خالد بن صالح
الجزائر

الإهـداء
إلى أحلام .. .

أو حين تولد الخطى قبل السفر
وحدها،
أمعنتْ النظر في موتي.. فتأجل

إلى أبي

احتفاءً بالخراب الجميل

إلى الأصدقاء.. انتماءً للحياة

خالد

" ما يمكننا أن نراه‏ في ضوء الشمس‏
هو دائماً أقل أهمية‏
مما يجري خلف الزجاج "

Ce qu'on peut voir au soleil "
est toujours moins intéressant
que ce qui se passe derrière une vitre"

( النوافذ - Les fenêtres )

شارل بودلير ( 1867-1821)Baudelaire Charles

"مسافر دونما حراك :
يا شمس، من أين لكِ خطاك ؟"

( سفر )

أدونيس ( 1930 ـ … )

(1)

مجرد نافذة

كما قال الشاعر

تحية إلى المتنبي ..

خالد بن صالحخمركَ صاحيةٌ يا صديقي
واجتيازُ عتبة السؤال مغامرة كسيحة.

ترتبُ بقايا سجائرك في مطفأةٍ زجاجية
ويبقى كتابُ كونديرا مغلقاً على عنوانه في مكان آخر
وهذه الاحتفالاتُ الصغيرةُ بنهايةِ العمر
أحزانُك حثيثة،
حلمك الآن مواربٌ..
وكأسُكَ وحدها ممتلئة.

كأن الموتَ بوسعك دائماً، تفاحة تبتسمُ لسكين
والعابرون على ظلك المُلقى في الطريقِ العام
لا يلتفتون لعبارة : أنا الذي. .
ولا يلوحون ـ مبتسمين ـ بأياديهم المستعجلة
ظلُّك لم يعد يلازم انعكاس الضوء الآفل خلف حكاياك
ومن رأسك تَطردُ آلهةً، وتتركُ غيمة بنفسجية
عليك بعد حين، سيهبط المساء.

يا صديقي لا تنظر في المرآة كي لا تراني
وتغيّر تسربات الحروفِ بين شقوق الكلام
رمّم جسدكَ قليلا..
واغرس في دمك حديقةً لتنجب امرأة ..
أو داعب مؤخرة الزمن بعود سفرجلٍ لتذوب أفكارك
كحبة أسبرين.
أوراقك المتساقطة من شجرة عرجاء
تُبيح لك نساء يشبهن لحظة تغيب كشمس
ما عاد القمر وجها لخولة
أو تفتقت جراحنا وروداً لبغداد أو كلمات
تعال، فلا أحد يعرفنا هنا..
وربما الحياةُ هي. .
كما قال الشاعر،
سلم بقاياك لريحٍ تهزها إلى آخر الدنيا
وأغمض عينيك لينامَ جنونك بسلام
وتلتئم تصدعاتٌ للتّو بانت على جبين القصيدة.

فينـوس

في المرآة..
نهدٌ يضج بالحكمة
لتمثالٍ..
منزوع الذراعين
مبتور الساقين
ناعمُ اللّذة،
يميل برأسهِ
على كتفِ الفراغ..
نصفُ زجاجةِ النبيذِ هواء
ونصفي
الممتلئ فكرة.
الصخبُ والعنفُ يملآن
فاه التلفزيون
في الزمَن المتكسِّر
أتذكر فولكنر
بيْد أني سأحكي لها
قصة السندباد البحريّ
عندما تلجُ الغرفة عارية
بيضةٌ كبيرةٌ
وجناحان.
الكهرباءُ تنام على مؤخرةِ المصباح
الظلمةُ أيقونة الجهل
ومنها :
ظلامية
ظلام
ظلم
السلم لا،
والحرب عاهرةٌ
تكشف عقم التاريخ
ترى من يضاجع من؟
الله لا ينام.
وأنا في حضن سيجارةٍ
أتفلسف،
كلانا يختنق.. !
وحدها الشمعة تلهثُ
وبجانبها يلمع وجهي
كورقة ألمنيوم مُجعَّدة.
الصورةُ ليست كل الشعر
الكتابةُ وحدةٌ في كثرةِ الأشياءِ
التمثال لا يذرف دمعاً
ولا تَسقطُ من حلمةِ نَهدهِ أمنية.

نســـاء

إلى رشا فاضل . . على بعد حرب منهن.

1

امرأةٌ تنتمي إلى آخر البياض، حفنةُ ضوءٍ خيالية
امرأة ليست شتاء أو فصلا آخر، لحظة دفء
امرأة كأنها جيوش من الأفكار، احتلالٌ مزيف
امرأة لا غبار عليها، قطعة رخام
امرأة خفيفة الظل، فراشة تحترق
امرأة خارج النص، كيان طبيعي
امرأة داخل النص، أشياء كثيرة
امرأة بين طيات حلم قصير، أمدٌ مختزل
امرأة في السرير، شهوة نقية
امرأة في القلب، كذبة بيضاء
امرأة نفسها في كل مرة، نصف يبرر أنانية النصف الآخر.

2

امرأة تعثرت بها في شوارع كتاب لم يقرأه أحد
وقبَّلتها بأسماء كثيرة أجملها..أنتِ
ساذجة تلك الشوارع من دونكما
وخاوٍ قلبي المنكمش كعلبة بيرة.

3

امرأتان لا أكثر ولا أقل في دفتر أشعار قديم
للأولى سأحتفظ بأغنية رومانسية لجاك بريل
ولكِ لا أحتفظ بشيء..
سوى هذا الرماد الذي أنثره من حين إلى حين.

مستنداً إلى لسانٍ رخو

إلى زياد عبدالله

كأي مساءٍ مع امرأةٍ عابرة
أضعُ أفكاري المتأرجحةِ جانباً
مستنداً إلى لسانٍ رخو
يؤكد غياب المعنى في مشهدٍ ناقص.
على قيد الخطيئة..
أحلم بالرقص عارياً بين مرايا الهجر
وبقليلٍ من الألفة المستعارة من ألف ليلة وليلة.
أحلم أيضا أن أتملّص من حُضنِ امرأة
تقدّس الوطن ؟
وتفلسف الأشياءَ
في غرفةٍ، تعلو هامتها الكتب.
وبامرأة أخرى لا تهتم لأخباري
أرسمها عارية،
وأخونها دون عتاب.
امرأةٌ بذاتها تقرأ لي أزهارَ الشرِّ
وتنام على صدري كسربِ سنونو.
أحلم أن لا أحلم مرة أخرى
كي لا أقطع أذني..
وربما كي لا يُقال أنه انتحر على عتبة حرفٍ
أو مات بغصة بحجم بلد !
وبعد أن يحدث كل هذا..
لا بأس أن أرى الناسَ سُكارى
من نافذة مفتوحة على القيامة
وما هم في اليقظةِ..
سوى أطياف نبيذية
لفراغ يجحظ باليقين.
لا بأس جداً أن أستعين بالقمر
لأكتب وصيّتي على ورقِ "التواليت"
مدارياً رعشةً شائكة
على نساءٍ يُجدّدن موتي كل مساء،
وأُطبِق عليهن كركام آدمي.
ثم أصنع لفائف تبغ أتقاسمُها مع زوربا
الذي سيأتيني..
بآلهة يونانية،
وحقول من الكرز.
هكذا لن أخجل من صديقي
حين تتدفق من أحشائي..
ضحكات وشتائم وأحذية وملابس داخلية وأضغاث أجساد.
ولن أكترث إذ لم تزل:
للخراب الساكن فيَّ
لهذا الشيخ الطاعن في الحُزن
للمرأة الساخطة على فراش الليل
لذلك الصرصور النائم على كمانه
لهذه السخافات الصغيرة،
شهوةٌ للرقص.
ليس لمرآتي أجنحة بيضاء
ولا لملامحها المشوهة رائحة الشياطين
فقط،
تعرّت نجمةٌ في السماء الثامنة
شهق القمر فاغرا فمه
وتكسر الزجاج
إذ سقطت الوصية.

كموديل عارٍ أو أبعد

إلى سمر دياب

شيء ما . .
يبدو غائباً في عينيها
هذا الطقس المهيب كصمت،
يدحرج الرؤية إلى زوايا معتمة
الأحاسيس تتمدد مكتومة الأنفاس
وتصغر
كظل تتلقفه شمس منتصف نهار طويل.

مائلة على بعد نفسٍ منّي
عارية بما يكفي للخروج من ملة أو دين
ذاهبة بأناملي إلى أقصى الجسد
حزينة قليلاً
أو حزينة أكثر من اللازم
أزيح عن وجهها خصلتين وبعض الشحوب
وعلى نهدها الأيسر أقتفي شهوة صغيرة أشبه بفراشة زرقاء
أخالها ستحط أعلى الحلمة بقليل.

هنا على حافة أغنية ما، نغرق في الهمس
قالت: أنا لا أحب تولوز لوتريك / القصير القامة
قلت: وأنا أكره نساء المولان روج / السمينات
وبما أنك جميلة جدا
ولجسدك. . ظل سمكة
ستنتقم فينوس ميلو منك ويشتهيك البحر
قالت وقد ارتجت أنحاؤها:
ابتر ذراعيّ إذن وإلا ستصب عليك اللعنات.

مبتسمةٌ، كمن اشتهاها ملاك نزل من عند ربه للتو
تحيد ببطء عن المرآة
وبحب. .أكثّف المشهد كغيمة.

بلمسةِ ساحرةٍ تعيدني إلى الفراغ الذي ظل شاغراً
هكذا. .
بين ابتسامة مزروعة كلغم مسائي
ويد تخدش صمت الجدران
تاريخ ينصهر في المسافة المعتقة كنبيذ
وخارجٌ يستحيل كمشة ضوء أضعها أنّى شئت.

التفاصيل تغدو مساحات أكثر نزقاً
الأفكار تضاجع الأفكار
والهواء يحشر أنغام "الريغي" بين فخذين
رخاميين.
بكلّي أنغمس في تشكيل أنوثة لا يغيب في عينيها شيء
لا استعارات حالمة ،
ولا غوايات يحيكها الشيطان
بوسوسة أقل صخباً من تفاحة ابتذلتها الحكاية.

هكذا، يدثرني دفء مركب كدمية روسية
بداخلي يهتز عرش
ومن جبيني يتصبب عرق مقدس
حين ينساب الوحي الأخير على جانبيها أو أدنى
وحين أضيع على طريقتي
في جسد امرأة
تحفه الفراشات.

جديلة

إذا الليل جرحٌ مضيء
نزيفه نهار.
كما الدمعُ صغيرا يكبرُ
وبائعة الجرائد التي تطلق جدائلها
للريح / ينام في عينيها نهران.

علبة "البيبسي" نجمة زرقاء
التقت على حوافها الباردة، شفتانا.
لم نسقط من علوٍ
لم نحترق بلعنة ما
أو كشفت عورتنا فلسفلة المكان.
في اللوحة التي علَّقتُها فوق السرير
أحجيةُ سمكة تركت كعبها العالي
عند مدخل العمارة
وقبل الحلم بقليل صار البحر أميراً
يبحث في غرفتي عن سندريلا؟
الشارع يمضي بشمس الظهيرة
سميناه: تأبَّط حراً
والذباب يقرأ على مسامعنا
تعاويذ المساء.
في الحرب تصبح فوهة البندقية
ينبوع نبيذٍ خالص . .
نخب بكاءٍ لا يفجِّر رئتي
لا أكتب شيئاً.
أعود إلى أحجيتي على صهوة وسادة
وأناملٌ تداعب شَعري.
على إيقاع "الجاز"
أكفن في رأسي جثث من ماتوا
في نشرات الأخبار.
بينما أشتهي حبيبتي بكلام ناعم
و أراقصها على مرأى قمرٍ شاحب
حتى تنام.

في جديلة تلك الصغيرة
ضاع نعاسي . .
أفتح النافذة بشيء من الحذر
وتخطو عيناي نحوي
نحو تعبٍ لا يذهب حتى يجيء.

كوكتيل

المرأة . . . . .. . .
اليومُ الأخيرُ في غرفةٍ مظلمة.
ثيابٌ يبعثرها المساء.
جسدان يطويان صفحةَ المسافة.
ضوءٌ يطفو
قليلاً قبل أن ينأى أو يبتعد.
حواشٍ علقت بها أفكار نيِّئة.
أغنيةٌ لا نهاية لها . .
ثرثرةٌ على حافة الحرب.
أشياء ناصعة تحت شمسٍ صغيرة.
أشياءٌ أخرى تخرج من النافذة.
حكمة أن يكون قلبكَ علبة أحذية فارغة
تُبلِّلها المتاهات.
أحلامُ زمنٍ ما.
المطر الغافي على كتفِ امرأةٍ ما.
نفسُها ولكن بعينين غائمتين.
الوسادة أو ما تحتها.
العقل بهفواته.
الضحك بكمنجاته.
ابتسامتُها البيضاء.
روحي المعلقة بين سيجارتين.
جحيم اللقاء.
جحيم اليوم الأخير.
الظلمةُ نفسها.
بدل النهاية
القصيدة حينها.
كذلك المرأةُ
المرأة . .
المرأة.

(2)

ثمة امرأة

عنوان طويل يصلح لقياس المسافة بين عشاق ميتين

ذات أربعاء.. لم تعد الأشياء كلها بلون العدم

1

هدوءٌ ألتصقُ كخفاش بليله الطويل
أرتب ملامحي على هيئةِ ميتٍ يبتسمُ وأبتسم
شفتاي تخجلان من التجربة
وكذلك وجهي المنفي إلى خبزٍ وامرأةٍ وأولاد.
لي هنا قبرٌ يتسع لي وحدي
لكنني لست ميّتاً بالقدر الكافي لأشعر بالظلمة
أو أميل إلى خوفٍ لا وجه له.
علبةُ كبريتٍ ما أحتاج ربما
وربما قداحة صديقي النحاسية
لا لأشعلَ ليلا بذاته بل لأمكُث زمناً
أتأمل عقب سيجارةٍ شاحبٍ مثلي وبلا رائحة.
على الطاولة أوراقٌ واضحةٌ بما يكفي..
آثارُ الندوب التي تتركها الأفكارُ على هامشٍ غض
الملابسُ المنشورةُ في المبنى المقابل لامرأةٍ سمينة
نسيتْ طعم السرير
صراخُ الجدران الغائبِ عن الكوابيس
كأي مفلسٍ عابرٍ للدهشةِ أرى شياطيني ترقصُ في صمت
ولا أبادلها التحية ،
أو أغادر طقوسَ وحدتي إلى مزاجِ تجمهرها.
عائدٌ من البداية كشريط يزحفُ بأنغامِه الثقيلة
أتهاونُ في غسلِ الأطباقِ المتراكمةِ منذ أيام..
متى تأتي الكارثة ؟
وأستعيد فداحةَ الانكسار بحكمةٍ أقلّ
كأسُ نبيذ ما أحتاج الآن أكثر
وربما لحظةُ دفء أتكئ على "كونتوارها" الطويل.

2

تعودتُ أن أجتازَ الصور إلى ذكرياتها
ناسياً أن المراوغة لا تجدي نفعاً ساعة السكْر
كأن تجد القمر ماثلاً أمامَ الباب وتحت إبطه وصية قديمة
تتذكر نساءك تباعاً وتنسى اسمك المغمورَ بضوء هزيل
كأن لا يحدث ما ترغبُ في احتضانه بدموعٍ عارية
وتبقى كما أنت وحيداً كبكاء أعمى
أبقى كما أنا..
لا الكتب المصفوفة على الرَّف تملأ عين المكان
ولا هذه الحماقاتُ التي تسعى كحشراتٍ تطيرُ بالمخيلة
لابد من مكان آخر لقول الكثير
نافذةٌ مذبوحة بزجاجها نوارسٌ للسماء البعيدة
وانتحارٌ بما ملكت يدي، وقت الحاجة
هكذا تتقاذفني الرؤى كمجازٍ بليغ لطفلٍ يكبر سريعاً.
أنسحبُ ببطء إلى المطبخ لآكل شيئاً بارداً كالعادة
وربما سأكتفي بكوبِ ماء
أذكر أن لكفكِ بلادٌ وبحيراتٌ خضراء
لا أدري متى رأيت الأشجارَ وهي تُقبّلُ زهرةَ اللوتس الأخيرة
كان ذلك في إحدى الأمسيات الشقية
حين التقت نظراتنا صدفةً
ولم يتمزق الهواءُ بابتسامة واحدة منذ ذاك الحين
ذكرى لا أكثر..
وظل لا يزال مصراً على البقاء إلى جانبي.
أحذف الغيوم من لوحة عطشى
كي يشتاق المطر لعيون الفقراء أقصد الشعراء
وأبيت على عطشٍ لأنال مغفرة الورد في أصص البيت
كلانا مقتول بالرغبة الأولى
كلانا ـ الورد وأنا ـ ديننا الماء وأنتِ.
ما الاحتراق سوى فلسفة أخرى من هذا القبيل
وما تلمع الأحزان إلا في وقت كهذا
يزاوج خضرة عينيكِ بمأساةٍ قادمة.

3

أحلام الطفل لا تزال طرية كحبر لم تجففه يد شاعر
أحلامي لا تزال بلا اسم
ولها اخترتُ عنوانا طويلا يصلح لقياس المسافة بين عشاق ميِّتين.
أُجمّع ما تبقى من وساوس وأبثها جيشاً مهزوما في حربٍ لم تكن
قد أقول ما للسفرجل من مآخذ على الزمن الكئيب
قد لا أقول ما لي على الله ..
وأعود لأنبش الأرض برذاذ دمي المباح
هل تسمعني عتبات بيتك المحاذي لخطاي هناك
هل تسمعني هذه المتاهة الصاعدة من حولي
لا بياض الأيام سينتهي
ولا دمي الفاسد بجراثيم اللهفة.
اختلاجات كثيرة أضم لها قلبي المرفوع بغيمة
الممطر / المرتد / الفقير / المحتشد بكِ
وبما يجعلني لا أستبين ضوء النهاية
من يدك المصافحة ليدي الآن.

بحر تغطيه أوراق النعناع

قد يعرف صديقي أنني شاعر كبير
(أو سيتوهم ذلك).
طولي مئة وتسعة وسبعون سنتيمترا
أصلح لحراسة مستشفى أو مدرسة أو كازينو صغير
(لهذا تعج أعماقي ببشر كثيرين).
تنام في صدري لعنة تستيقظ ساعة الورق وأدخنها كسيجارة
فأبتسم وتلعن أمي أكوام الجرائد والكتب التي تنخر مؤخرة رأسي؟؟
نحيل مقارنة بحلم حبيبتي / تلك التي تنتظرني كل صباح فوق سطح بيتها
(وأغدو في الويك اند طريح ابتسامتها البيضاء).
كطفل عارٍ أقف أمام لوحة البيوت خلف زجاج النافذة
وأمتد حيث يمتد ظل عنيد أتبعه هناك
هناك: حين تتسع الهوامش وتمتلئ رئتي السمراء بالأوكسجين.

غالبا ما أحتفظ بغابة مصفرَّة في عينيّ
وتبدأ أيامي بعينيها: كبحر تغطيه أوراق النعناع.

لو يدرك صديقي أن السماء لم تعد جريدتي اليومية
وأنني ألغيت عن القمر صفة المثقف اليساري
وجعلت من الجلوس تحت المطر صلاةً وثنية
وصارت الشوارع على شكل قصيدة نثرية
أسكب فيها خطاي وأمشي، أمشي حتى لا أصل..

ليلا على حافة الكأس يشتعل النبيذ من شفتيها
هل ذابت الشمس بيننا كقبلة عارية؟

أما هذا الصديق المعجون بأيام لا طعم لها / أدرَك
أن الحكاية تبدأ بهذا الصباح المتوارث كلحن إفريقي
ولا تنتهي كقصيدة
نادراً ما أبحث لها عن عنوان.

الشرفة شروع في الحزن

بملابس خفيفة لا تليق بشتاء
أمضي إلى مساء آخر تشيِّد سريره امرأة
وظلال أسئلة كثيفة كغابة.
لا أعرف كم خطوة تحتاج مسافة الألف ميل كي تبدأ؟
والضياع في غرفة مظلمة حالة ضوئية
ستُرتِّب لها مدينة،
وشوارع تهيمُ بأرضٍ حافية تحت قدميك.

لك في الجدران حكمة صماء ينتهكها الجنون بنافذة
وأنت الذي اعتدت الجلوس هل في المشي خيانة؟

أعود بنصف خطوة
تسَّاقط منها ألحان رقص قديم
..والتي عبرتني الآن كعاصفة
تركت في الجسد شيئاً من الموسيقى.

بينما تستيقظ معها أشياء المكان كعاهرة في منتصف النهار
حفنة ألوان منذ تلك اللوحة
قبلةٌ سمَّمها الانتظار
أغنية تقول: ساعـفوني يـا لمـلاح..
عنوان رواية مكشوفة الظهر، رمزاً للغواية
ستائرٌ موعودة بأطياف من رحلوا
عود ثقاب يعلِّمُك الشك في العتمة
كأسٌ تدحض التي قبلها
ورائحة شَعرها
التي سيحسدك عليها الكثير من الموتى.

بربطة عنق تصلحُ حبل مشنقة
تخطو.. فالشرفة ليست سوى الشروع في الحزن.

تمارين للمشي

1

خصلة من شعرها هذه
صورة لطفلة تأكلني كقطعة شوكولا
ألتحف بأكفانٍ تنسجها ابتسامتها البيضاء
وأغانٍ أكل الغبار حناجرها.
سيجارةٌ تعيد لأنفاسي
رعشة النيكوتين المقدسة
ونشوة الارتطام بالهواء.
كحةٌ أخرى
لسؤال ينفثُ دخانه:
لِمَ المدينة تبدو حزينة؟
وأنا أكتب خطاي بأحرفٍ عارية
أنتظر صعوداً للمطر
من أشلاء الأرض
وموتاً بارد التفاصيل كشتاء في الأربعين
أسنان الظلام ناصعة
وجهي وليمة
وفي البال سؤال يكُح:
حقاً.. لِمَ.. المدينة...؟

2

هل أروي لها الحكاية
أم أزاول الصمت المرقع بدماء الطيبين
والعزلة ملجأ لأيتام جسدي.
ما زلتُ أعدُّ الجثث التي تصلح وسائدا لي
أفرش جلدي للغرباء
ولا أسأل عن نومٍ بلا أضلع للحلم.
كم أنت بارد أيها الليل
حتى آخر قطرة من طعنات الحبر
لم أعد قادرا على إشعال أصابعي كل مرة
أنا المسافر هنا
والمحطات من خطاي تتوالد . .
. . . أبدا لن أصل.

3

من شرفة تطل على القبر
ألقيت التحية على جدي
واكتفيت بدمعة تمدد صمتها في قلبي
كل هذه السنين.

4

لا بأس . . أن أصنع من ملامحي
مرآة للأسئلة القبيحة
وأبحث في أقصى رئتي عن كلمة شبه أخيرة
لـ"ذاتٍ محطمة كوطن"
لا . . هذه شبهُ الكلمة
وقد صار لفمي زوايا
ولعيوني دموعا على شكل مراكب
أقصد مواكب
طبعاً للحزن ..
أما الوطن فقد غادر قبل الحبيبة
قبل الحقيبة . ..
قبل أن تأتي الكلمة في نفسٍ أخير.

5

لماذا تأسرني طاولة المقهى
ولحظة تنتعل رأسي الصغير
لم يعد للوقت متسع
لتأمل خطى سيدة في الثلاثين
تمر على اشتهائي الصباحي كومضة ساحرة
لماذا تشتعل أعواد الثقاب
ويرتجف الحبر المسكوب في دمي
لماذا . . . الطاولة
لماذا تطوى هكذا الأفكار
وهذه الفراغات التي تستحيل بعد خروجي
طائرة ورقية.

6

ينزلق على جلدي مساء زيتيّ المفردات
كأن أتأرجح في قبلة مشدودة الشفاه
ويرتخي لساني في مفترق الشهوة
أبوح لها بصيف حار جدا . .
وتُوشوِش في أذني بفراشات متفحمة
ورحمٍ أوقدْته للتو باحتدامي
بغتةً:
يتوقف المساء لتبدأ الحكاية
.. . من البداية.

7

بعيداً . . . خلف حزن المدينة
تتكسر الضحكات على مرايا البيت
جرحٌ بدماء عريه يختفي
نتعانق في "الكولوار" الذي لا ينتهي / ونميل.

8

كم رأساً سأقطع
وتختلف الروايات في ساحة الكوابيس
كما لو أنني كنتُ وحيداً . . في يدي مدية
وحولي كل تلك المرايا.

9

اشتريتُ لها جوارب ملونة
ولا أدري إن كان احتفاء قدميها بالدفء
على قدر لهفتي . .
أذكر أنني أقمت مُدناً هناك
زرعتُ في مسامها خطى صغيرة
وأغويتها بشوارع مضيئة في جسدي.

10

أتوسد يدها بما يكفي لغفوة
لا أمشي فيها عبر أرصفتي . .
أخيط فمي أثناءها
"أضع أفكاري المتأرجحة جانباً"
ولا ألاحق الوجوه التي تنفجر أمامي كالفقاعات.

11

الجدران مأساة يطبق صمتها الحجري
على مدننا الصغيرة
نحن الخطاة
لم نعجن الحب على فراشٍ أرضي
ولكننا أدركنا طرقه المحفوفة بخشونة الألم
توضأنا بماء الخطيئة . . ولم نصلِّ.

12

كالشتاء الذي أبحر في قصيدة صيفية
كالخوف الجلي حين تخفيه ابتسامة
كالخطايا حين تتجمع في محراب مظلم
كالأغاني التي تكتحل ببقايا الفراشات ونثار التبغ
كالنوم مسدول الستار على مسرحية ناعسة
أخلعُني من جلد التشبيهات والوقت المدان
وامتداد المسافات
أرتب ما سأوقد من أضلعي / آخذ نفسا عميقا / و. . . .

13

حكاية لم أروها إذن
والطفلة التي احتدمت عند قدميها
طرقٌ مجنونة
ستغني لموتٍ يتسكع فينا
ونمحقه بلحظة شغف.

أدحضها بعلبة سجائر

صباحُ الخير
يا صغيرتي التي تأبى استفاقةَ الدمعِ لحظةَ الضحك
لم تخرج جراحُنا البارحةَ عن لياقتها
حيث الشرفةُ وسعَت خُطانا الحافية وكذلك الكهرباء
لم تنقطع كالعادة
وظلَّ مكيِّف الهواء شغالاً إلى حد اللحظة..
واستنشقنا أنفاسَنا بروية بلا رطوبة ولا ضجر.
وفي السرير المُتاح كزورق
ها أنا أشهدُ عُريك بعين مارقة
وتطمحُ أناملي أن تصير رؤوسَ غوايةٍ صباحية
وفي غفوة شفتيكِ المتباعدتين قليلاً
تصحو على شفتي قبلةٌ محمومةٌ ويتعثر التفكيرُ على لساني.

سأقولها بملحِ عناقنا في بحرٍ صغير
صباح الخير . . صغيرتي،
صباح الخير
كأشيائنا التي حلمنا بها في مساحة ضيِّقة جدا
صباح الخير
كآخر الاحتمالات الممكنةِ لامتلاك الأفق
صباح الخير
كأول المساء حين يتاحُ الجنون
وحين نتحول ذات فرحٍ غامرٍ، إلى حشراتٍ مضيئة.

صباح الخير،
في الصباح والمساء والليل وأيام الأسبوع والشهر الجاري
وخلال السنة..
وما تبقى من العمر..صباح الخير.

أقولها كما لو أنني أقرأ على جبينكِ أشعارَ الحلاّج
وأتصوفُ في بياض اللحاف الذي لا يغطيك
كما لو أنني التقيتُ أبا نواس عند مفرقِ شعركِ
وخنتُه بقنينة خمر مع الخيام
دون أن أخبرَ هذا الأخير بعشقي لسمرقند
(إذ أقصد رواية أمين معلوف)
كما لو أن ثقل الهواجس لا يتناسبُ مع البيانو
ومع الجدران المسربلة بالذكريات
ومع لوحة الأكواريل..
وخاصة مع مزاجي المنقسِم على نفسِه
والمطروح أرضاً كزوج جوارب أو صدرية دانتيل.
كما لو أنني سأكتفي بقضمِ أصابعي
دون أن أمزِّق حُجُب نومك الهنيء
ودون إحالات أخرى
أجول في الغرفة بقبلة صماء
أدحضُها بعلبة سجائر تكاد تنتهي
وما انتهت بعد مكونات شغبي هذا الصباح.

ملاك يضع قبعة

نلتحف بما تناثر من كلام خلفنا
نستدرك مناديلنا الورقية الجافة بشيء من الدمع
لا نبكِ إلا قليلا نكاية في سحبٍ شهية لا تمطر.
منذ فنجان القهوة وأعقاب السجائر / لم نزل..
نمشي وشمس تقتفي عري خطانا..
عصفور يحفظ ما تلفظنا به من رغبات هذا الصباح
وفي كل صباح يجرحُ سكونه صوتانا / كطفلين يتعاركان.
صباح لا يشبه المساءات التي نقضيها عادةً في قراءة الكتب
أو مشاهدة التلفاز..
أو الحديث إلى جارٍ لا يعرف أن الحب ملاك يضع قبعة
يدخن على مهل هذا الذي ألقى عليه التحية
كم عابراً سيغدو مثلك سحابة دخان أو غيمة
أم أنك فقط أوغلت في وصف عبورك الأنيق نحو الفراغ.
بدون خيارات أخرى تحاول اجتناب التفلسف في حضن دمارك
بعيداً عن نومٍ لا يأتيك
تكتفي بقطعة خبزٍ محروق وكأس نبيذ
مستسلماً لشهوة إشعال الحرائق على ورقة
لا تحفظ حبر وجهها من تحولاتك
كم أنت جميل أيها المجوسي. .
هل ما زلت تحاول؟

نستعيد الجسد من منتصفه بحفنة أرواحٍ تائهة
كما لو أننا مع كل كحة ننفخ في العدم روحاً وشيئا من الحياة
كم أود أن أقول لها: "حياتي" لولا أنها أجمل بكثير.

هي لا تعرف ذلك لأنها تحب الركض عارية في ممرات دمي السرية
وقد صرختْ حين جرحتُ ذقني أمام المرآة: أن أغمض عينيك حبيبي.

أستعيد أناي تاركاً كاف كفركَ أيها المتضرر بالأمل
إلى حتفنا / معاً .. . ... نتسابق.

أحلامي وما لم يشوه هذا المساء القادم ببقايا صمتٍ يتفاقم
ألملمها أشرعة لمراكب بحر صغير
ذاك عمري وأنتِ رياحي
فاعصفي بالأرض الغبية ما يتوالد من المسافة
ازرعي الفوضى في رتابة الأيام/ علميني كيف أنام / يا . . . . .
اجعليني مجرد أنا، لا شهاباً مضيئا، لا جبلاً، لا مارداً
ولا شاعرا بمعطف طويل
دثريني بورق الجرائد ورماد التبغ ولعاب الأطفال
اصلبيني على خشب أعمى
ألقي بقاياك فيّ / حمليني خطاياك
أنفثي شرورك الجميلة في وجهي
أطلقيني كسرب جراد لألتهم من حولك كل هذا القبح
فقط ابتسمي وأنت في حضني .. وسأكمل الحكاية.
صحيحٌُ أنني كتبتُ لك باقة من أزهار بودلير
قرأتُ عنك ما أهمله عمر ابن أبي ربيعة*
وقلتُ إن حبك لإيطاليا لا يحولك إلى موناليزا على يدي
بل يجعلني أكثر عداءً للابتسامات الغامضة
تماماً كعدائي،
للقصص التي تنتهي بمأساة
للفراشات التي تمنح عذريتها للنار
للجمل القصيرة التي تنتهي بعلامات القيامة
للقصائد التي تفجر نهاياتها بنثر قبورها على حافة البياض.
... ... ....
للحكاية التي تقول:
عند شاهدة أحد القبور خلع الملاك قبعته ومضى.

* المقصود قصيدة: "احتفـاء بجمـال غـائب أو ما أهمله عمر ابن أبي ربيعة" للشاعر محمد طيبي، من مجموعته "فوق المعنى".

(3)

ترتيب المساء برغبات أقل

قصيدة مملة جدا

لا تنتظر أن تدخل عجوز ساحة أفكارك الآن
فتلقي عليك بظلال عقيمة
تحتاجها لتأثيث قصيدة مملة جدا.
كأن تفتح الباب امرأةٌ في الثلاثين
تصفعك ببطنها المنتفخة
وبابتسامة خبيثة تبتلع لسانك وراءها.

لا تنتظر أن تتوقف الاغتيالات لخمس ثوان في العالم
حتى تفتح زر قميصك وأنت تمعن النظر إلى فتاة تلبس مئزرا جميلا
كفراشة تهفو في الممر الضيق إلى القصيدة.
أحيانا تبدو كبحر يتنفس غواية عابرة
ربما تغدو الغواية شلة أصدقاء
وترنو أن تكون في وحدتك أعمق من الحبر
وأكثر اتساعا من العبارة
كم مرة كان الأوان.. ملحمة لقصيدة بلا أجنحة.

لا تنتظر أن يصمد المطر أكثر من لحظة حب
تجف بعدها ذاكرة السماء
بينما يتشبث جلدك برائحة امرأة تنفلت من المسام.

إذن أعد ترتيب المساء برغبات أقل
كأن تفتت عمرك للتي طارت من حشد أنفاسك قبل قليل
تبحث عن قفص أضيق من صدرك
ولا تيأس من الركض خلف ظلها المترامي النساء
امرأة تلو امرأة ليكتمل المشهد.

كأنني كتبتها في مشفى "الزهراوي"

يا صديقي الذي تراكم كقبيلة من النحل
عند مدخل القصيدة..
ليس وردا ما ينبت على هوامشي
وخلف خطاي التائهة.............
ليس ليلا دافئا يحتسي عسلا مع جاري الطيب
أو تأوهات الممرضة التي تفتَّح نهدها قبل بضع أغنيات
ألبس جنوني حين تخلع مئزرها الأبيض وتنتشي في رقصة ثملة.

ليس مملكة أخطف نساءها في الشوارع الضيقة للحلم
كي أصنع عطرا فاجر الرائحة
وأروج لصمت ناعم يتمدد ـ مثلي ـ بين السطور
ليس إلا ما أريد أن أكون الآن
لما أشعل سيجارة محرمة وأنا أعيد صياغة أنفاسي
بثرثرة لا يملها الأصدقاء.

عفوا لقد ضيعت طريقي إلى القبر
لأنني عادة ما أترك فراشة بيضاء تعبث بجسدي.

صديقي .. تركت في جيبك أحرف النداء
والسجائر التي لم أدخنها
وورقة حشوتها ببعض البذاءات
كقولي: ها أنا أحتسي نظراتك الباذخة الحزن
وأتذكر أنك التقيت امرأة يقال أنها تأكل قمرا بعينيها
ولم تكترث حين خنتَها على سرير ضوئها المستعار.

ليتك تعرف كم مرة متُّ قبل اختراع أول ابتسامة
تليق كبداية لكل هذا العواء.

تركت لك أشياء لم أعد أذكرها
مطر صغير في غيمة هاربة
كذبات معتقة تفيض بها كؤوسك
فيلم يحكي قصة قاتل أحببتُه
جملة أخرى تشبه: للذي لسعتني محبته...
وحسبت أن ضجيجه ما أيقظني
أو ربما تأوهات تلك الفتاة
ولكنه فحيح جاري العجوز وهو يضاجع ذكرياته.

هكذا سأكتب عندما يموت شاعر

وليس بعيدا عن باب الغرفة
يقبع مقلوبا.. حذائي المغبر
بينما تلهث خطاي وراء "أطياف من رحلوا..."
كعادتها تزيح عقارب الساعة أعمارنا من الوجود
كعادته يضاعف الفقد موتنا..
وأنا أجلس القرفصاء في الممر المعتم
أتلهى بقراءة ما تيسر من أفكار تلك التي مرت عارية إلى الماء
مبعثرةً كل الخطى
مزيحة كل الأحذية والأرجل والأنفاس...
غير مبالية بمن رحل إلى قبره من الأحبة
تاركة الباب مفتوحا لاحتمالاتٍ،
تمنحني فرصة السخط على حسي المرهف
وكيل بعض الشتائم لمن يموت دون إذن..
ويترك حكاية
وديوان شعر
وصديقا يشرب أنخاباً
لا يفرح زجاج كؤوسها باللقاء.

كمن تيتَّم أو ترمَّل أو طلق بالثلاث
ستبدو قصيدتي بعد قليل
وكمن عاد إلى موته الصغير تحت ملاءة بالية
سأبدو................... :

أبله يتأمل الفراغ بعينين مالحتين
متهالكا على سريره
يقرأ: قفا نبك...
وينسى عرشا مبلَّلا خانته الأغاني الحزينة.

سعال ملائكة متعبين

إلى نوري دومي

بينما يحتضن مطر خفيف، فستان فتاة تطل من طابق أعلى
يميل هو... برأسه إلى الوراء مغمض العينين
أو تميل به الأحلام المكدسة
كحشود من يتامى العصافير والفراش
والنحل والذباب...............
ليصطدم بغناء جارته الوحيدة
في مثل هذا الوقت المتأخر من كل ليلة.

وككل ليلة...يكتسح الظلام الغرفة
وتهيم في رأسه أفكار لا لون لها
كأن تسقط الفتاة
دون أن تتوقف العجوز عن الغناء
ودون أن تسيل دماء على الرصيف.
هكذا تستيقظ الأحلام
يبدأ الضجيج.................
ويغرق المكان في الدخان والشتائم والأنين.

في النهاية .. غالباً ما ترنو عيناه إلى النظر في بقايا المشهد
وتعود الذكرى خبط أجنحة صغيرة
ورفرفة فستان مرشوش بآهات مباغتة
وسعال ملائكة متعبين.

مطر خفيف يخدش زجاج النافذة

ذات 25 أوت ..

في الدخول إلى الثلاثين
أمنحني فرصة أخرى لخيانة النثر، والقصائد المحكمة
والفراشات التي صبَّرتها في مفكرتي دون أن أعرف أنها تطير من حين إلى حين
بينما بعض الأيام التي بترتُها من أيامي تحولت إلى زوارق ورقية
أو طائرات لا تصلح للحرب، للحب، لبلوغ ذروة ما، للنزول ببطء
أو لمصاحبة الموتى على هامش الرحيل............
لعلني أقصد شال امرأة تحولتْ في متونه أنفاسي إلى كلمات.

في الدخول إلى الثلاثين
عتبةٌ محت خطى العابرين ملامحَها
العابراتُ ... إن كنَّ حافيات أشد فتكاً بالعمر
والعمر ـ في زحفه الغبي نحو النهاية ـ في اللحظة الشاردة لا يسأل نادل المقهى
ماذا يفعل بأيامه شاعر يدخل الثلاثين
ويشتهي حياة تشبه الحياة... تشبه أحلاما تكبر بداخله بعيدا عن الشعر...
بعيدا عن الوطن.... بعيدا عن الله.

في الدخول إلى الثلاثين
معدن يطوق معصمها ـ هذه التي لا أعرفها ـ
وإنما سخط الرؤية على ذهبٍ يحجب فتنة اليدين...
شهوة الضوء للتشكل: يدا على يد تصلبان جسد القصيدة
هروب اللغة من قائلها، خوفا من انكشاف السر، من ابتعاد الحبر،
من صمت لا يمل الانتظار
في طابور الموتى القادمين
ليت الباب الذي أجتاز الآن ينغلق من ورائي.

في الدخول إلى الثلاثين
تمارين صباحية في المشي على قارعة الأشياء
حمام يلوث كراسي "ساحة الشهداء" ويوزع الابتسامات على وجوه الأطفال
أفكار امرأة وحيدة تنشر ثيابها وقت الظهيرة
جنوح الضوء عن صورة عاشقين متعانقين
غروب الشمس في بطاقة بريدية أرسلها عمي ذات مرض ومات
وفشل الشاعر في إيجاد أمكنة تصلح للنوم بسلام
بينما حروب توزع جثثها على الفضائيات بفارق بسيط ـ لا يتعدى العشرين قتيلا ـ
أو بالتساوي لا يهم ...
بما أن أحد القتلى ماسح أحذية تاهت عيناه في شعر فتاة تبتسم من بعيد
أو شاعر حاول أن يكمل المشهد قبل أن يتحول إلى رماد.

في الدخول إلى الثلاثين
امرأة تعلم الوحش الخفيّ فنَّ المرأة
نافذة تطل على مساء مضى وآخر يتسلل خلسة إلى هنا،
إلى هذا القبر المفتوح على احتمالات لا تحصى لاختناق الفكرة تحت ركام البياض
وللصباح أمكنة أخرى بعيدة...... لا تأبه لموتي الأرعن على مشارف القصيدة.......
هناك حيث لا أزال أبحث عن نبتة منزلية آخذها معي أينما أقمت في وحدتي
كعازف أعمى على إيقاع مطر صيفي
حيث يبتسم العشب لما سيدوسه من مجاز اللغة
ربما أنكيدو كان هنا منذ قليل....
منذ رحت أوغل في الخيانة دون أن أفكر في استعارة أخيرة للنبتة الشريرة
وقد ذبلت الحروف التي كانت ستكتُبها
دخل الليل وأنا كظل لا تاريخ له أحشو الفراغ بكلمات صغيرة بحجم اسمي
وبما تتركه النباتات من أثر في نفس صديقي الذي يجدني جالسا بقربها
أداعب خصلة امرأة صارت تعرفني
كأطفال نلهو على حافة هذا القبر ..
أين نسينا أسماءنا في زحمة الثلاثين.

وفي الدخول إلى الثلاثين
حتى الأشياء التي تركتها ورائي
تعود لتسبق أنفاسي إلى حتفها.. وألقى في طريقي إلى النسيان ما يؤخرني من الأغنيات
أمي بأناملها وهي تحاول محو ما كتب من أحزان على جبيني ..
حبيبتي التي تنام باكرا..
وتنساني بين قصيدة وامرأة تصحو ظنونها بداخلي كصدع في جدار
فولارة جارتي التي تزوجتْ بعد أن قبلتها مرَّتين، وكنت أسميها "ريتا" لالتقاء المخيلة
بالحواس الخمس، حيث نمنا في حضن زيتونة كبرت في غفلة من الإسمنت
ورغم أنها لا تعرف محمود درويش ولم أكن يومها أشبه الشعراء
إلا أنها ماتت صغيرة
ربما لأنها أحبت ضفائرها أكثر مني
وربما لأن أباها كان يمتلك بندقية صيد تقتفي أثر جسمها الأسمر الناعم
الكتب التي عادة ما تسعفني في تمضية الوقت المتأخر عن النهاية بقليل........
بإمكانها ـ لوحدها ـ أن تصالحني وموتي الذي يجعلني أفعل بنفسي ما أشاء
كأن ألغي من مفكرتي موعد حبيبتي وأؤجله إلى القصيدة القادمة
تلك التي أكتبها على جناح بعوضة
كأن أعتقد في السطر الأخير أنني شاعر
أو أُحولني إلى حكاية مغبرة أو حفنة من الذكريات.

في الدخول إلى الثلاثين
سرب نجوم يغير وجهته السماوية نحو أرض الكلام
قمرٌ يخبئ أسراره الجرداء في قلب عاشق سينطفئ بعد قليل
كم حرفا سأضيء ها هنا في غرفة أعددتها للاحتفال مع الأصدقاء
كم ورقة بيضاء سأقرأ هنا، في عتمة الصمت البليد
كم مرة سأرقص وحدي قبل أن تغفر لي عصفورة قضمتُ جناحيها كي تظل إلى جانبي
كم امرأة سأحب دون أن أخون حبيبتي......................
كم ذنبا سأرتكب.. حينما تجتاحني القصيدة عن آخري
كم شمعة سأذيب لإدراك الثلاثين دون أرقام أو أوهام أو شيء من المستحيل
والصيغة نفسها حين تقاسمني امرأة عابرة الغرفة:
كم سؤالا سيتدلى من سقف النهاية حبل مشنقة يعيدني إلى قبري من جديد.. ؟

في الدخول إلى الثلاثين
غيمة على شكل حقيبة يد صغيرة
تنام في زواياها مستحضرات الحلم .... فالطيران ليس أقل بدع الحلم سذاجة
والسقوط من علو شاهق أشدها ضجيجا وأصدقها على الإطلاق
"وقتُك حزن يا صغيري"....................
هكذا قالت عرافةٌ قايضتني بعلبة السجائر كأغلى ما أملك هذا الصباح
وللثلاثين صباحات برائحة الخبز ومذاق النبيذ..............
مطر خفيف يخدش زجاج النافذة
وبضع آهات مكتومة تؤكد لي أنَّ السماء ملجأ التائهين.

للدخول إلى الثلاثين
تحتاج إلى كرسي في ساحة عمومية
لحظة تأمل في المدى القصير...
بحر يطل عليك من ذكرى قديمة
امرأة تأتي دون موعد
بضع أغنيات للمساء
وصمت حجري ترمم جدرانه بالشعر أحيانا
وبالسؤال أحيانا أخرى: هل مازلتُ حيّا...

27-11-2008