الشخوص
وحتى أستظهر الممالك كلها، وأودع أحوال شعبٍ في خيام شعوبٍ أخرى.
وحتى أتمالكَ نفسي.. أتقدَّمُ، لا شيء ينحيني عن الملهاة، ولا أقلام ستشطب ما لن أكتبَ.
بلا رأسٍ أتقدَّم حاجباً مادحي كلامي وحاجباً الملهاة بجسدي
أنفردُ بالسرد ولا أدع للهواء رئةً تتنفسه
"ليست الرئات مجالي" قال الهواءُ
ثم عصف حتى ظننته الريح.
أول الشخوص، بداية الملهاة، المنسَّل بين الرئات كشهيق
الهواء المرجوم برئة ثقيلة تحبسه قليلاً ثم تفلته،
والهواء آسن يحتاج طواحين ترد خيلاءه، دون ضجيج يخرج المهزلة عن المنصة، دون رجال يلوحون بسيوفهم في الفراغ
الهواء الهواء..
خذلتك الريح، فتغبرت بلهاثنا، خذلك الماء، فأوحلتَ بالدم، بعد الحروب التي دارت فوق ذراتك، والوجوه التي أخذت أشكالك، تستحق أيها الراقد أبداً بين القبور والأحياء، تستحق أيها المتلصص على الجبال أن نسميك.
ويا ترابُ، من أنتَ بعد الريح، ويا غبار من أنتَ بعد الماء
ـ من عرفك عرف آثامه واستراح ـ
من أنت بعد الريح وجدوى الكلام عن عتباتك
كأنك الحكمة المتخفية بين الصخور تعبث بنا كما تشاء
من أنت بعد الماء
كأنه المتماسك فينا والمتناثر حولنا، ذلك الموحلُ في شتاءاتٍ لم يباركها الرب، الهث قليلاً لنعرف طعمك الغامض، الهث قليلاً لنعرف حجم القوالب التي يصنعها الأكراد منك
يا حكمة ملوثة بمياه الآبار والقش، ماذا سوى بيوت هشَّةٍ وبشر يشردون كلما رأوا خريطة.
غابرٌ الميدي، متعالٍ على بكائيه ونوَّاحيه، غائصٌ في تراتيل الشعوب وملوَّثٌُ منذ الخليقة بالدم وطعم المجازر.
اقترب من الفضيحة التي أرتبها، اقترب من شخوصي المنكوبين والمقتتلين على مسرحي الصغير
(يقترب)
يا تراب لقد استدرجتك إليّ
اخرج قليلاً من كلامي
اخرج إذن.
لقد طمرتني.
حتى لو كان حدودياً، حتى لو تموج قليلاً وركد، حتى لو أكل اليابسة شتاءً، فنحن الماء، بداية ارتطام الذرات ببعضها البعض ومأوى الأسماك والنقيق الآدمي.
حين يأخذ الرمل عشيقاً آخر وتبتعد الشواطئ عنا نحزن، ثم نبكي بفم مليءٍ بالحصى.. ونفيض، زهونا الهواء، زهو رقدتنا الأبدية، حليفنا الحائم والمنسل بين الغلاصم معنا.
نحن الماء، وقريباً تنتسب إلينا الأطراف كلها وفينا تنتحبُ.
نحن الماءُ، وقريباً تقتل فينا الأطراف كلها وفينا تنشق عن بعضها وتنفصل.
نحن الماء، ننفجر فتطفو الأطراف على الزبد.
يوم جلست الأطراف على المنصَّة وتبادلت الأدوار، فهتف الطرف للطرف والشق للشق
كنا نصغي ولم تكن لزبدنا رائحة غرقى قريبين، لم نجف بعد ولم نتوقف، ها نحن نقطع الحدود مداورين على السدود الكبيرة ومقتلعين السدود الصغيرة، ها نحن بعد كل هذا التعب وبعضنا المهدور على الضفاف.. نصبُّ في البحار.
كما رقص اليزيديون حولك، وتحلقت الأعرابُ حول الشي الحيواني وشرب الإغريق خمورهم، يقف الكوجر الذاهلون، كوجر الهواء والجبال المائلة، بردانين ينظرون.
يعلنون لكِ بردهم ولي، أنا الرافسُ شتاءات عمر، وناهرٌ لأمطار كانون، أنا الذي أطحت ببردي وصحت احرقينا، فما جدوى المهزلة دون حريق؟!.
احتضري على رقعتي الصغيرة
يا حوارنا المرتبك عند الاقتراب، بأيدينا المشقوقة نعلنك تاج ملوكنا، شخوص أهوائنا البائدة في التاريخ
أقف مرًّا أمامك
لا أستعيد سارقيك
ولا حكايات الشعوب عنهم
كأنني بوغتُّ بكِ
كأنني شممتُ ما يشبه الحريق.
*****
حيثُ أنا على رقعتي، أقنع الشخوص بي، أستدرج الثانويين إلى مسرحي وأعلن فصولي المنكوبة، حيث أنا، حيث الأحزاب تنظر إلي نظرة العارف وحيث يترفع الملوك عني.
هيأت الخشب الساقط من مهرجانات قديمة وأدخلتُ حكايات الله المذهلة، خشبي المتربع عليّ، الآكل رأسي وأطرافي، يرهِّل جسدي ويعلن إيقاعه الصاخب.
فلتكن الستارة حارة، فتلك نبوءتي وكما يليق بالأجلاف صفِّروا، احتشموا في المشاهد الحزينة وصفقوا للعرفاء.
يا حسابي، يا حساب اليوم الأخير من سنتي، قنصٌ ذلك السؤال، قنصٌ يا رب البرية والغزلان الجفلانة من صيادي مسرحي البائد.
بائدة أهوائي وشخوصي بائدون، منسيون في الكواليس وثانويون يتوسلون دوراً
يالأدوار أمنحها أنا
يالشخوص أرتبهم أنا
ياللمشهد يبدأ بإشارة مني
ياللمهزلة.
غابرون، هزمنا التراب والحجرُ تحت رؤوسنا
غابرون، جاء أناسٌ وأخذوا أماكننا
وما نظروا تحتهم
وما انتبهوا لاستغاثات جثثنا العظيمة
متراكمون صدأً على الصدأ، نتحين رسولنا إلى الأرض
وننسيه حماقاتنا بالهدايا والغنائم
غابرون.. ودود قبورنا لا يدلُّ علينا.
هواءٌ لكم، تباعدوا قليلاً واسندوا سقوطي، هواءٌ لكم، تصلون لسمائي، تفرقوا قليلاً ورتبوا كلامي، لا الممالك القديمة تعتق الهواء الذي مرَّ، ولا الدول الحديثة تقمع الثورة التي تحتي.
هواء لكم، كل قرنٍ أهيئ لكم البلاد وأنتم بالدول البائدة غارقون، كلام مدهش لأميركم الطاعن واللاعن أباه، أوراقه لا تسودها عروش، كلام البرق للرعد، يهيئ ذروة لنتزاحم عليها، كلام الغيم للأرض، مساومة على مطر قد يكون، منذ أن بادت الأرض صار للصحارى طعم احتراسٍ ونكهة ذئابٍ لا تختبئ، منذ أن بادت صار لنا طعم لغة سرية تشطبها المدارس ويدونها الهواء، لن تأخذه ورقة ولن تغيبه ريح إلا وللمنصتين أثر فمه الأرعن، لن تميل رقبته إلا ولكم أفق التفاتته، حين تستيقظون وتحصون ممالككم، حين تستيقظ الريح على غيم يستدرجها لشتاءاتكم، حين في صفيره الغامض تترنحون، وقتها ياملوك العراء سأهدهدكم وأحكي لكم عن أباطرة خذلتهم تيجانهم وعروشهم ذات يوم قبل الميلاد.
ـ وها نحن جالسون وأنتم واقفون.
يا ولد اقترب من الملهاة قليلاً، سألبسك قناع الواقفين، تمدد على الطريق ذاتها واحذر المارة.
ـ حذاء يلمع وأنت ترى وجهك فيه ـ
ماسحو الأحذية يلّمِعون الهواء، تخرج أنتَ حكمة مطأطئة، ذريعة مصبوغة، وأحذية تلمِّع وجهك
أجوبتك كلها صندوق صغير تنام فيه.
فلتكن كراسيك أخفض واقترب من منصتي، سأجلبُ لكَ إغماءاتِ زبائنك تحت الشمس، سأغريك بمسرحي
على مسرحي سأجعلك تمسح الرؤوس.
قامة الليل، مكللون دوماً ومنسيون على الحدود، أقترب من شخوصي المرتفعين وأنادي: جودي، جوووودي، فيلتفتُ تاركاً لثلوجه حسرة العراق وحذر الأتراك، جودي ويلتفتُ مودعاً فيَّ حنان التفاتة الكبير، قامات طويلة، صمت لا يوازيه كلام، وصدى لطلقات حرس الحدود، انتشر الله في شخوصي المرتفعين، ضاع المهربون بين المقاتلين والمقاتلون بين الجنود والجنود بين الأهالي، بينما الحدود تصف لشخوصي مكانها.
قامات تلتصق بالماء وتحكي للهواء عن المهربين والسياسيين الأجلاف خلف شواربهم المنكّسة.
الجبال المرصوفة فوق بعضها، المزهوة والخجلة من بعضها، وحدها تعرف السهول، وحدها ترى الجهات وأشلاء دجلة وفيضاناته وتصمتُ، خذ الثلج فترى كيف تذوب، خذ البغال المنفجرة بالألغام وأكياس التبغ فترى كيف تحكي، خذ علوّها فترى كيف تمتد وتمتد حتى تلمس الله، قامات حتى السماء، قامات ترى المكان وحدود المكان وتصمت.
الحدود
حيث العسكر والألغام، ناسٌ يقفون بأصواتٍ أجنبية وأفواهٍ مفتوحة ينظرون، حيث دون بطاقات شخصية ينتظرون الله ليتعرف عليهم، دون بطاقات يتجولون في المدن ويتركون للشوارع رائحة جنسياتهم الغامضة.
.. دون بطاقات يأكلون، دونها يشربون ويتزوجون، ملطخون بالحدود حيث الله يجهل رعيته وحيث الرعية تبحث عن إله مكلل ببطاقة شخصية.
وحدكِ ياحدود تعرفين الذين ماتوا مجهولين من الحكومات، وحدك تعرفين أسماءهم المحفورة على عظامهم وأصواتهم المدوية في الأعماق، وحدك شاهدت الذين انفجروا مع دوابهم ولم يتركوا عظمة تدل عليهم، وحدك تعرفين اللحم الذي تناثر في الفضاء والدم الذي سال من الخراف والماعز المرتبك عند حواف الجبال.
الذين دون أسماء تحزَّبوا، دون أسماء شاخوا في أحزاب تتناوبهم، رجالٌ ملتفحون بأشباههم خلف الحدود.
نساء مزهوات بجلافة أولادهن.. هناك.. حيث كل شيء للحدود، حيث كل شيء يضيع على الحدود، حيث يترك الرب رعيته للذئاب وحرس الحدود، هناك، حيث دون بطاقات يموتون.
أقنعتنا باحتمال الهبوط، أقنعت سنيننا الهاربة من القحط بنبوتك، سيد تشير لك البوصلة، شاهدة صغيرة تميل عليك،
زنديق مختبئ في لحى الشيوخ المصبوغة بالحنّاء وعربات يجرها بشر بدل الحمير، كأنك منشق عن شعبٍ قديم وأغانٍ مرتبكة، سيدٌ ولوقفتك رائحة العشائر الغابرة مهزومة جيادك وأغانيك، مهزوم وقتك الراقد بين "ديرسم" و "آمد" وهو ينتظر اسمك المدهون بلكنة أبنائك، سيد ولرجوعك لون المذابح، ها بسملة الهواء لم تبدأ باسمك، ها اللحى لم تشبه كلامك، وأنت مغرورق بالثورات واحتمال عثورك على قبر الشيخ سعيد.
سيدٌ ولوقفتك لكنة تروح وتجيء وتختلط في الجهات.
ما خذلتك الحدود بعدُ ولا الجبال، ما خذلتك، ريحُ الشمال، ولا رائحة المجازر المتكئة عليك.
يتقدم السافل مدججاً بذل العراق
يتقدم السافل مدججاً بصمت العراق
ثم يهرَقُ الريش على الصخور وتنعق الغربان فوق الدماء
جهة تستمد سوادها من العراق وعبورُ أخيرٌ للقتلى المؤجلين إلى السماء، قريباً من الجهات المتدحرجة صوبنا، قريباً.. حيث نغتسل بدمٍ نعرفه.
جهة
متآكلون، وأبطال الملهاة ينتظرون، ثم تجيء الأفاعي مكللة أكتاف "أزدهاك"، تتقدم الحاشية مودعة فيه يقين الرؤوس المبتورة وشكوك الجبليين المنتظرين.
تتراجع الأمبراطورية عن شاهها، ويتراجع الجمهوريون عن عامهم الوحيد، ليتقدم الربُّ في هيئة آياته.
اكتبي يا تماثيل تنخر بعضها بسوادنا وذهولنا، ترنحي قليلاً إذا باغتناكِ، وأنتَ.. سيد الملهاة.. احزن قليلاً فما زال ورثتك حزينين.
ياإله الميديين حدِّق جيداً، يا إله الفرس اسمعني
يا إله المنصة تعذَّب قليلاً، تململ واقرض أظافرك فلم تبدأ الملهاة بعد ولم يأت سيدها
"قاضي محمد".. أحفادك ناموا على الهزيمة، فلأكن ومسرحي حذاء لكَ تلبسنا وتتمشى في الجمهورية القتيلة بعد عام، فلأكن ومسرحي شخوصاً لك تحركنا حتى المشانق.. آااااخ
أي جبلٍ كان ذلك الجبلُ؟
أي شعب كان ذلك المسور حدودك؟
"قاضي محمد"، ماذا فعلت حين تقدم الجنود وتراجع البرزانيون إلى جهتهم؟
اكسر الجمهورية إذن
اكسر المقصلة بجمهورية المجانين وأنصافهم
اكسر الهواء
برئة مدهشة
اكسر العرق بالدم واشرب
فما جدوى موتك الآن، ما جدوى اللوريين وحيرة الله الأزلية فيهم؟
اكسر الشعوب بذلك الشعب وأشربهم حتى جمهوريتك.
أسمع البلاد، أسمع المقابر وأرتمي عليّ
كانت التيجان تتبارى في العلو، كان الأسود منتصراً وحاملاً غنائمه من الأوسمة والجنرالات والخونة، وأنا الأقل خيانة سأكفّر عني وأسردهم، أنا المندهش من خنجري، أكتشف شعوباً تكاد تذبل فيَّ، لم أكن سواي، ولكني سقطتُ عند أول ممثل في لعبة الأدوار وشغب الشخوص، فليكن الحزن سيداً في مسرحي، وليكن خاوياً من الكلام، حيث من فوقي نادمون أبداً، يتساقطون جارفين معهم الجماهير المحتشدة تحتي.
ولم يكن ربي تحتي لأنني..
ولم يكن ربي فوقي لأنني..
أنا الرب والملائكة والرسل وعبادي
أنا الشيطان وزمرتي وفرائسي
كيف سأعرفني
كيف أدهش الأرض بدورة معاكسة.
البلاد
حائر في البداية عند أول المحتشدين تحت المنصة، يبدأ الخطباءُ..
ياللهواء الضائع في فضاءاتك، ياللماء المسفوك على ضفافك، كأن الندابات ينتحبن عليك، كأن الساحرات يتحدثن بشأنكِ.
البلاد المرتكزة على أصابع الأب تنهدُّ قطعة قطعةً
وها أنذا نديم البلاد، ومحذّر قراها من البرعش والبعوض، وها أنا سليل البلاد أقف عارياً من البلاد.
جاؤوا من خلفك ولم تعرف كيف دخلوا، كانت لهم رائحتك ذاتها وشقوق يديك ذاتها، لكنك استغربتهم، وفي ظهيرة حادة اكتشفوك، مالوا عليك وأخفوا ظلك.
وضعوا ليديك إشاراتهم ولفمك كلامهم وأطلقوك، ربتوا على كتفيك، مالوا عليك فأخفوا ظلك وأخفوك. بملامح مثقلة بالموت.. دفنوك، وكما يليق بشهيد.. شيعوك.
***
الذين أهدروا أصابعهم في رسم الخريطة، أهدروا وجوههم في التقاط الصور.
قل يا رب الأحزاب المتناوبة على خشبي
قبل أن تدور الأرض عكساً
قبل أن أتمرغ في الوحل وأعلن هزيمتي.
لذلك تعالت الحدود عنّا، تراخت المدن، والتواريخ رفضت أسماءنا، من أعلن أن الأرض ستطمرنا وأن أحفادنا لن يليقوا بالحضارة المقبلة، لقد اهتزت البلاد في الجهات الموروثة عن الأحلاف الغابرة.
ـ ذات يوم شتمنا البترول وآبار كركوك المفاجئة.
ـ ذات يوم عرفنا أن الذي داعب شعباً فوق الموائد طعنه تحتها.
كنا نعرف كيف نخرج من مجازر كبيرة أو صغيرة مبتسمين وعلى وجوهنا صورة قريب أو صديق مُ بَ اْ د
كان القتل سيداً، والمكان يغص بالعسكر وأسراب سنونو أغراها صحو المكان باحتمال المجزرة
تساقط أناسٌ لم تكن لهم إطراقتنا عند كل نبأ حزين
كلما دنوتَ يا شعبُ من مجزرة غافلتها ورميتها في حفرة عابرة، كم مرة مُلتَ على نفسكَ وأنت تذكر كيف لهثتَ من "آمد" وسقطت عن جيادك عند أول صرخة ارتطمت بأسوار حلب وما عادت، كم مرة يا شعبُ مُلتَ لتلتقط نفسك فما التقطت سوى الدم ، كم مرة يا شعب أفلتت عليك كلاب مجوعة وكنت بين أنيابها تتناسل وتولد.
أوراق الريح المبعثرة في الدم السائل، أوراق الريح المكتوبة بأسرار القتلى على حافة الحرب، كوني فسحة، واحدة للخراب وأخرى للأنوثة المضطربة في مزاجكِ.
واحدة للأسلحة التي غادرت إلى الخصوم.
في الحرب يموت الجنود وتعيش الكراسي
في الحرب يموت البشر ويعيش الله
وها أنا أدبر صدفة للتعرف عليك.
الحرب حرب، ولكننا نريد هدنة
هدنة مدهوشة من جلافتنا
فلتكن الهدنة إذن
فتلكن ميقات توقف مريب يا حربُ.
هدنة أخرى يا حربُ
لأذرع الجنود المفقودة
فقد تجلى خصومي الآن
وحكمت بيننا بالموت
هدنة أخرى إذن
كي نموت فيها.
في سورة الموت الكلماتُ تتحارب، في أسرار الأرض تستفحل الكراهية وتدق الطبول وترتخي المزامير في الأفواه، ثم تشتعل، تغري الجنود بالحياة فيهجمون والموت حلم الحرب.
ـ لا تبتعدي يا حرب، سأجلب لكِ دماً كثيراً للزهو، دماً كثيراً لترفعي رأسكِ فخورة أمام الله.
والدمِ.. أوقفوا صراخكم قليلاً فأنا أكتبُ
ما لن يحدث، هذه فسحتي، فسحة أهوائي
الباطلة في وقفة الجنود الأجلاف الذين ما ضجروا
من الموت بعد.
كي لا تكون لنهايتي قفلة الهدن، أكمل كلامي، أغالي في الوصف وأعبر بأسراري الألف فأنا الحربُ، ما عاد البشر مسالمين فيَّ، وما عاد لدفتري حبر الدم المرتجل عن الأجساد الهزيلة، ها أنا متقدمة وخلفي غبارٌ ينبئ بهدنة قادمة.
وحتى أثق بمكاني الصغير، أستدعي الأقنعة المزركشة بزينة المهرج وأنفه المكوّر، أدنو من الجماهير تحت منصتي وأعلن نبوءتي.
ـ كأنهم يصدقون الأقنعة ويكذبون الوجوه ـ
كما هم دائماً، صنوف الجالسين تحت موائد الخطباء، الآذان المنحنية للسان الحائم كالسوط، والبلاد الغبية فوق منصة الحكماء، سيدة الإصغاء، سيدة الأناشيد المبتذلة عن أعوام تشبهها، سيدة الرقص الخليع واستمناء ممتع بعد كلام القوالين، الجماهير الغاضبة واللاعنة أعواماً لم تلسعها جيداً بسياط الحكمة الربانية، الجماهير المتساقطة من الجرائد والمحتشدة في صفحات الإعلانات.
أقتربُ طفلاً من بيته، مهرب الهواء من دولة لأخرى، مهرب أحزاننا وعويل أشباهنا خلف الحدود، مُدَاهماً بقبعات الشرطة المدورة، مداهماً منذ الولادة بطلقات العسكر.
نلمحه ليلاً خارجاً من بيته سراً كما دخله.
ـ يذكر الجميع كيف سرق سيارة الجيب الحكومية إلى تركيا، آخذاً معه لهاث الشرطة وعويل السائق المنكوب.
رجال من نسائهم، بجلابياتهم البيضاء الناصعة وعقالاتهم الأنيقة، يدخنون في الخيام ويقتلعون أوتاد بعضهم عند أول شجار، رجال من نسائهم، يعملون أزواجاً لنسوة يحمن كالنحلات في القرى، ويتباهون بحزاماتهم الرابطة مسدسات وأعماراً متكئة على أفواه فاغرة لنسوة فاغرات أمام أبوابنا.
غجريات يستعمرن مدننا الصغيرة بأسنان الذهب وبضائعهن المكتسية بشبق إلهي، بينما تقف سطول اللبن يائسة من مساومات أمهاتنا الثرثارات، وللغجريات ضروب الأنوثة في مخادع آبائنا وانشغال ربّاني بترتيب الأجنة الخليطة في أحشائهن، زرقة الوجوه الداكنة المنشغلة عن المرايا بالتجارة وصناعة أسنان الذهب وبيع اللبن واحتمال أعضاء آبائنا الشبقة، كم كان الغجر عارفين بأحوالنا، كم كانوا مزهوين بذهب يلمع في أفواهنا، فتلكن للغجر أسئلتي وعلكة الأشجار المطقطقة في أفواه أمهاتنا وأخواتنا طيلة النهار.
عينٌ على الخسارة وسقوط مدو، كذلك كان المهاجرون بعربات الخشب وأوتاد الخيام، لهم كل عبور فما من فضةٍ ستعلو على رنين عرباتهم، وما من صخبٍ سيقتحم غبار وجوههم.
بوجوههم الجامدة يغمزون الله ويسألون البيوت عن طعم سكوتهم، المهاجرون من الثورات الفاشلة وزعماء الحركات والعشائر والطوائف، كانوا حزانى فلم تنظر إليهم الشمس ولم يرمِ الأطفال أسنانهم إليها كي تبدلها بأسنان غزال، عين على الخسارة وأخرى على المهاجر وهو يرمي وطنه إلى الشمس.
إذا احتكمت للبياض الأول
قلتُ كيف الهواء الباقي
لقد سقطت جحورنا في الجبال
أغمدت صوتي ـ إن الفم غمد مستحيل ـ
هيأت ما تبعثر من هواء و أضرمته بالأجنحة
ستبدأ المهزلة وعلى الحجل السلام
من يذكر قامات الصيادين وهي تستحلفني ألا أسرد
ها قد تبللت بالمطر الذي لم يهطل بعد
ها قد اكتشفت علوي.
وبعد، أما آن، كل الذين سبقوك إلى الفخ ساقوك إليه، كنت تعدها حفرة حفرةً وتسقط وعند آخر الحفر تردم، أنت الرفرفة القصيرة، يريبك الدجاج والبيض الآمن، لا ذبح في كواليسك ولا ألفة تغريك بالسياج.
إنك الحياد العالي، لم تبنِ أعشاشك كي لا تنهدم، فتحت أجنحتك على عشائر ومفاوضات، لو أصلك بغير هذه الريح، لو أدور حولك ولا تنتفض، هل ينتقيني المكان حليفاً للريش وسارداً وحيداً للفضاء؟!..
ـ اقرأ، باسم الهواء الأليف.
ـ ما أنا بطائر.
ـ اقرأ باسم الريح التي لا تواتيك.
ـ ما أنا بطائر.
باللهاث الساخن اقرأ، بالجناح القصير أو رفرف حتى الأزل، ارتفع.. إلى بداية الريح، لقد أشعلت المساء باللون الشبيه وأشعلتنا، رفرف إلى الحنين العالي، إلى الهواء الذي يشمك فأنت ربيب السفوح الآن، ليمتزج بريشك الهواء، إن الظلال التي لا تشبهك لا تطير.
رفرف واحذر الأرض
إن الحجل على أشكالنا يقع.
حجل بداية القصيدة ينبئ بالأجنحة
وعلى مشارف اللغة يمتزج بالريش
حجل تحت أعمارنا يهيئ للجبال قفزتها وبين أشجار السفوح حجل،
ـ تقف أنت مكتظاً بصيادين أخفقوا فيك ـ
إنك البسملة الأخيرة لسورتنا التي لا تبدأ
الرئة الثقيلة خلف لهاثنا
تستبيح السفوح موطئاً لفخاخ الصيادين
بحكمة الصياد المترف تبدأ المهزلة
حجلٌ إلى الفخ يستدرج حجل.
كان الهواء طازجاً لم تعكره الأجنحة، قلنا بريشة تبدأ القصيدة وتنتهي بدم، من يصفق للأرض يطر عنها، ومن يلوذ بريشه يذق الهواء، لقد غدت القصيدة في الفضاء.
من علمنا لغة الزغب والدحرجة المهدورة للجبل الوحيد، صحنا يا لهاثنا المطوي على جنازات راكضة، هل ستردم المساء بوقتك الخاسر، ها قد أغمضنا عليك وفتحنا جناحنا الباقي للفضاء، إنك تشعل الصيادين الآن، وننتظر خلف لهاث صدئ، لا رمح يسد جرحاً عتيقاً ولا شعوب تنتظر حريقها المعتاد، فلنحتكم، بأي لون يريد البشر وليتلون الهواء، لتكن ما أسرفنا فيه.. إمبراطورا للسفوح وأميراً يتهادي تحت ريشه.
أهدرت منقارك بالديدان واحترت بين أقدامك والأجنحة، مشية مريبة لطيور تهادن الأرض.
ملك تحت أوراقنا، رأوك غريباً فهربوا إلى مكانٍ يجهلون.
اتخذك شخوصي كلاماً لهم وأنتَ راقد منذ البيوض الأولى مكللاً بدهشة من رآك، تخرج القرى، والتين اليابس وحليب الفجر منك، ثم يغمدونك في الفراغ ـ عار من الغمد أنت ـ.
هذه مملكة التين، تحولات العنب إلى زبيب، إمبراطورية الحليب الباكر، منذ حجل تمطى على السفح وأعلن الريش بأجنحة قصيرة، خرجت العربات معلنة توبة الماعز ونقار الخشب بجياد من علف وصهيل، والحدادون استغرقوا بأكوارهم شعوباً زائلة، والملوك يبدأون بالصولجانات ولا ينتهون، والملوك ينامون على وسائد لا تنشق عن ريش، ثم يسمون الحكايا الشعبية سوداء ويقلونها حتى تحترق، قاماتنا تلتفت إليك وتندبك، لم يكن جناحك طويلاً كي تمزق الهواء، لم يكن لمدارجك الأمان لتضع بيضك دون أن تنقره، لم تكن لأجناسك ضراوة براريك فدهشت لدجاج البيوت وضحكت كثيراً من الديكة الشبقة، لم يكن لك أن تثبت على الجناح أو القدم ففرَّ منك الفضاء والأرض لم تلامسك، فلتكن لهوائك سطوة الزغب ودخان البيوت.
III
هذه لعبتك أيها السارد، وما المقتتلون إلا شخوص غامضة، هذه أحابيلك أيها الرواي والمسرح لا يتسع لأكثر من العناصر وهي تحتضر.
آه أيها السارد، كم بكيت على لعبتك وهي تخبو مع شخوصك، وكم عليَّ أن أدعك تكمل القصيدة، أيها المنهزم الوحيد في هذا الفضاء، أيها الغائب في متعة الأدوار أكمل إذن.
فأنتَ من ترك الثانويين يصعدون الحلبة
1
طارئ أنا على الخشبة وطارئة شهادتي
عارض سؤالي لهذا الاختلاط وعارضة أهوائي
غير متجذر في شيء كي أوقف المشهد، كي تستمر الشخوص على غير هذا المشهد.
باردٌ كما ستار مسدل، ما قلتُ إن دماً تسرَّب خلسة كي يرعب الجماهير، وما قلتُ إن خدشاً صغيراً تحت هذه الأضواء شوهد طعنةً، ما قلتُ ولكني وطَّنت الوشاية في جسدي، وهمستُ للطواحين عن هواءٍ لن يمرّ، همستُ للغجر عن أكوام فضة ورنين، وللأرمن عن لكنة الغرباء في كلامهم، قلتُ للهبوب المؤاتي للحكام والطوائف عن ارتطام الغبار برئات صلدة.
كل هواء هوائي وأكاد أختنق.
كل ماء مائي وأكاد.
ماالذي اختلط على مسرحي غير الفراغ، من أيقظ لعبتي من سكونها الأخير؟..
أيها المشتت ريشاً على مسرحي أعدْ لمنصتي خشبها البائد، أعدْ لخشبي دوده اللئيم. أيها المكسِّر أجنحةً على خشبي دعْ لوجهي بعض مائه ولقبضتي بعض التراب.
غوايةٌ هذا الدم، وحبرٌ ما سال من قلوب الشعراء وهم يدونون ما يحدث، أيتها الريح المصفّرة في قلبي
من قتل العناصر على مسرحي وأضحكَ الجماهير؟!
2
كما نعتاد دائماً، نقف مذهولين من حكمتك، من ترتيبك الأزلي للحكام والملوك، دون ماء تسيل المجزرة على سواتر من الزبيب والتين اليابس، دون هواء تتنفس الشخوص الباقية رائحة الموت، دون نار تشتعل الحرائق في أسواري الواطئة.
ـ لن تكتمل اللعبة إلا بحربٍ تخرب الصالة على الجماهير، لمن أقول؟!..
دائماً لا أجد من أقنع بشخوصي
لا أجد من يقنع شخوصي بي
حجرٌ أنتَ أيها المتفرج
والمشهد ينقصه الدم.
3
مرة أطحن الهموم وعويل الأمهات وبنات آوى
كي تكون لألاعيبي سمة الصمت والهدوء المريب.
مرة قف أمام الحشد المتدفق فربما ينصرفون عن مشهدي إليكِ.
مرة قل إن الذي سال من الكواليس ما كان أحمرْ
وإن الذي مرَّ قرب أنوفنا مسرعاً لم يكن دماً.
مرة أقنع الأفواه الفاغرة بسوائلي الغريبة، هذه نعمتك
هذا دودك يا رب ينخر في الملهاة غير عابئ بنكبة أهوائي.
4
ما بقي من خشب لا يكفي للعبة كاملة
ما بقي من شخوص لا يليق بمشهد كهذا
وما بقي مني لا يستطيع سرد الرواية حتى خرابها
امنحني القوة يا رب
فصاحة البدو وشجاعة الكوجر
ذكاء الثعالب ورهافة الشعراء
امنحني كل شيطان وكل ملاك
كل شيء يا رب كي أنهي المهزلة دون دم
هذه الأشجار والزهور وأعشاب الربيع وعصافير الأرض كلها لا تكفي لنزهة واحدة من نزهات شخوصي
ترجل إذن يا رب من سمائك وليكن لكلامك طعم الأنس الغارق في وحشة الجن المنتظرين أمام بابي.
ترجل إذن ولا تقف حائراً مما رتبته، فمك فاغر وعيناك جاحظتان؟!..
لا تليق هذه الدهشة بعارف مثلك
أي خراب اكتمل كي تقف مندهشاً هكذا
أي سر خبئ عنك كي تقف فاغراً هكذا.. ياربُّ؟!.
هذه حشودك أيها الإله، هذه صحاريك وبواديك قابعة في الصالة، هذا كلامك يسيل من شفاه غريبة، تقدم معي إذ يتقدم المهاجرون محملين بأصناف التبغ ومدججين بثورات فاشلة ونهايات مريرة لقادة مريدين.
قلتُ احترس ياربُّ، فما ثوراتي بحليب يحمرُّ عند نهاية ثدي مترهل، وما شخوصي بـ "بَرْبَار" يقطفه الأولاد ويزينون به موائد الكبار.
احترس، وليكن لوقفتك طعم مراقب لخراب قاعتي عليّ
مرة اطحن الهواء
مرة أمسح الخطوط عن جسدي.
5
في ردهتي الأخيرة توقف الحشد منتظراً إشاراتي
في ردهتي الأخيرة بكى الحشد منتظراً قامتي وهي تعلو في حفرتي
في ردهتي الأخيرة أطرق الحشد وصعدت الندابات إلى عويل لا يليق بخرابي
وتهاويت
يارب
هذه عيون لم ترفع مشهدها إلا لتراها أنت
هذه جباه لم ترتطم بالحجر إلا لتسمع دويها أنت
هذه قلوب لم تنبض إلا في المناسبات والجنازات ثم توقفت طيلة العمر
هذه قلوب لم تنبض إلا في القبور
كأن ما سيهوي عليَّ سيهوي إلى الأبد
وما أنت برب حنون
وما أنت بمباركٍ لعويلي
قل لهم.. يا شخص الريح وإيماء اللاعبين لبعضهم إنني غير آبه باختلاط الجهات في مسرحي، قل لهم إنني غير حزين لاقتتال الشخوص وغير مستند في كلامي إلا لأهوائي.
أيتها الريح لا تعصفي بما يتكاثر من دود في جثتي فما بقي لي غير هذا، وسيكون باطلاً من يحيل دون ذلك، وما لأقسامي إلا أن تلم خنجري وصراخي الخائب..
هذا نزف أصابعي، حنون يهيئ الحبر اللازم للقصيدة وينشف، هذا ما يعتريني، فمن نسي أحاجيه في لعبتي، هذا ما حدث فمن تبددت روحه في شخوصي؟!..
للأدوار كلها، عبثاً ألملم أطرافي
عبثاً أتذكر دماً سال مني
كيف أعلن ذروتي
وهل من متفرجين؟!
6
وقبل أن تصفق الجماهير يدخل الغجرُ مشمرين أثوابهم لأجل حرب صغيرة، وتحتهم أرطال التبغ وأصناف العطور والخناجر، ثم يحشرون في أقصى زاوية من مسرحي البائد. ولا تفوتني عذوبة الكوجر ونسائهم المائلات بطولهن إلى شرق غابر، وللكوجر قلبي، وللكوجر آلهة من الصيد والهجرة والقرابين، وللكوجر "خمسة عشر ابن عم لي يُذبحون قرباناً في نهاية المشهد".
حزن لك إذن يا ابن ستارتي الغائبة في هذا الركام
حزن لك وأنت مغمض عن خراب يعتريني
حزن وأنت تراني أعبر حتى نهاية الأسرار والكلام
ولا أسرار تحتي، ولا كتابة كي يدونها المؤرخون، لا متسع للعبة أخرى فوق شطرنجي الغريب، فلا أحجاري أحركها، ولا أحجار خصمي تحرك هزائمي.
حزين وواقف منذ البداية على باب المهزلة أهيئ للجماهير دخولاً حميماً.
7
قولوا للغجر الصاعدين اللعبة أن يرجعوا، قولوا لأثوابهم الناصعة أنني مخطوف قبل البداية بترتيل أسمائي، ولكنهم ما قالوا وما ردعوا الغجر الصاعدين، وما همسوا لفصول تنشد شخوصها قربي.
دماً.. فسكاكينهم غير كافية لإعادة أبطالي، والوشوم الخضراء على أنوفهم وذقونهم لن تعيد الاخضرار لما يبس في حكايتي.
وما قالوا شيئاً لأسنان الذهب البراقة وفساتين النساء المحملة بالأولاد، وما قالوا شيئاً للذين نصبوا خيامهم وعندما خذلتهم العناصر اقتلعوا الأوتاد ولمعت أسنانهم وخناجرهم،
من هز كل هذا السكون على رقعتي؟!..
من هزم الغجر ونحاهم على طرف المنصة؟!..
منْ لَمَّ الحروب والمجازر وراء الآشوريين والأرمن ورماها على مسرحي؟! وما قالوا شيئاً للوافدين الجدد والجماهير المصفقة لشخوص لم تكن في حسبان أدواري.
8
رتبوا ما شئتم، ما لا أشاء، فأنتم أسياد اللعبة الآن، وما خرج من يدي لن يطير من مسرحي، آه من فجأة لن يتوقعها شخوصي،
من العناصر وهي ترقب الأحزاب الداخلة من الكواليس والملوك المحتلين الخشب.
من الأرمن والآشوريين وهم يدونون حجم الدم السائل خالعين الملهاة بخنجر من رقص وملامح ثقيلة.
لكن الصاعدين ليسوا بأبهة الذين قضوا على رقعتي..
اسألوني، فأنا الذي رأيت الباشا الأعمى محاصراً بجيوش العثمانيين، وأنا الذي رأيته معتصماً براوندوز، وأنا الذي حفرتُ قبره ووضعتُ ما تبقى من سلالته فوق كرسيه القلق، لأنني لا أريد شيئاً يا رب سوى أن تكتمل لعبتي كما أشاء، أن يتصافح شخوصي قبل الستار الأخير أو بعده، فماذا عليَّ يا ربُّ وقد جاء اللوريون مندهشين من زوال المشهد، ياحيرتي، ياسقطة اللوريين وأشباههم في حيرتي، ويا جدواي عند الباب هازئاً من غليان شخوصي.
صعد اللوريون، وعندما رأوا الجثث احتاروا من يوقظوا
تقاتلوا واستلوا السيوف، ثم تعبوا..
وعلى رقعة من الخشب وضعوا رؤوسهم وناموا.
وها أنذا في أنحاء الولاية منتظراً مع الجموع عودة الباشا الأعمى من استانبول وها قد مضت خمسة وثلاثون عاماً وما عدت أيها الأعمى.. أيها الأعمى.
9
وذبح إبراهيم كبشاً عظيماً قرباناً فلرادة النبوة العائلية
وذبح الحداد أكباشاً عن السلالة المختبئة في الجبال.
كوني يا معادن مطرقة للحداد يلوح بك كما يشاء.
المدجج بحرس نعسان، المكلل بتيجان أوسع من رؤوسه
مداهمُ الشوارع بالأسيد وعظام المساجين المسحوقة
اختلطت السماء فوقي، ولم أعد سارداً مدهشاً وأميراً عابراً للملهاة.
يا أصابع الملوك اخرجي منا فنحن موتى ولا مجد لأحد بإهانتنا
لا لذة في مداعبتنا
نريد بلاداً كي نضيّعها من جديد
10
أرقد على رقعتي الملوثة بحشود مهترئة من الكتابة وتدوينات المؤرخين.
ماذا فعلتُ كي ترجموني بكل هذا المشهد؟!..
إنني باهت وخوف مسرحي أن يهربه "محمد بنفشي" إلى بلاد لا تفهمه، باهتٌ وخوف مسرحي أن يُحسب على قوم سافرين،
ذلك أنا، متبلور في شظاياي، فجّ في قساوتي ولمعان زجاجي الكتيم.
يا للمواشير العاكسة عيني
يا لعيني الراقدة منذ الأزل على بداية المشهد
لا ستار لمسرحي، لا ستار لفضيحتي الحافية
مسرحي لا يمدُّ قدميه لماسحي الأحذية، يمشي حافياً وسط الحشود الحافية، ويغمز الصغار بقلبه الخشبي المكوّر كبيضة سرقها "مستو سعدونكه" دون حذر.
11
موجع ذلك العراء و"خانو" ذاهل مني، وخانو لم يعرفني، نسي أصابعي وكرتنا الحجرية، لا حيلة للمهزلة دونك، لا حيلة لعمري دون طفولتنا البعيدة.
كن ظلاً للرقعة، كن عشاً من أعشاش مسرحي أستريح فيك كلما تعبت.
على رقعتي سيسيل العرق، عرقي أنا، سقطاتي وارتفاعات يدي المسكينة أنا، غير المباهي بذريته البائدة أنا، الشيطاني، المرتبُ، المخادع، والواقف منذ الخليقة على الناصية، أريد ديكةً ودجاجات للنزاع عليها، مناقير حادة وأصوات ترتفع في الهدن الطفيفة في حلبتي.. أنا
كم رقدتُ في مكاني، كم انهلتُ على جثتي كتراب
وكم تمردتُ على قبري كميتٍ طائش
لا ذراع لي كي ألويه، لا فم لي كي أخرسه
يا لمسرحي إذن، كم سيتعذب من أدوار تقتتل فيه، ثم يسيل دم حقيقي، دم لم أهيئه من عصيرة البندورة أو الكرز القاني.
دم له تهيئة الآلهة من أكباش ذبحها نبي أو حداد
دم من شخوصي المتعبين من قاماتهم
دم حقيقي من شخوصي الضجرانين من وقوفي الطويل.
12
كم أريد لو أدفن هنا،
فيمتلئ فمي بالتراب، فلا أصرخ ولا أصيح، وتجيء الملائكة وتنهر عظامي، كم أريد لو أدفن هنا، فيسيل من شفتي الشكر لمن منحني كل هذه المهازل وكل هذا الكلام
غير آبه للجماهير المنتظرة نهاية الملهاة وما يدور تحتي
فليخرج اللاعبون إذن
زائلون، شخوص الممالك الزائلة في احتضار آخر ريحٍ على ما كانت منصتي، كي تضيق صالتي عليَّ مكسرة عظام الجماهير وعظامي.
كم أريد لو أدفن هنا.
كم أريد...
من 1987
إلى 4 ـ 4 ـ 1989
قامشلي ـ حلب ـ دمشق