(ملف)
إعداد: صبحي حديدي

ميخائيل ألكسندروفيتش يصادف هذا العام 2005 الذكرى المئوية الأولى لولادة الروائي الروسيـ السوفييتي ميخائيل ألكسندروفيتش شولوخوف (1905ـ1984)، صاحب الملحمة الروائية الشهيرة "الدون الهادئ"، التي قد تكون أعظم عمل روائي روسي في الحقبة السوفييتية. وشولوخوف، من جانب آخر، هو الأديب السوفييتي الوحيد الذي انتزع جائزة نوبل للآداب سنة 1965 عن عمل ينتمي بصفة كلية إلى الواقعية الإشتراكية، وخصوصيته في المادة والشكل تختلف جوهرياً عن "دكتور جيفاغو" رواية بوريس باسترناك التي جلبت له ولروسيا أوّل جازة نوبل سنة 1958.
وبهذا المعنى فإن مئوية شولوخوف تذكّرنا بتلك السياسة الثقافية والجمالية والإبداعية التي كانت تسمّى "الواقعية الإشتراكية"، والتي سادت في الإتحاد السوفييتي أولاً،وفي معظم بلدان المعسكر الإشتراكي بعدئذ، ثمّ بادت بسرعة كما صعدت ذات يوم في المؤتمر الأول لاتحاد الكتّاب السوفييت، سنة 1934.
وبمعايير أيامنا هذه، قد يبدو المصطلح رطانة جوفاء محضة، وقد يتبادر إلى الذهن سؤال لم يكن مكسيم غوركي سينتظره من أحد حين ساهم في نحت المصطلح بالتعاون مع مفوّض الثقافة اندريه جدانوف: إذا كانت هنالك واقعية إشتراكية، فهل هنالك واقعية رأسمالية؟ واقعية مسيحية؟ واقعية إسلامية؟ غوركي، لو سُئل في ثلاثينيات القرن الماضي، كان سيجيب بحماسة رسولية: "إنّ المطالب الكبيرة التي تفرضها حياتنا المتطورة على الأدب، والعمل الثقافي والثوري الذي يقوم به حزب لينين تنبثق جميعها من الأهمية التي يعلّقها الحزب على فنّ الكتابة. ولم يسبق لأي بلد في العالم، ماضياً وحاضراً، أن شهد هذا التلازم الرفاقي بين الأدب والعلم، أو هذه المساعدة في تطوير الكفاءات المهنية للعاملين في الفنّ والعلم" ـ كلمته في مؤتمر 1934.
وفي جانب آخر يتجاوز هذا النوع من خطاب أزمنة مضت وانقضت، كان ثمة آلة أخرى خلف الآلة الحزبية أو البيروقراطية التي صاغت منهاج الواقعية الإشتراكية: آلة هائلة جبّارة أنتجت مليارات الصفحات المطبوعة شعراً وسرداً ومسرحاً ونقداً، وكيلومترات طويلة من الأفلام وقماش اللوحات، كما عبّر أندريه سينيافسكي… ثمة إبداع متعدد معقد متنوع ما يزال يدهشنا حتى اليوم، ليس في قيمته الفنّية العالية المرشحة لقرون من الخلود فحسب، بل في حقيقة أنه إبداع رأى النور لأنه قهر عبادة الفرد والبيروقراطية والجهاز الحزبي والجمود العقائدي والضحالة والانحطاط ومختلف الإملاءات السياسية والاقتصادية.
ثمة، أيضاً، حقيقة ثالثة تقول إنّ تلك الواقعية الإشتراكية ولدت في ذلك الإتحاد السوفييتي، فقرأنا في شرطها أمثال غوركي وماياكوفسكي وشولوخوف وإيتماتوف. ولكنّ امتدادها السريع في أربع رياح الأرض أعطانا إبداعاً ملتزماً بحق، إنسانياً كونياً كفاحياً، ساهمت في صناعته جمهرة من أرفع أقلام القرن العشرين: برتولت بريخت، لوي أراغون، بول إيلوار، بابلو نيرودا، رفائيل ألبرتي، يانيس ريتسوس، ناظم حكمت…

ناظم حكمتوفي سنة 1938 سُجن الشاعر التركي حكمت، فأطلق أراغون حملة في فرنسا للإفراج عنه، وترأس لجنة الدفاع الفنان السوريالي تريستان تزارا، على صفحات مجلة "الآداب الفرنسية" Les Lettres Françaisً. هل مثل هذا التضامن، بهذا العيار الثقيل، ممكن في أزماننا؟ ونقرأ اليوم قصيدة نيرودا "أغنية حبّ ثانية إلى ستالينغراد"، فنتذكر أنها لم تكن في مديح مدينة صامدة مقاتلة فحسب، بل كانت في هجاء النازية على قدم المساواة.
هذا الملفّ ليس إحياء لذكرى الواقعية الإشتراكية، فهذه لا ذكرى لها على الأرجح، وقد انقرضت حتى قبل انقراض الإتحاد السوفييتي. لكنّ الرواية الغربية الكبرى التي تكفلت بسرد حكاية الواقعية الإشتراكية خلال عقود الحرب الباردة، ما تزال على حالها... ثابتة راسخة ساكنة لا تريم!
تقول الرواية إن الكتّاب الإشتراكيين، الذين وقعوا في القبضة الفولاذية لمؤدلِجي الحزب وآلة الدولة، لم يمتلكوا حرّيتهم الإبداعية التي تتيح لهم إنتاج أعمال أصيلة في مختلف الفنون. الفنانون في الغرب، على النقيض، تمتعوا بحرّية التعبير وتمكنوا بالتالي من إنتاج أعمال كبرى ذات قيمة هائلة أصبحت شواهد على إمكانية انطلاق الروح الإنسانية من خلال اقتصاد السوق والفلسفة الرأسمالية.
المشكلة الكبرى في هذه الرواية أنّ الآداب والفنون في الدول الإشتراكية سابقاً، والأدباء والفنانين ذوي العقائد اليسارية أو حتى الشيوعية هنا وهناك في العالم، أنتجوا بدورهم أعمالاً كبرى لا تقلّ قيمة عن نظرائهم في الغرب. وحتى هذه اللحظة تتسابق المتاحف الغربية على استضافة وعرض مجموعة اللوحات الواقعية الفريدة، المنتمية إلى ما يُسمّى في الغرب "فنّ ستالين". وثمة حال مشابهة في السينما، والمسرح، والباليه، والأوبرا، لكي لا نتطرّق أبداً إلى الأدب.
وموادّ هذا الملفّ تنطوي على انحيازات متباينة في الموقف من ظواهر الواقعية الإشتراكية، واختيار الموادّ لا يهدف إلى ترجيح كفة على أخرى، بل يسعى إلى إعادة صياغة بعض الأسئلة التي تستدعيها إعادة فتح بعض الملفات، وذلك لكي لا تظلّ الرواية الغربية العتيقة هي وحدها المعتمَدة المهيمنة و... الخاطئة!

تعريف: الواقعية الإشتراكية 1932 ـ 1991

نيل كورنويل

ما الذي كان، أو ما يزال، يعنيه مصطلح الواقعية الإشتراكية؟ نظرية أدبية، أم منهج فنّي، أم فلسفة ثقافية؟ ما تأثيرها على ثقافة الإتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، خلال فترة الحرب الباردة خصوصاً؟ الإجابات التالية على هذه الأسئلة سوف تقتصر إلى حدّ كبير على الإتحاد السوفييتي والسيرورة الأدبية هناك. ولكن ينبغي القول إنّ الواقعية الإشتراكية كانت، أيضاً، عاملاً هاماً في التطوّر الثقافي (و/أو غيابه استطراداً) في الكتلة الشرقية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار جدار برلين. كذلك امتدّ هذا العامل أبعد من الأدب، وجرى اعتناقه، أو فرضه أو استخدامه كأوالية سيطرة، في الفنّ والعمارة والفنون الجميلة، والموسيقى أيضاً (مثال شوستاكوفيتش في الإتحاد السوفييتي). وقد تصحّ الإشارة كذلك إلى أنه يجب عدم خلط الواقعية الإشتراكية بظاهرة أوسع شهدتها معظم ثقافة القرن العشرين وعُرفت باسم "الواقعية الإجتماعية"، وهي طراز أعرض من "الواقعية" التي تتضمن درجة معيّنة من التعليق أو الرأي الإجتماعيين (رغم أنّ هذا الخلط يجري دائماً).

نيل كورنويلوالقيادة الثقافية السوفييتية أرادت ان ترى الواقعية الإشتراكية وقد تحوّلت إلى حدث كوني تاريخي. وفي كتابه "الواقعية الإشتراكية السوفييتية: الأصول والنظرية"، 1973، يلخّص فوغان جيمس وجهة النظر السوفييتية الرسمية كما يلي: "الواقعية الإشتراكية ظاهرة فنّية عالمية النطاق صعدت بتأثير التغييرات الإجتماعية الكبرى في نهاية القرن التاسع عشر وبدء القرن العشرين، وبينها ازدياد حدّة التناقضات داخل المجتمع الرأسمالي، والأزمة داخل الثقافة البرجوازية، وصعود طبقة البروليتاريا الواعية لوضعها الإجتماعي. إنها تالياً انعكاس في الفنون للكفاح من أجل انتصار الإشتراكية".
والواقعية الإشتراكية كانت سياسة ثقافية (ولم تكن، كما للمرء أن يفكر الآن، منهجاً أو حتى نظرية قابلة للتطبيق)، فُرضت من الأعلى، وأُريد لها أن تستحدث إجراءاً ملموساً للرقابة البيروقراطية، والحكومية في الواقع، على نطاق واسع من النتاج الفنّي. وبهذا المعنى كانت عاملاً هاماً في التطوير المنهجي للثقافة السوفييتية، منذ ستالين وحتى إصلاحات غورباتشوف، وفي أوروبا الوسطى والشرقية (الخاضعة لنفوذ الإتحاد السوفييتي) طيلة فترة ما بعد الحرب. ولقد تخللتها تنويعات تاريخية أو إقليمية: على سبيل المثال، خارج الإتحاد السوفييتي حدث أحياناً (ولكن ليس دائماً) أن طُبّقت الواقعية الإشتراكية على نحو أكثر تسامحاً ومرونة، سواء في ما يخصّ هيمنتها السياسية، أو مواقفها من الحداثة والتجريب.
وبوصفها سياسة ثقافية، استُمدّت الواقعية الإشتراكية من مزيج من ثلاثة مصادر: المصدر الأوّل هو التراث النفعي للنقد الأدبي الذي تطوّر (منذ بيلينسكي وشيرنشيفسكي وما بعدهما) في وحول الأدب الروسي في القرن التاسع عشر. المصدر الثاني (وهو أكثر أهمية بالمعنى الإيديولوجي، ولكنه تاريخياً أقلّ مصداقية) هو الفكر الماركسي في ما يخصّ التوجيه الثقافي، بعد إعادة تأهيله بأفكار مقالة لينين "حول تنظيم الحزب وأدب الحزب"، 1905. المصدر الثالث هو السياسة التي تطوّرت بلا ريب (وأياً كان الوزن المعطى للمصدرين السالفين) جرّاء السجالات اللاذعة الأدبية ـ النظرية ـ السياسية خلال عقد ونصف من بدء الحكم السوفييتي.
ومصطلح "الواقعية الإشتراكية" لم يستخدم في صيغته هذه إلا سنة 1932، لكن مكوّناته اشتُقت إلى حدّ كبير من التيارات الأبرز في السجالات الأدبية خلال العشرينيات. والمقاربة الإيديولوجية الأساسية حول "الأدب البروليتاري" عُدّلت رسمياً في سياق ما يمكن اعتباره مدّاً نيو ـ كلاسيكياً، يرجع إلى طرائق الواقعية الروسية التقليدية التي صارت الآن عتيقة الطراز (أسلوب ولغة تورجنيف، تولستوي، تشيخوف، وغوركي)، مطعمة بروح "الواجب الإجتماعي"، و"أدب الحقيقة"، ومفاهيم علم الجمال المستمدة من منظّري "الجبهة اليسارية للفنون" LEF، و"الرابطة الروسية للكتّاب البروليتاريين" RAPP. وهكذا فإنّ مرحلة الأدب السوفييتي المزدهرة والحرّة نسبياً في مرحلة "السياسة الاقتصادية الجديدة" NEP، خضعت لهجمة متزايدة طيلة عقد العشرينيات من جانب الأجنحة البروليتارية الأكثر جموداً ومجموعات "علم الاجتماع المبتذل"، وكلاهما اجتمعا منذ سنة 1925 في الـ RAPP. وكان استيلاء ستالين على آلة الحزب وتخلّصه من المعارضة يساراً ويميناً، قد ترافق في الميدان الأدبي أيضاً (وليس على المرء سوى مراجعة التعميمات الحزبية حول الفنون منذ العام 1925) مع تدمير التيارات الماركسية الثورية (مثل الـ LEF) والأخرى المعتدلة. حتى نقّاد الـ RAPP الأكثر تزمتاً تمّ إقصاؤهم بدورهم سنة 1932، حين جرى حلّ جميع التجمعات الأدبية بصفة إلزامية، لصالح جهة أحادية هي "إتحاد الكتّاب السوفييت". وبذلك بات الطريق مفتوحاً أمام سيطرة الحزب المباشرة على الأدب. ولسوف يكون لهذه الخطوة آثارها البعيدة، التي لم تكن جليّة بما يكفي آنذاك. وفي واقع الأمر بات على إتحاد الكتّاب أن يضبط أعضاءه، بدل أن يحميهم، في حين أنّ السياسة الجديدة في اعتماد الواقعية الإشتراكية (المنهاج المقرّر لإنتاج الأدب) سوف تقيّد معظم الكتابة الإبداعية خلال ربع قرن قادم. وسرعان ما جرى في ميادين الفنون الأخرى فرض "إتحادات" فنية مماثلة وتوسيع نطاق "المنهج" ذاته.
واليوم يُنظر إلى الواقعية الإشتراكية كصيغة متعجلة كيفما اتفق، اخترعها ـ كما يجمع الكثيرون ـ مكسيم غوركي والمفوّض الثقافي أندريه جدانوف (بالتشاور مع ستالين)، وفُرضت بسرعة من الأعلى، كمحاولة مبتسرة (أثبتت مع ذلك أنها ناجحة للغاية) لتوجيه وضبط الأدب الواسع والغني الذي انتعش في ظروف أكثر ثورية. وكان حلّ الـ RAPP البروليتارية، أسوة بما تبقى من مجموعات، قد أعطى العملية لمسة أخيرة في تثبيت قاعدة "الحزب عن صواب أو خطأ"، المستمدة من مقالة لينين، بوصفها المعتقد المركزي، وفي التأكيد على أن بيروقراطية الدولة السوفييتية سوف تلقى التطبيق ذاته في الحياة الفنية.
وفي سنة 1934 أعلن غوركي الواقعية الإشتراكية "منهجاً أساسياً للأدب والنقد الأدبي السوفييتي". والمكوّنات الأساسية للمنهج كانت، وظلت (رسمياً على الأقل) طيلة النصف اللاحق من القرن: "إيدينوست"، (المحتوى الإيديولوجي)؛ "بارتينوست"، (الولاء للحزب، ويشمل أيضاً التشديد البارز على دور الحزب)؛ و"ناردونوست"، (الالتقاط الإيجابي للجماهير، أو الشخصية "الوطنية"، التي باتت الآن تعني" السوفييتية)؛ والمكوّن الرابع "كلاسوفوست"، (الوعي الطبقي أو الذهنية الطبقية).
كان على هذه المكوّنات أن تتآلف (حسب تعبير غوركي) في "تمثيلات ملموسة وصادقة تاريخياً للواقع في تطوّره الثوري". مقتضيات أخرى أساسية كانت المكانة البارزة التي ينبغي أن تُعطى لـ "الأبطال الإيجابيين" و"حالة النمط". وفي الميدان العملي كانت ضرورة الإنتساب إلى خطّ الحزب ـ من خلال التصنيع السريع، والمزارع الجماعية الإجبارية، و"التطهيرات الكبرى" ـ قد أفضت بشكل محتوم إلى تشويه شديد للجانب "الصادق تاريخياً" من هذا "المنهج الأساسي". ونتائج تطبيق هذا المنهج انقلبت إلى أيّ شيء ما عدا "التمثيلات الملموسة"، فلم تلتقط الواقع بأي مقدار من المعنى المميّز موضوعياً. وكلّ ما تبقى كان في الواقع تفكيراً توّاقاً مضحكاً و"تطوّراً ثورياً" مفرطاً في تفاؤله، يُرى كما ينبغي أن يُرى، لا كما هو بالفعل.
ولقد عانى الأدب الروسي في القرن العشرين من مأساة كبرى نجمت عن عواقب الفرض القسري لهذه السياسة على مصير العديد من الكتّاب الذين رفضوا الانصياع، أو كانوا غير قادرين على الانصياع (وبالقدر ذاته، على عدد من الكتّاب الذين انصاعوا أيضاً). إسحق بابل، بوريس بيلينياك، وأوسيب ماندلشتام كانوا مجرّد أفضل النماذج المعروفة، وما خفي كان أعظم. وعند نهاية الأربعينيات، حين أخذت "مراسيم جدانوف" تطبق الخناق على الإنفراج النسبي لسنوات الحرب (وأثّرت، مثلاً، على ميخائيل زوشنكو، أنّا أخماتوفا، وبوريس باسترناك)، أخذ الكتّاب المنضوون في الركب يعتنقون مبدأ "انعدام النزاع"، الذي يقول بضرورة تحاشي كلّ نزاع أو اختلاف داخل المجتمع السوفييتي (في السابق كان مسموحاً وجود أفكار وشخصيات سلبية إلى جانب الإيجابية، شريطة أنّ المجموعة الأولى سوف تُدحر ويلحق بها الخزي). وهذا التجديد المدهش (الذي يتطرق إليه سولجنتسين في "جناح السرطان")، الذي سمح بنزاع محدود للغاية بين الأبطال الإيجابيين والأبطال الأكثر إيجابية، أزال عملياً أي مظهر للتوتّر الدرامي في الأعمال القصصية والمسرحية خلال تلك الفترة.
وفي السنوات الأخيرة من حقبة ستالين ترسخ الاعتقاد، حتى عند المسؤولين عن إعطاء الأدب السوفييتي "إرشادات من الأعلى"، أن الأشياء لا تسير على ما يرام، وأنّ النتائج الفنية كانت أكثر قتامة من أن تقنع أحداً بعافية الآداب السوفييتية. مرحلة "ذوبان الثلوج" في عهد خروتشيف، رغم أنها اتسمت بمبدأ "خطوتان إلى الأمام، خطوة إلى الوراء"، سرّعت العمليات التي قادت من جديد إلى بعض الإنفراج. وإذا كانت سياسة الواقعية الإشتراكية غير قابلة للتطبيق في التحليل الأخير، حتى أثناء أعلى مراحل الستالينية، فإنّ الحال ذاتها ينبغي أن تتواصل أكثر فأكثر في مرحلة ما بعد ستالين. العالم الأدبي لسنوات خروتشيف، وصولاً إلى بريجنيف و"مرحلة الركود" في عهد تشيرننكو، وجد نفسه عالقاً في سياسة الواقعية الإشتراكية كتراث أجوف لا يمكن مساءلته صراحة، وذلك رغم السماح بدرجة أعلى من إعادة التأويل. ولقد نشرت أعمال أكثر أهمية وموهبة فنية خلال العقود الثلاثة التي أعقبت وفاة ستالين وحتى انطلاقة الغلاسنوست.(1)

فلاديمير ماياكوفسكي

كيف تُصنع الأشعار؟

فلاديمير ماياكوفسكيالتعبير الجديد أمر إجباري في كتابة الشعر. وينبغي الاشتغال على مادة الكلمات والعبارات التي تخطر على الشاعر. وإذا كانت فضلة الكلمات القديمة هي التي تفرض نفسها في تأليف القصيدة، فيتوجب استخدامها في تناسب مع كميات المادّة الجديدة. وأن يكون مزيج من هذا النوع مفيداً أو غير مفيد، أمر يتعلق بكمية وكيفية المادة الجديدة فيه. (2)
(...) وفي العمل الشعري ثمة القليل فقط من القواعد العامة جول كيفية البدء. وهذه القواعد تقليد محض. كما في الشطرنج. النقلات الافتتاحية تكاد تكون متشابهة. ولكنك منذ النقلة الثانية تبدأ في إعمال هجوم جديد. والنقلة الأكثر مهارة هي تلك التي لا يمكن تكرارها في أيّ موقف معطى ضمن لعبتك الثانية. انعدام إمكانية التنبؤ بها هو الذي يهزم الخصم.
تماماً مثل الإيقاع غير المنتَظَر في الشعر.
ما هي المقترحات الأساسية التي لا غنى عنها، حين يشرع المرء في عمل شعري؟
الأمر الأوّل. حضور مجتمع مُشْكِل، لا يمكن تصوّر حلّه إلا بشروط شعرية. واجب إجتماعي (وبين الموضوعات الهامّة للدراسة الخاصة مسألة انعدام التكافؤ بين الواجب الإجتماعي والتكليفات الفعلية).
أمر ثان. معرفة دقيقة، أو بالأحرى إحساس برغبات طبقتك (أو المجموعة التي تمثّلها) في قضية معطاة، مثل التوجّه نحو هدف محدد.
أمر ثالث. المواد. الكلمات. إملأ مخازنك بلا انقطاع، واملأ أهراء جمجمتك بكلّ أنواع الكلمات، الضرورية، المعبّرة، النادرة، المبتكرة، المستحدثة، والمصنّعة.
أمر رابع. المعدّات اللازمة للغرس والأدوات لتجميع السطر. قلم، قلم رصاص، آلة كاتبة، هاتف، الثياب الضرورية للمبيت في الفنادق الرخيصة، دراجة هوائية لخدمة رحلاتك إلى الناشر، طاولة ذات ترتيب حسن، مظلة للكتابة تحت المطر، غرفة بالقياس الملائم لعدد الخطوات التي ستخطوها وأنت تعمل، اتصال مع وكالة صحفية ترسل لك المعلومات حول أسئلة تخصّ الأقاليم وما إلى ذلك وما سوى ذلك، وربما غليون وسجائر.
أمر خامس. مهارات وتقنيات للتعاطي مع الكلمات، والأشياء بالغة الخصوصية، والتي لا تأتي إلا بعد سنوات من العمل اليومي: القوافي، الأوزان، الجناس الإستهلالي، الصور، خفض سويّة الأسلوب، جموح المشاعر، القفلة، العثور على عنوان، التصميم، وما إلى ذلك وما سوى ذلك.
على سبيل المثال: قد تقتضي المهمة الإجتماعية تأمين كلمات أغنية لرجال الجيش الأحمر في طريقهم إلى جبهة بطرسبورغ. الهدف هو دحر يودينتش. المادّة هي الكلمات المستلّة من قاموس الجنود. أدوات الإنتاج: عقب قلم رصاص. الوسيلة: "شاستوشكا" (3) مقفاة:
أهدتني حبيبتي عباءة من اللباد طويلة
وزوجاً من الجوارب الصوفية.
ويودينتش يعدو هارباً من بطرسبورغ
سريعاً مثل ثعلب مطارَد.
خصوصية هذه الرباعية، مبرّر إنتاج هذه الـ "شاستوشكا"، هو نظام التقفية. والتجديد في هذا النظام هو الذي يجعل الأمر وارداً، شعرياً، ونموذجياً.
وتأثير الـ "شاستوشكا" يعتمد على تصميم التقفية غير المتوقعة، حيث يكون هناك نوع من عدم الإنسجام بين السطرين الأوّل والثاني، والسطرين الثالث والرابع. وهكذا يمكن اعتبار السطرين الأول والثاني مساعدَيْن، أو ثانويين.
سمات المادة المستعملة، وسيلة الإنتاج والمهارات التقنية، يمكن ببساطة اعتبارها قابلة للقياس الكمّي بنظام الدرجات:
هل طلب المجتمع هذه القصيدة؟ نعم. درجتان. الهدف متوفر؟ درجتان. هل هي مقفاة؟ درجة إضافية... فليضحك النقّاد، ولكني سأعطي شعر شاعر آلاسكي (حين تتساوى الاعتبارات الأخرى بالطبع) درجات أعلى من شعر شاعر من يالطا على سبيل المثال.
بالطبع سأفعل! الشاعر من ألاسكا ينبغي أن يتجمد برداً، ويشتري معطفاً من الفرو، وينبغي أن يتصلّب حبره في دواته. بينما شاعر يالطا يكتب على خلفية من شجر النخيل، في أجواء بديعة حتى من دون قصائد.
وضوح الرؤية حول هذه الأمور هو مكوّن لكفاءات الكاتب...
أتابع المسير، محرّكاً ذراعيّ ومهمهماً من غير كلمات تقريباً، تارة أقصّر خطواتي لكي لا أقاطع همهمتي، وطوراً أهمهم المزيد بسرعة اشدّ بالتوافق مع خطواتي.
وهكذا يتأسس الإيقاع ويتشكل، والإيقاع هو أساس أي عمل شعري، وهو الذي ينبض في أرجاء العمل بأسره. وأنت تدريجياً تخفف عن كاهل الكلمات المنفردة ذلك الهدير الرتيب.
ثمة كلمات تقفز هاربة ولا تعود أبداً، وثمة أخرى تلبث، تتلوى وترتبك عشرات المرّات، حتى لا يعود في وسعك أن تتخيّل كيف يمكن لأية كلمة أن تمكث في موقعها (هذا الإحساس القويّ، الذي يتنامى مع التجربة، اسمه الموهبة). ويحدث غالباً أن تنبثق أوّلاً الكلمة الأكثر أهمية: الكلمة التي تحمل على أكمل وجه معنى القصيدة، أو الكلمة القادرة على تعزيز القافية. الكلمات الأخرى تتوالى مضطردة وتأخذ مواقع معتمدة على العلاقة مع الكلمة الأهمّ. وحين تصبح الأساسيات حاضرة، ينتاب المرء إحساس مباغت بأنّ الإيقاع مُجْهَد: ثمة نقصان في مقطع صغير أو صوت. تبدأ في إعادة جميع الكلمات مجدداً، فيقودك العمل إلى الشرود (...)
من أين يأتي هذا الهدير الرتيب للإيقاع؟ إنه لغز. في حالتي شخصياً تدور في ذهني كلّ أنواع تكرارات الأصوات، والضجيج، والحركة الإهتزازية، أو في الواقع أيّ تكرار قابل للإدراك ويأتيني على هيئة صوت. صوت البحر، المتكرر بلا توقف، يمكن أن يزوّدني بالإيقاع؛ أو الخادمة التي تصفق الباب كلّ صباح، فتتصادى هذه وتختلط فيما بينها، وتزحف في باطن وعيي. أو، ربما، حتى دوران الأرض الذي يتمّ عندي على نحو شبيه بما يجري في محلّ مليء بالعناصر البصرية المساعدة: يفسح المجال، ويرتبط مع صفير ريح عاتية.
هذا الصراع من أجل تنظيم الحركة، وتنظيم الأصوات حول نفسها، واكتشاف طبائعها الجوهرية، هو واحد من أهمّ ثوابت عمل الشاعر: تنظيم الموارد الصوتية. لا أعرف إذا كان الإيقاع موجوداً في خارجي أم في داخلي أنا فقط، والأرجح أنه في الداخل. ولكن لا بدّ من رجّة ما لإيقاظه؛ تماماً كما يفعل صوت الكمان، أيّ كمان، حين يتسبّب في أزيز أحشاء البيانو؛ وكما يرتجّ جسر يميناً ويساراً ويكاد يسقط تحت وطأة العبور المنسّق للنمل.
الإيقاع هو القوّة الجوهرية، والطاقة الجوهرية، للشعر. ليس في مقدورك ان تفسّره، وليس في وسعك إلا أن تتحدث عنه كما حين تتحدّث عن الظاهرة المغنطيسية أو الكهرباء. فالمغنطيس والكهرباء بعض تجليات الطاقة. ويمكن للإيقاع أن يكون الشيء ذاته في الكثير من القصائد، أو ربما في كامل أعمال الشاعر، ولكنه مع ذلك لا يجعل العمل رتيباً مكروراً، لأنّ الإيقاع يمكن أن يكون شديد التعقيد، وبالغ البراعة في التركيب، بحيث أنّ القصائد الطوال لا تستنفد إمكانياته.
وعلى الشاعر أن يطوّر في نفسه هذا الإحساس بالإيقاع تحديداً، وليس قضاء الوقت في تعلّم إيقاعات الآخرين، ومختلف البحور والتفاعيل، بما في ذلك الشعر الحرّ شديد التبجح هذه الأيام. فالإيقاع يلائم نفسه مع موقف محدد، فلا يصبح صالحاً إلا لذلك الموقف، مثل الطاقة المغنطيسية المفرّغة على حدوة تجتذب برادة الحديد، التي لا تستطيع استخدامها لأيّ غرض آخر. (...)
وينبغي أن تُرفع القصيدة إلى أعلى درجات الطاقة التعبيرية. والصورة هي إحدى أفضل وسائط نقل هذه الطاقة التعبيرية. ليست تلك الصورة الجوهرية الرؤيوية التي تنهض في مستهلّ العمل كاستجابة أولى باهتة للتمكّن الإجتماعي. كلا، أنا أتحدث عن الصور المساعدة التي تساعد هذه الصورة في التكوّن. وهذه الصور هي واحدة من المناهج المعاصرة في الشعر، والحركة التصويرية مثلاً تجعلها غرضاً وبالتالي تحكم على ذاتها بالعمل ضمن واحد فقط من مكوّنات الشعر التقنية.
هنالك سُبُل في خلق الصور لا نهاية لها.
وإنّ المقارنة هي إحدى أكثر سبل صناعة الشعر بدائية. نتاجاتي الأولى، "غيمة في بنطلون" مثلاً، كانت مرتكزة على التشبيه كلياً: مثل ومثل ومثل... كلّ الوقت. أليست هذه السمة البدائية هي التي تجعل النقاد يعتبرون "غيمة" هي "التركيب الأقصى" الذي بلغته في الشعر؟ في قصائدي الأخيرة، وفي "يسينين" خصوصاً، تخلصت من هذه البدائية. (...)
وأكثر سبل صناعة الصور قبولاً عند العموم هي استخدام الاستعارة، أي مناقلة المزايا، التي اقترنت عند درجة ما بشيء محدد وحيد، بين الكلمات والأشياء والظواهر والأفكار. هذا السطر على سبيل المثال:
وتوشَحوا بخردة من شعر الجنائز
لقد سمعنا بخردة الحديد، وخردة المائدة. ولكن كيف نصف تلك الغرائب والغايات التي يجعلها الشعر عديمة النفع، فلا تصبح ذات فائدة في أي شيء وهي التي كانت لتوّها أجزاء من قصائد أخرى؟ تلك، بالطبع، خردة شعرية أو شعر خردة. وفي هذه الحال تكون الخردة من صنف واحد: جنائزي، وهذه خردة شعرية جنائزية. (...)
ومثل كلّ وسائل الشعر الأخرى، تتنوّع سبل صناعة الصورة طبقاً لمدى تآلف أو عدم تآلف القارئ مع هذا الشكل أو ذاك.
تستطيع حيازة صور شعرية على الجانب المضادّ، بحيث أنها لا تستخدم الخيال فتوسّع نطاق الشيء الذي يُقال فحسب، بل على العكس تسعى إلى ضغط الإنطباع الذي تتركه الكلمات في قالب محدود عن سابق قصد. أقول، مثلاً، في قصيدتي القديمة "الحرب والكون":
في العربة المتعفنة أربعون رَجُلاً
وأربع أرجل.
والكثير من أشياء سيلفينسكي ترتكز على العديد من الصور المشابهة. (...)
والآن بعض الإستنتاجات:

  1. الشعر معمل. نوع صعب للغاية، معقّد للغاية، ولكنه معمل.
  2. التوجيه في العمل الشعري لا يقوم على دراسة نماذج الأعمال الشعرية التي باتت ثابتة ومحدودة، بل دراسة إجراءات المعمل، وهي الدراسة التي تساعدنا في صناعة أشياء جديدة.
  3. التجديد، التجديد في الموادّ والوسائل، أمر لا غنى عنه في كلّ تأليف شعري.
  4. عمل صانع الشعر ينبغي أن يجري يومياً، لبلوغ المزيد من الكمال في الحرفة، ولتوظيف الموارد الشعرية.
  5. دفتر جيد لتدوين الملاحظات، واستيعاب لأفضل طرائق استخدامه، هما أكثر أهمية من إتقان كتابة عشرات الأمتار بلا أخطاء.
  6. لا ينبغي تشغيل مصنع شعري هائل تكون مهمته إنتاج ولاعات السغائر الشعرية. ينبغي أن تقلع عن الإنتاج غير الاقتصادي للتوافه الشعرية. لا تتناولْ قلمك إلا إذا كان الشعر هو الطريقة الوحيدة لقول شيء ما. ويجب صياغة الأشياء التي أعددتها حين تشعر بواجب اجتماعي واضح.
  7. ينبغي على الشاعر أن يكون في قلب الأشياء والأحداث لكي يفهم الواجب الإجتماعي بدقة. إنّ معرفة الإقتصاد النظري، ومعرفة حقائق الحياة اليومية، والإنغماس في الدراسة العلمية للتاريخ، هي في صلب أساسيات عمل الشاعر، وهي أكثر أهمية من المناهج التعليمية التي يكتبها بروفيسورات من عَبَدة الماضي.
  8. لكي تلبّي الواجب الإجتماعي على أفضل وجه مستطاع، ينبغي أن تكون في طليعة طبقتك، وأن تخوض النضال في صفوف طبقتك، وعلى كل الجبهات. وينبغي أن تسحق إلى فتات أسطورة الفنّ المجافي للسياسة. فهذه الأسطورة القديمة تعاود الظهور اليوم في شكل جديد تحت غطاء الهذر حول "اللوحة الملحمية العريضة"، التي تكون ملحمية أولاً، ثمّ موضوعية بعدئذ، وغير ملتزمة سياسياً في نهاية المطاف؛ أو الهذر حول "الأسلوب الرفيع"، الذي يكون رفيعاً أولاً، ثمّ مرتقياً بعدئذ، وعلوياً سماوياً في نهاية المطاف.
  9. ـ مقاربة الفنون بوصفها معملاً هي وحدها التي تجعلك تتخلّص من الصدفة وعشوائية الذوق وذاتية القِيَم. والنظر إليها كجزء من عملية الإنتاج هو وحده الذي يمكنّك من وضع جوانب العمل الأدبي داخل منظور: القصائد، وتقارير العمّال والفلاحين والصحافيين. وبدل التأمّل في موضوع شعري سوف تمتلك قدرة التعاطي بدقّة مع مشكلة عاجلة، طبقاً للتعريفات والمقاييس الشعرية.
  10. ـ ينبغي أن لا تجعل التصنيع، أي ما يسمّى العملية التقنية، غاية في حدّ ذاتها. ولكنّ عملية التصنيع هذه ذاتها هي التي تجعل العمل الشعري صالحاً للاستعمال. وإنّ الفارق بين طرائق الإنتاج هذه هو الذي يسجّل الفارق بين الشعراء. وحدها المعرفة، والإتقان، ومراكمة أوسع نطاق ممكن من الوسائل الأدبية المتنوّعة هي التي تجعل من المرء كاتباً محترفاً.
  11. ـ شروط الحياة اليومية التي يعيشها الشعر لها التأثير ذاته الذي تمارسه العوامل الأخرى في تشكيل عمل فنّي حقيقي. ومفردة "بوهيمي" باتت مصطلحاً ازدرائياً يصف كلّ سبيل عيش فنّي دنيء. ولسوء الحظ يحدث غالباً أن تُشنّ الحرب على كلمة "بوهيمي"، ولكن على الكلمة وحدها. بيد أنّ ما يمكث في داخلنا هو المناخ الفرداني والمِهَني للعالم الأدبي القديم، والمصالح التافهة للشِلَل الخبيثة، وحكّ الظهر المشترك، حتى باتت كلمة "شعري" تعني "المنحلّ" و"المخمور" و"الفاسق" وما إليها. حتى طريقة ثياب الشاعر وطريقة حديثه مع زوجته في البيت ينبغي أن تختلف، ويمليها بشكل تامّ طراز الشعر الذي يكتبه.
  12. ـ نحن، شعراء جبهة اليسار، لا نزعم البتة أننا وحدنا نمتلك أسرار الإبداع الشعري. ولكننا وحدنا الذين نريد إماطة اللثام عن هذه الأسرار، ووحدنا الذين لا نرغب بإحاطة العملية الإبداعية بهالة مبهرجة من الطهارة الدينية ـ الفنّية.

الواقعية الإشتراكية: جذور ما قبل 1917

جيسواف ميلوش

جيسواف ميلوش(...) لعلّ بعض الأمريكيين على يقين من أنّ الواقعية الإشتراكية، أو "الواقشتراكية" Socrealism كما يسمّونها، ليست أكثر من أسلوب جرى تطبيقه في أدب وفنّ الإتحاد السوفييتي، وفي تلك المناطق التي يمتدّ نفوذه إليها. وهو أسلوب يشهد على الأذواق التي تحلى بها بيروقراطيو القرن التاسع عشر، في ما يخصّ عمارة كعكة الزفاف، أو الألوان المسطحة في الرسم، أو الرفاهية المترفة. وهم أيضاً على يقين من أنّ كلّ مَن يعارض نظام علم الجمال هذا، إنما يرتكب خطيئة سياسية قد تبدو مذهلة. لكنّ الواقعية الإشتراكية ليست، لسوء الحظّ، مسألة ذوق فقط. إنها أيضاً فلسفة، وحجر الزاوية في عقيدة رسمية جرى تطويرها في أيام ستالين. إنها مسؤولة مباشرة عن مقتل ملايين الرجال والنساء، لأنها ترتكز على تمجيد الكاتب أو الفنّان للدولة، ولأنّ في صلب مهامها تصوير سلطة الدولة بوصفها الخير الأعظم، واحتقار عذابات الفرد. إنها بذلك علم جمال فعلي وفعّال.
وهكذا، لا يمكن تفادي انحطاط ما يُنتج طبقاً لهذه الصيغة من شعر ورواية ومسرح ورسم، ما دام الواقع، البغيض للغاية، ينبغي تجاوزه باسم المثال، وباسم ما ينبغي أن يكون عليه الواقع. غير أنّ هذا الانحطاط لا يمنع، بل إنه في الحقيقة يسهّل، توسيع نطاق تأثير هذا النوع من الثقافة الجماهيرية. والمعركة ضدّ الواقعية الإشتراكية هي، استطراداً، معركة للدفاع عن الحقيقة وعن الإنسان نفسه في نهاية المطاف.
والأدب في غرب أوروبا وأمريكا لم تكن له البتة تلك السمة الإجتماعية التي اقترنت بالأدب في شرق أوروبا، ربما باستثناء فترة الإصلاح حين كان الكاتب يتحدّث بالنيابة عن جماعة دينية محددة. ورغم أن الدور السياسي الذي لعبه بعض الكتّاب كان كبيراً في بعض الأحيان (روسو وفولتير مثالان واضحان)، فإنّ المخيّلة الجمعية لم تكن لها أنماطها العليا على هيئة الشاعر أو القائد أو المعلّم. ومؤرخو الأدب لا يشيرون في هذا المضمار إلا إلى مثال واحد منعزل هو إيرلندا. لكنّ عنف النزاعات القومية والاجتماعية في المناطق الشرقية من أوروبا فرض على الكتّاب مطالب محددة. ومن المرجح تماماً أن تعود أصول التمرّد الهنغاري لعام 1956 إلى "نادي بيتوفي"، الذي سُمّي هكذا نسبة إلى الشاعر الذي عاش في القرن التاسع عشر، ولهذا فقد كان للأمر مغزاه الرمزي، الذي يكرر ببساطة نسقاً أقدم.
وتاريخ العلاقات الروسية ـ البولونية يمكن أن يُختصر بدرجة واسعة في تصادم مفهومين مختلفين عن الحرّية، وهما مفهومان اعتنقهما كتّاب وارتبطا على نحو وثيق بوظائفهم التعليمية، وهي الوظائف التي كانت مختلفة بين البلدين. وبعد ثورة 1917 في روسيا، مُنح الكتّاب اللقب المشرّف: "مهندسو الحرية". ولم يكن هذا بالأمر الجديد على نحو خاص. ولعلّ من غير الممكن لرئيس الولايات المتحدة أن يقلّب النظر في قصائد ومسرحيات، وأن يفكّر في مكافأة مؤلفيها أو نفيهم إلى آلاسكا الشمالية. ذلك لأنّ السلطات الأمريكية لم يسبق لها أن اعتبرت الأدب خطيراً أو أداة هامة للحفاظ على السلطة. أمّا نيقولا الأوّل فقد مارس بنفسه الرقابة على أشعار بوشكين.
والحركات الثورية في روسيا خلقتها الإنتلجنسيا، التي حرّكت المرجل بالكتابة، واستخدمت الكلمات كبديل عن الفعل أو مقدّمة له. وحين أقام الحزب الشيوعي سلطته الدكتاتورية، حافظ على تقليد وضع الكتّاب في مكانة إجتماعية عالية. ونظرية الواقعية الإشتراكية ذاتها، التي تبنّاها الحزب، كانت قد صيغت قبل زمن طويل من قيام الثورة (...)
وحتى قبل 1917 كانت روسيا إحدى أكبر الدول المستهلكة للكتب، ورغم أن معظم العدد الهائل من الكتب التي طُبعت في روسيا بعد الثورة رسمية وضئيلة الجودة، فإنه توفرت أيضاً أعمال "كلاسيكية" روسية وأجنبية، وكانت الأخيرة بترجمات ممتازة. هذا الإشباع بالكلمة المطبوعة يخلق على الدوام، وكما ينبغي أن يفعل، قيمة زائدة في الطلب، الذي لا يمكن إشباعه عن طريق الإنتاج السائد المكرور. وحتى في أسوأ المراحل توفّر على الدوام تيّار ثان مواز للتيار الرسمي: بوريس باسترناك غير المطبوع، مثلاً، كان له آلاف المعجبين ممّن يحفظون شعره عن ظهر قلب. وحين بدأت مرحلة "التعايش"، كان السيّاح العائدون من موسكو يجلبون معهم قصائد توزّع بصيغة مخطوطة في أوساط الشباب بصفة خاصة. وكانت هنالك نماذج من كتلة أعمال غير معروفة أبداً، كتبها السجناء في معسكرات الاعتقال، والطلاب. وبعضها لافت للنظر في قيمته الرفيعة، وجميعها مصطبغة بظلال السخرية والمفارقة (...)

ومشكلة الواقعية الإشتراكية أبسط بكثير ممّا يلوح للوهلة الأولى. فرغم المحاولات العديدة، فإنّ العناصر التي تكوّن نظريتها لم تجتمع أبداً في كلّ منسجم. في الرواية يكون انقسام الشخصيات إلى "أخيار" و"أشرار" مطلوباً كما هي الحال في أيّ فيلم كاوبوي. ويُسمح للبطل أن يحمل بعض الشكوك وأن يرتكب بعض الأخطاء، لكن الخير ينبغي أن ينتصر في النهاية. ومع ذلك فإنّ هذا الخير لا يعني الأخلاق المرتكزة على الوصايا العشر، بل ببساطة حال التطابق بين الفرد وهدف الجماعة. ولكن لأنّ النصر لا يتحقق إلا من خلال الدولة التي يقودها الحزب، فإنّ الهدف هو كلّ ما يعين الحزب في زيادة قوّة الدولة الصناعية والعسكرية وسواها. وبهذا فإنّ معايير السلوك الفردي لا تكمن في داخل فرد ما، بل تتحدد من خارجه: "النزاهة الذاتية" للمرء الذي تقوده الحوافز الأخلاقية، ويمكن تالياً أن يدين استخدام الدبابات في بودابست، لا تقلّل من "الذَنْب الموضوعي" لأنّ استقلال هنغاريا قد يتغاير مع مصالح الإتحاد السوفييتي، واستطراداً مع مصالح الثورة، أي الإنسانية قاطبة.
ورغم أن هذه المحاججة مبتسرة، فليس من الصعب إدراك جذورها في فلسفة التاريخ الألمانية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، والتي قدّمت مفهوم التطوّر التاريخي المستقلّ عن آمالنا ورغائبنا. هذه الفلسفة وجدت لها أرضاً بالغة الخصوبة في روسيا القيصرية، لأنّ بنيتها الإجتماعية المدعّمة كانت تجابه الفرد بالعراقيل كلما حاول ممارسة إرادته هو، ولهذا تعلّم أن يجعل النظام نفسه مسؤولاً، حتى عن انعدام كفاءته ذاتها. وتشكلت بهذه الطريقة عادات جبّارة تخصّ الذهن، فشجّعت أحلام الثورة الكفيلة بحلّ جميع المشكلات الشخصية للرجال وللنساء في مواجهة العالم، ونُقلت المعايير الأخلاقية من المنتدى الداخلي للضمير إلى سيرورة العناية التاريخية.
وكان هذا الانتقال هو سمة الإنتلجنسيا الروسية التقدمية، وقد تنبّه إليه دستويوفسكي، الذي كتب في "يوميات كاتب" سنة 1873: "إنّ علم البيئة، حين يجعل الإنسان معتمداً على كلّ خطأ في النظام الإجتماعي، يختزل الإنسان إلى حال من الخسران التامّ للشخصية، وإلى تحلّل تامّ من جميع الالتزامات الفردية ومن أي نوع من أنواع الاستقلال، فيختزله إلى أسوأ قنانة يمكن تخيّلها". ذلك يبيّن أنّ الصِيَغ التي تبدو ساذجة في الرواية والمسرحية، والتي وضعها الحزب للكتّاب كي يأخذوا بها، لها سابقات في روسيا تمتدّ طيلة عقود من السجال حول العلاقة بين الفرد والمجتمع (...)
النقطة الأهمّ [حسب أبرام تيرتس (4)] هي إنّ "الهدف العظيم" ــ مجد روسيا كما تغنّى به درجافين في القرن الثامن عشر ــ عُثر عليه للمرّة الثانية في برهة امتلاك لينين السلطة، حين كانت روسيا ممزقة مهمّشة بفعل الحركة الثورية، بعد الظنون والبحث خلال القرن التاسع عشر. وبدءاً من ذلك الزمن باتت روسيا الأمّة المختارة، الأمّة التاريخية العالمية Welthistorische، ما دامت قد اختارت أن تكون أداة سيرورة العناية التاريخية التي تقود، بـ "الضرورة الفولاذية"، إلى انتشار الشيوعية في سائر أرجاء العالم. ولقد جرى في السابق تبرير ترانيم المديح التي تغنّت بالدولة الروسية في الماضي، والتوكيدات حول الرسالة العالية الملقاة على عاتق الروس وتفوّقهم على سواهم من الأمم. نور المهمة الكونية (خلاص الإنسان) قد بزغ على روسيا. ولهذا فإنّ أغنية مديح تلك السعادة الآتية التي ستكون نصيب الإنسانية جمعاء، وهذه الأنشودة المتواصلة في مديح الذات (وهو جوهر الأدب السوفييتي)، ترتقيان في الآن ذاته إلى مصافّ أنشودة في مديح الغد. والواقعية الإشتراكية انبثقت من اندماج عقيدتين: الإيمان برسالة الأمّة الروسية، والإيمان برسالة البروليتاريا (الروسية).

(...) المجد الجماعي ليس أمراً خيالياً، بل هو حقيقة واقعة، وتمّت حيازته عن طريق طراز شرس من اللامبالاة بالحياة الإنسانية. وطيلة عقود عديدة قدّمت الواقعية الإشتراكية الإكسير الذي يلهب الأنشطة، وتبيّن بالاختبار العملي مدى فاعلية ترانيم المديح. فهل يتوجب نبذ هذه العقيدة المجرّبة المدرّبة؟ وبدل الإبتهاج إزاء النتائج المحسوبة، هل يتوجب الإنتقال إلى نتائج غير محسوبة: سعادة أو تعاسة الإنسان؟
إنّ محاولات إقامة التناظر بين روسيا الماضي وروسيا الحاضر قد تقود إلى ارتكاب الأخطاء. ومع ذلك فمن المرجح أنّ الروس الراغبين بالعدالة والحرّية سيجدون أنفسهم في حال من النزاع مع مواطنيهم، تماماً كما وقع لأسلافهم. هذا ما يحدث حين يبدو نقد الأمور وكأنه مناهض للنزعة الوطنية. ولا ريب أنّ روسيا ليست استثناء في هذا المجال، وهنالك مجتمعات أخرى شهدت وتشهد تنامياً شديداً لعبادة مبدأ "مصلحة الدولة". غير أنّ نموذج بيتر شاداييف، مؤلف كتاب "الرسائل الفلسفية"، تعطي بعض الإيضاح حول قوّة هذه العبادة في روسيا. وحين طبع شاداييف إحدى هذه الرسائل، في عام 1836، أثار سخط الرأي العام إلى درجة جعلت القيصر لا يفكّر حتى في ضرورة سجن هذا الفيلسوف التعس، لأنّ هيئة من الأطباء الطائعين قرّرت أنه معتوه. لكنّ الأحكام القاسية التي أصدرها شاداييف بحقّ وطنه كانت، كما نعرف اليوم، نبوئية إلى حدّ بعيد. وهكذا كان قد قال: "إننا إحدى هذه الأمم التي لا تبدو وكأنها جزء لا يتجزأ من الجنس البشري، بل هي ليست موجودة إلا لكي تعطي العالم بعض أعظم الدروس. لكنّ الإرشاد الذي شاءت أقدارنا أن نقدّمه لن يضيع أبداً: مَن يبصر اليوم الذي نجد فيه أنفسنا جزءاً من الإنسانية، وكم من البؤس ينبغي أن نعاني قبل إتمام هذا المصير؟"...
بدوره كان ألكسندر هيرزن قد وجد أنّه حتى الحلقات الأكثر تقدمية لم تسانده إلا إذا كفّ عن التشكيك في حدود الإمبراطورية القيصرية، وحقّ روسيا في الهيمنة على الأراضي التي غزتها. لقد وهبت روسيا العالم العديد من الرجال والنساء الأخيار، الذين لم يتهيّبوا إدانة الشرّ، والذين أدركوا أنّ ما يتوجّب أن يكون لله ليس تماماً ذاك الذي يتوجب أن يكون للقيصر. وليس في وسعنا إلا أن نأمل في يوم قريب يجد فيه الروس أنفسهم "جزءاً من الإنسانية".

السوريالية، الواقعية الإشتراكية، بابلو نيرودا

غريغ داوز

  1. غريغ داوزمنذ العشرينيات وحتى الخمسينيات كانت الواقعية الإشتراكية والسوريالية هما الموقفان السياسيان والجماليان للكتّاب الأسبان وفي أمريكا اللاتينية. وعند الكثير من الشعراء البارزين، انطفأت شعلة الطليعة الأدبية مع اندلاع الحرب الأهلية في إسبانيا سنة 1963. وليس على المرء إلا أن يفكر ببعض أشهر الشعراء، وبينهم رفائيل ألبرتي ولويس سيرنودا وسيزار فاييخو وبابلو نيرودا، ممّن كرّسوا أنفسهم لكتابة أعمال طليعية قبل الحرب وبعدها،
    وفي خضم الحرب، والتزموا بالقضية الجمهورية عن طريق كتابة أشعار يسهل وصولها إلى عامة الجمهور. إلا أنّ البعض الآخر، مثل فيشنتي هويدوبرو وأوكتافيو باث، لم يتخلوا عن النظرية والأسلوب الطليعيين. وكما هو معروف أصبح باث عضواً غير رسمي في الجيل الثاني من السورياليين، وهويدوبرو ابتكر نظريته الطليعية الخاصة به. لكن ميلهما اليساري كان قصير الأجل، رغم التزامهما بالجمهورية الإسبانية.
  2. ـ للوهلة الأولى يبدو فدريكو غارسيا لوركا وكأنه ينتمي إلى هذه المجموعة الأخيرة من الشعراء، بسبب أشعاره النارية في "شاعر في نيويورك". ومع ذلك لا ينتمي لوركا إلى المجموعة لسببين أساسيين. أولاً، "شاعر في نيويورك" هي طبعة معاصرة من عمل ألبرتي "عن الملائكة"، وعمل سيرنودا "نهر، غرام"، وعمل أليخاندري "سيوف كالشفاه"، بما يعني انّ العمل ليس متأثراً بالأحداث العاصفة للحرب الأهلية (وهو، كما نعلم، كتاب نُشر بعد الوفاة). السبب الثاني، رغم أنّ الشعر يظلّ طليعياً، فإنه في الآن ذاته شعر ملتزم سياسياً يصوّر العنصرية، والفقر، وثروات الرأسماليين الفاحشة، والاغتراب القاتل خلال الكساد الكبير في الولايات المتحدة.
  3. وكما جرت الإشارة سابقاً، كانت المجموعة الأولى من الشعراء، ونيرودا بينهم، قد أقامت صلات مع التيارات الطليعية، ومع السوريالية خصوصاً، لم تكن ودّية دائماً، وانقطعت مع اندلاع الحرب الأهلية. وخلال هذه الفترة تحديداً انبثقت الواقعية الإشتراكية كحركة أدبية للمرّة الأولى. والكثير من الشعراء رفضوا الواقعية الإشتراكية، وبعضهم ـ مثل باث مثلاً ـ انتقدها علانية بوصفها نتاجاً للستالينية. لكنّ آخرين، من أمثال ألبرتي ونيرودا، قبلوا بعض فرضياتها.
  4. في حالة نيرودا، نستطيع تثمين إبحاره بين هذين التيّارين الأدبيين، واختياره انتهاج مسار مستقلّ. ورغم تطوّر عمله صوب الواقعية خلال الحرب الأهلية، لم يتنازل نيرودا عن استقلاله الذاتي الأدبي أو الإبداعي. حتى في "النشيد" و"أعناب وريح"، وهما مجموعتان تعرّضتا لاتهام الواقعية الإشتراكية، هنالك دليل ساطع على المبدأ التأسيسي في شعر نيرودا": "العفوية الهادفة". وإذا انتقلنا إلى تعليقات نيرودا في مذكراته، سوف نعثر على ملاحظات ماكرة حول صلاته بالحزب الشيوعي والإتحاد السوفييتي خلال سنوات ستالين "التي تثير اضطراباً جهنمياً"، وحول موقفه من الواقعية الأدبية. ورغم تأثّر نيرودا بالسوريالية المتأخرة والواقعية الإشتراكية واستقلاله عنهما معاً، فإنّ شعره أظهر دلائل على ميل أكثر إلى الواقعية، أو ما أسميه "الواقعية الجدلية". وأظهر امتعاضاً متزايداً من السوريالية بسبب لاعقلانيتها المتعمدة ونقدها للإتحاد السوفييتي. وبالمثل، ورغم مساندته للإتحاد السوفييتي، لم يعلن نيرودا أبداً أنه من أتباع الواقعية الإشتراكية. ولكن منذ الحرب الأهلية الإسبانية وما بعد تحوّل نيرودا إلى الواقعية أكثر فأكثر بهدف تصوير تعقيد الصراع الطبقي خلال تلك السنوات. وبالمقارنة مع قصائد "إقامة على الأرض"، أصبح الشكل عنده أيسر تناولاً بسبب انتقاله إلى التشديد على المضمون الإجتماعي. والتزامه السياسي الذي أخذ يتعمق، بالجمهورية الإسبانية أولاً، ثمّ بمناهضة الفاشية، وتأييد الاشتراكية فيما بعد، منحه فرصة أن يمتلك وعياً سياسياً أعلى، وهذا شقّ طريقه إلى الشعر الذي كتبه خلال تلك السنوات، خصوصاً 195 ـ 1945.
  5. ـ أصبحت الواقعية الإشتراكية أحد التيارات الجمالية المهيمنة خلال الثلاثينيات لأنها اقترنت بالإتحاد السوفييتي. وهذا الموقف الأدبي الرسمي استعار من الماضي ـ ثورة أكتوبر ـ وبالغ غالباً في المزاعم حول الإنجازات الوطنية بعد وفاة لينين. وهكذا، في سنة 1934 وخلال المؤتمر الأول لاتحاد الكتّاب السوفييت، وقبل أربع سنوات من التطهير الكبير، أعلن جدانوف بصراحة أن المؤتمر ينعقد في برهة تاريخية: "في ظلّ العبقرية الهادية لقائدنا ومعلّمنا العظيم، الرفيق ستالين، انتصر النظام الإشتراكي في بلادنا بشكل نهائي ولا ارتداد عنه". واعتبر جدانوف أن التحدّي الذي يواجهه الفنّ في هذه الفترة هو التغلّب على عراقيل التخلّف في القطاع الصناعي وفي الريف، وخصوصاً "رواسب التأثير البرجوازي في البروليتاريا، والكسل، والصعلكة، والهدر، والنزعة الفردية، والسلوك اللاأخلاقي للبرجوازية الصغيرة". ولكي يصبحوا "مهندسي النفوس" كما تخيّل ستالين الفنانين، توجّب على هؤلاء أن يمزجوا بين "الحقيقة والخصوصية التاريخية في تمثيلاتهم الفنية"، وبين "تربية وتشكيل الطبقة العاملة بروحية الإشتراكية".
  6. (...) لكنّ الألماني كارل راديك كان الكاتب الذي ألقى الخطبة الأشدّ إقناعاً بخصوص الواقعية الإشتراكية في المؤتمر. ففي قناعة راديك، "لا يستطيع الفنّ البروليتاري أن يكتفي بالصراع الطبقي. ينبغي عليه أيضاً أن يصف السيرورات التي تعيشها تلك الطبقات الإجتماعية ذاتها: أسلوب عيشهم، نفسيتهم، تطوّرهم ومطامحهم". ولهذا فإنّ ثقافة الطبقة العاملة هي ثقافة المستقبل، وهي المؤشر على الصراعات النفسية والاجتماعية التي كانت تعتمل في قلب الإشتراكية. وفي الخلاصة آمن راديك بأنّ الواقعية البروليتارية والاشتراكية كانت بالأحرى تمثّل شروطاً اقتصادية ـ إجتماعية ونفسية أكثر دقّة ممّا توفّره التيارات الطليعية، وأنّ الواقعية الإشتراكية أكثر ارتباطاً بمصير الإشتراكية...
  7. وليس مفاجئاً أنّ العديد من كتّاب اليسار، مثل نيرودا، استنتجوا بعد سماع خطبة راديك أنّ القبول بمنهج الواقعية الإشتراكية، ورغم أنه ليس مطلوباً منهم، سوف يتيح لهم أن يقمعوا الوعي البرجوازي الصغير، وأن يلتزموا بالاشتراكية كما يجسدها الإتحاد السوفييتي. ففي نهاية المطاف كانت ثورة 1917 أوّل ثورة إشتراكية في العالم، والآمال في قيام إشتراكية على نطاق عالمي كانت تبدأ من الإتحاد السوفييتي... قبل تطهيرات الثلاثينيات بالطبع.
  8. وفي غمرة الآراء الرسمية على نحو أو آخر حول مسائل علم الجمال خلال الثلاثينيات في الإتحاد السوفييتي، كانت آراء راديك أكثر قدرة على إقناع أناس من أمثال نيرودا ولوي أراغون. فمن جهة أولى كان التزام المرء بالواقعية الإشتراكية يعني أن الكاتب يكرّس نفسه للنضال الإجتماعي، ويدعم الإتحاد السوفييتي استطراداً. ومن جهة ثانية، كانت آراء راديك تزوّد الكاتب بدرجة ما من الحرّية الفنية. وكان متوقعاً من الكاتب الذي يلتزم بالاشتراكية أن يعترف بالإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإتحاد السوفييتي. وبالطبع أخذ هذا التوقع يزداد وضوحاً حين بدأت الفاشية تطلّ برأسها في إيطاليا، وألمانيا، وإسبانيا. وهكذا اقترنت نزعة العداء للفاشية مع الدفاع عن الإتحاد السوفييتي، فضمنت تأييد عدد كبير من الشعراء التقدميين واليساريين، بينهم نيرودا، ألبرتي، ميغيل هرنانديز، سيزار فاييخو، غارسيا لوركا، أراغون، وبول إلوار. وليس مفاجئاً أنّ نيرودا الطليعي شرع، مع دنوّ الحرب العالمية الثانية، يكتب شعراً أكثر واقعية يصف شروط زمن الحرب، وأصبح مناهضاً للفاشية، ومسانداً للإتحاد السوفييتي. ولو تبقى أي ظلّ للشكّ، فإن نيرودا أزاله سنة 1942 حين كتب وألقى على الجمهور قصيدته "أغنية إلى ستالينغراد" وقصيدته التالية بعد سنة "أغنية حبّ جديدة إلى ستالينغراد".
  9. أراغون، صديق نيرودا الحميم، كتب الكثير في تبرير انشقاقه عن السوريالية ودفاعه عن فضائل الواقعية الإشتراكية. وفي مقالتيه "ثمة نحاتون في موسكو" و"جملة معترضة حول جوائز ستالين"، حاول دحض آراء اندريه بروتون عن طريق التأكيد على دوره الذي يقوم به من داخل الإتحاد السوفييتي، والإيحاء بأنّ نظرة بروتون قاصرة لأنه لا يحكم على الواقعية الإشتراكية إلا من الخارج. وعلى سبيل المثال، يساجل اراغون بأنّ النقاد في فرنسا يسيئون فهم الواقعية الإشتراكية لأنهم يتكئون على القوانين الجمالية والمعايير والذوق في فرنسا، ويحاولون بعدئذ تطبيقها على الحالة السوفييتية. ولهذا تستفزّ الواقعية الإشتراكية الكثير من الفنانين والنقاد في الغرب، تماماً كما تثير أية حركة جديدة امتعاض الفنانين المكرّسين. وفي خلاصته يعتبر أراغون أن الشكل في الفنّ السوريالي يصبح هو المضمون عملياً، في حين أنّ الشكل في الواقعية الإشتراكية يخضع للمضمون ويعمقه. وفي ترديد أصداء آراء راديك يستخلص أراغون أنه يتوفر مقدار كبير من حرّية التعبير في ظلّ الواقعية الإشتراكية، ولكنه ينهي المقالة الثانية بتعريف للواقعية الإشتراكية شبيه تماماً بتعريف جدانوف. (5)

كارثة الذوق المتوسط
أو: مَن الذي "اخترع" الواقعية الإشتراكية؟
يفغيني دوبرينكو

كفانا ذلك النوع من المؤلفات
الموقّعة بأسماء الآخرين،
هذا سيكون كتابنا.
ولكن ما "كتابنا"؟ عمّ يدور؟
ـ أنا اخماتوفا

ليس كلّ ما هو في المتناول عظيماً، بل كلّ عظيم أصيل هو في المتناول. وكلما زادت عظمته بات في متناول الجماهير أكثر.
ـ أندريه جدانوف

مَن اخترع الواقعية الإشتراكية؟ هنالك جوابان تقليديان، غير مقنعين، على هذا السؤال: 1) السلطات القابضة على مقاليد الحكم، و2) الجماهير. هذان تفسيران يدخلان في "نظرية المؤامرة". إنهما يعاملان ظاهرة الواقعية الإشتراكية بوصفها إخضاع الإتحاد السوفييتي إمّا لذوق عدد من الفنّانين المتخلفين، أو ـ في الغالب ـ ذوق ستالين وشركائه الأقرب الذين "اخترعوا" الواقعية الإشتراكية بوحي من حنينهم إلى أحاسيس الشباب (أو، في تنويع آخر: من وحي حاجتهم إلى أدب جدير بالعرض في المخازن). وفي ما يخصّ "المخترع" الثاني، فإنّ القابضين على السلطة سمسروا على الدوام بأذواق الجماهير، وهو ببساطة الوجه الآخر للمسألة ذاتها. هذا، استطراداً، تأويل لا أساس له، إلى جانب كونه غير دقيق على نحو فاجع.
ذلك لأنّ ثقافة الواقعية الإشتراكية لم تتأسس في ثنايا سلطة الدولة ولا في صفوف الجماهير، بل كانت نتاج هجنة محددة، "جماهيرـ السلطة" المشتغلة كخالق واحد وحيد. مَدُّهما الإبداعي العارم المشترك أسفر عن ولادة الفنّ الجديد. وحوافز العنصر الجمالي الواقعي الإشتراكي تجلت في الأفق الجمالي ومتطلبات الجماهير، سواء بسواء؛ ومنطق التأصّل الموروث في الثقافة الثورية؛ واهتمام الدولة بالحفاظ على أذواق الجماهير وتدعيم بنى السلطة في "صناعة السياسة التنظيمية ـ السياسية" لصياغة فنّ جديد من جهة، وإعادة تفعيل أسواقه أو مستهلكيه الكامنين من جهة ثانية.
وتوجب صياغة إستراتيجية استقبال جديدة داخل الثقافة الثورية، نتيجة الانهيار الذي وقع حين صار لـ "الثقافة القديمة" مستهلك جديد. تلك كانت سيرورة معقدة ومؤلمة على نحو استثنائي، وقع خلالها انقطاع حادّ في طراز التجربة الجمالية لدى الجماهير. وشهدت تلك التجربة أزمة حادة في كلّ الأشكال التقليدية للتلقّي الثقافي، وأفضت إلى سلبية قصوى من جانب الجماهير تجاه الثقافة عموماً، سواء منها "الثقافة القديمة" أو الثقافة الجديدة الطليعية التي كانت ولادتها قد تسبّبت في نوبات الآلام هذه. نتيجة تلك الروح السلبية كانت رفض الجماهير استهلاك هذا الفنّ، وتصميمها الموازي على حكّ جلدها بظفرها، أي رفض إبداعات الفنّان لصالح إبداعات المرء لنفسه وصعود المستهلك ـ الفنّان ـ المؤلف. (...)
الطراز التقليدي لوصف الثقافة السوفييتية، وهو الطراز الذي كان سائداً في الغرب والإتحاد السوفييتي معاً خلال الستينيات، ارتكز على الفرضية القائلة إنّ انتفاء الفنّ القديم بدأ إمّا مع التيّار الطليعي أو مع "الثقافة البروليتارية" Proletkult، ثمّ (فيمابعد) "الرابطة الروسية للكتّاب البروليتاريين" RAPP؛ أي، في كلمات أخرى، بدأ مع "اليسار" و"اليمين" داخل الثقافة. ولكن ما لم يؤخذ في الحسبان كان حقيقة أنّ انتفاء التراث الثقافي، المؤسَّس على العتبة الجمالية الموازية للإدراك الجماهيري للفنّ، انبثق من قلب الجماهير العريضة، المدينية والريفية، التي اجتذبتها سلطتها الجديدة إلى "البناء الثقافي". ولم يكن هنالك إقرار بهذا العامل في الأنموذج اليساري، لا ذاك الغربي المناهض للشمولية، ولا ذاك السوفييتي في الستينيات، فمال كلاهما إلى وضع اللوم على عاتق المؤدلِجين أو خونة مصالح الشعب الآخرين، وليس البتة على الجماهير. ومن جانب آخر، ما كان لهذا العامل أن يحظى باعتراف الوعي التقليدي ـ القومي أيضاً، ولم يتقاطع مع إعادة تثمين أو أسطَرَة فكرة "التجانس الشعبي". وهكذا جرى التنقيب عن منابع الثقافة الواقعية الإشتراكية في منطق تأصّل السيرورة الثقافية ذاتها، في حين أنّ الفرضيات الإجتماعية والجمالية للواقعية الإشتراكية كانت متعدّدة المستويات وعميقة تماماً. (...)
النقد السوفييتي تجاوب مع مطالب قارئ الجماهير، وتلك المطالب تصادفت على نحو شبه كامل مع مطالب سلطة الدولة. ولم يكن للشروط السياسية لهذه الحملة أو تلك أن تتجاوز المعيار الجمالي الذي أمْلَته الجماهير وأقرّت به الدولة. و"الروح الوطنية"، (نارودنوست)، كانت في الحقيقة مبدأ جوهرياً للواقعية الإشتراكية. و"التطابق الجمالي" مع "الوعي الحزبي" أو "الذهنية الحزبية" شكل النواة الجمالية الحقيقية، والحدث الجمالي الرئيسي، للواقعية الإشتراكية. جرى إنتاج الموروث الواقعي الإشتراكي، بنواحِ عديدة، بناء على "الوصايا الإجتماعية" للقارئ، ولم تقم الدولة إلا بصياغتها رسمياً. كان فنّ الواقعية الإشتراكية أوالية ذاتية التحريك، أو بتعريف إدوارد نادتشوي الدقيق: "آلة لتدوين شيفرات الرغائب الجماهيرية السائلة".
وينبغي أن نسأل من جديد: من أيّ وسط إجتماعي (بتجربته وأذواقه الجمالية المحددة، وافق آماله المحددة) انتقى التاريخ اختياراته؟ ونعود إلى الإجابات الممكنة ذاتها:

  • الثقافة السوفييتية عادت إلى ذوق الجماهير غير المتطوّر؛
  • الثقافة السوفييتية اعتمدت على أذواق القادة؛
  • الثقافة السوفييتية أنجزت المشروع السياسي والجمالي للتيار الطليعي، بوصفه نتاج أزمة الطليعة.

هذه الإجابات المتباينة للغاية لاتتناقض فيما بينها أبداً في الواقع. ليس لأيّ منها أن يكون مطلقاً بالطبع. ولا يعمل أيّ منها على نحو مطلق وظيفياً. وعلى عكس رأي بوريس غرويس ـ الذي أوحى بأنّ الواقعية الإشتراكية كانت غريبة على "الأذواق الفعلية للجماهير" وفرضها ستالين، وأنّه بدلاً من عقيدة الواقعية الإشتراكية كان يمكن لأشعار خليبنيكوف وكروشونيخ الصوتية أو رسومات ماليفيتش أن تكون مقبولة لدى الجمهور بالحماس ذاته ـ لم يكن في مقدور الثقافة السوفييتية أن تنطلق من ذلك الشعر وتلك الرسومات. لم تكن هنالك هوّة بين أذواق العموم وأذواق النخبة. والذي كان ثابتاً ليس الاعتماد المباشر على مستوى معيّن في الذوق، بل العكس بالأحرى: الاعتماد على عتبة ذوق دائمة التنقّل. والأذواق "المتخلفة" عند الجماهير لم تكن معقدة فقط، بل الأهمّ من ذلك أنها ديناميكية أيضا. وكان الاضطراب الاجتماعي هو العقبة الرئيسية أمام أية محاولة للمساواة الإجتماعية بين أعمال الفنّ، والنخبة الإجتماعية، والجماهير.
والحال أنّ الثقافة السوفييتية أنجزت بالفعل المشروع السياسي والإيديولوجي الطليعي، وهو المشروع الذي كانت طبيعته نخبوية أساساً. ولكنها، في تحقيقها لهذا المشروع، اعتمدت على الثقافة الجماهيرية. والإشكالية لم تكن "الوسيلة التقليدية" كما يوحي بوريس غرويس، أو حتى أية "وسيلة" أخرى في هذه الحال. الإشكالية بالأحرى كانت تلبية أفق محدّد للآمال الجمالية، والاتكاء على تجربة جمالية محددة. وعلم الجمال الواقعي الإشتراكي لم يعترف أبداً بأطروحة "النخبوية الأونطولوجية" في الفنّ، بل كافح ضدّها على امتداد تاريخه. وما ينبغي أن نضعه في الذهن هنا هو أنّ النظرية اللينينية عن وجود "ثقافتين في كلّ ثقافة وطنية"، والتي ارتكز عليها علم الجمال السوفييتي، كانت دون ريب نظرية نخبوية من الأفضل تسميتها نظرية عن "ثقافتين نخبويتين في كلّ ثقافة وطنية". وأمّا "الثقافة الرجعية" فلم تكن أقلّ نخبوية من الثقافة الثورية عند أمثال شيرنيشيفسكي، دبروليوبوف، وبيساريف. كان الأنموذج الثقافي واحداً متماثلاً. غير أنّ الثوريين عموماً لم يأخذوا أنموذج الثقافة الجماهيرية بعين الإعتبار: الثورة أنجبت فنّاً طليعياً فائق النخبوية، وكافحت أدب الكتاب المصوّر Lubok، فأجهزت على هذا الأدب "المبتذل" بالهمّة التي كانت عليها حين أجهزت على أدب الثورة المضادة. وهكذا فإنّ الأذواق الجماهيرية كانت غريبة عن الثقافتين بالتساوي. ورغم ذلك فقد رفضت أذواق الجماهير هذه الثقافة مثلثّة الأطراف: كان القديم "نفاية"، والجديد "هراء عسير الإدراك".
هنالك قضية أخرى أيضاً: ظهور الثقافة السوفييتية وكأنها تعبير عن سلطة الدولة. وسلطة الدولة كانت ذرائعية أساساً، لكي لا نقول مناهضة للإيديولوجيا. كانت ذرائعية معبّرة عن سلطة خالصة، تتحدّد إستراتيجيتها بمنطق الحفاظ على الذات، ومنطق الإبقاء على السلطة. وكلّ الخصائص الإيديولوجية للسلطة السوفييتية كانت اختيارية تماماً. ولقد ارتكزت بسهولة على عقائد إيديولوجية متباينة كثيراً، وغالباً متناقضة بين بعضها البعض. تأسست، مثلاً، على "الأممية البروليتارية" و"الوطنية السوفييتية" في آن معاً؛ وساندت "حركة التحرر الوطني" وكافحت النزعة القومية؛ وأخضعت البيئة، لكنها كافحت مع تيّارات "الخضر"؛ واعترفت بنزعة توسع صريحة، لكنها ساندت "النضال من أجل السلام"؛ وبشّرت بـ "اضمحلال الدولة"، لكنها قوّت الدولة في مناح عديدة. ومع ذلك فإنّ من التبسيط البالغ القول إنّها قالت شيئاً وفعلت شيئاً سواه: "خطة ستالين لمناطق حفظ الغابات"، مثلاً، كانت حقيقة واقعة في تاريخ الإتحاد السوفييتي، تماماً كما كان مشروع "تحويل مجرى الأنهار". ذلك بالضبط كان أيضاً سبيل بناء الثقافة طبقاً للحاجات المعاصرة للسلطة. (أحد المبادئ الأساسية في الواقعية الإشتراكية، مبدأ "الوعي الحزبي"، تطلّب من الفنّ ذلك المقدار العالي من الحساسية المفرطة). وحين تبدّلت المهامّ، تبدّلت معها الموضوعات أيضاً، وظلّ أمر واحد على حاله: طبيعة الثقافة، والسلطة، والجماهير. وتوجّب على النوايا ذات المغزى الإجتماعي لأية سلطة حكومية أن تكون "مرخّصة" من الجماهير، ومقبولة في وعيها الجمعي، ومدعومة في البنى الذهنية الأعمق اللائق بمجتمع معطى في زمن معطى. وفي هذه "الواحدية بين الحزب والشعب" كان يكمن الأساس الواقعي للثقافة السوفييتية. وحدة سلطة الدولة مع الجماهير أجبرت ثقافة السلطة على أن تعتمد مبدأ المساواة، وذلك رغم أنّ السلطة الشمولية تُخلق على الدوام باسم النخبة. (...)
والمجتمع السوفييتي، مثل كلّ مجتمع آخر، كان فيسفسائي التركيب، الأمر الذي لا يعني أنه لم تتوفر "ثقافة سوفييتية عضوية". لقد وُجدت تلك الثقافة، دون أدنى شكّ، رغم أنها كانت تبهت وتصبح أكثر غموضاً كلما ابتعدنا عن المركز، تماماً كحال الشريحة الإجتماعية التي اعتمدت عليها تلك الثقافة. لا الإنسان السوفييتي ولا ثقافته كانا تجريداً نظرياً، وكلاهما لم يكونا عملاقين أحاديين أيضاً. ومادّة الاختمار الحقيقية التي اعتمدت عليها الثقافة السوفييتية راكمت تجربة جماهيرية كانت إجتماعية، وتاريخية، وكذلك جمالية في نهاية المطاف. ويمكن للظاهرة الناجمة عن هذا التأثير المتبادل أن تُسمّى كارثة الذوق المتوسط. لكنّ مبدأ المساواة في الثقافة السوفييتية لم ينهض على الإعتماد المتبادل على "الأذواق غير المتطوّرة عند الجماهير"؛ وبقدر ما كان ذوق الجماهير عملاقاً يخيّم على كلّ شيء، فإنه في الآن ذاته حافظ على هذا الموقع من خلال صيانته لمبدأ "المعدّل المتوسط". ولقد ساهم في توطيد هذا الأثر شيوع مبدأ التفاعل المتبادل الرمزي، الذي حفزته سلطة الدولة من خلال الأتمتة وتنميط ردود فعل الفرد الإجتماعية.
والأدب (والفنّ عموماً)، بوصفه مؤسسة إجتماعية، مارس سيطرته على المجتمع بصفته عنصراً تكاملياً في نظام الرقابة الإجتماعية، وما دام المجتمع يعيش تحوّلاً: أي يشهد تبدّلاً منهجياً نتيجة انبثاق علاقات جديدة بين عناصره التكوينية، أو تلاشي العلاقات التي كانت قائمة حتى ذلك الحين. ونمط المجتمع الذي يعيش في ظلّ نظام شمولي يدخل في تنازع مع هذا النزوع الطبيعي، حيث لا يمكن لأواليات التلاؤم الذاتي أن يكون لها مفعولها هنا. وسلطة الدولة أنهت هذا التناقض: السلطة، التي تجدد باستمرار "الترسانة الإيديولوجية" الخاصة بها، تستطيع من جهة أولى تبديل أشكال سيطرتها وتطبيعها، و"تنسّق" من جهة ثانية تلك الأشكال مع التحوّلات الإجتماعية.
والواقعية الإشتراكية شقّت طريقها خلال المضيق الذي يفصل بين سكيللا "الأدب الجماهيري"، وكاربيدس "الأدب النخبوي". ونتاجها الفنّي لم يتجمد أبداً بين أيّ من هذين الشكلين التقليديين، وحيادها الأسلوبي (المعروف على نحو أكثر شهرة باسم "انعدام الأسلوب" و"رمادية" الواقعية الإشتراكية) كان نتيجة "الطريق الثالث". البعض يعتبرها نتاجاً خالصاً للنزعة الجماهيرية، في حين يراها البعض الآخر نتيجة التغيّرات داخل المؤسسات الثقافية (الطليعية غالباً). وفي حالتنا هذه فإنّ المنبع الحقيقي لعلم الجمال الواقعي الإشتراكي لا يمكن العثور عليه في "الوسط" التقليدي بين جهتين متناقضتين. منبعه لا يقع بين هاتين الجهتين، بل في قلب مزيجهما المركّب. الواقعية الإشتراكية كانت نقطة تماسّ وتسوية ثقافية بين تيّارين، والجماهير، وسلطة الدولة. (6)

تُنشر بالاتفاق مع فصلية "الكرمل"