغضِّن؟
لماذا نرسل لبعضنا البعض الرسائل
ما دمتِ تحاولين أن تعضِّي الزمن
و أنا أحاول أن أقطع المسافات؟
و فيما بعد إذا تزوَّجنا
هل ستصرِّين على سرير من خشب الزان
أم ستستلقين بكامل أناقتك على الرمل المبلَّل؟
لنبقَ بعيدين إذًا
يدك تتثاءب على الوسادة
و يدي ترعى قطعان الرصاص
و فيما بعد إذا التقينا في مقبرة واحدة
لن أنكر أبدًا أنَّني أحببتك.

الشبه

يا امرأة من لحم و صنوبر و أحجار
إنَّكِ لا تشبهين أحدًا سوى رأسي
رأسي المعبَّأ بالشوارع و الجثث و الكلابات
إنَّكِ لا تشبهين أحدًا
لذلك أرفض أن تمتدَّ يدك لإشعال سيجارتي
يا امرأة قصصت عليها أسطورة كو-نغاي
ألا أبدو لك كقاعدة أرضيَّة
لإطلاق الأغاني على البشر
فلماذا تنظرين إليَّ ببلاهة؟

مياه مالحة

نحن الأطفال البلهاء
الذين لم نغمس أجسادنا بالماء المقدَّس
لماذا لا نذهب إلى البحر
لنسنَّ أسناننا بمياهه المالحة
و نعود إلى الوطن بقلوب قويَّة؟

167 سم

أنا رجل وسيم
طولي 167 سم
أنا تراكتور معطوب
أبحث عن عمل منذ ثلاثة أشهر و توابيت
جلست في المقهى لأشرب شايًا ممزوجًا بالدبابيس
جلست في مقهى
النساء فيه يتدلين من الأشجار
كما تتدلَّى مصابيح النيون في معرض دمشق الدولي
أنا رجل وسيم
قال لي صديقي: "مدّ يدك و اقطف امرأة".
أيُّها الصديق الجاهل
الحبّ قطاع خاص
و لذلك علينا أن نفعل شيئًا.

قلب مكسور

لي قلب مكسور كسفرجلة
لدى كل رجل قطعة منه
اجمع الرجال و قل لهم:
نحن لسنا لصوصًا
إنَّنا نعمل ثماني ساعات في اليوم
و من حقِّنا أن نأكل السفرجل
اجمع الرجال جميعًا فتجمع قلبي
قلبي المكسور كسفرجلة

ذلك الطفل... تلك المرأة

ذلك الطفل الذي يقرأ في مجلة قديمة
إنَّهُ يفكِّر كيف يستطيع أن يخرج الشمس من ردائها الناصع ليشاطرها الاحتراق
ذلك الرجل في ردائه الشفَّاف
إنَّهُ يفكِّر كيف سيستطيع أن يقبض على المرأة الهاربة
ليشاطرها الحبّ أمام جميع المخلوقات
و تلك المرأة
المرأة الهاربة كرمل ناعم من بين أصابع طفل
-طفل يقرأ في مجلة قديمة-
تمدُّ يدها إلى الشمس
و تردُّ للعالم أشياءه
إنَّها أشياء صغيرة جدًّا
بيوت، و حوانيت، و أرصفة، و جوع
و أيضًا
قصيدة نائمة في مجلة قديمة

إنَّها تقترب

هي ذي تقترب كسفينة محمَّلة بالجثث
الساعة ذات الرقَّاص الرتيب تؤكِّد على ذلك
النهار ذو الشمس المنهكة يوكِّد على ذلك
و البيوت المتراصَّة كعيدان كبريت في علبة صغيرة
تؤكِّد على ذلك
و أنا أؤكِّدُ لكم
أنَّها تقترب كسمكة قرش مريعة
إنَّها تقترب كقنبلة معطوبة
و معها يقترب كل شيء من كل شيء
اللحم من السكِّين
المدافن من الجثث
و النار من زجاجة بنزين سريعة الاشتعال
إنَّها تقترب
إنَّها تقترب
ساعة الذهاب إلى الموت باطمئنان
و حزن شديد
حيث يبحث الجائع في القمامة عن الأغاني
و العصفور عن السماء الزرقاء في الغرف المقفلة
و الثائر عن الحصان تحت الوسادة
إنَّها تقترب و أنا لست وحيدًا
إنَّها تقترب و أنا أحاول أن أبدو أقلّ حزنًا
إنَّها تقترب و أنا أقذف قطعة السكَّر في فمي
و أذهب إلى المدرسة في القرى الموحلة
أطارد الدجاج في الطريق
و أتعلَّم كيف أقبِّل الفتيات الصغيرات
و أسرق لهنَّ التوت من الأشجار الواطئة.

ورق

ورقة بيضاء كانت
ورقة بيضاء فقط
لم يكتب عليها العاشق رسالة
و لم تطبع عليها الدولة قانونًا
ورقة بيضاء نقيَّة كالنبع
لم تمسكها يد
و لم تمزِّقها أصابع
ليست هويَّة شخصيَّة
و لا بطاقة مجَّانية لزيارة المعتقلات
ورقة بيضاء فقط
قدَّمتها لحبيبي
فكتب عليها كلمة (أحبُّك)
و لم يستطع أن يقبِّلني!.

ثورة صغيرة

بعد قليل
سأقوم بثورة صغيرة
في هذه الغرفة السوداء
أمزِّق الكتب و الأحزان و الصور القديمة
و أضع الكرسي مكان المدفأة
بعد قليل... بعد قليل
سأفكِّر بالزهور و يعاسيب الغابات
و الخيول المرتعشة خلف القضبان
بعد قليل
سأقوم بثورة صغيرة
أضع رأسي فوق الوسادة
أغمض عينيَّ على حلم متوحِّش
أمدّ يدي إلى قلبي
و أغنِّي لروزا لوكسمبورغ.

بندر شاه

لستُ سيئًا بما فيه الكفاية
لأضع السيف على عنق الحصان
و أبصق على الأرض بحقد قائلاً:
(- انزل عن الحصان يا ترانتيان الجبان
انزل و بارزني.)
ذلك أنَّ السيوف وضعت في المتاحف
و الأحصنة أصبحت للسباق
و البصاق تجمَّد في الفم
أمَّا الفرسان الثلاثة فماتوا
و تركوا حصان الشعب في الحلبة
يصهل و يعضّ الأحجار
طالبًا الطغاة للمبارزة.

أطوار غريبة

أطواري غريبة هذه الأيَّام
إنَّني أرقص دائمًا
و أنظر إلى الخناجر التي تغوص في اللحم
و على شفتيَّ ابتسامة من نوع ما
لقد تذكَّرت البارحة أغنية لطيفة
أغنية و قطيعًا من الصخور
أغنية و بحرًا هائجًا كثور
أغنية و رجلاً ميِّتًا
ينظر إلى الأفق بعينين جاحظتين
أغنية... و رقصتُ
كانت أطواري غريبة
فلم أغلق عيني الرجل بهدوء و حزن
كما يفعلون في الأفلام
لكنِّي تساءلت:
لماذا يموت الرجال هنا و هم ينظرون إلى الأفق؟
لم يحبّني أحد
لم تحبّني سوى أغنية و قطيع من الصخور
فمددتُ كفِّي إلى عينيَّ
-عينيَّ اللتين تنظران إلى الأفق-
و أغلقتهما بهدوء
كان يجب أن أحزن و أتألَّم
كما يفعلون في الأفلام
لكنِّي رقصت
إنَّني أرقص دائمًا
فأطواري غريبة هذه الأيَّام.

اطمئنان

حجر بعد حجر
لن أسقط
كمدينة محاصرة
ورقة بعد ورقة
لن أسقط
كشجرة في الخريف
جثَّة بعد جثَّة
لن أسقط
في مذبحة علنيَّة
تحت ظلِّ القانون
أمام دبَّابات الامبرياليَّة
سأسرِّح شعر قلبي
و أنظر إلى الموت باطمئنان.

جندي

في الأزمنة البعيدة
في الأزمنة القريبة
كان يرعى برسيم الحروب كخروف صغير
حاصر المدن كما يحاصرون زوجاتهم في الفراش
اعتدى على الأفئدة و الأشجار و الحيوانات الأليفة
و بمساعدة رشَّاش صغير يزن 5 كغ
اغتصب امرأة و قرية و مساحات شاسعة من الموسيقا
و بمساعدة بذلة عسكريَّة
و عينين قاسيتين
و أظافر طويلة
منع الشمس من أن تزور ثلاثين رجلاً
و قطَّة
و أربع دجاجات
و عندما مات كما يموت الجميع
كان يعضّ شفته السفلى بضراوة
و يبصق على نفسه بدون استئذان أحد
و لم يترك –كما تعلمون-
بوليصة تأمين لأولاده.

فنان

وحيدًا في الليل
أو وحيدًا في النهار
استطاع أن يضع البحر و الصحراء
الذئب و الشاة
القاتل و القتيل
في إطار مساحته
7 x 3
إطار مزدحم بالخطوط و الألوان الغريبة
و وحيدًا في الليل
أو وحيدًا في النهار
كان ينظر إلى لوحته و يفكِّر بقلق:
النافذة مغلقة جيِّدًا
و لا شيء في الشارع سوى الغبار
فلماذا لا أجرؤ على البكاء أو النوم؟.

رجل

... و عندما كان الناس يرقصون
أو يشاهدون الأفلام الهزليَّة
رأيته يحمل الخضار للجوعى
و الحقائب للمسافرين
البترول للطائرات
و الألعاب للأطفال
... و عندما كان الناس يتثاءبون في فترة الظهيرة
أو يمارسون الحبّ في الحمَّامات
كان يحمل السمك من البحار
و القمح من الحقول
الورد من الحدائق
و الكتب من المطابع
و في يوم ما
الأربعاء أو الخميس أو الجمعة
جاءت سيَّارة بيضاء
و حملته إلى المقبرة!.

زوربا

زوربا أنا لا أعرفك
أأنت قدِّيس أم ثائر؟
حبَّة خوخ ناضجة
أم مصباح بترولي زهيد الثمن؟
زوربا
لقد أحببت نساء بعدد السياط التي تلقَّاها جسدك
و تلقَّيْت من الهزائم بقدر الرسائل التي كتبتها لعشيقاتك
كنت شيوعيًا في مصر
و رأسماليًّا في البلقان
إذًا، يا زوربا
أقدِّيس أنت أم ثائر؟
عندما كانوا يصنعون الأسلحة
كنت تحاول إنقاذ الأرامل من الذبح
عندما كانوا يرقصون الروك أند رول فوق الجثث
كنت تعمل في المناجم بقوَّة 300 حصان

عندما كانوا يبتكرون الغازات المسيلة للدموع
كنت تبتكر الغازات المسيلة للفرح
و مع ذلك، يا زوربا، أسألك:
أقدِّيس أنت أم ثائر؟
لقد عشت في زمن ثمن الإنسان فيه دولار واحد
و ثمن البقرة أربعين دولارًا
لقد عشت في زمن يسيل فيه الويسكي
بالكميَّة التي يسيل فيها الدم
لقد صنعت حضارات الدنيا
و أسعدت البشريَّة لقرونٍ طويلة
و لكن لماذا عندما متّ
يا زوربا المسكين
لم ترثْ زوجتك منك
سوى آلة موسيقيَّة ثمنها ربع جنيه استرليني؟.

هيلين
(إلى ن. أبو عفش)

... و إنَّها لكذلك
إنَّها وظيفة الخارجين من خنادق الألم
حيث كل شيء مباح
الينابيع و الخناجر و الكواكب
و حيث كل شيء مفتوح
الركض و النحيب و القبلات
و البحث عن اليورانيوم في حويصلة رجل ذبيح
إنَّها وظيفتك أنت
و إنَّك لكذلك:
متين كالماء
واسع كالصدى
متينًا كالماء رأيتك
عندما كانوا يقتحمون دماغك ليصادروا منه:
الأسرَّة التي أعددتها للعشاق
و الأشرعة التي أعددتها للمراكب
أسلحة سبارتاكوس
عيني هيلين
و نظريَّة آينشتاين النسبيَّة
و واسعًا كالصدى رأيتك:
عندما كان صوتك تفَّاحة
تتدحرج في القلب
قنبلة من زهور و أرغفة
وطنًا شاسعًا
و غطاء تدثِّر فيه أزقتك الباردات
عندما كان صوتك مذبحة لمذابحهم...
قلت لي:
إنَّ هيلين أنثى مقدَّسة
قبضة من نهار و أحصنة
وطن للمصابين باليأس
نافذة، مطر
إنَّ هيلين...
و إنَّها لكذلك
و إنَّها لكذلك
إنَّها وظيفة الخارجين من خنادق الألم
حيث يطاردون الكلاب و الفقراء
و يباد الذباب و القصائد بالد.د.ت
و حيث كل شيء مباح:
البكاء على القبور
و الضحك في الليالي المقمرة
زرع الطيور في حناجر الموتى
و اصطياد الأرانب من دور السينما
إنَّها وظيفتك أنت
و إنَّك لكذلك
قريب كالحروب
بعيد
كالأغاني.

هيروشيما

في رأس السنة الجديدة
و كإبن بار
سأجمع البحار و الأشواق و الأفكار الطارئة
و أرسلها بالبريد المضمون
إلى أمِّي
أمِّي التي ما زالت تتنفَّس أوكسجين العبوديَّة
و تلتهم فطائر الإرهاب
منذ أن امتدَّت يد الإنسان إلى الإنسان
و جعلت منه مزرعة لإنتاج الحاسبات الالكترونيَّة
في رأس السنة الجديدة
سأجمع الصحف و المقابر و الحانات
الإعلانات و الشوارع و أماكن العبادة
و أعبِّئها بمحفظتي
كما تعبئ الفلاَّحات جرار الماء
من الينابيع البعيدة
أدخِّن بهدوء
ناظرًا إلى الفظائع المنتشرة
كانتشار الذباب فوق قطعة حلوى
هنا الماء و هنا الصحراء
هنا العطش حتَّى الارتواء
و هنا الجوع حتَّى التخمة
و هنا باستطاعتك أن تشتري أصابع الأطفال
من الحوانيت
لتعلِّقها في غرفتك
بجانب لوحات فاتح المدرِّس
هنا الماء و هنا الصحراء
هنا القيود الممتلئة
و هنا القلوب النحيلة
و من المطاعم كما في الحقول
من المدافن كما من علب الكبريت
تخرج حجافل الاستعمار
لتكتسح الأناشيد و الأفئدة و أقلام الحبر الجاف
تعالوا... تعالوا
أيُّها الهولنديُّون و الدانمركيُّون و الأمريكيُّون
تعالوا لنشرب القهوة و نتبادل الأنخاب
تعالوا لنحتفل بسقوط القنبلة الذريَّة الثانية
بين عيني هيروشيما
في رأس السنة الجديدة
سأجمع أسماء الطغاة كما يجمعون الطوابع التذكاريَّة
في "ألبوم" ضخم من ورق الأيَّام
أضع فرانكو بجانب سالازار
موسوليني تحت هتلر
السادات أمام سوموزا
سميث بين ساقي سالومي
و أعطيهم حريَّة الموت تحت سنابك التاريخ.

أغنية رجل متعب عائد إلى البيت

هذه الدنيا الموشكة على البكاء
برتقالة أم حجر
سمكة أم تمساح؟
و هذا القمر
الذي يطلّ كل مساء
بثيابه الرثَّة
مادًّا يديه إلى سكارى منتصف الليل
كشحَّاذ عتيق
هل أسأله من أنت؟
أم أغرز أسناني في رأسه؟
رأسه الذي كحبَّة جوز فارغة
تتطوَّح في هواء منتصف الليل.
أنظر إلى القمر كرومانتيكي عريق
و خنصري أمام أنفه
- سأخاصمك يا قمر
أيُّها الأصفر الكبير
لن أشرب معك القهوة
و لن أركض معك في البريَّة
لن أنتحب أمامك كعاشق
و لن أحجب وجهك كغيمة
و كجندي مهزوم عائد من حرب عادلة
سأنظر دائمًا إلى الأسفل
راكلاً الحصى و المتاعب ببوز حذائي
و أنا أفكِّر بالمجهول!.

فيما بعد

فيما بعد
بعد عشرين سنة أو برتقالة أو سيجارة
أجدها هنا
أجد حبيبتي التي من قطن و جسور و مساكن
تفتِّش عن قطرة المطر المتكسِّرة
بين أسنان الرمال
فيما بعد
بعد عشرين خنجرًا أو صديقًا أو رحلة
أجدها هنا
أجد الأصابع العشرة النائمة في سريري
و العينين المغلقتين كطفل مصاب بالكآبة
فيما بعد
أفتح الباب و أدخل كالهواء
أفتح الأرض و أدخل كالقمر
فأجدها هنا
تعدُّ ببطء السنوات التي قضيناها بتبادل النار
و قراءة الأنباء المؤلَّفة في الجرائد
و أجدها هنا
شرفة تطلّ على البشر بحنان
و إعلانًا يقرؤه المارَّة دون أن يتأسَّفوا
على العمر الذي اختفى ببلادة
و أجدها هنا تقول لي:
افتح رئتيك على الأعشاب
و دماغك المليء بالكدمات على الأرصفة
فيما بعد. فيما بعد. فيما بعد
ثمَّة طفل، حجر، حصان، إمرأة أو عربة
تضع بين يديك البلاد
و تدعوك إلى النزهة
بدون أن تسألك:
هل ثمن حذائك 44 ليرة
أم ليدك اليسرى ستَّة أصابع!.

الكلمة الأخيرة

عن النقط السوداء الكافرة و القبلات الممنوعة من التداول
عن امرأة كسول تركت خلفها قميصها الممزَّق
و رسائلها الخضراء
عن فتاة كانت تحدِّثني عن الديوك مساء الاثنين
و عن المقاصل مساء الاثنين
عن الطفل الذي يريد أن يخدش وجه القمر بأظافره الطريَّة
و الرجل الذي يريد أن يثقب قلب الطفل بسكِّينه المدبَّبة
عن الخضار و المشانق و الأزمات و المشانق
عن الحروب المعبَّأة في الثلاَّجات
و السلام المحنَّط في الشوارع
عن الحبّ و الأحذية و الامبرياليَّة
عن حليب الماعز و حليب الأمَّهات
عن جدول ضرب الموتى و عمليَّات تقسيم الجثث
عن الأوطان البعيدة و الوطن القريب
عن كومونة باريس و صناعة المرطَّبات
و ثياب الهيبيِّين و علي كتخدا
عن الآلهة الطيِّبة و أكاذيب إذاعة مونت كارلو
عن أسناني و أهدابي و جواربي القديمة
عن الأرض التي سقطت و السماء الموشكة على السقوط...
كتبت و كتبت و كسرت الأقلام
أقلام زهيدة الثمن كرأسي
و أقلام غالية اختلستها من جيوب أصدقائي
أقلام بيضاء بلا رائحة
و أخرى سوداء كوجه صبي باعني ورقة يانصيب
قرب جسر فكتوريا
أقلام حمراء أحتفظ بها للأوقات الخطرة
و أخرى خضراء أكتب بها الرسائل لحبيبتي
كتبت و كتبت و كسرت الأغاني
كتبت و كتبت و لم أحتفظ إلاَّ بقلبي
قلبي الذي أخبِّئه قبل أن أنام تحت وسادتي
خوفًا من قطَّاع الطرق و المسدَّسات اللطيفة
إنَّهُ الآن يريد أن يفرَّ من قفصه الصدري
ليبحث عن عمل و رغيف أبيض
و فتاة ينام معها في غرفة صغيرة
مفتوحة دائمًا للأصدقاء و الكتب و العصافير.

بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدَّس

(لمن أتحدَّث اليوم
الإخوة أشرار
و الأصدقاء ليسوا أصدقاء حب.
لمن أتحدَّث اليوم
القلوب قلوب لصوص
و كل رجل يغتصب ما عند جاره)

شاعر مصري قديم
تفاصيل

رائحة ما...

هناك رائحة ما
ليست كرائحة الملابس القديمة
و بطاقات التعزية
و المستنقعات
رائحة ما...
حادَّة، متردِّدة، مسكينة
كدموع بنت تبكي دميتها المحطَّمة
رائحة...
تدخل غرفتي بخجل في الصباحات الباكرة
تغسل وجهي
و تستمع مثلي لأغنية حزينة آتية من الأعماق
رائحة...
تذكِّرني دائمًا
بجنود عائدين من الحرب
و بحر
و فتاة كانت تطاردني ضاحكة
في حقول القطن.

سورية

يا سورية الجميلة السعيدة
كمدفأة في كانون
يا سورية التعيسة
كعظمة بين أسنان كلب
يا سورية القاسية
كمشرط في يد جرَّاح
نحن أبناؤك الطيِّبون
الذين أكلنا خبزك و زيتونك و سياطك
أبدًا سنقودك إلى الينابيع
أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء
و دموعك بشفاهنا اليابسة
أبدًا سنشقّ أمامك الدروب
و لن نتركك تضيعين يا سورية
كأغنية في صحراء.

القراصنة

قلت للسفن:
إذا رأيت القراصنة
بسيوفهم الطويلة
و قلوبهم الخرساء
فاسأليهم لماذا...
لا يستطيعون سرقة البحر؟

قلت للموت:
عندما تأتي إليَّ
لتدمر حياتي
فالرجاء
أن تدمرها بلطف
:ثم قلت للموت
لا تقترب مني
كيلا تعود إلى أمك
.بعنق مكسور

الصمت

مساءً جاء الرجال متعبين من المرعى
مساءً جاءت النساء متعبات من الحقول
للرجال قلوب موشكة على السقوط
وللنساء عيون موشكة على البكاء
في المساء جاؤوا ورقصوا حتى الصباح
الجرح صار أغنية
والتعب مزمارًا
غير أن رجلا ما
ظلَّ جالسًا في الزاوية البعيدة
البندقيَّة بين يديه كأفعى
...و الحياة في عينيه زمن من فخَّار
الرجل الذي ينظر بصمت
لا يبدو أنَّهُ يشاهد التلفزيون
و لا يبدو أنَّهُ يحلم
و لا يبدو نائمًا
...اللئيم
.ما الذي يفكِّر فيه؟

أرقام

لدينا كل شيء
مليون رغيف لمليون جائع
مليون قبلة لمليون عاشق
مليون بيت لمليون متشرِّد
مليون كتاب لمليون تلميذ
مليون سرير لمليون متعب
لدينا كل شيء:
للصيف لدينا بحر
و للشتاء لدينا مدافئ
للقطارات محطَّات كثيرة
و للسوَّاح آثار
و آلات تصوير.
لدينا كل شيء
سوى أن أغلبنا لا يملكون النقود و الرصاص
لذلك من الأفضل ألاَّ نتفاءل كثيرًا.

من؟

من سيفتح لي صنبور الحياة لأشرب
إذا جفَّ قلبي تحت هذه السماء الخائنة؟
من سيغنِّي لي أغنية في المساء لأنام
إذا وضعوا بين جفني صخرة مدبَّبة؟
من سيخرجني من هذه البئر العريقة
لأرى أشجار الصفصاف تحت ضوء القمر؟
من سيحل لي هذه المسألة البسيطة:
(إذا كنَّا نرتدي النار
كيف نستطيع أن نخلعها؟)
من سيشتري كفنًا للشمس إذا ماتت؟
من سيفتح للقتيل الباب
إذا جاء لزيارة صديقه بعد منتصف الليل؟
من سيذهب معي إلى السينما
و من سيمشي معي في هذا السجن الطويل؟

لا شك بذلك يا ديكارت

لا أشك مطلقًا
على الأقلّ عندما أكون حزينًا
بأن الخشب يطفو على سطح الماء
و القطط تتغذّى بالفئران
و الأشجار تزهر في الربيع.

لا أشك مطلقًا
بالسكين التي تقطع اللحم
و المطر الذي يقطع العطش
و الاثنين الذي يقطع الطمأنينة.

لا أشك مطلقًا
كما يعلم الجميع
بأنَّ واحدًا زائد واحد يساوي اثنين
و أنَّ قليلاً من الملح و الخيار و البندورة و البقدونس المفروم يساوي سلطة.

و لكن ما أشك فيه
يا ديكارت المجنون
بأنَّ أكذوبة و أكذوبة
و بناية فوق بناية
و مستنقعًا قرب نهر...
يساوي ثورة!.

كهنة بشوارب طويلة

قالت المرأة:
أريد أن أعيش في القمر
مع حقل قمح و شجرة و عنزة و رجل أحبُّهُ.

قال الطفل:
أريد عصفورًا لأطعمه
قطَّة لألعب معها
دفتر رسم و أقلامًا ملوَّنة
لأرسم القطَّة قرب العصفور.

قال الرجل:
أريد أن أعمل و أتزوَّج و أسكر و أذهب إلى السينما.

قالت الشجرة:
أريد أن أظلّ خضراء.

قال النهر:
أريد ألاّ أتوقَّف عن الجريان.

و فيما بعد... فيما بعد
جاء بشر صامتون
كهنة بملابس سوداء و شوارب طويلة
غسلوا جسد العدالة بأحجار القوانين
و أخذوا الجميع إلى السجن!.

سقراط

الذي لم نفعله اليوم
نستطيع أن نحقِّقه غدًا
و الذي أتعبنا البارحة
نستطيع أن نضحك منه اليوم
القي بنفسك بين ساعديَّ
كما تلقي امرأة يائسة نفسها من فوق ناطحة سحاب
هذه لعبتنا الجميلة الضارية
التي لم يسجلها التاريخ
هذه حكمتنا الساذجة
التي لم يتحدَّث عنها سقراط
أيَّتها الصديقة النائمة
لا تقفي أمامي مكتوفة القلب
فالشمس –كما يقولون-
لا تشرق في اليوم مرَّتين.

أيَّام

ماما
أما زلت تحتفظين ببارودة جدِّي القديمة
بين بيت المؤونة و زريبة الحيوانات؟
أما زلت تسرِّحين شعرك بأصابعك النحيلة
و تخبزين لإخوتي فطائر الحكمة؟
أنا هنا يا أمِّي
أحتسي فلسطين صباحًا مع فنجان القهوة
و أطرد عن جسدها البعوض و الأكاذيب
أذهب معها إلى المدرسة
و نقرأ معًا الصحف في المقهى
و حينما أكون حزينًا
تجلس بجانبي و تعدني بأشجار البرتقال
ماما...
امسحي دموعك بمنديل الجبل
و نظِّفي بارودة جدِّي بخرقة الأيَّام
فبعد فترة سأعود إليك
و في حقيبتي:
زجاجة عطر
و قليل من الرصاص.

بالتساوي

المرأة التي تحبُّ التفَّاح
قطفت ثلاث تفَّاحات
واحدة لها
واحدة لي
واحدة لحبيبتي.

الرجل الذي يلعب بالأحجار
بنى ثلاثة بيوت
واحدًا له
واحدًا لصديقه
واحدًا لي و لحبيبتي.

الطفل الذي يعدُّ النجوم
عدَّ ثلاث نجمات
واحدة له
واحدة لي
واحدة لحبيبتي.

الرجل الذي يريدُ كُلَّ شيء
اشترى ثلاثة خناجر
زرع الأوَّل في صدري
و الثاني في صدري
و الثالث في صدر حبيبتي.

الحريَّة

لا فائدة من الصراخ
ما دام الصوت لا يخرج من زنزانة الفم
لا فائدة من البكاء
ما دامت المناديل لا تكفي لتجفيف الدموع
لا فائدة من الطريق
ما دامت الأقدام مدجَّجة بالسلاسل
لا فائدة من الثياب
ما دام الجسد مملوءًا بالسكاكين
لا فائدة من الحبّ
ما دامت القبلة جريمة قانونيَّة
لا فائدة من الرغيف
ما دام القلب سيظلُّ جائعًا
لا فائدة منِّي
ما دمت سأموت دون رغبة
و ثمَّة فائدة لكلِّ هؤلاء
عندما نمضغ عنب الحريَّة!.

ما يحدث لي و لكم

ماذا يحدث لي
إنَّني أتألَّم جدًّا
و أقول: آااااخ
كُلَّما رأيت البشر و الحيوانات و الأشجار!
ماذا يحدث لي
إنَّني سعيد جدًّا
و أقول: لا بأس أيُّها الصديق
لم يزل لدينا بشر و حيوانات و أشجار
البشر يعملون و يحبُّون
الحيوانات تعمل و تحبُّ
و الأشجار تزهر دائمًا
و لكن ما هو سيء
أنَّنا ما زلنا نقول: آااخ
في الصباح
و المساء
و عندما نضع رؤوسنا فوق الوسائد!.

جدار

الذي وضع الجدار بين عالمين
بيديه الخشنتين
كان يقيس المسافة بين الحجر و الحجر
مفكِّرًا بالطقس البارد في كانون
و الذئاب التي تنسل في العتمة و الضباب.

الذي وضع الجدار
كان يقضم الخبز و يدخِّن
و يطرد الغبار و الذباب عن عينيه الجميلتين.

لقد صنع عالمًا صغيرًا
بأربعة حواجز و سقف و أرض مغطَّاة بالإسمنت
لرجل أو امرآة أو طفل مثلي
أربعة حواجز و سقف و أرض مغطَّاة بالإسمنت!.

غدًا في الصباح

غدًا في الصباح
سنتسلَّق الشجرة و نأكل التوت
غدًا في الصباح
سأمسك يدك و أركض في البريَّة
غدًا في الصباح
سأقبِّلك ألف قبلة
و أقول لك ألف صباح الخير
و لكن من يوكِّد لي أنَّ الصباح سيأتي؟.

الليلة مديدة كالعصور
المرأة في الشرفة
و أنا في السجن.

قمر

كل ما قاله الراعي للجبل
و النهر للأشجار
و كل ما قاله الناس و ما لم يقولوه
في ساحات الرقص و المعارك
قلته لك

عن الفتاة التي تغنِّي في النافذة
و الحصى الذي يتكسَّر تحت عجلات القطار
و المقبرة التي تنام سعيدة منذ قرون
حدَّثتك

زهرة جسدي، كل صباح
أقطفها و ألقيها في الشارع
ليطأها القادة و الحكماء و اللصوص...
و زهرة جسدي، كل مساء
أجمع تويجاتها المفتَّتة لأجمعها لك
و أقول كل ما حدث لي

مرَّة بجانبك جلست و بكيت
كان قلبي حقل أرز محترق
و أصابعي تتدلَّى كألسنة الكلاب في الصيف
أردت أن أعَبِّرَ عنِّي بالحركات:
أن أكسرَ كأسًا
أن أفتحَ نافذةً
أنا أنام...
و ما استطعت

عمَّ أتحدَّث بعد ستة و عشرين عامًا
أو بعد ست و عشرين طلقة في الفراغ؟
لقد تعبت من الكلام و الديون و العمل
لكنِّي لم أتعب من الحريَّة
و ها أنذا أحلم بشيء واحد أو أكثر قليلاً:
أن تصير الكلمة خبزًا و عنبًا
طائرًا و سريرًا
و أن ألفَّ ذراعي اليسرى حول كتفك
و اليمنى حول كتف العالم
و أقول للقمر:
صَوِّرْنا!.

إنفجارات

البيضاء

-1-

كوحشٍ كبيرٍ، كبير
بأنياب خضراء
و مخالب ممطرة
سأخرج إلى العالم
و حيث تلمع عيون الأطفال
و أجنحة النوارس
سأجلس مع القبلة قرب الينابيع
و أختبئ مع الفلاَّحات بين سنابل القمح
و أقول: أحبك.

-2-

في هذه اللحظة تمامًا
العالم قلب كبير يدقُّ بقوَّة
العالم زهرة لوتس في شَعْرِ فتاة صغيرة
العالم هرَّة بيضاء تموء بلطف و هي تشرب
العالم أغنية مسافرة في قطار مجهول
العالم يمامة...
في منقارها بطاقة بريديَّة:
إنَّني أحبك.

-3-

سألعب مع الأطفال بالحصى و الأوراق الملوَّنة
سأقيم البيوت من رمال الصحارى و الشواطئ المبلَّلة
سأقول للصخرة: لنبتسم
للأغصان: لنضحك
للتراب: لنرقص
للوسادة: لنتنفَّس
للجبال: لنغنِّ
للموتى: لنبدأ
للأحياء: لنستمرّ
للأرقام: لنكبر
للحروف: لنتَّسع
للفصول: لنتبدَّل
للغيوم: لنمطر
و لك أيَّتها المرأة
سأقول: أحبك
أحبك كُلَّما قطفت وردة
و كُلَّما قطفتني السكاكين.

-4-

السبت، الأحد، الاثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس، الجمعة...
أنا أحبك
الشتاء، الربيع، الصيف، الخريف...
أنا أحبك
السابعة صباحًا، السابعة مساءً،
الثانية بعد منتصف الليل...
أنا أحبك
أحبك هنا و أحبك هناك
في الضباب و الأودية و المنازل و الحقول
على الأرصفة و حبال المشانق
بين المصانع و الجرَّارات و تحت قنابل الإمبرياليَّة...
أنا أحبك.

-5-

سأبني شمسًا بثلاث نوافذ و أربعة أبواب
سأزوِّج البحر من فتاة النجوم
سأطلق غابة على الصحراء الكبرى
سأقلِّد الريح وسامًا من البرتقال
سأطفئ الجحيم بقطرة من الماء
و سأقول لك: أنا أحبك.

-6-

لا تحجزوا لي مقعدًا في طائرة مخطوفة
و لا زنزانة في بلد بعيد
و لا موتًا في مجاعة عالميَّة
لا تغلقوا النوافذ و الأبواب و الجدران و الدروب الطويلة
لا توصدوا البحر و الحدود و السماء العالية
لا تتركوا أوديب يقتل أباه
و لا هاملت يقتل نفسه
لا تصنعوا التوابيت
و لا تدمِّروا السفر
لا تأخذوني إلى عام 2000
أو عام 1605
أو عام 37 ق.م
أريد أن أظلَّ هنا
في تموز 24 تموز 1979
بفم مليء باليانسون
و قلب مزروع بالقطن
و أن يظلَّ العالم 24 تموز دائم
فهذا يعني بأنَّني أحبك.

غرفة صغيرة و ضيِّقة و لا شيء غير ذلك

غرفة صغيرة صالحة للحياة
غرفة صغيرة و ضيِّقة صالحة للموت
غرفة صغيرة و رطبة لا تصلح لشيء
غرفة صغيرة فيها:
امرأة تقشِّر البطاطا و اليأس
عامل باطون لا ينام أبدًا
بنت تبكي كثيرًا بدون سبب
و أنا ولد مشاكس و غير لئيم
لديَّ كتب و أصدقاء
و لا شيء غير ذلك.

و منذ أن ولدت بلا وطن
و منذ أن أصبح الوطن قبرًا
و منذ أن أصبح القبر كتابًا
و منذ أن أصبح الكتاب معتقلاً
و منذ أن أصبح المعتقل حلمًا
و منذ أن أصبح الحلم وطنًا
بحثت عن غرفة صغيرة و ضيِّقة
أستطيع فيها التنفُّس بحريَّة.

إنَّني أتنفَّس بحريَّة
في غرفة صغيرة و ضيِّقة
أخلع ثيابي و أنام
أخلع فمي و أتكلَّم
أخلع قدمي و أقوم بنزهة تحت غبار السرير
مفتِّشًا عن بقايا أطعمة و قطط تحبُّ المداعبة.

على الرف في الغرفة كتب و أصدقاء
و هناك أيضًا حزمة جافَّة من البرسيم
صورة لغيفارا و لوحة سوداء لمنذر مصري...
عندما أجوع ألتهم الكتب و أقول للأصدقاء:
- أيُّها الأصدقاء، تعالوا لنتحاور...
و أصدقائي كثيرون
الذين يحبُّونني لا يتركون لي فرصة للموت
و الذين يكرهونني لا يتركون لي فرصة للحياة
و غدًا على الأرجح
سألْتَهِمُ الأصدقاء
كما التهمت الكتب و قرارات الأمم المتَّحدة
و غدًا على الأرجح
سأكفُّ عن الحلم
مثلما كفت الآنسة (س) يدها عن شؤون قلبي
و غدًا على الأرجح
سأترك للغرفة تأسيس حياتي
بجدرانها الخمسة المدمَّاة
و نافذتها الوحيدة المشرعة.

في غرفة صغيرة و ضيِّقة صالحة للبكاء
في غرفة صغيرة و ضيِّقة صالحة للحب
في غرفة صغيرة و ضيِّقة صالحة للمؤتمرات
لم أستطع أن أتآمر على أحد
لم أستطع أن أفعل شيئًا.
في غرفة صغيرة و ضيِّقة صالحة للكتابة
لم أستطع إلاَّ كتابة وصيَّتي الأخيرة
الغرفة الصغيرة الضيِّقة
الممدَّدة كجثَّة فوق سرير الأرض
قابلة مثلي للتشريح
و مثلي قابلة للإبادة.

في الغرفة الصغيرة الضيِّقة
أقرأ الصحف و المذابح
في الغرفة الصغيرة الضيِّقة
أعوي كعاصفة و أغرِّد كسنبلة
أنا في الغرفة الصغيرة الضيِّقة:
نهر مكسور
و أحيانًا أمَّة مضطَّهدة.

- أين ذهبت المرأة؟
* لتموت في الغرفة الصغيرة الضيِّقة.
- أين قرَّرْتَ الموت؟
* في الغرفة الصغيرة الضيِّقة.
- كم عمرك؟
* غرفة صغيرة ضيِّقة.
- ما هي الأرض؟
* غرفة صغيرة ضيِّقة.

اليوم صباحًا و كإنسان مقتول
يعرف تاريخ ولادته و لا يملك شهادة الوفاة
أغلقت عيني النافذة
و تركت الغرفة الصغيرة الضيِّقة
تفيض حتَّى حافَّتها بالأمراض
اليوم صباحًا
قلت سأفتِّش عن فاكهة لم تلمسها يد
و صديق لم تذهب به رصاصة إلى السماء
ذهبت إلى الأشجار و ما وجدت أحدًا
إلى الينابيع و ما وجدت أحدًا
إلى الصخور و ما وجدت أحدًا
إلى الحيوانات و ما وجدت أحدًا
ذهبت إلى المطارات
و الشوارع
و مؤسَّسات الأيتام
فحسبوني شحَّاذًا و وضعوا في كفِّي النقود...
اليوم مساءً و كحصانٍ مقطوع الرأس
عدت إلى الغرفة
الغرفة الصغيرة الضيِّقة
و بلطة ضخمة من الصراخ تنمو تحت أظافري.

حيث في كلّ خطوة قمر مكسور

لقد بدأنا نعرف ما معنى الزمن
عندما نعود إلى البيت وحيدين
متشابكي القلوب و الأصابع
بدأنا نعرف ما تعني الصخور النائمة في البحر
الشمس النائمة في السماء
و الأغاني النائمة في المقبرة
بدأنا نعرف لماذا ننام و نأكل
و نسير في الشوارع بلا هدف
حيث في كلّ خطوة قمر مكسور
حيث في كلّ كلمة قبلة مذبوحة
حيث في كلّ (صباح الخير) طلقة مخبأة
لم نستطع أن نمزِّق بها دماغ صيَّاد
لقد بدأنا نعرف و نفكِّر و نتألَّم بشكل حسن
محاولين أن نقول للفتاة الجميلة:
(هذه المظلَّة لا تصلح للوقاية من النار
هذا الثوب لا يصلح للقيام بنزهة إلى الغابة
هذه الأصابع لا تصلح لمداعبة قطَّة
و هاتان العينان المليئتان بالسنايل
لا تصلحان لرؤية الجوع
و هو يتقلَّب بعنف فوق فراش شائك)
ههنا كل شيء مريض:
البشر و الحيوانات و الأزهار
القوانين و الدول
الآلهة الطيِّبة و الشياطين الشرِّيرة
الذين رحلوا عنَّا
و الذين ما زالوا يتشبَّثون بنا
مثلما تشبَّث السندباد بجسم حوت بليد
معتقدًا أنَّه صخرة
و ها نحن نغوص
مرضى و معذَّبين و مُتعبين و جوعى
في هذه الهاوية الرحبة
التي اسمها (حياتنا)
نعرف و نفكِّر و نتألَّم بشكل حسن
نعرف لون الأفق في السادسة صباحًا
لون الطفل و هو يغادر صباحه إلى الأبد
و لون الصباح الذي لا يزورنا
إلاَّ عندما نشعر بحاجة إلى النوم.

أنت،
اخلع عنك الحياة و أذهب بصراحة إلى الموت
الموت يا عزيزي سمكة لن تقبض عليها
إلاَّ إذا كانت يداك جافَّتين
و مشاعرك حافية

أنتِ،
اخلعي حياتك و أوقدي شمعة
و لا تفكِّري كثيرًا بشهداء الأقاليم
لا تفكِّري بالبحَّارة التعساء
و لا بالقرصان الجميل
و لا تفكِّري بإفريقيا الخضراء
و لا بآسيا الرماديَّة
لا تفكِّري بالبجع و لا بالتماسيح
لا بالنهر و لا بالزورق
فقط اتركي نفسك بهدوء قرب شمعة
بذاكرة بيضاء و قلب صافٍ
و لنحاول معًا أن نعرف ما معنى الزمن
عندما، كجنديٍّ مسكين
يمدُّ ذراعه السليمة
طالبًا منَّا صدقة
جنديّ مسكين أو امرأة نحيلة
على السرير العاري كانا يموتان
(بهدوء... بهدوء... بهدوء)
تفتح المرأة عينيها و تنظر إلى الجندي بدهشة
يفتح الجندي ساعديه و يضمُّ المرأة بخوف
بدهشة و خوف كانا يموتان
و العالم حولهما يتداعى و يختفي
و الناس
الناس الوادعون
الطيِّبون
الأبرياء حتَّى رؤوس أصابعهم
كانوا ينظرون إليهما بلامبالاة
و حينما انتفض الجندي و طلب سيجارة
و حينما انتفضت المرأة و أعطته السيجارة
فتح الهواء الباب و أطفأ عيدان الثقاب...
أنا رجل مسكين
و أنتِ امرأة نحيلة
أنا بعيد
و أنتِ مثلي مثلي مثلي بعيدة
يداك الملوَّثتان بالحبّ
لا تغسليهما
الوحش المقتول في قلبك
اتركيهِ هناك يتفصَّد موتًا
ذثِّريه بالأغاني و ضعي يديه فوق صدره
و غدًا، أو اليوم،
عندما تصبح الحريَّة كالهواء مباحة
عندما يتداعى الأباطرة كالجدران القديمة
عندما يمتلك الجميع قليلاً من الرصاص
و كثيرًا من القلب
و غدًا، أو اليوم،
عندما نعرف و نفكِّر و نتألَّم بشكل حسن
و غدًا، أو اليوم،
سنحاول أن نسير في الشارع
نتكلَّم بغبطة و بلا خجل
و وحيدين نعود إلى البيت
متشابكي القلوب و الأصابع
و للشجر أن يكون أشد اخضرارًا
و للبحر أن يكون أشد اتِّساعًا
و مثلما يحقُّ للسكِّين أن يكون حادًّا و مؤلمًا
فللخطيئة الجميلة حقّها في أن تتكاثر كالأرانب
حيث في كلّ خطوة قمر مكسور
حيث
في
كلّ
كلمة
قبلة
مذبوحة.

بين يديك أيُّها العالم

فلتأتِ إليَّ الآن
فلتأتِ إليَّ الآن
الباب مفتوح و النافذة مفتوحة
و كل ما هو لي
و كل ما هو ليس لي
و كل ما رأيته و عشته و انتظرته
ينتظرك الآن:
المائدة و السرير و الضوء و رائحة جسدي
العشب و الأسماك و الأزهار و قلبي
كل شيء ينتظرك
كل شيء ينتظرك
فلتأتِ إليَّ الآن
إنَّ الزمن لا يتغيَّر أبدًا
إنَّ الزمن لم يتغيَّر قط
فالصيف كالخريف
و السبت يشبه الأحد و الأربعاء
أمَّا الذي تغيَّر دونما انقطاع
فهو نحن
نحن الذين نذهب إلى الحروب و المصانع و المراعي
و نبتكر كل ما له علاقة بنا:
الرصاص و الخبز
السجون و الحريَّة
السجائر و أقلام الرصاص
السكاكين و الورق و الأغاني
الألعاب و القيود و المبيدات الحشريَّة
إنَّنا نفعل كلّ ما نستطيع
بين يديك أيُّها العالم

بين يديك أيُّها العالم
دمي يسيل الآن
يسيل و أراه
يسيل و يتبعثر و يتشابك و يفترق
ينحني و ينكسر و يميل يسارًا و يمينًا
إنَّهُ دمي أيُّها العالم
دمي الصامت الثرثار
الذي يرسم بنفسه صورتي الشخصيَّة
و وجه من أحبُّ و أكره

بين يديك أيُّها العالم
متدفِّق و منطوٍ
بعيد و قريب
أتنقَّل من شارع إلى جدار
و من صديق إلى قاتل
و من أغنية إلى غبار
أتنقَّل و أتنقَّل
حاملاً خضاري و قمحي و كراريسي
بنادقي و زهوري و فراغي
دونما راحة و دونما تعب
ذلك أنَّني أعيش لأتساءل
أو أتساءل لأعيش:
ما الذي فعلت بنفسك يا هاملت؟
و ما الذي تنتظرينه يا بنلوب؟
و ماذا أعطت لك الحياة يا سقراط؟
و لم تثير رعبنا يا هيتشكوك؟
و أنتَ يا أبي...
أيُّها السكِّير، المريض، المقامر
أيُّها الحالم، الطيِّب، المسكين
أما زلت تتناول عشاءك المعتاد
بيضتين مسلوقتين
قليلاً من الزبدة
نصف رغيف
و همومًا كاملة
و أنتِ يا أمِّي...
أيَّتها الشجرة التي لم تثمر غيري
أما زلتِ تنامين باكرًا
عاريةً إلاَّ من أوراقك الخضراء
الخضراء دائمًا بين يدي العالم؟.

بين يديك أيُّها العالم:
النافذة مشرعة و أنا وحيد
(من يأتي إلى من)
الأضواء ساطعة و أنا معتم
(من يضيئني من)
السفر... السفر... السفر...
هو ما أريد
الحريَّة... الحريَّة... الحريَّة
هي ما أطلب
أن أضمَّ المرأة
و أسحب القمر من أنفه إلى غرفتي
أن أرقص و أرقص و أرقص
حتَّى تتعب الموسيقى
أن أحملك أيُّها العالم
أهدهدك كطفل
و أزعل منك إذا أخطأت في الحساب
أن آكل و أعمل و أشرب و أتنفَّس
كما يفعل المبدع الصغير الكبير
الذي يزرع القمح بين الصخرة و الصخرة
و يترك للطفل حريَّة الحركة و البكاء
المبدع الصغير الكبير
الذي يشبك يديه خلف ظهره
في العطلات الأسبوعيَّة
سعيدًا ببطاله النظيف
و ذقنه الحليقة
إبنك أيُّها العالم
إبنك الطويل، القصير، البدين، النحيل، الذكر، الأنثى، العاجز، العطشان، الخائف، المضيء، المتردِّد، المباشر، الصادق، البسيط، المغامر، المجنون...
إبنك الذي من سهول و ماعز و مطر كثيف
الضائع بين سبارتاكوس و نيرون
بين يسوع و يهوذا
الذي جرَّبَ كل شيء
و لم يتوصَّل إلى شيء
لأنَّهُ...
لأنَّهُ ما زال بين يديك أيُّها العالم.

... و أنا أنتظرك الآن
حزينًا كرسالة لم تصل
و وحيدًا كفزَّاعة عصافير
أنتظرك و أعرف أنَّك معي
رجلاً و امرأة و طفلاً
طيرًا و موسيقى و غابة و طريقًا طويلاً...
و سواء كنت في العمل أو البيت أو الشارع
أراك و أعرفك
أفتقدك و أسأل عنك
و أينما ذهبت سأتبعك
و كُلَّما التقيتك سأهرب منك
لكنَّني دائمًا... دائمًا
أفتح لك الباب و قلبي
و أقول تعال
قبّلني قبّلني قبّلني
قبّلني قبّلني قبّلني
هذه أصابعي و هاتان عيناي
هذه أظافري و أنيابي
و هذا هو جسدي
دافئًا و بردان و محمومًا
و هذه هي نفسي
فارغة إلاَّ من الصخور و الرمال
و ممتلئة بكل شيء
و كل شيء لا يستطيع احتواءها
حتَّى أنت...
حتَّى أنت أيُّها العالم.

بين يديك أيُّها العالم
أعدُّ حروبي و هزائمي و انتصاراتي
و أسجِّلُ أسماء الجلاَّدين و الضحايا
أسماء العشاق و الفاشلين و المغامرين و المضطهَدين
و لا أنسى إسمي
إسمي الوحيد، المتكرِّر، المتفرِّد
الذي يعرفه الجميع و لا يعرفه أحد
محمود أو الياس أو مريم
رياض أو سوزان أو عادل...
ما الذي يهمّني من ذلك؟
فالجميع يحبُّون و يكرهون و يزورون المقابر
(على الأقلّ مرَّة واحدة بعد عمر مديد)
و الجميع عندما ينامون
ينامون بطريقة واحدة و مختلفة
و لذلك لا نختلف في شيء
سوى أن بعضنا ينام بعين مفتوحة
و بعضنا لا ينام أبدًا
و بعضنا ينام دائمًا:
في قبر، أو حانة، أو وظيفة
في صحيفة، أو كتاب، أو متحف
و الجميع الجميع
يملكون الأيدي و الرقاب و الصدور و الذكريات
غير أنَّ بعضهم لا يملكون القلب
و بعضهم قلوبهم سوداء
و بعضهم رموا قلوبهم في البالوعات و استراحوا
استراحوا بين يديك أيُّها العالم

بين يديك أيُّها العالم
أدور و أدور و أدور
كدواليب الحظ
ثمَّ أتوقَّف على رقم
لا علاقة لي به
و سواء كنت ورقة يانصيب خاسرة أو رابحة
و سواء كنت رقمًا أحاديًّا أو مزدوجًا
فالحصان الخاسر لن ينال الجائزة
و الحصان الرابح لن يجني سوى القليل أو الكثير من التبن و الذرة
أمَّا الرابح الوحيد
فهو الذي يملك الحصان و يقوده و يوجِّهه
الرابح الوحيد
صاحب المهماز و السوط و القبضتين الفولاذيَّتين
و أنا ملكك أيُّها العالم
أنا جوادك الخاسر
و نحن ملكك أيُّها العالم
نحن جيادك الخاسرة
ننطلق و ننطلق و ننطلق
و أخيرًا إلى الاسطبلات نعود.

بين يديك أيُّها العالم
المدراس = القتل
الأصدقاء = النميمة
الثقافة = الكذب
التاريخ = التكرار
و الدولة هي الدولة
بين يديك أيُّها العالم
نحن لسنا سعداء
بين يديك أيُّها العالم
نحن لسنا تعساء
نحن لا شيء البتَّة
هذا ما يقوله النسيم
و هذا ما تقوله أمريكا
بين يديك أيُّها العالم
نردِّد الكلمات
الحريَّة... الحريَّة... الحريَّة
الخبز... الخبز... الخبز
الحب... الحب... الحب
إنَّنا نردِّد الكلمات
منذ توت عنج آمون
و حتَّى آخر جثَّة في بيروت الشرقيَّة
الخبز أيَّتُها الأمم المتَّحدة و المتفرِّقة
الحب أيُّها الله
الحريَّة أيَّتُها الأصفاد و الأسلاك الشائكة
و الحياة... الحياة
بين يديك أيُّها العالم

شباط – 1980

أيَّتُها الأحجار استمعي إلى الموسيقى

البداية غدًا
و غدًا ليس ربطة عنق أو حذاء فاخرًا
البداية غدًا
و غدًا ليس كلمات متقاطعة أو مؤتمر هافانا
البداية غدًا
و غدًا تحت المقصلة أو بين السلاسل
سأطالب بالحياة الجديدة
فالحياة التي يتحدَّثون عنها في الكتب
و الحياة التي نراها في الاعلانات التلفزيونيّة
و الحياة التي تنام على الأرصفة
ليست هي الحياة التي نريد

غدًا
لن أتحدَّث عن آلام المسيح
كما يتوقَّع نجَّارو الصلبان
و لن ألعب مع الأطفال
كيلا توبّخني منظمة اليونيسيف
فغدًا...
ببساطة و يأس شديدين
سأمدُّ قلبي و أطالب فقط:
بالعمل و الخبز و الكتب و الأمن و السفر و... إلى آخره

لست بائع خردوات
و لا مهرِّب دخان مارلبورو
و لا أملك مسدَّسًا لأنتحر
و لا قنبلة لأخطف طائرة
لم أبع قلبي بالمزاد العلني
و لم اشترِ الويسكي من السوق الحرَّة
لم أقتل رجلاً
و لم أصفع إمرأة بوردة
فلماذا... لماذا
أيَّتُها الأحجار التي لا تحبُّ الموسيقى
كُلَّما شاهدني حفَّارو القبور
يفركون أيديهم بغبطة
و يدعونني لزيارتهم؟.

منذ السكاكين الحجريَّة
و حتَّى أطفال الأنابيب
ما زلتُ أبحث عن الحريَّة...
أنام و أغنِّي
أعمل و أعصر المناديل
أنتظر و أقشِّر البصل
و في الصباح أو في المساء
في السابعة أو الرابعة و العشرين
أدخل الحجرة و أجلس
أنا: قلب أبيض و يدان زرقاوان

نحن أبناء الغد
ما زلنا ننام في المقابر
المقابر التي
بين أشجار الليمون و بنادق القنَّاصة
نحن أبناء الغد
ما زلنا نقف تحت السماء الصغيرة
و قرب هذا العالم المسكين
(البارحة و اليوم و غدًا)
و نمدُّ قلوبنا إلى المارَّة:
- أغنية أيُّها الأصدقاء
قبلة ايُّها الإخوة
قبلة و أغنية من أجل الله
قبلة لليوم الأوَّل من السنة
و أغنية لليوم الأخير

غدًا...
لا تهرب منِّي
إلى الشوارع الكئيبة
فتحت لك الباب
تعال. أدخل. قبِّلني.
حدِّثني. نم معي.
فعند المنعطف ينتظرونك
ببندقيَّة ملقَّمة

النهاية غدًا:
البارحة تعارفنا
اليوم قبَّلتك
و غدًا سنفترق.
البداية غدًا:
البارحة حدثت المذبحة
اليوم دفنوا الموتى
و غدًا ستحدث مذبحة جديدة.

غدًا، صديق قديم:
(إنَّهم يموتون بالآلاف في سجون سانتياغو)
غدًا، فلكي عجوز:
(برج الحوت سيذهب إلى الجحيم)
غدًا، فلاَّحة طويلة:
(الأمطار قليلة هذا العالم)
غدًا...

رسالة إلى امرأة مجهولة:
(أريد أن أحدِّثك طوال شهر أيلول).

حارٌّ كجمرة
بسيط كالماء
واضح كطلقة مسدَّس
و أريد أن أحيا
ألا يكفي هذا
أيَّتُها الأحجار التي لا تحبُّ الموسيقى؟.

يوميَّات

1979 – 8 – 13

للأيَّام الجميلة القادمة أسنُّ أسناني
للمرأة الجميلة المقبلة أعدُّ السرير
و على الحائط الأسود
فوق الطريق العاري
تحت السماء الزرقاء
أبعثر رماد قلبي
منتظرًا البسكويت اللذيذ
و الدرَّاجة الصغيرة
و علامة (ممتاز) في الحبّ!.

1979 – 8 – 17

لا أحد يعرفني سوى العشب
لا أحد يلعب معي سوى القطَّة
و حينما أنام وحيدًا
بقدمين متباعدتين و ذاكرة عاتية
بطائرة ورقيَّة و بالون كبير
تأتي إلىَّ (أليس)
بشريطة بيضاء و سنّ مكسور و جوارب ممزَّقة
يأتي إلىَّ الأرنب المسكين
و النملة الذكيَّة
و الحمار المتعب
و على سريري ينامون!.

1979 – 9 – 2

إذا أردتَ أن ترى
ثلاثة رجال يقرعونَ بابَ التفَّاحة
ثلاثة رجال ليسوا من ذهب
الأوَّل: مستودع ذكريات
الثاني: شمس في زنزانة
الثالث: شجرة آلام
إذا أردتَ أن ترى...
فتعال إليَّ في الثالثة صباحًا
قبل أن ينكسر ضوء القمر
قبل أن يحين موعد الضجَّة
تعال مع العربات التي تذهب بالعمَّال إلى المصانع
مع العاشقة التي تدثِّر ثلاثة جنود
مع الدجاجة التي تبحث عن حبوب العدس
مع الشاب الذي يصنع خبز الموتى
تعال، لأحدِّثك عنِّي
أنا ثلاث صرخات
الأولى: للمغامرة
الثانية: للذهاب إلى العمل في الثامنة
كالمعتاد.

1979 – 9 – 7

الذي يريد الضحك فليأتِ
إنَّني أخبئ نكتة
الذي يريد البكاء فليأتِ
فلديَّ حصَّالة دموع
و الذي يريد الحب
و الذي يريد الحب
فليأتِ... فليأتِ
فلديَّ سرير شاسع كصحراء
و وسادة صغيرة كرأس خروف!.

1979 – 9 – 17

تعرَّفت على امرأة منذ أسبوعين
بطريقة عاديَّة
أعطتني ذراعها بسهولة
و قالت: لديَّ نصف كيلو عنب
قلت: و نستطيع أن نشرب القهوة.
تعرَّفت على امرأة
لم ترَ مقبرة قط
تضحك و تبكي و تحتجُّ بسهولة
و لا تفهم...
لماذا يتحدَّث الناس عن الحكومة
في الوقت الحاضر!.

1979 – 10 – 29

بالصوت و الإشارة و القبلة
برفيف الأهداب و هزَّة الرأس
بالأصابع و العيون
بأفراحنا الصغيرة و دمارنا الكبير
بأنيابنا المكسورة و أظافرنا المقلَّمة
بالأوراق البيضاء و أقلام الحبر الناشف
بالأغاني الحزينة و الموسيقى الخرساء
تعالوا لنتفاهم

لنتفاهم... لنتفاهم
كما تفعل النملة مع النملة
و الليل مع النهار
و إذا حصل أيّ سوء
فلنضرب الطاولة بقبضاتنا المتعبة
لنمتحن قدرتنا على الصراخ
لنستشهد بالأقوال المأثورة كبشر عاديِّين
و لكن قبل كل شيء
من الأفضل أن نتجرَّد من المعاطف
و الأحقاد القديمة
و نضع السكاكين و المسدَّسات قرب الباب
و ندخل القاعة بنوايا طيِّبة!.

1973 – 11 – 3

كل شيء له سعر
الكتاب و البيت و القهوة
الحذاء و النور و قصَّاصة الأظافر
الدموع و الدروب و (تصبحون على خير)
كل شيء له ثمن
بالدولار و المارك و الجنيه الاسترليني...
فكم هي مضحكة
-أقول لنفسي-
حياة الإنسان في العصور القديمة
عندما كان يبادل الذرة بثمار البلُّوط
و البقرة بسروال و قميص صوفي
و القبلة بأزهار البرتقال
و الأغاني الطويلة!.

1979 – 11 – 15

أنا حبَّة عنب حلوة
تعال و امضغني بأسنانك الرقيقة
أنا شجرة حب قريبة
أهرب إلى ظلِّي من شمس أيلول
أنا زهرة بريَّة
تحت جنزير دبَّابة
ألا تريد أن تقطفني قبل أن أموت؟

وعل في الغابة
إلى هيفاء أحمد

قصائد

"أنت في وحدتك بلد مزدحم"
روفائيل ألبرتي

غرفة الشاعر

يفتح بابَ الكلماتِ و يدخلُ بخطىً خائفةٍ
في أنحاءِ الغرفةِ
بعض قصائد ذابلة
كلمات تتمدد فوق الكرسيّ
و أخرى تتعلّق بالمشجب
سنبلة تهرب من بين أصابعه
و طيور تقتحم الشفتين
يرى عشبًا ينبت في المكتبةِ المهملةِ
و نبعًا ينبثق من الحائط
بعد قليل سوف يداهمه الليل بأقمار و كوابيس
تداهمه أشجار الغابة
و رمال الشاطئ
و حصى الأنهار
و آبار فارغة
يملؤها بحروف سوداء
ماذا يأخذ من جثث الأيام
و ماذا يترك
غير قصائد ذابلة
و غبار الكلمات؟
و بعد قليل
سوف يداهمه الشرطيّ
ليسأله عن جمل غامضةٍ
و يحذره من استعمال "القُبلة" و "القنبلة"
و يمضي..
هو ذا الشاعر
يفتح نافذة القلبْ
يغلق عينيه
و يحلم بقصيدة حبْ

غرفة المحارب

يتوسد خندقه الرمليّ وحيدًا
و يداه تحيطان برشاشٍ مملوء بالموت
سيأتي الزوّار مساءً
زائرة تحمل للأرض قنابل ضوئية
أُخرى ستمشط بالنار سهولاً تمتدُّ
سيأتي الأعداء مساءً
كقطيعِ ذئابٍ كاسرةٍ
يلتهمون بيوت الطين
و أشجار التفاح
و كرّاسات الأطفال
و رأسَ الجنديّ
الجندي يرتب غرفته الرملية
الماء هنا
و الطلقات هناك
و ها هي صورة نرجسة تبتسم لجندي
يحملُ رشاشًا و خضارًا
الزوار يجيئون
فأهلاً
يطلق طلقته الأولى
سيظل يقاتل حتى آخر حبّة رمل من هذا الخندق

غرفة السائح

العالم غرفة هذا السائح
إذ يمضي في ردهاتِ العالمِ
يجمع أحجارًا من مدنٍ بائدة
و نقودًا لشعوب أهلكها الزلزالُ
و يجمع صورًا لجوامع
و متاحف
و تماثيل مرعبة
يمشي في أرصفة الدنيا
فيرى سفاحًا فيصوّره
و بائعَ ليمونٍ فيصوّره
و راقصة يسألها:
ماذا تعني
“Merci”
بالعربيةِ
و لماذا لا يزرع هذا الشعب "الأناناس"؟
السائحُ يفهمُ أو لا يفهمُ
يعلمُ أو لا يعلمُ
سيظل يسير و ينظر و يصوّر
فالعالم غرفة هذا السائح
و النافذة كاميرا

غرفة مهدي محمد علي

هي ذي غرفته تنهض من بين الأنقاض
مسيّجةً بدمٍ و عبيرٍ
ندخلها في الليل كقديسين جميلين
و يدخلها الشيوعيون، و عباد الشمس،
و أخبار المدن المشتعلة
هي ذي غرفته
أبعد من وطنٍ
أقرب من رمشِ العين إلى العين
و يا مهدي
أرنا كفيك
ألم تنمُ الأعشاب عليك
ألم تورق أغصان القلب
و ماذا يحدث لنبات البصرة
و تراب البصرة
....
....
....
هي ذي غرفته
أجمل من قبر
و أعلى من شجرة نخل
و صاحبها
طير في قفصٍ
يفرك عينيه، يبعثر أوراقًا و رسائل،
يكتشف امرأة في فنجان القهوة
ذات مساء
سوف تدق الباب نباتات الزينةِ
تأتي الأزهار، و أشجار الصفصاف،
و أعشاب الغابة، و ثمار اليقطين
و تحتل الغرفة

الولد النائم

قبل أن يذهبَ للحرب مضى نحو السرير
أغلق عينيه و نام..
رأى فيما يرى الأولاد
سهلاً فسيحًا تركض الغزلان فيه
سربًا من عصافير
و أشجارًا من الدراق
أزهارًا لها هيئة أقمارٍ
رأى نهارًا واسعًا جدًا
و من أقصى النهار جاء رجل يسعى
ألقى على الطفل قميصًا من دمٍ
فاختفى السهل و ماتت الغزلان
و الأشجار
اختفى النهار..
قال الولد الجميل: لا بأس
أغمض عينيه بعينيه
و نام
رأى عشرين ملاكًا يهبطون قربه
سألهم: هل تأكلون البرتقال
هل نستطيع أن نلعب لعبة الهرّة و الفأر
أختبئ الآن فوق سريري
جديني أيتها الهرّة/الملاك..
....
و من أقصى السماء
جاءت القنبلة فوق سرير الولد الجميل
طار الملاك
و ماءت الهرة حينما رأت إصبع طفل في التراب
قال الولد الجميل:
لا بأس، لا بأس
عاد إلى السرير متعبًا
أغمض عينيه بعينيه
و نام..
رأى فيما يرى الحالم
أسماكًا على الجدران
ذئبًا يسبح في البركة
تمساحًا يعود للملهى
و امرأة تنتظر الربّ أمام قصر العدل
صاح الولد الجميل:
لا أريد أن أرى شيئًا
أريد أمي و زجاجة الحليب و القماط
قال الولد الجميل شيئًا
ليس حسنًا جدًا
و ليس سيئًا جدًا:
"عاش البط
عاش النهر
عاشت الهرّة
عاشت الأشجار
عاشت أختي و أخي
و لتسقط الدبابة.."
...
...
أغلق عينيه بعينيه
و نام أبدًا

رغبات

"عندما كان العصفور
يصفّر في العشب
و الريح تنهش جدراننا العظيمة
كنا كأنما في عيد
و كان كل شيء يتحقق"
غيليفيك

كنجمة في السماء
كوعل في الغابة

أمامي الكثير لأعطيه
و خلفي الكثير للمقابر
أمامي النهر و رائحة الصباح و الأغاني
البشر الرائعون و السفر و العدالة
و خلفي الكثير الكثير
من الكهنة و التماثيل و المذابح
و ها أنذا أمشي و أمشي
بين هزائمي الصغيرة و انتصاراتي الكبرى
و ها أنذا أمشي و أمشي
متألقًا كنجمة في السماء
و حُرًّا كوعل في الغابة
لي وطن أحبه و أصدقاء طيّبون
بنطال و حذاء و كتب و رغبات
و وقت قليل للرقص و الجنون و القنبلة
لقد بدأت أتعلم كيف أبتسم و أقول وداعًا
و بدأت أتعلم كيف أتألم
بعيدًا عن الضجيج و العواصف
أما الكلمة الجميلة، الجميلة
التي تشبه طائرًا أبيض
و التي تشبه شجرة في صحراء
فلقد اكتشفتها متأخرًا قليلاً
مثلما تكتشف السفينة اتجاهها
و مثلما يكتشف الطفل أصابعه و عينيه
لذلك أمشي و أمشي و أمشي
فأمامي الكثير لأعطيه
و خلفي الكثير للمقابر
و لذلك أمشي و أمشي و أمشي
و لا أنتظر أن ينتهي طريقي
هذه صخرة و هاتان عينان
هذا قمر و تلك أوزة
و ثمة أشياء كثيرة لم أكن أراها:
أيدي الأمهات
أكياس الطحين
و طلاب المدارس
إنّني أفتح عيني كنبع صغير
و أتحرك برشاقة الرعاة
فلقد بدأت أعلم
-و ربما متأخرًا قليلاً-
أن آلاف الحروب و ملايين الجرائم
لم تستطع منع القطة من المواء عندما تجوع
و الوردة من أن تتفتح
و المطر من أن ينهمر بغزارة...
لذلك أمشي و أمشي و أمشي
متألقًا كنجمة في السماء
و حُرًّا كوعل في الغابة
و عندما أصل إلى البيت
وحيدًا أو عاشقًا
مرحًا أو حزينًا
أعترف لنفسي بأخطائي القليلة
و أنتظر:
عشب الطريق
هدير القطارات
و عمال المصانع
و لون السماء في الصباح الباكر
الباكر
الباكر

رغبات

أريد أن أذهب إلى القرية
لأقطف القطن و أشمّ الهواء
أريد أن أعود إلى المدينة
في شاحنة مليئة بالفلاحين و الخراف

أريد أن أغتسل في النهر
تحت ضوء القمر
أريد أن أرى قمرًا
في شارع أو كتاب أو متحف

أريد أن أبني غرفة
تتسع لألف صديق
أريد أن أكون صديقًا
للدوري و الهواء و الحجر

أريد أن أضع بحرًا
في الزنزانة
أريد أن أسرق الزنازين
و ألقيها في البحر

أريد أن أكون ساحرًا
فأضع سكينًا في القبعة
أريد أن أمدّ يدي إلى القبعة
و أخرج منها أغنية بيضاء

أريد أن أمتلك مسدسًا
لأطلق النار على الذئاب
أريد أن أكون ذئبًا
لأفترس مَنْ يطلقون النار

أريد أن أختبئ في زهرة
خوفًا من القاتل
أريد أن يموت القاتل
حينما يرى الأزهار

أريد أن أفتح نافذة
في كل جدار
أريد أن أضع جدارًا
في وجه من يغلقون النوافذ

أريد أن أكون زلزالاً
لأهزّ القلوب الكسولة
أريد أن أدس في كل قلب
زلزالاً من الحكمة

أريد أن أخطف غيمة
و أخبئها في سريري
أريد أن يخطف اللصوص سريري
و يخبئونه في غيمة

أريد أن تكون الكلمة
شجرة أو رغيفًا أو قبلة
أريد لمن لا يحب الشجر
و الرغيف
و القبلة
أن يمتنع عن الكلام

مفارقات

"أعدّ الأيام على أصابعي
و عليها أعدّ أيضًا
أصحابي و أصدقائي
و في يوم ما
لن أعدّ على أصابعي
سوى أصابعي"
بول فانسانسيني

الذئب

الذئب الذي افترسني
تركني وحيدًا في الغابة
مَن يغطي جثتي بالأعشاب
بأوراق الأشجار اليابسة
بقليل من تراب؟
مَن يقرأ الفاتحة على روحي
مَن يغمض عيني الهلعتين
مَن يضع على صدري
صليبًا من أزهار؟
الذئب الذي افترسني
صار أنا
أخذ وجهي الشاحب
و شفتيّ المرتجفتين
و قلبي الطيّب
و ظل محتفظًا بأنيابه
أنا الذئب
ذو اليد البيضاء
أدور في المدينة و أعوي
أنا الذي قتل الصياد في الغابة
أنا الصياد
احذروا حبي
و احذروا أنيابي

مقاطع

من أكاذيب الكلام
من أكاذيب الروائح
من أكاذيب الأصوات
من أكاذيب العالم
الكذبة الوحيدة التي تستحق التصديق
هي الحب

في حصار الماضي
في حصار الحاضر
في حصار المستقبل
لا منفذ للحياة
سوى الحياة

الكلمة الجميلة
الكلمة اليائسة
الكلمة الحزينة
الكلمة المرحة
الكلمة العاشقة
الكلمة البسيطة
الكلمة الحية
كلها تنتفض في قاع صمتي

روتين

القهوة مع الحليب في الصباح
قبلة الزوجة السريعة
الطريق إلى العمل
الطريق إلى البيت
الطريق إلى السرير
و من ثم..
القهوة مع الحليب في الصباح

إنه حيّ تمامًا
المسه و لا تخفْ
فالموتى لا يخيفون

يهوي

مثلما يهوي ينزل من فضاء بعيد
نحو فضاء بعيد
هكذا تهوي روحه
هلعة، حزينة، ساطعة
نحو حياة مفعمة بأشياء يحبها
حياة تضيء و لو قليلاً
عتمة نهاره الحالك السواد

خراب

كان عليه أن ينظر إلى المرآة
ليرى عشرات الثقوب و الأثلام
تملأ سماء وجهه
وجهه الذي يشبه
قرية اجتاحها الطوفان
أو، على الأقل
لوحة باهتة الألوان
من القرن الثامن عشر

كان عليه أن ينظر مرة ثانية
و بعمق شديد
ليرى عينيه الضاحكتين الودودتين
تسخران من كل هذا الخراب

حلم

دائمًا كان يحلم
بتفاحة الحب الناضجة
ليحتويها بين أصابعه العشرة

كان ذلك حلمًا و حسب
كالوصول إلى القمر
سنة 1920

و كما في الأحلام
لم يعد الحلم حلمًا
فها هو يقضم تفاحة الحب
و ها هو سكّرها يسيل على شفتيه

مرة استفاق
فوجد أنه يقضم قلبه

تغيير

يرمي ثيابه في البئر
يرمي كتبه و خاتم الزواج
يرمي ماضيه المريض
و حاضره الخائف
يرمي أغانيه القديمة
و أصدقاءه المنافقين
يرمي كل ما تطاله يداه
من أوراق و مذكرات
من أفكار و دمى
يرمي بئر حياته في البئر
يرمي دماغه أخيرًا
و يستدير
نقيًا و أبيض و سهلاً

الآن فقط
يستطيع أن يقول: أحبك

العاشق

اعطِ القناص رصاصًا
و انتظر بضع دقائق
فسيملأ الشوارع بالجثث

اعطِ النجار خشبًا
و انتظر بضعة أيام
فسيملأ البئر بالنوافذ

اعطِ الحداد حديدًا
و انتظر بضعة أشهر
فسيملأ البراري برجال يشهرون السيوف

اعطِ البستاني بذارًا
و انتظر بضع سنوات
فسيملأ الصحارى بالأشجار

أما العاشق
أما العاشق
فلا تعطه شيئًا
ففي قلبه ما يكفي الدنيا
من السيوف و النوافذ
من الأشجار و الجثث

الراية

انظروا إليه
انظروا إليه فقط
لقد تفسخ جسده
منذ زمن بعيد
و ما زال يحمل راية الحرية

حياتنا الجميلة

الحياة حلوة
يقول العصفور
و يرتمي ميتًا قرب حذاء الصياد

الحياة حلوة
تقول الوردة
و ترتمي ميتة في يد الولد الوسيم

الحياة حلوة
يقول
و يطلق على رأسه النار

الحياة قبيحة، كريهة، فاسدة، شريرة
يقول الطاغية
و يقضم قطعة من البسكويت

بلادنا الجميلة

ثمرة ثمرة
تقطفين أيامي
يا بلادي الجميلة
فأستمع:
لا أحد يغني
سوى الساطور

لا أحد

فتحت الباب
لم يدخله أحد
لا ضيف، لا امرأة، لا شرطي

فتحت النوافذ
لم يدخلها أحد
لا هواء، لا فراشة، لا أغنية تائهة

فتحت قلبي
لم يدخله أحد
لا نهر، لا رصاصة، لا طير

و ها أنذا الآن
مغلقًا و وحيدًا
أنادي
تعالي

فصول

الصيف سينتهي
الربيع انتهى
الخريف سيأتي
و الشتاء ما زال بعيدًا

في أي فصل نحن؟

عتمة

اشعل سيجارة للصديق
اشعل القلب البارد
اشعل الضوء ليمرّ الثوار
اشعل النار في التماثيل
اشعل شمعة من أجل المسيح

لا تطفئ حياتك!

الشهيد

إنهم ينتحبون
فوق الجسد البارد
حيث تتناثر الأزهار
زهرة على العنق
زهرة على البطن
زهرة على الكتف
زهرة بين الشفتين

إنهم ينتحبون
فوق الجسد البارد
حيث:
السكين في القلب

شارع

هذه مدينة مليئة بالشوارع
شوارع مفتوحة
تؤدي إلى جميع الجهات
لكن، اسمعني، أرجوك
حياتنا مغلقة
و الشارع الوحيد العادل
ذلك الذي يأخذني إلى قلبك

الجدار

مثلما يمكن أن تصنع
من غصن الشجرة الأخضر هراوة
و من زجاجة الكازوز الفارغة
أداة جارحة
مثلما يمكن أن تصنع
من الغرفة الأليفة زنزانة
و من الشارع الواسع مسرحًا للقتل
مثلما يمكن أن تكتب رسالة تهديد
بالقلم نفسه
الذي كتبت به رسائل الحب
و تستطيع أن ترسم مشنقة
بالريشة نفسها
التي رسمت بها طفلاً يضحك
و طائرًا يطير
و راعيًا يغني
هكذا تمامًا..
يتحوّل بعض البشر إلى جدران
قاسية و كتيمة كما ينبغي
جدران تستطيع أن تدق
مسمارًا فيها
أن تضع عليها الصحف
و الأواني
و الكراسي الخشبيّة
أن تفتّتها بالفؤوس و المطارق
لكن من المتعذر تمامًا
أن تقول للجدار: يا صديقي
فيرد عليك: يا أخي

نتفق أو لا نتفق

نحن متفقان:
الحياة جميلة
و الناس رائعون
و الطريق لم تنته
و لكن انظر إلي قليلاً
فإنني أتألم
كوحش جريح في الفلاة

نحن متفقان إذًا
الربيع سيأتي طبعًا
و الشمس ستشرق كل صباح
و في الصيف سيجني الفلاحون القمح
الربيع يكفينا
و الشمس ايضًا
و القمح إذا أردت

و لكن قل لي:
لماذا يملأ الدم
غرفتي و سريري و مكتبتي؟
و لماذا أحلم دائمًا
بطفل متطاير الأشلاء
و دمية محطّمة
و رصاصة تئز؟

غدًا

عشرة آلاف غد
خرجتْ من حياتي البارحة
و ما زلت أقول غدًا..
غدًا تأتي الغيمة
و تبلل القلب المعطوب
غدًا يمد النهر أصابعه
و يربت على كتف عطشي

الغد يتحول إلى "اليوم"
اليوم يصير "البارحة"
و أنا أنتظر بلهفة
الغد الجديد

قصائد عن الموتى

"لا نحدث جلبة
في غرفة الموتى
نرفع الشمعة
و نراهم يمضون
أرفع صوتي قليلاً
على عتبة الباب
و أقول بضع كلمات
لأضيء دربهم"
فيليب جاكونيت

كم هي لذيذة

الموتى الذين ماتوا
في الحروب و الأوبئة
في السجون و الطرقات
الموتى الذين ماتوا
بالخنجر و الرصاص و الديناميت
بالفأس و حبل المشنقة
الموتى الجميلون
ذوو الأسنان البالية
و الوجوه الناتئة
تذكرو وهم في قبورهم
ضوءَ القمر و خضرة المراعي
تذكروا أنهم لم يعيشوا كما ينبغي
لم ينتبهوا إلى الأصوات و الألوان
تذكروا:
كم قبلة أضاعوا
كم ضوءًا أغمضوا عيونهم كيلا يروه
كم زهرة لم يزرعوا
كم كلمة طيبة لم يقولوها
الموتى عرفوا
ربما للمرة الأخيرة
كم هي لذيذة حياة الأحياء

الخنجر

الرجل مات
الخنجر في القلب
و الابتسامة في الشفتين
الرجل مات
الرجل يتنزه في قبره
ينظر إلى الأعلى
ينظر إلى الأسفل
ينظر حوله
لا شيء سوى التراب
لا شيء سوى القبضة اللامعة
للخنجر في صدره
يبتسم الرجل الميت
و يربت على قبضة الخنجر
الخنجر صديقه الوحيد
الخنجر
ذكرى عزيزة من الذين في الأعلى

فنان

لم يأسف على شيء
حينما أخذوه إلى المقبرة
لم يأسف سوى على المطرقة و الأزميل
على الألوان و الفرش
على اللوحات و التماثيل
و ها هو الآن في القبر
هيكلاً عظميًا
ها هو يقوم جامعًا عظامه
سيصنع من سلاميات الأصابع
خواتم و أقراطًا
من الجمجمة دورقًا للنبيذ
من العود الفقري صحونًا و أكوابًا
و ربما يصلح عظم الكتف
لصنع طائر

ثوب أزرق

قبل أن ترتدي ثوبها الأزرق
قبل أن تزور خالتها
ماتت الفتاة الجميلة
الثوب ما زال في الخزانة
و الخالة في قريتها
و الفتاة في القبر.
فأي شيء تحلم به الآن
لقد نظفت قبرها تمامًا
لقد جمّلته كما ينبغي
فأي شيء تحلم به الآن
بعد أن سرّحت شَعرها بأصابعها
و قصّت أظافرها بأسنانها
إنها تحلم.. إنها تحلم
بثوبها الأزرق
و زيارة خالتها

الدراجة

الولد فوق الدراجة
سعيدًا، ضاحكًا، منتشيًا
يدور في فناء قبره

(حينما كان حيًّا
سقط عن الدراجة و مات)

الولد في فناء قبره
يدور بدراجة من عظام
سعيدًا، ضاحكًا، منتشيًا

كتابة

بريشة من العظام
و حبر من الطمي
يكتب على جدران قبره
قصائد و روايات و قصصًا
قصائد عن الحب
و روايات عن القرى و المدن
و قصصًا عن الأرانب و العجول
إنه يكتب منذ أن مات
يكتب رغم أن أحدًا لا يقرأ ما يكتبه
يكتب دونما توقف
يكتب برغبة، باندفاع
لا يفعل شيئًا سوى الكتابة
يكتبُ
ربما
لأن الكتابة فعل حياة

العاشق

يحفر العاشق بأظافره
تراب القبر
يحفر في بقايا التاريخ
يحفر منذ ألف عام
يحفر ليصل
يحفر دونما ألم
(الموتى لا يتألمون)
و العاشق الميت
يريد الوصول لمن يحب
و سيظل يحفر بالأظافر و الأسنان
تراب القبر
سيظل يحفر إلى الأبد

حب

"لست أنا من يغني
بل الأزهار التي رأيتها
لست أنا من يبكي
إنه حبي الضائع"
جاك بريفير

يدك

خمس قارات مغلقة
تنتظر أصابع يدك الخمسة
خمس قارات مفتوحة تنتظرني
عندما أضم أصابع يدك الخمسة

يدك في الشتاء
تراب مبلل بالمطر
و يدك في الصيف
سنبلة في حقل من الرماد

لا تفتحي يدك.. لا تفتحي يدك
فكل أغاني العالم ستنطلق منها
لا تغلقي يدك... لا تغلقي يدك
فكل أغاني العالم ستلتجئ إليها

يدك الطرية الدافئة
كقلبي
كيف أتركها تضيع كطائر
في غابة مليئة بالصيادين

حتى الذئاب

عندما تكونين حزينة
يحزن معك النهر و الزورق
أشجار الصفصاف و الدوري الرمادي
الجبل و مصباح الغرفة
الستائر و ضوء الشمس
القلب في الصدر
و السمك في الأنهار
و حتى ذئاب البراري المتوحشة
حتى الذئاب
تدفن رؤوسها في الرمال و تبكي

هكذا

مثل ساقية ماء تبحث عن مجرى
مثل نبع ارتفعت عنه الصخور
مثل قدم تتقدم في طريق لا نهاية له
مثل ناي وجد فمًا
و شفتين أبصرتا شفتين
هكذا أفتح عيني في الصباح
النافذة المفتوحة.. مفتوحة
و الهواء يعبث ببقايا أوراق
و ما زال في العمر بقية
للكآبة و الضحك و صعود المرتفعات
و هكذا..
أضيف صباحًا جديدًا في حصّالة حياتي
و أمضي

المعجزة

أول كلمة في الصباح
هي لك
و آخر كلمة في المساء
هي لك أيضًا
و ما بين صعود الشمس من خلف الجبل
و سقوطها في البحر الأزرق
ما بين الخيط الأبيض و الأسود
كتب و صحف و أقلام
سجائر و أوقات مبدّدة
أصدقاء و آلام
و ما بين الصباح و المساء
تطيرين كفراشة
و تتبددين كعطر
و أنا أغطّ إصبعي في الماء
و أكتب على الورقة كلامًا أبيض
و أنتظر المعجزة

تساؤلات

ماذا سيحدث لي غدًا
هل سأستيقظ كنسر
بجناحين هائلين و منقار أزرق
لأطير إلى جبل أو وادٍ أو برية؟
هل سأغني بفرح و جنون؟
هل سأبكي و أعض الوسادة بأسناني؟
مَن سأرى في الصباح
في الطريق اللولبي إلى عملي
رجلاً أم امرأة
طاغية أم ملاكًا؟
كيف سأبدو أمامك
حزينًا جدًا أم سعيدًا للغاية
هل ستشبّهينني بأرنب أبيض
أم بغراب مريض؟
و هل ستكون يدك حارة أم باردة
و عيناك مطفأتين أم مشتعلتين؟
ما الأخبار التي سأقرؤها؟
كم سيجارة سأدخّن؟
كم طعنة سأتلقى؟
كم قبلة سأقطف من شجرة الحياة؟
غدًا، ماذا سيحدث لي؟
اقذف قطعة نقود في الهواء و أضحك.
إذا كان نسر سأحبك
و إذا كانت كتابة سأحبك أيضًا

الحب

الحب ليس غرفة للإيجار
نتركها ببساطة و نرحل
مخلفين الصور القديمة و الغبار
و أعقاب السجائر

الحب ليس أغنية جميلة
نتعلمها بغتة، و ننساها بغتة
كما ننسى، عندما نكبر،
الطفولة و اللعب و حليب الأمهات

الحب ليس حبة أسبرين
نتناولها عندما نشعر بالصداع
و ليس نكتة خفيفة
نتداولها في أوقات الضجر

الحب ليس وردة للزينة
و لا كأسًا مكسورة لسلّة المهملات

الحب..
شهادة ولادة دائمة
نحملها برأس مرفوع
لنخترق شارع المذبحة

أرجوك

اكتب لي شيئًا أرجوك
دعني أفهمك و تفهمني
اكتب لي شيئًا

اكتب لي بقلم الرصاص على ورقة
بإصبعك على راحة يدي
بعود كبريت على طلاء جدار
اكتب لي أرجوك

قل لي ما النفع أرجوك
من حلم محاط بالسواد
من فم بلا شفاه
من سماء بلا زرقة
من غابة بلا أشجار
و من حياة بلا حرية

قل لي شيئًا أرجوك
اكتبْ أو ارسم أو غنِّ
غنِّ عن الوطن الذي يتألم

دائمًا
I

أنا الهواء في رئتيك
و الأزرار في قميصك
أينما كنتِ ستجدينني
براحتيَّ الدافئتين
و قامتي القصيرة
أنتظرك على الرصيف
أنتظرك في العمل
أنتظرك فوق السرير
واثقًا بأنك ستأتين
لأنني معك دائمًا
أخلط أيامك بالقُبل
و دمك بالأزهار
أنظر إليكِ من سمائي كإله
و أرفع يدي طالبًا مغفرتك
أنا صرخة الألم في حنجرتك
و الأغنية الجميلة التي ترددين
أنظر إليك من البعيد
و أخاف أن ألمسك
و حينما أمسك يدك
لا أستطيع أن أبتعد عنكِ
حيوانك المدلل أنا
و هوايتك المفضلة
بلادك النائية
و مستقبلك القريب
بقدميّ الحافيتين و قلبي المرتجف
أركض معك في الدروب الوعرة
أنا الغبار من حولك
و العرق الذي يسيل من مسام جسدك
أينما نظرتِ سترينني
على الطاولة و الكرسي و المدفأة
في المكتبة و الحمّام و الباص
في الحقول و المصانع و مظاهرات الطلبة
أنمو كالأعشاب في شرفتك المشمسة
و أتدلى من سقف غرفتك كالمصباح
بأصابعي العشرة أحتوي وجهك
و بأصابعي العشرة أدفع المتاعب عنكِ
بأصابعي العشرة أعدّ لك القهوة
و بأصابعي العشرة أسندك
إذ توشكين على السقوط
أنا الوردة في شَعرك الأسود
و الدبوس في عروة سترتك
عندما تنامين
أندس بين أحلامك و لا أنام
أضحك و أبكي و أتألم
و أحارب أعداءك القساة
و في الصباح
أتدحرج مع الماء على وجهك
و أجفّفه بشفتي
أنا التفاحة التي قطفت
و الأرض التي طردتِ إليها
أنا اللوحة التي تزينين بها
جدار حياتك الأسود
و الدم الذي يسيل منكِ
حينما يطلقون عليك الرصاص
يناديك النهار فألتفت
تبردين فيرتعش جسدي
بعيني تشاهدين الطيور
و بصوتك أطالب بالحرية
أما عندما تموتين
من الجوع أو الحب
فسأحاول ألاّ أموت معك
ذلك أن الموتى
بحاجة لمن يذكرهم
و لن يفعل ذلك أحد سواي

دائمًا
II

أنا وحش
من العصور القديمة
سأدافع عنك
بالمخالب و الأنياب

أنا حيوان جريح في غابة
تعالي و المسي جراحي بأناملك

أنا زهرة متعبة
في غابة بعيدة
سأتقدم بهدوء و أنام على صدرك

أنا رجل خاطئ
ها أنذا أرفع يدي
طالبًا مغفرتك

أنا طفل لم أحفظ دروسي
تعالي علميني
كيف أجمع برتقالة و سبع تفاحات

هناك حقيقة واحدة
بدأت أدركها
هي أن حبي
لا تسعه هذه الأرض الصغيرة

لو كان حبي طيورًا
هل تسعها السماء؟
لو كان حبي سمكًا
هل يسعه البحر؟
لو كان حبي أشجارًا
هل تسعها براري الدنيا؟

أعرف أن الحب
بسيط كالزنابق
سهل كمطر الربيع
واضح كسماء زرقاء
لكني أتساءل:
لماذا يخاف الكثيرون
من الزنابق
و مطر الربيع
و السماء الزرقاء
تعالي لنلغم
صقيع العالم
بديناميت القبلات

مشاهد يومية

1- المكتب

كلّ صباح
حينما أفتح باب غرفتك بهدوء كاذب
محاولاً إخفاء ارتجاف أصابعي و شراييني
كلّ صباح
حينما أراكِ تعبثين بالبطاقات البيضاء
بالصحف و المجلات
بالزمن و القهوة
كلّ صباح
أتمنى
حينما أدخل غرفتك بهدوء كاذب
أن أكون قلمًا أو ممحاة
صحيفة أو فنجان قهوة
بين أصابعك التي تعبث بالأشياء
كما يعبث عازف مبتدئ بمفاتيح البيانو.

2- الطريق

في الطريق حينما أكون معك
في الخريف الذي طال
حيث تشتعل الشمس و تنطفئ
بطريقة غريبة
بطريقة أخّاذة
في الطريق، في الطريق
حيث تسقط ورقة شجر صفراء
فوق شَعرك الأسود المشتعل
أقول لك: اقتربي
لقد وقع طائر أصفر فوق رأسك
و ها هو ينقر حبوب العدس
طائر أصفر صغير يغني
فوق أغصان شَعرك العزيز
شَعرك الذي كقطيع من الماعز
يرعى في برية القلب

3- البيت

حذاؤك في الزاوية
ثوبك فوق الكرسي
و فوق المنضدة دبابيس شَعرك
خاتمك الذهبي
و حقيبتك السوداء
و أنت معي
عارية و خائفة
- ممّ تخافين..؟
من قنبلة تسقط فوق زهرة!
من زهرة تحت عجلات قطار!
عارية و ترتجفين
- ممّ ترتجفين؟
من بركان يتفجر!
من رغبة تئن!
عارية و تلتصقين بي
سأترك النافذة مفتوحة
انظري.. انظري
ها هي السماء الزرقاء
و ها هي قطة بيضاء و رمادية
تتنزه فوق حافة الجدار المقابل للنافذة
و ها نحن
نقتسم رغيف الحب
نأكل من صحن واحد
بملعقة واحدة
و كل ما نملكه و ما لا نملكه
سنقتسمه أيضًا
تمامًا
كرفيقين في رحلة طويلة.

اثنان

كانا اثنين
يمشيان معًا
في الشوارع المهجورة
منه تفوح رائحة التبغ
و منها تتساقط أوراق الليمون
و عند المنعطف
كنجمتين
سقطا
كانا اثنين

أحدهما يغني
و الآخر يحب الإصغاء
فجأة توقف عن هذا
و توقفت عن ذاك
عندما انكسر المزمار

كانا اثنين
أهدته قلمًا للكتابة
و أهداها حذاء خفيفًا للنزهات
بالقلم كتب لها: "وداعًا"
و بالحذاء الخفيف جاءت لتودعه

اعتياد

اعددت لكِ فنجان القهوة
فنجان قهوة ساخنة
القهوة بردت
و ما جئتِ

وضعت وردة في كأس ماء
وردة حمراء حمراء
الوردة ذبلت
و ما أتيتِ

كل يوم أفتح النافذة
فأرى الأوراق تتساقط
و المطر ينهمر
و الطيور تئن
و لا أراك

لقد اعتدتُ
أن أعدّ القهوة كل صباح لإثنين
أن أضع وردة حمراء في كأس ماء
أن أفتح النوافذ للريح و المطر و الشمس
لقد اعتدت
أن أنتظرك أيتها الثورة

قصائد لم تنشر ورقاً

حلب 77

... كذلك، منسكبًا – أنثر الصبا- في شيخوخة المدينة،
و الفجيعة مأواي
مفتونًا بحاراتها البليدة، حيث يقبع
ثديان من محار و كستناء
أستأنس بالغيوم المقبلة من الشمال
ململمًا فقاعات شهوتي للثلج في قبو محاط بالشبهات
أنتحي زاوية المدينة
قل مدينة أو كفن أو جماد
و كمرتدّ يطارد أفقًا، أفاجىء من أحبّ بجمرة
و من أكره بجمرتين
و لحظة أن أشتعل بالبراءة...
ينصبون مشنقتي بحلمتيها و يبتعدون...
معلَّقة على الصدر أبجديَّتي:
ألطِّخ تضاريس شوارعها بخطاي الذئبيَّة
مرتعشًا بين خط و خط،
أفتح كرَّاسة الذكريات الفاسدة
لأقرأ نقاطها المتضخِّمة
و فواصلها المتَّسخة بالسمر و أغاني صباح فخري.
و مثل أفعى مرقَّطة،
أبصق السمَّ في جرار السمن العربي (الأصلي)
أنسلُّ من الثقوب التي فتحها العشَّاق
لأتأمَّل بعينين جاحظتين مفاتن صبايا الأحياء الشعبيَّة
و كالفجاءة، يخطفني الغجر في النهارات الكتيمة
يخبِّؤونني في عباءاتهم البحريَّة
و يفرُّون بي إلى من أحبّ.
(و مثلي لا يفاخذ النساء
و قد يسرق الخبز و الخمر و الكتب
و رُبَّما يبلِّل بؤبؤيه بالكرز و الاخضرار).
هي ذي تتقدَّمني كغزالة وحشيَّة.
باستمرار تنكفىء لتداوي ثقوب السكاكين المستطيلة
في جسدي
بالتمائم و الانتظارات
و أنا سيِّد الأقبية و المنى...
أسأل حلب عن حلب،
فتتخاذل أمامي مرتجفةً كالخريف
مطليَّة بالزعتر و الفستق و البطِّيخ و الجوع
- أنا ذي:
المربَّعة، المتخشِّبة، المزروعة
بالكوكائين و النعاس
مصفَّدة بك، و منتهكة من أجلك.

اختراق

وردة الجحيم وقتي، الضحى شجني
و لذا أتفصَّدُ بالمرارة و الرمال...
أتهجَّى مجرَّة الينابيع الجسديَّة
أتلو تقاطيع مَنْ لا تراني
تقاطيعها النوارس تأتي من البحر الزجاجي
لتبني أوكارها في الصخور التي انبثقت شجرًا
إنَّها الكوكب النهر،
زرقة الدفء
يتمسَّح الفرح تحت أقدامها
خاشعة أمام أطفالها الزرازير
معبَّأة بالتضاريس و الأغاني
تنتظر خطوتي المجرَّحة.
إنَّها خطواتي تهيِّء لخناجرهم المقابر الطحلبيَّة
تحيك المؤامرات في الغابات التي
أجهضت خضرتها التالية، و تنادي:
تخنجروا...
اكتبوا بأقدامهم ما تحبّ و ما تكره الخيول
ازرعوا الهواء أبجديَّة: فليسقط السقوط وا...
انكشفت لي مصادفة،
كان وجهها لذَّة الأوان
رعشة الدهشة و الرؤى
خطفتني على سرعة الأسئلة:
كيف تسترجع المكان، قالت
و الحصى بين عينيك تتفتَّت؟!
قلت: أذبح الزمان،
و أشهر أضلاعه بلهاثي...
أتقيَّأ أوجاعه في المطارات و المرافئ.
بردت شفتاها، صار حاجباها نصفي برتقالة
قاطعت رقَّتي القاسية:
و إذا امتلأت عيونهم بقطعان الثعالب؟
افرغ الرياح في صدورهم العاجية و امتطي شماتتي
قد يعرُّونك!...
العري مهنتي
تجوع!...
أتَّخذ من الرماد أسمدة،
أشرب الأرض و السماء،
أحصد الضوء و أشبع.
نحو نهضة التراب، آت...
رافعًا الشفق راية صلبة
أتَّقي شهوة الأسلحة
فيا ممسكًا بمناقير الخصب افتح لي نهاراتك المغلقة
لانقبض فوق راحاتها...
الـ... هي ذي
رمَّدها البكاء، تهدهد أحزان عشَّاقها
تومئ لقوافل الغجر بغصونها اليانعة
تتفطَّر كسنبلة بلا حصاد.
ها أنذا
أنزرق في الخلايا المتعبة وئيدًا
أتململ في الخلايا الداكنة،
منتظرًا طلقة البدء لأتفجَّر...
دمي هنا و هناك
دمي خطاي، عندما يسيل أمشي.
العاشق القادم من البحر الخامس

عيناك كنكهة صيف إفريقي،
كلسعة ثورات الفقراء..
وكثلج شتاءٍ سيبيري،
يضمّ بداخله الأشياءْ
ليلاً، يا قمراً أرضياً، أحميكِ كما أحمي عينيَّ من القبلات!
أدخلك لمملكتي المنكوبة بالوجع الكوني
وأغازل صمتك فوق شفاه الصاعقة الوسطى،
فأقول:
شفتاك هما فصلٌ من عامي الثاني والعشرين
عيناك كيومٍ من أيار...
ويوم آخر من تشرين.
وجبينك كالخبز الأسمر في تنور الضيعة،
أحمله بكفيَ متخوفاً باللهفة والحب الريفي
وأنا أهواك طريقا موصولاً مع حبل السرّة،
والزفرات الحمر، الصفر، البيض، السود
فالنهر الأصفر يركض في شريان بداوتنا
والبحر الأحمر يقفز في واحات محبتنا
والبحر الميت والأسود والأبيض دخلوا المملكة
المنكوبة بالوجع الكوني
يا جسم حبيبي الأخضر ما زال الجائع جوعانْ
يا وجه حبيبي/ العاشقُ والشاعرُ والثائرُ يولدُ
في كل الأزمانْ

عن النصوص التي لم تنشر ورقاً

  • نشر النصان الأول والثاني في موقع الشاعر الذي مر ذكره في المقدمة
  • نشر النص الثالث في جريدة النور السورية في مرجع مر ذكره أيضاً

*****

المؤلف: رياض الصالح الحسين
الكتاب: الأعمال الشعرية الكاملة

  • خراب الدورة الدمويَّة
  • أساطير يومية
  • بسيطٌ كالماء واضحٌ كطلقة مسدس
  • وعل في الغابة

شعر

الناشر الورقي:
خراب الدورة الدموية: وزارة الثقافة السورية 1979
أساطير يومية: وزارة الثقافة السورية 1980
بسيطٌ كالماء واضحٌ كطلقة مسدس: دار الجرمق – دمشق 1982
وعل في الغابة: وزارة الثقافة السورية 1983

الناشر الإلكتروني:
جدار للنشر الإلكتروني 2007

لوحة الغلاف:
الفنان أحمد برهو
تصميم جدار