محمد الحجيري
(لبنان)

كتب مذبوحة بـ "سكين" أمين الباشا.لماذا تخاف الأنظمة والمجتمعات العربية من الكتب والكلمات؟ نطرح هذا السؤال لأن ثمة الكثير من الكتب التي لا يُسمح ببيعها في المكتبات اللبنانية. قد لا تكون مختومة بالشمع الأحمر، لكن يُمنَع تداولها. إنها لمفارقة لا ندري كيف نفسرها. من هذه الكتب مذكرات الراحل أكرم حوراني ("العربي الاشتراكي" المعارض) وكتاب "الشخصية المحمدية" للشاعر معروف الرصافي الذي ذهبنا لشراء نسخة منه فقال لنا المسؤول عن توزيعه في لبنان إن نسخه قد "نفدت"، وإن "أوامر" صدرت بعدم إعادة طبعه، لأسباب قد لا تخفى على قارئنا. ان هذا الإجراء شكل آخر من أنواع الرقابة تنفذه الجهات المعنية نفسها الساهرة على كرامة الكلمة وحرية الرأي والتفكير والتعبير، ويجري ذلك طبقا لرغبات السلطة والمجتمع العربيين اللذين يتسلحان ب"الفكر الأسطوري". فكيف نقرأ توجهات المجتمع السلطوي ونوازعه وفكره؟!

يجد حسن قبيسي في كتابه "المتن والهامش" ان ما يصطلح الفكر الانتروبولوجي على تسميته "اسطورة"، هو عين الحقيقة في نظر المؤمنين بهذه الأسطورة. ولا يمكن فهم ظواهر التحليل والتحريم في الأديان قاطبة إلا من خلال بعدها الأسطوري. وكان قبيسي قد أشار الى غياب "الفكر التاريخي" (التاريخوي) عن ثقافتنا وحضور "الفكر الأسطوري" (الميثولوجي) في هذه الثقافة. وقد دُرست الأساطير في اعتبارها مصادر جزئية للتاريخ الشفاهي، وكمفاتيح للكشف عن القيم المجتمعية المهيمنة، وفي اعتبارها "ميثاقا اجتماعيا". ودرسها كلود ليفي شتراوس للتعرف الى البنى العامة فيها. من هذا المنطلق ترجم حسن قبيسي كتاب "محمد" لمكسيم رودنسون وأجرى نقدا مستفيضا لمنهجه المادي التاريخي في دراسة ظاهرة ميتافيزيقية، هي الظاهرة الإسلامية - القرآنية/ النبوية، قافزاً عن أبعاد هذه الظاهرة الأسطورية "مقدّما المعنى المغزى". وحين عرض قبيسي الترجمة والنقد على دور النشر استنكفت هذه الدور عن نشر الترجمة، مكتفية بنشر مقدمته النقدية وحدها، وذلك لخوفها وخشيتها مما قد يثير الكتاب من سخط وغضب (وكان الكتاب أثار ضجة في مصر منذ سنوات).

وما تخوفت منه دور النشر اللبنانية في امتناعها عن نشر كتاب رودنسون دلالة بيّنة على واقع حرية الرأي (!) في العالم العربي، ومأزق ان يقدم المرء دراسة فكرية مختلفة. نعلم جميعاً ما حصل لطه حسين بعد نشر كتابه القيم "في الشعر الجاهلي" وصادق جلال العظم بعد "نقد الفكر الديني"، ونصر حامد أبو زيد... الخ والأرجح ان معروف الرصافي كان يدرك ما قد ينجم عن نشر كتابه وسط النفير التقليدي فانطلق من مبدأ ان الأيام فعلت به ما فعلت فأصبح لا يقيم "للتاريخ وزنا" ولا يحسب له "حسابا" لأنه رأى "التاريخ بيت الكذب ومناخ الضلال"، ومن هذا القول نستنبط كيف ان الرصافي يكتب عن شخصية مقدسة بالنسبة الى ملايين الناس ويبيّن أنها من لحم ودم، ويطرد حضور الخرافة من حولها ويجعلها محسوسة.

الفكر لا الأسطورة

يقول الرصافي: "التاريخ بيت الكذب"، وهو "بيت بمنازل كثيرة" على ما وصف كمال الصليبي لبنان. وليس هذا الوصف محض نزوة كلامية، فهو دقيق دقة بحث الرصافي الذي يفكك التاريخ العربي - الإسلامي من اجل "الفكر" لا من اجل "الأسطورة".
نقول ان التاريخ العربي - الإسلامي لا يزال أسير تعقيداته، وان سديمه يرزح تحت ثقل الوهم المقدس، ذاك الذي يغتصب الوعي العربي - الإسلامي، بل يرميه في قاع القهر ويجعله أسير ماضيه. فليس في مقدور هذا الوعي مواكبة حاضره الحداثوي، وليس في مستطاعه استعادة ماضيه الغابر العابق بالنوستالجيا. هكذا يقف الوعي العربي وقوف الغراب، خائفا من التماس جوانب الحقيقة أو الخروج من القعر، أو التكيف مع متطلبات العصر والحقيقة.

ويبدو ان قرونا قد لا تكفي للخروج من القعر.
يكتب الرصافي كيف كان أهل الجاهلية في عهد النبي محمد أميين يعتمدون على الرواية في نقل تاريخهم، واستمرت هذه الحال (اعني الاعتماد في ما يقولونه على الرواية) بعد الإسلام الى أوائل القرن الثاني في عهد العباسيين، فلم يدوّنوا في الكتب طوال هذه المدة شيئا من علومهم التي جاء بها الإسلام، ولم يخطّوا في الصحف وخصوصا ما يتعلق بسيرة محمد، إلا ما كتب في الصحف في عهد أبي جعفر المنصور، الخليفة الثاني من العباسيين على يد محمد بن إسحاق، وهو لم يدوّن ما دوّنه من أخبار السيرة المحمدية إلا بعدما مر عليها من الزمن ما يزيد على مئة سنة. وكانت تلك الأخبار تتناولها الرواة وتلوكها ألسنتهم "فكانت موضع خبطهم وخلطهم، ملعب أهوائهم ومسرح تحزباتهم المذهبية والسياسية" (ص53). واذا كان التدوين يطرد الرواة، فهو أيضا ينتج السرد الذي يعيد تشكيل الأحداث المبعثرة في وحدة التاريخ ويمنحها الصرامة الزمنية، في تعبير الفيلسوف بول ريكور.
لا شك ان الخبر إذا تداولته الرواة، وطال سيره بينهم من فم الى فم، طال عليه الأمد في سيره وانتقاله بينهم وكان عرضة للتغيير والتبدل، بسبب ما يكتنف الرواة من سوء فهم وضعف في الحفظ وضيق وعي في الرواية المنقولة. والرواية، على ما نعلم، هي الوسط الذي يحيا فيه المعنى، وهي الأخبار التي يستند إليها التاريخ، صدقا أو كذبا. ذلك لأن الأخبار ينقلها متشيعون لآراء ومذاهب فيحرفونها عن أصليتها تبعا لسياستهم، وقد حصل ما حصل في السيرة المحمدية وغيرها.

للحقيقة وحدها

وما حاول الرصافي فعله انه كتب "للحقيقة وحدها" (ص 15) لكنه وجد ان هذه الحقيقة التي يرضاها، تجعل الناس تسخط عليه من جرائها. أول الأمور التي انطلق منها في الكتاب: "إنما الغاية التي يرمي إليها محمد من دعوته لإحداث نهضة عربية دينية اجتماعية سياسية، تكون عربية المبتدأ عالمية المنتهى" (ص21). والحق ان محمدا من خلال ذلك احدث أعظم انقلاب عام في البشرية، اذ بدّل مجرى الحياة الإنسانية، وما كان ذلك ليتم لولا عقليته التي فاقت العقلية العربية في ذلك الزمان "والتي تدلنا على انه ممن تغلب عقله الفطري على عقله المكتسب، فكان حر الفكر مطلق النظر" (ص77). فهو شديد الفطنة، شديد الانتباه لما يجري حوله ويشكل عزمه اكبر عامل من عوامل نجاحه في الدعوة الى الإسلام. كان واسع الخيال، و"أعظم دليل على سعة خياله وقوته ما جاء في القرآن وفي الأحاديث النبوية من وصف الجنة وجهنم" (ص95).
في كتابه "اللاهوت السياسي" يصف سبينوزا النبوة بأنها معرفة يقينية أو محققة. ويقينية محمد جعلته يكون قائد "ثورة" بامتياز. فهو بعد النبوة صار له أصحاب يؤمنون به ويمشون معه، وصار له أعداء يكذّبونه ويصدّونه عن طريقه. وشاعت أخباره وذاع صيته بين قبائل العرب حتى راح الناس يهتمون لأمره ويعنيهم نقل أخباره والتحدث بها في بيوتهم ونواديهم، وذلك كله بسبب قدرته الميديائية، إذا جاز التعبير. شأنه في ذلك شأن كل سلطة تتوخى نشر مبادئها في النسيج الاجتماعي. فالميديا تغرز الأفكار في الوعي، وأحيانا من دون وعي المرء.
يلاحظ القارئ في كتاب الرصافي كيف لفّق الرواة الأقاويل المتعلقة بحياة محمد قبل النبوة. أقاويل مضطربة وبعيدة عن المعقول، ذلك لأن محمدا قبل النبوة كان غير معروف عند قبائل العرب، لأن الاشتهار في زمانه لا يكون إلا بأخذ أمور ثلاثة: إما الجود والكرم كما اشتهر حاتم الطائي، وإما البطولة في الحروب كاشتهار عنترة بن شداد العبسي وإما بقول الشعر وإجادته كاشتهار أصحاب المعلقات. ولم يكن لمحمد شيء من ذلك قبل النبوة حتى يُشتهر به ويُعرف بين الناس. فلأجل ذلك رأينا حياته قبل النبوة غامضة كل الغموض، فلم نعرف عنها (أربعون سنة) إلا مسائل معدودة.

الكلمة تتكلم

طرح نيتشه في أواخر القرن التاسع عشر سؤالا: "من يتكلم؟" ليجيب عنه مالارميه في بداية القرن العشرين: "الكلمة" تتكلم. فالكلمة تفرض سلطة بحسب بعض الفلاسفة، لكن معناها يتلاشى ويتباعد كلما اقتربت منه تقنيات الدلالة والتأويل. يصبح المقدس للمشاهدة والوصف. ولا يدل في العمق على اثر جواني، لكن هذه الدلالة اذ ينظر إليها قلة من البشر ويدركون أهميتها، فإن الغالبية القصوى تنظر الى المقدس بخرافاته ومعجزاته وتعيش في ظلاله و"حقيقته". لكن السؤال الذي يبعث على الحيرة. كيف يصنع المقدس؟!
يشير معروف الرصافي الى ان محمداً كان قبل النبوة خارجا على التقاليد الموروثة لدى قومه لأنه كان ممن تغلب عقله الفطري على عقله المكتسب، كما اشرنا. لم يكن خاضعا للتقاليد الموروثة بل ينظر إليها والى كل أمر من الأمور بمنظار من عقله الفطري، فخرج عن عبادة الأوثان التي كان يتبعها قومه، ولم يقف عند دعوة النبوّة التي قام بها، بل جاورها الى إرساء تقاليد دينية جديدة أخرى، والى أحداث نهضة عربية بواسطة تلك التقاليد. لكن الظاهر ان الأمم إذا أدار شؤونها العقل الفطري، فهي تستسلم له، ولا يحاول كل امرئ ان يجد عقله الفطري بل ان العقل المكتسب هو سمة الجماعة كلها. هذا النوع من العقل يكتسح ما يسمّى الأمة العربية والإسلامية ويشكل عائقا أساسيا أمام كل نهضة تريدها. هل نقول ان كل فكر تكون أزمته من داخله، وانه يكتنز المسببات التي تقتله أو تساهم في انحطاطه؟!
كان الدين من حيث هو فكر، أهم سند للتطور في المجتمع العربي، ولكنه تحول أهم احتياطي لمستودع الغيب. لكن هذا الأمر شائك ويحتاج الى تفاصيل.
يبيّن الرصافي بدايات الدعوة المحمدية وأصولها والوحي ولحظاته ومكنوناته وفكرة المستقبل، ومعنى كون العرب أميين فيقول: "ان الأمم كلها في عهد محمد قسمان: امة لها نبي مرسل وكتاب منزل كاليهود والنصارى، وأمة ليس لها نبي مرسل ولا كتاب منزل كالعرب. فمحمد لما قام بالدعوة الى الإسلام أراد ان يميز في كلامه بين الأمة التي لها كتاب والأمة التي ليس لها كتاب. فسمّى العرب بالأميين، وأراد بذلك أنهم امة ليس لها كتاب منزل ولا نبي مرسل، ليذكّرهم في مقابلة الكتابيين ولم يرد في هذه التسمية أنهم لا يقرأون ولا يكتبون لأن فيهم من يحسن القراءة والكتابة" (ص166). ويجد ان تسمية العرب بالأميين تسمية اصطلاحية ويفنّد الشاردة والواردة من الروايات التي قيلت عن محمد والقائمة على الزعم، والزعم مطية الكذب، وهو بذلك يقوم بجهد خاص.
نجد انه في بعض استنتاجاته يتقاطع مع باحثين جدد أثاروا  مسائل ومُنعت كتبهم، من نصر حامد الى خليل عبد الكريم فيجعلون محمدا من لحم ودم، أو بشريا وليس "تابو" كما تفعل الأصوليات بكل أنواعها السلطوية والمتطرفة.
حين صمم محمد على القيام بالدعوة، وفي عبارة أخرى لما أتته النبوة كان أمرها في البداءة بينه وبين أهل بيته، واستمر بعد إعلان الدعوة سبع سنوات يدعو الى الله محميا بحماية أبي طالب الذي كان السند الأساسي في قوته الى جانب خديجة، حتى توفي في السنة العاشرة من النبوة.  لا ريب ان فكرة الحصول على قوة يستند إليها في نشر الدعوة جديرة بأن تعد أول خطوة خطاها محمد في طريق النجاح، لأنه اخذ بعد ذلك يتدرج في سعيه. فبينما كان في أول الأمر يطلب قوة تحميه، صار أخيرا يطلب قوة ليضرب بها أعداءه. ولما جاء الى المدينة بعد بيعة العقبة الكبرى، قويت شوكته واشتد جناحه بالأنصار الذين بايعوه، وبالمهاجرين الذين تابعوه. عندئذ قرن دعوته بالسيف ليقاتل خصوم دعوته. ومما لا يستراب فيه ان الدعوة لما اقترنت بالقوة، اخذ عدد الداخلين في الإسلام يزداد مضطردا بازدياد سيوف الدعوة. فكان كلما قويت الشوكة زاد انتساب المسلمين إليها، "فكانت الغنائم من حوافزهم الى الغزو ومن مرغباتهم في الخروج للقتال" إلا ان الحرب "ليست من المرغبات التي تجعلهم يصدقون في القتال كالجنة. فان الجنة لا تنال إلا بالشهادة التي هي الموت بالقتل في صدمة الحرب، فهي لذلك تجعلهم يصدقون في حملتهم على العدو ويصلون معمعان الحرب مستقتلين" (ص290).

بين الإمبراطوريتين

هل تختلف المعايير بين الامبراطورية العربية - الإسلامية والإمبراطورية الأميركية؟ تقتنع الشعوب بالكلمة، لكن السيف اصدق أنباء من الكتب، قال الشاعر. والحق ان محمدا راحت قوة إقناعه تتعزز بالبراهين الدنيوية مثل الانتصارات العسكرية المذهلة التي غالبا ما كانت تتحقق على أعداء أكثر منه عددا وثروة وخبرة. ومن هذا المنحى اخذ يطلق إرادة الحرب على المسلمين ويجعل من دعوته لهم فرضا وركنا، ويتخذ الجنة واسطة للترغيب في القتال. ثمة أمر آخر كان يتخذه واسطة لتشجيع المقاتلين وتغذية قلوبهم وتثبيت أقدامهم وذلك عند اشتداد الحرب اذ "يعمد الى إمداد المقاتلين بالملائكة". وقد كان للانتصارات الخارقة والفتوحات السريعة وكثرة الغنائم دور كبير في إعطاء المسلمين الأوائل الأسباب كلها لينظروا الى العالم بمنظور أكثر تفاؤلا.
يظهر الرصافي كيف كان محمد غنيا بعكس ما يروّج الرواة، ويبيّن نوازع حادثة "الافك" في النسيج العربي، وكيف تتحول الأمور الى سياسة، ويعلمنا (الرصافي) بكلمة جوهرية "ان الله كان بجانب محمد في كل ما حدث من الأمور المتعلقة بحياته الزوجية، كما يتبين لنا ذلك من الآيات القرآنية النازلة في هذا الباب، اذ نرى الله تارة يضرب الحجاب على أزواجه، وتارة، يجعلهن للمؤمنين أمهات ويحرم عليهم نكاحهن من بعده، وتارة يهددهن بالطلاق وانه إن طلقهن يبدله أزواجا خيرا منهن، وتارة يزوجه من السماء ويجعل جبريل شاهدا، وتارة يحرم عليه النساء..." (ص423).
نوازع محمد وأموره كثيرة، لكن الغاية الأبرز كانت أحداث نهضة عالمية كبرى، واستمرار تلك النهضة من بعده حتى تتم بها الغاية. وكلا الأمرين لا يكون إلا بكون محمد مقدسا ومطاعا لدى أتباعه المسلمين. ولو لم يكن في نظر أتباعه مقدسا لتعذر حصول تلك النهضة، ولو حصلت في حياته لاستحال استمرارها من بعده من غير تقديسه. من كان يتوقع، بعد وفاة محمد، ان يتحد العرب الذين كانوا يتسمون بالتشرد وسرعة الإثارة والتقلب، وان ينجحوا في اكتساح الدولتين العظميين في ذلك الوقت وهما روما الشرقية وبلاد فارس. هكذا الإسلام بدأ بمدينتين صغيرتين في الصحراء على حافة الامبراطورية الرومانية، ثم تحول نموذجا عالميا تاريخيا.

"أنبياء" الأنظمة

نقطة مهمة ينبغي التطرق إليها هي ان محمدا قال "لا نبي بعدي". يعدّ قوله هذا في الوعي الشعبي الإسلامي حاجزا تمام قيام أنبياء جدد، لكن الرؤساء وتابعيهم من السياسيين والمثقفين وأشباه المثقفين، في الأنظمة العربية، يمارسون سلطاتهم كما لو أنهم "أنبياء"، ويصدرون قراراتهم كما لو ان الوحي انزلها. ينقصهم فقط ادعاء النبوة. فهل من مغيث؟!