- إهداء
- مفتتح
- أول الكلام
- المقدمة
- الفصل الأول:
- فتغنشتاين: طفولته ويفاعته
- فتغنشتاين ورسل
- الوطنية والحرب
- رسالة في المنطق والفلسفة
- معلِّم بالفطرة
- هدم "الرسالة"
- بحوث فلسفية
- مسألة اليقين
- حياة رائعة
- شذرات من حياة فتغنشتاين
- الفصل الثاني:
- نظرية المعنى عند مور
- نظرية المعنى عند فتغنشتاين
- تطبيقات على نظرية المعنى كما وردت في كتاب "بحوث فلسفية"
- بعض السّمات العامة لألعاب اللغة
- مقارنة بين كتابي "الرسالة" و"البحوث" حول بنية اللغة
- تطبيق نظرية المعنى على الاستخدام
- خاتمة
- المراجع
إهداء..
لكل إنسان مثقف هوايته وأحياناً غوايته في لون من ألوان الثقافة يعشقه ويلتفت إليه أكثر من غيره.
مفتتح
(( لن يفهم هذا الكتاب - فيما أظن- إلاّ أولئك الذين كانت قد طرأت لهم الأفكار نفسها الواردة فيه، أو قد طرأت لهم على الأقل أفكار شبيهة بها، ولذا فهو ليس كتاباً مدرسيّاً. وإنه ليحقق الغاية منه لو أنه أمتع قارئاً واحداً قرأه وفهمه )).
فتغنشتاين - "رسالة في المنطق والفلسفة"
(( لا أريد من كتاباتي أن توفر على الناس عناء التفكير، وإنما أريدها – إذا كان ذلك ممكناً أن تحثهم وتحفزهم على التوصّل إلى أفكار خاصة بهم )).
فتغنشتاين - "بحوث فلسفية"
أول الكلام ..
(( عندما أكتب أكون أكثر إنصافاً مني لحظة الكلام، أتجرأ على العمق وعلى المجاز مثلما استطاع أن يفعل فتغنشتاين في فلسفته )).
الأديب النمساوي/ بيتر هانكه
مقدمة
(1)
بما أن الفلسفة هي استئناف للمعرفة، وأن السؤال الفلسفي ليس له أن "يخْمد" بمجرد التوصّل إلى إجابات علمية، فإن العلوم الإنسانية ليس من شأنها القضاء على الفلسفة خلافاً لما يظنه البعض، بل إن النقد الفلسفي حاضر حضوراً متميزاً على المستويات كافة.
لذلك، فإن فلسفة اللغة هي بمثابة "المرصد" الذي لا غنى للفيلسوف عنه حتى يستشرف ويتبين الأبعاد التي لا يزال النظر إليها ممكناً، بل ضرورياً ضمن هذه المسألة الشائكة التي هي مسألة اللغة.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن عبارة فلسفة اللغة توحي بمدلولات مختلفة. ولقد أشار الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (ولد 1913) إلى هذا التنوع والحضور الواسع لما هو فلسفي بقوله: (( لو كان لنا أن نحدد حصيلة الأعمال التي تشهد على اهتمام الفلاسفة باللغة خلال العشرية الأخيرة لوجب أخذ كل الإنتاج الفلسفي تقريباً بعين الاعتبار)).
ويمكن حسب ريكور حصر التوجهات الفلسفية في ثلاثة اتجاهات، هي أولاً فلسفة اللسانيات، وثانياً الأعمال التي قوامها توضيح اللغة كشرط مسبق لكل تفكير فلسفي، وثالثاً فلسفة اللغة بما هي "المضيق" الذي تصبح فيه اللغة سؤالاً وإشكالاً بالنسبة إلى الفيلسوف.
إن هذا التقسيم التي تبناه ريكور قائم على أن المقصود بعبارة فلسفة اللسانيات هو أن هذه الفلسفة تنحصر في مجال ابستمولوجي (معرفي) Epistemology بحيث يتمحور اهتمام الباحث على طبيعة النظريات اللسانية ومنهجية اللسانيات الوصفية. ولهذا أدرج ريكور كل من ياكوبسن ومارتينيه وتشومسكي ضمن هذا الاتجاه الأول.
أما فيما يتعلق بتوضيح اللغة، فإنه يحيل إلى ما يعرف بالوضعية المنطقية وفلسفة اللغة العادية. وأخيراً، فإن التوجه الثالث يضم الفينومينولوجيا (الظاهراتية) Phenomenology الهوسرلية (نسبة هوسِّيرل) وهيدغر وميرلوبونتي، وإذ لا يتسع المجال لتحليل هذه التيارات جميعاً، ورغم أهمية فلسفة اللغة عند هايدغر وميرلوبونتي، فإننا سنقصر الحديث على ما يعرف بفلسفة اللغة العادية عند الفيلسوف النمساوي/البريطاني لودفك فتغنشتاين (1889-1951).
إن الفكرة الأساسية التي تنطلق منها الفلسفة التحليلية أو فلسفة اللغة العادية هي أن "المعنى" هو الاستعمال Meaning is use. ويحاكم هذا الاتجاه الذي نشأ في انجلترا وتعزَّز مع مدرسة أكسفورد وتحديداً عند ألفرد آير، الفلسفة التقليدية الميتافيزيقية التي لم تحسن استعمال الألفاظ لأنها خرجت بها عن مجالها المحدد.
ويرتبط هذا الموقف بصورة أو بأخرى بما ذهب إليه فتغنشتاين من أن الدلالة تتحدد بالاستعمال، ولا يقوم ممثلو مدرسة أكسفورد بنقد اللغة في حد ذاتها بل بنقد استعمالاتها الفلسفية ولاسيما في الحقل الميتافيزيقي. فهناك نوع من الحكمة في اللغة العادية لا تتوفر لدى بعض الفلسفات. فالرجل العادي لا يقول عن القطة إنها موجودة بل أنها تموء مثلاً . أما الفلاسفة الميتافيزيقيون فهم يحشرون لفظة الوجود كيفما اتفق، فيتحدثون ويبرهنون على وجود النفس وخلودها. وبما أن الأمر يتعلق بسوء استعمال اللغة فإن دور الفيلسوف التحليلي هو توضيح اللغة والفصل بين استعمالاتها المشروعة واستعمالاتها غير المشروعة.
(2)
لم يعد أغلب الباحثين المعنيين بقضية ((المعنى- Meaning )) اليوم يشكّون في أن اللغة كما تكون وسيلة للفهم والإفهام هي في الوقت نفسه وسيلة ممتازة لسوء الفهم وقطع التفاهم، فهي إذاً وسيلة من وسائل حجب المعنى الفعّالة. بل لقد أصبحت هذه القضية من أعقد المشكلات وأصعب قضايا اللغة.
ولقد تعدّدت زوايا النظر إليها، حتى باتت من أهم ما يشغل الباحثين في كل علم وفن. إذ شغلت قضية المعنى الفلاسفة والمفكرين والمنطقيين وعلماء الكلام والفقهاء والأصوليين والمفسِّرين وفقهاء اللغة والأدباء والنقاد على مرّ العصور والأزمنة.
إن جميع النظريات العلمية والطروحات المعنية بالنصوص قديماً وحديثاً لم يكن يشغلها في المقام الأول غير مشكلة المعنى، التي لولاها لم يتسنى وجود الكثير منها بصورة أو بأخرى.
لقد لمس الفلاسفة وعلماء النفس واللغويون والكتّاب من غير اللغويين في العصور الحديثة قصور اللغة عن أن توصل أي تؤدي في كل حين ما يراد لها أن تعبر عنه. فتباينت إجراءاتهم بحسب اهتماماتهم وتدرجت من محاولة الوقوف على أسباب القصور إلى الاقتراب من معالجتها والتغلب عليها.
لقد تصور بعضهم في بادئ الأمر مشكلة قصور اللغة وصعوبات تحديد الدلالة، أو في الأقل رأى عدد منهم أن ذلك مما يمكن تجاوزه. غير أن من بدأ هكذا انتهى أخيرا إلى إعلان عجزه وفشله في أن يصل إلى الحل المناسب. ولا ينبغي أن ننسى في هذا المقام دعوات الفلاسفة في أوائل القرن العشرين إلى إقامة لغة صناعية "مثالية" تحل محل اللغة الطبيعية؛ طلبا للتوصل إلى حل إشكال القصور اللغوي بعد أن هالهم ما يكتنف الدلالة اللغوية من قصور هائل بصورة حتمية لا مناص منها، من ذلك مثلا محاولات رسل وفتغنشتاين. ثم أعلن كثير منهم بعد عناء تراجعه عن ذلك والعودة إلى اللغة العادية مع الاعتراف بما فيها من نقص وقصور في تأدية المعنى؛ لأنهم رأوا أن اللغة الصناعية لا مفر من أن يصيبها مع الاستعمال ما يصيب اللغة الطبيعية من العجز والقصور في نهاية الأمر.
وكذلك تجدر الإشارة في هذا المقام إلى دراسات (براييل) وما جاء بعدها - متأثرا بها - من بحوث اللغويين وغير اللغويين طوال فترة منتصف القرن العشرين، والتي خلصت جميعها إلى نتيجة واحدة مفادها عدم الأمل في القضاء على مشكلة تعقيد الدلالة اللغوية.
ولعل من أشهر الدراسات في هذا الحقل كتاب (ريتشاردز) و(أوجدن) الشهير: ((معنى المعنى)).فلفظ "المعنى" قد ثبت لدى المؤلفين ريتشاردز وأوجدن انه من أصعب الألفاظ من جهة تحديد معناه. كما تجدر الإشارة أيضا إلى أنهما انتهيا بدلا من حل إشكال المعنى إلى إبراز غموضه وتعقيده.
ثم إذا وصلنا إلى المرحلة الزمنية التي تلي منتصف القرن العشرين إلى وقتنا الراهن وجدنا التباين والمراوحة بين المناداة باستبعاد أي نوع من دراسة قضية المعنى والدعوة إلى الاتجاه نحو "الشكل"، بحجة أن هذا الأخير هو الجانب المنضبط القابل للتحليل العلمي قبالة عدم القدرة على السيطرة على ذلك الجانب الخاص بـ "المضمون"، وبين المناداة بعدم إغفال جانب مهم من جوانب اللغة التي لا يجوز اطراحه وإبعاده في التحليل هو جانب "الدلالة"، ومن ثم اتخاذ الوسائل التي تمكن من الحصول على قدر من التحليل مع الاعتراف بأوجه القصور المنوّه عنها سلفا.
ولا شك في أن هذا التذبذب ينضح عن عمق المشكلة، ويظهر في الوقت نفسه الأرضية التي نشأ فيها التحول من مرحلة التحليل اللغوي المعتبر فيه كامل الوثوق في إمكان الحصول على الدلالة المحددة للحدث الكلامي إلى المرحلة التي لا تطمح إلاّ إلى العناية من جهة بتحليل صلات الدوال بمدلولاتها في ضوء الاعتراف بالمشكلة، والاتجاه من جهة أخرى إلى بذل الجهد في صنع المحاولات التي ترمي إلى التوصل إلى نتائج تتعلق بتلك الصلات يمكن أن توصف بالعلمية ما أمكن.
لقد صوّر بعض الفلاسفة والمفكرين في المجال المعرفي واللغوي، اللغة وطبيعتها المراوغة دلالياً صوراً متعددة. فوصفها فتغنشتاين مثلا وصفاً صار فيما بعد مصطلحاً علمياً قامت عليه تصورات لاحقة، هو وصفه اللغة بأنها "لعبة". وليس وصف فتغنشتاين اللغة باللعبة مجرد تشبيه عارض، بل هو ثمرة اشتغاله على التحديد الدلالي ومشكلاته عقوداً من الزمن، انتقل خلالها من منحى إلى منحى، ومن مشروع إلى مشروع؛ انتقل من تحليل اللغة الطبيعية إلى مشروع اللغة الصناعية/المثالية ثم إلى الارتداد نحو اللغة الطبيعية أو اللغة العادية.
ويرى فتغنشتاين أن في الظاهرة الإنسانية المسماة بـ "اللغة" ما في الألعاب المختلفة التي تمارسها الشعوب. وتتمتع الألعاب كافة على ما بينها من اختلافات بخصائص تحدّد كونها لعبة، وتميزها عن الأشياء الأخرى التي ليست كذلك، أو التي لا يمكن أن توصف بهذا الوصف. لكن اللعبة الواحدة لها من الخصائص ما يميزها عن الألعاب الأخرى، وفي الوقت نفسه تحمل اللعبة في كل مرة تمارس فيها خصائص لا تكون لها في ممارسة أخرى للعبة نفسها في ظرف آخر. وهذا ما يفسر عبارة فتغنشتاين الشهيرة: ((لا تسل عن معنى الكلمة، واسأل فقط عن استعمالها)). وتدل هذه العبارة على أن معنى الكلمة ليس إلاّ طريقة استعمال المتكلمين لها في كل مرة. وسيتبين لنا لاحقا أن كل لعبة يلتصق بها ويكون على هامشها كثير مما ليس منها.
إن المفهوم الشامل الذي طرحه فتغنشتاين، وهو ألعاب اللغة Language Games في كتابه ((بحوث فلسفية)) الذي نشر عام 1953، والذي يقول فيه بأن معاني الكلمات فضفاضة تتحدّد مع استخداماتها المختلفة والخاصة بألعاب اللغة. ويرى فتغنشتاين أن الاعتقاد بأن اللغة يمكن أن تأسر الواقع ضرب من الخداع والسحر.
(3)
إن الكتاب الذي بين أيدينا يستند في أساسه إلى المنهج التحليلي، وقد فضّلت استخدام هذا المنهج في البحث لاعتبارين اثنين هما:
• إن فلسفة فتغنشتاين تسير وفق أصول وقواعد المنهج التحليلي.
• إن الطابع التحليلي لفلسفة فتغنشتاين حدّد بصفة عامة الأبعاد التي تحركت عبرها الفلسفة المعاصرة منذ بداية القرن العشرين.
يقع هذا الكتاب في فصلين يكتنفهما مقدمة. يتناول الفصل الأول سيرة حياة لودفك فتغنشتاين الذي يعد واحداً من أعظم الفلاسفة في القرن العشرين، إن لم يكن أعظمهم جميعاً. إذ ليس هناك من رجل اختلف حوله الناس مثل ما اختلفوا حول هذا الفيلسوف. وفيه نستعرض حياة فتجنشتاين الصاخبة وأفكاره في الفلسفة والمنطق واللغة والحياة.
وينبري الفصل الثاني؛ لبحث "المأزق العميق" الذي واجه النظريات الفلسفية واللغوية المعاصرة التي تناولت قضية المعنى، والذي لاحظه فتغنشتاين قبل غيره من الفلاسفة، و"العلاج" الذي قدمه للخروج من الطريق المسدود التي آلت إليها النظريات الفلسفية؛ وذلك عندما أوضح أن المعنى ليس هو الثابت وإنما هو المتغير والمتبدّل، وأن هذا التغيّر يكون بحسب طريقة استخدام الألفاظ/الكلمات المراد تحديد معناها.
إن الواحد منّا لا يكتب لكي يعلم الغير أو يفكر عنه أو يقول له الحقيقة فحسب، بل يكتب ويفكر، لكي يمارس فاعليته وحضوره أو فرادته عبر ممارسته لحريته في التفكير ولحيويته الفكرية بصورة غنية، مثمرة وثمينة. ومصير الأفكار أن تتغير أو تُعاد قراءتها بصورة مغايرة، مع تطور الأحداث وتغير الحقائق. فكل حدث يفرض نفسه بوقائعيته وبما يولِّده من الحقائق. ولكل حدث منطقه الخاص وشكله المميز في التفكير. إنها قوة الحدث وفرادته. وهذا شأن الحدث الفكري بالذات.
أرجو في النهاية أن أكون قد وفقت إلى تقديم كتاب جيد للمكتبة العربية، وألاّ يجد القارئ صعوبة في تتبع مسار فكر الفيلسوف العظيم، وأن تصل رسالة الكاتب بوضوح إلى الجميع. فإذا وجد القارئ هنات هنا وهناك، وهو أمر محتوم، فأرجو منه الصفح، فالإنسان غير معصوم من السهو والخطأ.
ع.ع
الكويت- 2007
* * * *
الفصل الأول
خصصت مجلة ((تايم Time)) البريطانية عام 1999 ثلاثة من أعدادها على التوالي للحديث عن أعظم رجالات القرن العشرين، فكان العدد الأول من نصيب أعظم عشرة سياسيين، ثم جاء العدد الثاني عن أعظم عشرة من رجال المال والأعمال، وأخيراً كرّست عددها الصادر في 29 مارس عن أعظم عشرة من رجال العلم والفكر، وقد كان اختيارها لأعظم فيلسوف في القرن العشرين وهو النمساوي لودفك فتغنشتاين مفاجأة كبرى للكثير من قرّاء الفلسفة ومتابعيها، وقد جرت عادة هؤلاء عند التحدّث عن أعظم فيلسوف في القرن العشرين أن ينصرف ذهنهم فورا إلى الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905- 1980) (1) أو إلى الفيلسوف الانجليزي برتراند رسل (1872- 1970) (2) فكلا الاثنين فاز بجائزة نوبل للآداب(3) (ليست هناك جائزة نوبل للفلسفة) وكلاهما اشترك في الكفاح السياسي، وتعرضا للسجن والاضطهاد، وقد سجن رسل مرتين وفُصل من عمله ثلاث مرّات رغم أنّه الفيلسوف الذي برهن على أن إمكانية استقراء القوانين الرياضية من المنطق، ورغم أنّه يحمل لقب إيرل. وقد عاش رسل معظم حياته بدون وظيفة، وكان يعيش من إيراد كتبه.
وكان كل من سارتر ورسل أكبر معارضي حرب فيتنام، والاثنان باختصار طَبَعَا القرن العشرين بطابعهما، فلماذا فتجنشتاين الذي لم يكن له أي نشاط سياسي أو اجتماعي، وعاش في كنف رسل ومات في النهاية مغمورا؟
تقول مجلة تايم في تبرير اختيارها، إن الفيلسوف العظيم واحد من اثنين، الأول يحل إشكالية فلسفية بحيث ينتهي البحث والتفكير فيها إلى الأبد، والثاني يؤلف كتابا على درجة كبيرة من التعقيد، ويظل محلاً للمنازعة والاختلاف إلى الأبد أيضاً، كما يظل واحداً من الكتب التي لا بدّ أن يقرأها طلاب الفلسفة في كل زمان ومكان، وفتجنشتاين تصدّى لتأليف الكتاب الأول وأراد أن يكرّس حياته لذلك، ولكن الأمر انتهى به إلى تأليف الكتاب الثاني بدلا ًمن الكتاب الأول الأمر الذي يذكّرنا بمقولته الشهيرة: ((الفلاسفة مثل الأطفال الصغار الذين يخربشون كلمات على الورق ثمّ يسألون الآخرين عن ما تعنيه)).
طفولته ويفاعته
ولد لودفك جوزيف يوهان فتغنشتاين Ludwig Wittgenstein في 26 أبريل عام 1889، وهو الابن الأصغر من بين ثمانية إخوة، وينتمي إلى واحدة من أغنى الأسر في هايسبرج بفيينا.
امتلك والده كارل (1847- 1913) الذي كان يعتبر أحد أقطاب صناعة الحديد والصلب ثروة طائلة، وكان يطلق عليه لقب "كارنيجي النمسا"(4)، وقد مكَّنت هذه الثروة الكبيرة الأسرة من أن تحيا حياة أرستقراطية باذخة. وكان يطلق على منزلهم في فيينا قصر فتغنشتاين. كما كانت الأسرة تمتلك منزلاً في ضواحي فيينا، ومزرعة كبيرة في الريف النمساوي.
كان آل فتغنشتاين في قلب الحياة الثقافية في نهاية القرن التاسع عشر. فقد كانت فيينا مسقط رأس عدد كبير من الشخصيات الفكرية والعلمية والثقافية والسياسية البارزة مثل سيغموند فرويد (1856- 1939) (5) مؤسس طريقة التحليل النفسي، وأدولف لوس (1870- 1933) (6) الكاتب والمحاضر ومؤسس المذهب العملي الحديث في فن العمارة، وهناك أرنولد شونبورغ (1847- 1915) (7) مؤسس الموسيقى المتحررة من الشكل التقليدي، وكذلك أدولف هتلر(1889- 1945) (8) زعيم ألمانيا النازية، وثيودور هرتزل (1860- 1904) (9) مؤسس الصهيونية السياسية المعاصرة.
نشأ لودفك في بيت تغمره الموسيقى وتفتحت عيناه في طفولته المبكرة على سبع آلات بيانو تملأ المنزل الذي شهد طفولته، وكان مؤلفا الموسيقى يوهان برامز (1833- 1897) (10) وغوستاف مالر (1860- 1911) (11) من الزوار الدائمين للأمسيات الموسيقية التي كانت تقام في المنزل. وقد أصبح أحد إخوته عازف كونشيرتو بيانو شهير.
وعندما تقاعد والده من عمله في الصناعة أصبح راعياً كبيراً للفنون البصرية، واستطاع جمع أعمال جملة من المصورين والرسامين النمساويين مثل غوستاف كليمت (1862- 1918) (12) وايكون شيلي (1890- 1918) (13) واوسكار كوكوشكا (1886- 1980) (14) وذلك بمساعدة ابنته الموهوبة في الرسم.
حصل لودفك مثل بقية إخوته على تعليم خاص بواسطة معلمين ومربيات. فقد كان والده يعتقد أن إرسال أولاده إلى المدارس النمساوية يجعلهم يلتقطوا العادات العقلية السيئة السائدة فيها.
كان لودفك هادئاً ومطيعاً ولكنه كان يتمتع بقدر كبير من الموهبة العملية. ففي سن العاشرة تمكَّن من تركيب نموذج عملي لماكينة حياكة باستخدام قطع من الأخشاب والأسلاك.
أرسل عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره إلى مدرسة يغلب عليها الطابع العملي غير الأكاديمي. ولعل من المصادفات الغريبة في هذه المدرسة أن أدولف هتلر كان هناك أيضاً، والذي كان في مثل عمر لودفك.
ذهب لودفك عندما بلغ السابعة عشر والنصف من عمره إلى دراسة الهندسة الميكانيكية في برلين في ((المدرسة الفنية)) العليا أشهر مدارس الهندسة الألمانية، وفيها أكمل دراسته حتى حصل على درجة الدبلوم.
في عام 1908 ذهب لودفك إلى مانشستر كطالب باحث في الهندسة وبقي هناك ثلاث سنوات. وكان مهتماً بعلم الطيران، وبدأ بحثه بإجراء تجارب على طائرات ورقية، وفي ذلك الوقت كانت المعلومات المتوفرة عن الغلاف الجوي شحيحة.
استمر لودفك في إجراء تجاربه حول إحتراق الغازات ذات الضغط العالي، ثم أصبح مهتماً بتصميم مراوح الطائرات، مما يتطلب معالجة رياضية، وهكذا وجد نفسه منهمكاً في دراسة أسس ومبادئ علم الرياضيات.
بدأ لودفك وبفترة قصيرة في تأليف كتاب عن أسس علم المنطق والرياضيات وعرض ما كتبه على الفيلسوف الألماني وعالم الرياضيات الكبير غتلوب فريجه (1848- 1925) (15). وقد نصحه فريجه أن يذهب إلى كيمبردج والدراسة على الفيلسوف البريطاني الشهير برتراند رسل.
فتغنشتاين ورسل
ذهب لودفك فتغنشتاين إلى كلية ترينيتي في كيمبردج للدراسة تحت إشراف برتراند رسل الذي كان يعمل محاضراً لمادة المنطق الرياضي. وقد أدى ذلك إلى قيام علاقة صداقة ذهنية حميمة بين فتغنشتاين ورسل أثرت في حياتهما (16).
وسرعان ما تم التعرف على القدرات العقلية والذهنية غير العادية لفتغنشتاين. فقد لاحظ الفيلسوف جورج مور (1873- 1958) (17) المحاضر في الفلسفة في كلية ترينيتي جملة من السلوكيات "الغير عادية" للطالب فتغنشتاين خلال إلقائه لمحاضراته. فقد كان يبدو دائم الحيرة والارتباك على العكس من بقية الطلبة. كان هذا ما لاحظه مور.
ذهب فتغنشتاين في نهاية الفصل الدراسي الأول إلى رسل، وقد اقترح عليه هذا الأخير كتابة مقالة حول أي موضوع فلسفي خلال فترة العطلة، وقد قام بذلك فعلاً، وعندما قرأ رسل الجملة الأولى اقتنع بأن فتغنشتاين شخص عبقري.
كان فتغنشتاين عادة يزور رسل في منتصف الليل، ويظل يخطو في الغرفة جيئةً وذهاباً كأنه "وحش" كاسر لساعات صامتاً ومتوتراً نتيجة للصراع الداخلي الذي يعانيه من جراء التفكير في المسائل المنطقية، وفي خطاياه. قال رسل: ((كنت أخشى أن أنبهه إلى أن وقت النوم قد حان لأنني كنت أشعر أنني لو فعلت ذلك قد يفقد صوابه!)). جاء ذلك في كتابات رسل فيما بعد.
سرعان ما تحوّل فتغنشتاين من مجرد تلميذ من تلاميذ رسل إلى أستاذ بعد أن حقّق تقدُّماً مذهلاً. وكان رسل آنذاك يقوم بتأليف كتاب ضخم عن نظرية المعرفة وقام بعرض الكتاب على فتغنشتاين، إلاّ أن هذا الأخير انتقد الكتاب انتقاداً جذرياً لدرجة جعلت رسل يتخلى عن الكتاب وأحس برغبة في ((الانتحار)) على حد تعبيره. وقرر رسل ترك العمل في مجال أسس المنطق إلى فتغنشتاين.
قرر فتغنشتاين في عام 1913 الذهاب إلى النرويج كي يعيش هناك لمدة سنتين على نفقته الخاصة ليتفرغ للتأمل والعمل في كتابه عن المنطق، وحاول رسل إقناعه بالعدول عن قراره إلاّ أنه لم يفلح (18).
الوطنية والحرب
كان فتغنشتاين وطنيا إلى حد كبير. ففور قيام الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) التحق بالجيش النمساوي كمتطوع في سلاح المدفعية، وتم إرساله إلى الجبهة الشرقية. وخلال العامين الأولين لم يشاهد الكثير من المعارك العسكرية وإن كان قد عانى من قسوة الظروف القاسية، وعبثية الحرب. وفي فترات الراحة من الواجبات استأنف فتغنشتاين كتابة أفكاره عن المنطق بالإضافة إلى أفكاره عن حالته الروحية في مفكرته الخاصة.
في عام 1913 توفى والد فتغنشتاين تاركاً له ثروة ضخمة، ومع ذلك كان فتغنشتاين مقتنعاً بأن المال مضر ومؤذ بالفيلسوف وأن من يعمل بالفكر عليه أن يتخفف من هموم الدنيا. وهي وصية صعبة جداً. ولعله في ذلك كان مقتدياً بموعظة السيد المسيح: ((إنه لأسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من أن يدخل غني ملكوت الله)) (19). وهكذا قام بتوزيع مجمل ثروته حتى آخر فلس لأشقائه وأقربائه وأصدقائه وعلى بعض الشعراء النمساويين والفنانين المحتاجين للمال بمن فيهم الشاعر النمساوي جورج تراكل (1887- 1914) (20)، والشاعر الألماني رينر ماريا ريلكه (1875- 1926) (21) والكاتب ثيودور هيكر(22).
كان فتغنشتاين من الأنفة، يقول رسل، بحيث لم يقبل مني أي شيء كيفما كان. فانتهينا معا للحل التالي: ((أشتري منه كتبه ومتاعه الذي يملكه بكيمبردج، والذي أبدى رغبة في بيعه لي، وحتى لا يظفر بهذا المتاع تاجر مفروشات لا يقدر قيمته، اقتنيته بالثمن الذي اقترح هو. وكانت قيمة هذا الأثاث أكثر بكثير مما يتصور. ولعلها أفضل صفقة مربحة في حياتي)).
وفي مارس من عام 1916 تم نقل فتغنشتاين إلى وحدة قتالية على الجبهة الروسية كجندي عادي، وفي شهر يونيو قامت روسيا بشن هجومها الكبير وبذلك بدأت أعنف المعارك في هذه الحرب. وقد تحملت كتيبة فتغنشتاين وطأة الهجوم ومنيت بإصابات جسيمة، وبناء على طلب شخصي منه تم نقله إلى مكان من أكثر الأماكن خطورة، حيث تم وضعه في نقطة مراقبة أمامية على الجبهة حتى يتمكن من إجراء رصد لمواقع مدفعية الطرف الآخر.
على الرغم من أن فتغنشتاين عالم منطق. فقد كان في نفس الوقت وطنياً، ورجل سلم. وكان يحمل تقديراً كبيراً للشعب الروسي، حيث آخى الروسيين وصادقهم إبان تواجده بالجبهة. يقول رسل: ((حكى لي فتغنشتاين أنه في يوم ما، وبينما لم يكن لديه ما يعمله، نزل إلى إحدى القرى البولونية، فعثر صدفة على مكتبة، اعتقد لأول وهلة أنه سيجد فيها على الأقل ما يقرأه، وإذا بها مكتبة بكتاب واحد: كتاب تولستوي(23) حول الأناجيل(24). اقتناه، فكان للكتاب وقع كبير عليه. إذ أصبح ولمدة من الزمن متديناً جداً. لدرجة أصبحت معها - أي رسل- في نظره شريراً جداً، وأمسى يتجنب معاشرتي)).
لقد منح فتغنشتاين الميدالية الأولى من ميداليات للشجاعة عدة. وتوحي مذكراته حول تلك الفترة تحديداً بأن هنالك تغيراً جذرياً قد طرأ على تفكيره. لقد بدأ يستوعب كيف أن أفكاره عن المنطق ذات صلة باهتمامه في أن يحيا حياة مستقيمة. يقول في إحدى ملاحظاته: ((نعم، إن عملي قد اتسع وامتد من أسس المنطق إلى جوهر وحقيقة العالم)).
تمت ترقية فتغنشتاين إلى رتبة ضابط واشترك في معارك أكثر ضراوة، وعند نهاية الحرب أسر ضمن حوالي 300 ألف جندي نمساوي من لدن الإيطاليين، وقد قدّر لحوالي 30 ألف جندي منهم أن يموت في الأسر نتيجة للجوع والمرض، وقد سعت أسرة فتغنشتاين لإطلاق سراحه، إلاّ أنه رفض ذلك ما لم يتم الإفراج عن آخر رجل من رجاله.
رسالة في المنطق والفلسفة
وفي هذه الفترة كان فتغنشتاين قد أكمل كتابه الأول الموسوم بعنوان لاتيني هو (Tractatus Logico-Philosophicus) أو رسالة في المنطق والفلسفة(25) والتي تعتبر تتويجاً لأفكاره عن المنطق والفلسفة والأخلاق والتصوف. وقد قام فتغنشتاين بإرسال مسودة كتابه "الرسالة" إلى دور نشر عدة أجمعت على رفضه، بما فيهم مطبعة جامعة كيمبردج والتي ميَّزت نفسها عن باقي دور النشر الأخرى برفض جميع كتاباته، وتم نشر عمله اللاحق من لدن ناشر في أكسفورد. وفي عام 1922 استطاع أخيراً وبمساعدة من رسل(26) أن ينشر كتابه رسالة في المنطق الفلسفة، ولكن لم يُدْفع له أي مبلغ نظير حقوق النشر، ولم يحصل على أي مستحقات مادية نظير مبيعات الكتاب الذي أصبح خلال فترة وجيزة من الأعمال الفلسفية الأصيلة.
يعتبر كتاب "الرسالة" من الأعمال الفلسفية الكلاسيكية في القرن العشرين وهو كتاب مختصر يقع في حوالي سبعين صفحة ويحتوي على ملاحظات عن جوهر اللغة، وطبيعة العالم، والمنطق، والرياضيات، والعلم، والفلسفة، وينتهي بملاحظات عن الأخلاق والدين والتصوف.
يؤكد فتغنشتاين في مقدمة "الرسالة" على أن كتابه لن يُفهم إلاّ من لدن الأشخاص المستعدين للتفكير، وأن الرسالة ليست كتاب مدرسيّ. ويؤكد أيضاً على أن الرسالة تتعامل مع المشكلات الفلسفية، وتظهر أن الفلسفة بمشكلاتها وحلولها التقليدية، إنما تنشأ عن سوء استخدام اللغة.
ينقسم الكتاب إلى أجزاء عدة وفق نظام رقمي صارم، وتم ترتيب الأرقام في شكل معقَّد من المصفوفات المبنية حول الرقم سبعة، وقد بيَّن هذا النظام كيف أن كل ملاحظة تَدعَمُ وفي الوقت نفسه تُدعَم من لدن الملاحظات الأخرى.
ومع أن الطروحات التي تتكون منها، نادرا ما كانت موضوع تعاليق توضيحية من لدن المؤلف، فإن هدفها كان طموحاً جداً: إذ لا يتعلق الأمر فعلا إلاّ بوضع حد نهائي للتِّيه القديم للفلسفة، بغية تمييزها عن باقي العلوم، وبالضبط عن المنطق الذي لن تختزل فيه بأي حال من الأحوال، وهو عكس ما ذهب إليه رسل.
يتأسس هذا كتاب "الرسالة" على نظرية أنطولوجية Ontology (وجودية) (27) تعتبر بمقتضاها بنية الواقع متجانسة في عمقها مع بنية الفكر. ذلك أن العالم، حسب هذه النظرية، يتكون من وقائـع جزئية تنحل إلى وقائع ذرية، أي إلى صور لأشياء أولية. والأمر نفسه بالنسبة للفكر، الذي لا يشكل إلاّ شيئا واحدا مع اللغة. إذ يتكون هو كذلك، من قضايا مركبة، تنحل إلى قضايا ذرية ترتبط فيما بينها بأسماء، أي علامات بسيطة على أشياء.
ينتج عن هذا "التقابل" أن مجموع القضايا الصادقة تجريبيا، المطابقة لمجموع علوم الطبيعة، تقدم ((صورة منطقية عن الواقع)) (28)، وبتعبير آخر، تقدّم صورة مطابقة عن الواقع. وهكذا تصبح صلاحية العلوم موضع تساؤل، حتى وإن كانت هذه العلوم لا تعمل في نظر فتجنشتاين سوى على "وصف العالم" عوض القدرة على ((تفسيره)). أما القضايا المنطقية- الرياضية، فهي محض ((تحصيل حاصل))، لا تصف أي واقع سابق على الوجود، ولا هي في حاجة نهائيا لكي ((تشيّد)) (29). كما أن الرياضيات هي كذلك، ((لا تعبر عن أي فكر)) (30).
ومع ذلك، فإن كانت ((كل قضايا لغتنا العادية))، بالصورة التي عليها، منظمة بشكل منطقي كامل، فإن كل ما يقال هو مجرد وصف بسيط للعالم، وهكذا ترجع كل الأسئلة المتعلقة بـ ((معنى)) العالم، على وجه الخصوص، إلى ما لا يقال. فإذا ما كان للحياة من معنى، فإن هذا المعنى لا يمكن أن ((يقال)) داخل "ميتا- لغة" أي لغة ما ورائية أو لغة خاصة، بل يستدل عليه فقط. باختصار، فإن علم الأخلاق، كخطاب، مستحيل، شأنه شأن علم الجمال، ما داما هما معاً شيئاً واحداً.
الخلاصة إذن؛ أن الفلسفة لا تملك موضوعاً، ولا منهجاً خاصاً بها، فهي ((ليست نظرية، بل فعالية)) (31)، فائدتها الوحيدة ((توضيح)) أفكارنا.
بمعنى آخر، على الفلسفة أن تزيل بواسطة التحليل، ((أشباه القضايا)) الميتافيزيقية الناجمة عن استعمال خاطئ للغة. أما عمّا تبقى، فالأفضل هو الصمت، كما تنصح بذلك في نبرة صوفية غريبة، الأطروحة الأخيرة من الرسالة: ((لنلتزم الصمت، فيما لا نقدر على قوله)) (32).
كان هذا المذهب العويص لفتغنشتاين مدعاة لسوء فهم. وهكذا اعتقد في بادئ الأمر كل من فريدريك شليك (1882- 1936) (33) وهو فيلسوف اغتيل من لدن أحد الطلبة النازيين، وردولف كارناب (1891-1970) (34)، وفلاسفة "حلقة فيينا"(35) من الوضعيين المنطقيين، أن فتغنشتاين قد أعلن بطلان الميتافيزيقا. لكن الأمر، كان خلاف ذلك.
إن فتغنشاين يعلن فعلاً بأن الميتافيزيقيا غير ممكنة كخطاب، لكن الجزم بأن ثمة حقائق بالإمكان إثباتها أو التحقق منها، دون القدرة على ((قولها))، لا يفترض قطعا كونها حقائق غير موجودة.
لقد كان كتاب "الرسالة" المختصر والمكثف والعميق؛ مدعاة لقراءات وتأويلات متعددة ومختلفة. وقد كان فتغنشتاين واعياً لهذه المسألة، حيث اقترح على ناشره أن يضيف بضعة أوراق بيضاء حتى يصب القارئ الذي لم يفهم شيئا، غضبه فيها!
معلِّم بالفطرة
اعتقد فتغنشتاين أن كتاب رسالة في المنطق والفلسفة قد وجد حلاً لكل المشاكل الفلسفية، لذلك أراد العيش على المال الذي يكسبه فقط، فانتقل من منزل العائلة إلى سكن بالقرب من كلية المعلمين حيث تم تأهيله للعمل كمدرس في المدارس الابتدائية.
كان فتغنشتاين يريد في ذلك الوقت العيش والعمل وسط القرويين الفقراء. كان دخله المادي من ذلك متواضعاً ولكنه تمتع بحياة "داخلية" عميقة وثريّة بالمثاليات التي سعى دائماً للعيش بها وتعليمها للآخرين.
كان معلماً بالفطرة ولكن من النوع غير التقليدي، حيث لم يكن يلقي على التلاميذ دروساً وإنما كان يوجههم بواسطة الأسئلة. لقد جعلهم يخترعون ماكينة بخارية، ويتعلمون التشريح بتجميع هيكل عظمي لقطة، كما علمهم الفلك بأن جعلهم يراقبون السماء ليلاً وهكذا. واهتم بشكل خاص بعلم الرياضيات حتى أنه قام بتدريسه في مستوى أعلى من مستوى عمر تلاميذه.
قام بالتدريس في مدارس قروية بجنوب فيينا ولكنه لم يحظَ بشعبية بين القرويين. إذ كتب فتغنشتاين إلى رسل مرة قائلا: ((إن سكان قرية تراتنباخ شريرون جدا)). وكان جواب رسل: ((نعم إن البشر جميعا أشرار))، فأردف مجيبا: ((بالتأكيد، لكنهم في تراتنبارخ أكثر شرا من أي مكان آخر)). فاعترض رسل عليه لأن تصوره المنطقي لا يستسيغ قضية كهذه. لكن وجهة نظر فتغنشتاين هذه كان لها ما يؤسسها، ذلك أن سكان هذه القرية رفضوا مدّه بالحليب، إذ كان يعلم أطفالهم مقادير لا علاقة لها بالنقود. ولقد عانى، في هذه الفترة الجوع والحرمان الجسيم. ورغم ذلك فمن النادر التوفّق في انتزاع اعتراف منه حول هذا الموضوع. لقد كان له كبرياء لوسيفر(36) إذا جاز التعبير. هكذا كان فتغنشتاين يرحل للتدريس في مدارس قرى أخرى ولكنه كان يُقابل بردود الأفعال نفسها من سكان تلك القرى.
وخلال هذه الفترة كتب قاموساً لتلاميذ المدارس الابتدائية ولكنه حظي بنجاح محدود. وفي عام 1926، تخلى عن العمل في التدريس وهو الأمر الذي أراح القرويين ولكن أسف له مفتشو التعليم بالمقاطعة الذين كانوا يحترمون قدراته كمدرس لأقصى حد.
خلال الفترة من 1926 إلى 1928 انشغل فتغنشتاين بتصميم وبناء منزل لإحدى شقيقاته في فيينا، والتي استأجرته كمهندس معماري، فضمن له هذا العمل العيش لسنوات. وبعدما أبدى رغبته في استئناف بحوثه، استقر من جديد بكيمبردج في يناير 1929، حيث عرض عليه أصدقاؤه القدامى بكلية ترينيتي، منصب مدرس.
بدءا من هذه اللحظة، انخرط فكر فتغنشتاين في عملية هدم تدريجية لأطروحات كتابه "الرسالة"، وتجلت في تلك النصوص التي رفض فتغنشتاين نشرها، فطبعت بعد وفاته بفضل تلاميذه.
هدم "الرسالة"
منطلق عملية الهدم هذه، هو نفسه المعبّر عنه في "الرسالة"؛ والمتعلق دائما بمعرفة الكيفية التي يمكن أن تحل بها نهائيا المشاكل الفلسفية. لكن البحث هذه المرة، سيتخلى عن الانطولوجيا، لينطلق من التفكير في اللغة بما هي عالم مستقل، لا كصورة لوقائع.
بدأت هذه المرحلة بنصوص سنة 1929 ((بعض ملاحظات على الصورة المنطقية Some Remarks on the Logical Form))، ومحاضرات سنوات 1930-1933، لتتوج بـ ((الكتابان الأزرق والبني Blue and Brown Books))، والذي يشكّل مرحلة حاسمة في تفكير فتغنشتاين، حيث تبلورت ولأول مرة موضوعة ((لعبة اللغة)). وهذا الكتاب أو الدفتر بدأ بالكتاب الأزرق وهو عبارة عن محاضرات خاصة عدة، ألقاها فتغنشتاين على اثنين من طلبته فيما بين عامي (1933- 1934).
إن ألعاب اللغة - كما يقول فتغنشتاين - هي صيغ لاستعمال علامات أكثر بساطة من تلك الصيغ المعقدة جدا التي نستعمل بها العلامات في لغتنا اليومية. إنها تتطابق مع أشكال ((بدائية)) للغة، الأشكال التي يبدأ بواسطتها الطفل في استعمال الكلمات. وينبغي بالتالي فحصها، إذا ما أردنا إزالة "الغشاوة الذهنية"، التي تغلف عادة الطريقة التي نستعمل بها الكلمات.
يطبّق الدفتر أو الكتاب البني، الذي أملاه فتغنشتاين سنة 1935، هذه النصيحة، إذ يتناول القسم الأول منه، بترتيب منهجي ثلاثة وسبعين استعمالاً للغة. الاستعمال الأول بسيط نسبياً: يصدر بَنّاء أوامره لمتعلم مبتدئ، لتزويده بأدوات البِناء، مستعملا في ذلك أسماءها فقط: "بلاطة"، "قرميدة"، "آجرة". سنقول عندئذ بأن المتعلم فهم "معنى" هذه الكلمات، عندما لا يخلط نهائيا بين الأدوات والألفاظ التي تدل عليها. تكمن الفائدة التي نجنيها من تصور كهذا، في التخلص من الفكرة الميتافيزيقية التي تكتسي اللغة بموجبها "شكلا" واحداً وضرورياً.
لقد اهتم فتغنشتاين، بشكل مواز، بمجالات بحث جديدة بالنسبة إليه. فقد جذبه للإثنولوجيا(37) إعجابه بالموقف "العملي"، أو "الوظيفي" الذي يعتبر الثقافات الإنسانية، بقدر ما هي أنساق منغلقة على ذاتها، مختلفة لكنها كلها صالحة.
واهتم كذلك بـما يعرف بـ "سيكولوجيا الهيئة"(38). والتي جذبه إليها إعجابه فيها بالرؤية "الشمولية"، القريبة من التحديد الفينومينولوجيا Phenomenology(39)، هذه السيكولوجيا التي تدرس بعض مظاهر سلوكنا على أنها كليات دالة.
تجلى، بصفة خاصة، هذا الهم المزدوج، العملي والفينومينولوجي، في ثلاثة نصوص. هكذا ركزت دروس سنة 1938 على المعتقد الديني بما هو معتقد مشروع كـ"شكل للحياة". ويبدو كذلك هذا الاهتمام المزدوج، فيما دوّنه بين سنتي 1937و 1944 في كتاب ((ملاحظات حول أسس الرياضيات Remarks on The Foundations of Mathematics))، وهو عبارة عن مختارات من ملاحظات سجلها فتغنشتاين عن فلسفة الرياضيات، والذي شبه فيه قوانين الرياضيات بقواعد لعبة الشطرنج.
أما المؤلَّف الأكثر اكتمالا في هذه الفترة الثانية من الوجود الفكري لفتغنشتاين، فهو طبعاً كتاب ((بحوث فلسفيةPhilosophical Investigations)).
بحوث فلسفية
لهذا الكتاب وضع خاص، فقد كتب بين سنتي 1936 و1949، وكان فتغنشتاين يأمل، بشكل استثنائي في نشره، إلاّ أنه لم ير النور إلاّ بعد وفاته بسنتين، أي عام 1953.
أثار هذا الكتاب ردود فعل كثيرة. والسبب في ذلك هو التالي؛ بينما كانت "الرسالة" تقدم في ترتيب، وعلى نمط دوغمائي، الطروحات وكأنها نهائية، كانت "البحوث الفلسفية" تكشف عن فكر متحرك، فكر يغتني بفضل حوار متخيل مع مخاطب "ارتيابي"، حوار لا يفضي قطعا لخلاصة ثابتة.
يقدم القسم الأول من هذا الكتاب، مقارنة بالدفتر البني، إثراءً هاماً لموضوعة لعبة اللغة. وهكذا فكل لغة، ليست في الواقع إلاّ مجموعة ألعاب مقعّدة (أي لها قواعد)، مشدودة بوضعيات في الحياة، قابلة للتبديل، حتى وإن كان البعض منها يكشف عن ((تشابهات عائلية))، ولائحة هذه الاستعمالات لا متناهية: ((إقرار أمر، وصف شيء، رواية حدث، صياغة فرضية، ابتكار قصة، فك ألغاز، قول نكتة، حل مشكل حسابي، ترجمة، توسّل، شكر، كره، ترحيب، دعاء…)) (40). كما أن معناها لا يسبق وجودها: إنه لا يفهم إلاّ في إطار السياق الملائم لاستعمالها.
ليست اللغة، إذن، إلاّ ((صندوق عدّة ضخما)) كل ما أستطيع قوله بالنسبة لأية كلمة، وبالنسبة لأية أداة، أني أفهم ((دلالتها)) عندما أفهم ((استعمالها))، أي عندما أطبق من دون أن أنخدع، القواعد التي تنظمها. وهي قواعد لا تكتنفها أسرار، ما دامت تعكس وبكل بساطة الممارسات المعمول بها في الثقافة التي أنتمي إليها.
إن تصوراً للمعرفة كهذا (إنثربولوجي- لساني) هو في حد ذاته انفصال مدهش عن طموح الفلسفة الغربية. إن اللغة بالنسبة لفتغنشتاين في مرحلة تفكيره "الثانية"، إن جاز التعبير، لا تعلمنا شيئا عن بنية العالم. كما توقفت الفلسفة، في نفس الآن، عن أن تكون نمطا للمعرفة. بل لا يوجد فضلاً عن ذلك، ما هو قابل للمعرفة. ينبغي فقط، ولكي " تشتغل" المعرفة، احترام قواعد "النحو". وما تعبر عنه الفقرة التالية واضح وجلي: ((إن الفلسفة لا يجوز لها أن تتدخل في الاستخدام الفعلي للغة. إنها في النهاية لا تستطيع إلاّ أن تصفه. إنها لا تستطيع كذلك أن تؤسسه (أو تسوِّغه). إنها تبقي كل شيء كما هو. كما أنها تترك الرياضيات كذلك كما هي، ولا يمكن لأي كشف رياضي أن يؤدي إلى تطويرها)) (41).
من جهة أخرى، فإن النحو وحده، عاجز عن الحيلولة دوننا واختراق الفلسفة. إن الفلسفة تحتفظ إذن في نظر فتغنشتاين بوظيفة: علاج "الأمراض" التي تسببت فيها هي نفسها. وتعتبر المعالجة الجادة والهامة في القسم الثاني من كتاب "البحوث الفلسفية"، من الأهمية والشمولية مقارنة مع نظيرتها في "الرسالة"، ذلك أنها لا تحيلنا على المنطق، بل على علم النفس، إذ لا يتعلق الأمر قطعا، بتحليل بنية القضايا الميتافيزيقية بغية إيضاحها، بل يتعلق قبل كل شيء، بـ ((البرهنة)) على العمليات الذهنية التي تدفع بنا لصياغة قضايا كهذه. إنه بصورة عامة، نفس المسار لبلوغ نفس الهدف. لكنه هذه المرة أكثر تعقيدا، وأكثر تشاؤما.
مسألة اليقين
تظهر بجلاء هذه النزعة التشاؤمية، في بعض الملاحظات أوردها فتغنشتاين في الفترة ما بين (1945- 1947). والتي لا يتردد فيها بالإعلان أن "القنبلة الذرية" مؤدية لا محالة للدمار الكلي للإنسانية.
لم يركن فتغنشتاين إلى الصمت، بل اختار عكس ذلك، مواصلة أبحاثه السيكولوجية التي بدأها في "البحوث الفلسفية"، وذلك بكتابته لـ ((ملحوظات حول الألوان Remarks On Colour))، ومباشرة العمل بعد ذلك في عمل جديد كرّسه فتغنشتاين هذه المرة لمسألة "اليقين".
في الفلسفة الغربية، افترض الفلاسفة أن معرفتنا قائمة على حقائق أساسية يجب أخذها على أنها حقائق مسلّم بها. وإذا لم نأخذها على أنها كذلك، فإن صَرْح المعرفة بأسره سوف يكون غير مؤكد وسيسود الشك كل شيء في هذا العالم. وحينها لن نعرف حتى ما إذا كنّا نحلم أم لا.
إن قضية رينه ديكارت (1596- 1650) (42) المنطقية ((أنا أفكر، إذن فأنا موجود)) تعتبر مثالاً شهيراً على افتراض الوصول إلى أعماق الحقيقة.
وقد حاول جورج مور الذي سبق فتغنشتاين في رئاسة كرسي الفلسفة في جامعة كيمبردج أن يخفف من الشك القائم حول جميع أنواع المعرفة برفع يديه في أحد المحاضرات متحدثاً وهو يشير إشارات مناسبة للمعنى الذي يريده. نستنتج من ذلك أن مور قد أدرك إدراكاً يقينياً أن هناك أشياء خارجة عن نطاق العقل البشري، وأنه لم يكن يحلم.
وقد ناقش فتغنشتاين في ملاحظاته التي جمعها في كتابه المسمى ((في اليقين On Certainty)) استنتاجات مور. لقد قدَّم مور قضايا منطقية زعم أنه يعلمها علم اليقين، وهناك أمثلة كثيرة على هذه النوعية من القضايا منها على سبيل المثال: ((أنا إنسان))، ((أنا حي))، ((أنا جالس أكتب رسالة))، ((أنا لم أذهب إلى كوكب المريخ))، ((الأرض وجدت قبل أن أولد بوقت طويل)) وغيرها.
في الظروف العادية لن يُقْدم أحد على التعليق على هذه القضايا المنطقية أو ينتابه الشك حيالها. أما في الظروف الاستثنائية سوف يحدث ذلك. فقد يأتي وقت يكون فيه معظم الناس قد زاروا كوكب المريخ، كما أن الأشخاص المصابين بحالات اكتئاب حاد يقولون أحياناً؛ إنهم ميتون. وفي بعض الأحيان يشعر الناس بأنهم ليسوا بشراً ..الخ. وحتى أسئلة الفيلسوف سينطبق عليها هذا الأمر.
عندما نقول، في الأحوال العادية، إننا نعرف شيئاً، فإننا نستطيع أن نقدم أسباباً مقنعة لذلك. ولكن عندما يقول الفيلسوف؛ إنه يعرف (أنه يرفع يديه أمامه) فإنه لا يستطيع تقديم سبب يحمل درجة اليقين نفسها التي يحملها الشيء الذي بواسطته نرمي إلى الرهان على اليقين. ذلك أن يقيني بامتلاكي ليدين لن يتزعزع سواء كان ذلك قبل أو بعد النظر إليهما.
فعلى سبيل المثال، ما هي الإجابة التي يستطيع المرء أن يقدمها لشخص يقول: ((إنني أعتقد أن كل ما في الأمر هو أنه يخطر على بالك أنك تعرف هذا الشيء؟)). ولذلك فإنك عندما تقول: ((إنني أعرف)) فإن قولك يعتبر في هذه الحالة لا معنى له.
لذلك يجب أن يكون هدفنا هو تجنّب مواجهة التأكيد الجازم بأن المرء لا يستطيع أن يعرف ما إذا كان هذا الشيء ((يد أم شجرة)) عن طريق القول ((إنني أعرفها)). يجب علينا أن نتخذ طريقاً وسطاً بين الشك الذي ينتابنا بخصوص ما إذا كنا نعرف أي شيء على الإطلاق وبين دوغمائية مور المتمثلة في إدعائه الجازم بأنه يعلم الأشياء الأساسية علم اليقين.
يطلق على المقولات الأساسية التي كنّا بصدد مناقشتها قضايا "قاع النهر". وهذه القضايا تؤخذ كأمور مسلَّمة بها في المحادثات العادية، وتشكل الإطار الخاص لسلوكنا الاعتيادي. إنها تعبر عن الخلفية المستقرة ولكن غير الثابتة التي تعتمد عليها ممارسات التساؤل والمعرفة.
فالطفل على سبيل المثال، يجب أن يشترك في نشاط ما، أو في لعبة لغوية قبل أن يستطيع استعمال كلمات مثل ((يعرف))، ((يعتقد)) و((يكون متأكداً)). والطفل أيضاً يجلب كتباً ويجلس على مقاعد، قبل وقت طويل من استطاعته فهم ما إذا كانت هذه الأشياء موجودة أم لا، أو إنها يمكن أن تكون يقينية. ولكن، هل يمكن أن يقال عن الطفل؛ إنه يعرف أن الشجرة موجودة؟ هل يعتقد الطفل بأن الحليب موجود؟ أو هل يعرف أن الحليب موجود؟
كان فتغنشتاين معجباً بقول الشاعر الألماني غوته (1749- 1832) (43) على لسان بطل إحدى مسرحياته (فاوست): ((في البدء كان الفعل)). فالأفعال الغريزية، وردود الأفعال، وليس المعرفة هي الأشياء الحيوية بالنسبة لتكوين المفاهيم والتطور اللاحق للمعرفة.
إن مقولات قاع النهر لا تعتبر جزءاً من حركة سير الحديث العادي، ولكنها مفترضة مسبقاً بواسطته. كما أنها لا تكوّن أيضاً أسس المعرفة بالطريقة نفسها التي سعى بها الفلاسفة التقليديون لتحقيقها. إن هذه المقولات هي الأجزاء المخفية من اختلافات متعددة وهي متشعبة الجذور وليست مجموعة ثابتة من العقائد الأساسية التي يمكن بناء المعرفة على أساسها.
حياة رائعة
في عام 1939 تم اختيار فتغنشتاين أستاذاً لكرسي للفلسفة في جامعة كيمبردج. إلاّ أنه لم يستمر طويلاً في هذا المنصب، وذلك بسبب اشتعال نيران الحرب العالمية الثانية.
لذلك عمل في عام 1941 حمّالاً في مستشفى ((غاي Guy's)) خلال فترة الهجوم الجوي الصاعق الذي شنّه الألمان على لندن. وفيما بعد ذهب إلى نيوكاسل للعمل كفني في مجال الأبحاث الخاصة بصدمات الجروح وكانت له فيها إسهامات قيّمة.
في عام 1947 استقال فتغنشتاين من عمله كأستاذ جامعي في كيمبردج لأنه أراد أن يكتب ولأنه شعر بأن التدريس لم يكن له تأثير طيب عليه. وهكذا ذهب للعيش في أيرلندا. وقد عاش معظم وقته في كوخ صغير على الساحل الغربي لأيرلندا عند مدخل ميناء ((كيلاري)) وقد كتب هناك بعضاً من أهم أعماله.
وفي عام 1949 ذهب لقيم مع تلميذه السابق وصديقه نورمان مالكولم (1911- 1990) (44) في جامعة كورنيل في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد شارك في بعض اجتماعات الطلبة الخريجين وكان لحضوره تأثير هائل. وقد وصف أحد الحضور كيف ظهر مالكولم وعلى ذراعه كان يتكئ رجل عجوز هزيل يرتدي معطفاً واقياً وبنطلون جيش قديم. ولولا وجهه الذي كان يشعّ بالذكاء لظن المرء أنه رجل مشرّد وجده مالكولم على قارعة الطريق وقرّر أن يقيه من البرد. وعندما ذكر اسمه صدرت شهقة فورية عالية من الطلاب المجتمعين.
وبعد ذلك بوقت قصير شعر فتغنشتاين بالمرض وعاد إلى إنجلترا حيث تم تشخيص حالته بأنها سرطان في البروستاتا. وأمضى العامين الأخيرين من حياته متنقلاً بين فيينا وأكسفورد وكيمبردج مقيماً بين الأصدقاء والعائلة، واستمر في تأليف أعمال رائعة في الفلسفة حتى ما قبل اليوم الذي فقد فيه الوعي بصورة نهائية مفارقاً الحياة.
لم يمهل الموت فتغنشتاين، وهو في سن الثانية والستين من إتمام مشروعه الذي أراد، وتوفي في 29 أبريل عام 1951، بمنزل طبيبه بكيمبردج. وكانت آخر عبارة له: ((قُل لهم إني قد عشت حياة رائعة)).
وهكذا لم تتح لفتغنشتاين الفرصة لكي يعطي لفلسفته الأخيرة صورتها النهائية، التي قد تضيء المناطق المظلمة منها. إن الموت لم يترك لنا من سبيل آخر إلاّ قراءة وإعادة قراءة هذه النصوص الغامضة، والتي لن نستوفي ثراءها إلاّ بعد زمن طويل.
شذرات من حياته
- لم يتزوج فتغنشتاين قط، فقد كان يعتبر أن إنجاب أطفال هو في حد ذاته جريمة. إذ لا داعي لإضافة موجودات أخرى لهذا العالم البئيس. وعلى كل حال، فإننا نعيش بما فيه الكفاية.
- لم يكن فتغنشتاين واسع الاطلاع ولكنه كان يقرأ ما يمكنه استيعابه. كما كان يميل إلى قراءة كتبه المفضلة أكثر من مرة.
- كان لديه موهبة غير عادية في "الصفير" وكان يستطيع أن يصفِّر مترنماً بمقطوعات معقّدة من الموسيقى الكلاسيكية.
- كان يستطيع أن يصمّم منزلاً وأن ينحت تمثالاً، ويقود فرقة موسيقية.
- كانت الموسيقى بالنسبة لفتغنشتاين شيئاً أساسياً في حياته. وكانت موسيقى (باخ) و(بيتهوفن) و(شوبرت) و(شوبان) من أنواع الموسيقى الأثيرة لديه.
- بدأت صلة فتغنشتاين بالفلسفة وهو صغير، وكانت أول قراءاته في الفلسفة هي التي تركت في نفسه تأثيراً أكثر عمقاً من غيرها. وكان أول ما قرأه فتغنشتاين هو آرثور شوبنهور (1788- 1860) (45) وكان آنذاك صبي في سن السادسة عشرة.
- كان من عادة فتغنشتاين أن يكتب أفكاره في مذكرات، وكان يبدؤها دائماً بذكر التاريخ، وهكذا أصبحت أقرب إلى المذكرات اليومية.
- كان فتغنشتاين رجلاً غير عادي، وحتى عندما كان أستاذاً كان دائماً يرتدي قميصاً مفتوح الرقبة، وكانت غرفته في كلية ترينيتي بجامعة كيمبردج لا يزيد أثاثها كثيراً على عدد قليل من الكراسي الطويلة المصنوعة من قماش، ولم يحدث أبداً أن تناول العشاء على المائدة الرئيسة مع الآخرين من رؤساء الجامعة. ولقد كانت صراحته "متطرفة" بل شديدة التطرف حتى لقد كان يمكن بسهولة أن تعد فظاظة، أما بالنسبة إلى العالم الفلسفي بصفة عامة، فقد كان الانطباع الذي يعطيه فتغنشتاين هو الانطباع الذي يغلب عليه طابع الكاهن الأعظم لعقيدة من العقائد السرية أكثر منه انطباع الزميل المشارك في العمل.
- كان فتغنشتاين يرى أن على الفيلسوف ألاّ يستكين لأية مذهبية. وأن العمل في الفلسفة هو دائما عمل حول الذات. الفيلسوف في نظره هو ذاك الذي يندهش من كل شيء، ويشك في كل شيء، شأن سقراط. كانت القضايا الأقرب إلى البداهة هي التي استأثرت باهتمامه، وكان تحليل اللغة هو سلاحه في هذه المعركة.
- كان فتغنشتاين يكره الدعاية، ولا يحرص على الشهرة، وإن كانت أخلاقه الدمثة قد أكسبته صداقة الكثيرين. ولم تكن علاقة فتغنشتاين بأصدقائه ومعارفه قائمة على التكلّف والافتعال، وإنما كانت علاقات صريحة لا أثر فيها للنفاق أو المجاملات.
- كان فتغنشتاين على ضرب من العفة لم يعرف مثيلا له، إلاّ عند جورج مور. يقول رسل: ((أتذكر أني استقدمته معي، يوماً لاجتماع الجمعية الأرسطية. والتي يوجد بها أغبياء عدة أعاملهم بأدب. عند خروجنا انفجر محتجا، مؤاخذاً إياي بشدة على هذه المهانة الأخلاقية. لكوني لم أقل لهم مباشرة إنهم مجرد أغبياء)).
- كانت حياة فتغنشتاين صاخبة ومضطربة، يحياها بقوة ذاتية خارقة للعادة. منها أنه كان يقتات من الحليب والخبز فقط.
- كان لفتغنشتاين، ككل الرجال العظام، نقط ضعفه. ففي سنة 1922، وفي أوج حماسه الصوفي، في فترة كان يؤكد لرسل بكل رزانة أن الأفضل أن تكون خيِّراً على أن تكون ذكيا.
- كانت السمة البارزة في فتغنشتاين ذكاءه الشديد وصفاء عقله، وقد عبّر رسل عن ذلك بقوله حين وصف فتغنشتاين: ((أنه كان على قدر كبير من التأثير لما له من النفاد وصفاء لعقل إلى درجة غير مألوفة على الإطلاق))، كما كان يقول أيضاً: ((إن بداية معرفتي بفتغنشتاين كانت من أكثر مغامراتي العقلية إثارة طوال حياتي كلها)).
- كان أسلوب فتغنشتاين في التدريس فريداً من نوعه، فهو لم يكن يعطي محاضراته بالشكل الرسمي المتعارف عليه، ولكنه كان يفكر بصوت عال أمام مجموعة صغيرة من الطلبة في غرف المحاضرات بالكلية. وكان يقول لطلبته: ((أنا لا أستعمل المذكرات أو المفكرات أبداً لأن الأفكار بهذه الطريقة تصبح مبتذلة)). والطريقة التي كان يستخدمها فتغنشتاين في إعداد محاضراته – كما يقول نورمان مالكولم- أنه كان يقضي دقائق قليلة قبل لقائه بمستمعيه يتذكر فيها النتائج التي وصل إليها في بحثه أثناء لقائه السابق، كما كان في بداية المحاضرة يلقي أحياناً ملخصاً سريعاً لما فات، يبدأ منه مباشرة إلى أفكار جديدة دائماً.
- يرى نورمان مالكولم أن قسوة فتغنشتاين كانت نتيجة لحبه الشديد للحق، فهو في حرب دائمة مع أعمق مشكلات الفلسفة، بحيث كان حل إحدى هذه المشكلات يؤدي إلى مشكلة أخرى وهكذا، وهو لم يكن يكتفي بمجرد معالجة المشكلات الفلسفية بطريقة سطحية، بل كان يتطلب فهماً كاملاً لها. ولذا فقد كان يدفع نفسه بكل قواه لحلها وتحليلها، الأمر الذي كان يجعل كل كيانه في حالة توتر.
- كان موقف فتغنشتاين تجاه الحياة الأكاديمية متناقضاً حيث كان يكره الجمود والتكلّف والغرور في الجامعة. كتب لأحد أصدقائه يوماً: ((إن أكثر ما أفتقده هو وجود شخص أتحدث إليه بكلام فارغ في باحة الجامعة)). ولعل من الطريف أن نذكر أن رسائل فتجنشتاين لأصدقائه كانت مليئة بالنكات وسفاسف الأمور!
- كان شديد الإعجاب بالقصص الأمريكية البوليسية الواقعية، متذرعاً بأنه يجد فيها من الفلسفة أكثر مما يجده في المجلات الفلسفية الأكاديمية.
- كان فتغنشتاين معجباً بشكل خاص بقصة قصيرة لـ ليو تولستوي بعنوان ((النسّاك الثلاثة)) من مجموعته القصصية المسماة ثلاثة وعشرون قصة والتي كتبها سنة 1886. كانت هذه القصة تصوّر بالنسبة له عمق وجدية المسائل الفلسفية.
تدور الحكاية حول أحد الأساقفة كان في رحلة بحرية عندما رأى صياداً يشير إلى مكان ما.
- إلى ماذا تشير. قال الأسقف.
- قال الصياد: إنني أشير إلى جزيرة يعيش فيها ثلاثة من النسَّاك.
يميَّز الأسقف المكان الذي أشار إليه الصياد إذ لم ير سوى مياه تتلألأ تحت أشعة الشمس. وفي النهاية استطاع رؤية الجزيرة وطلب زيارتها لساعات عدة. عندما وصل الأسقف إلى الجزيرة، وجد ثلاثة من النسّاك يقفون متشابكي الأيدي. كان الأول صغير الحجم ودائم الابتسام. وكان الثاني أطول وأقوى من الأول وتبدو عليه سمات الطيبة والمرح. أما الثالث فكان طويلاً ومتجهماً.
- كيف تخدمون الرب. قال الأسقف.
- إننا لا نعرف كيف نخدم الرب. إننا نخدم ونساعد بعضنا فقط. الصلاة الوحيدة التي نعرفها هي: ((نحن ثلاثة، فلترحمنا برحمتك)). قال النسّاك الثلاثة.
ابتسم الأسقف وأمضى باقي زيارته محاولاً تعليم النسّاك الثلاثة الصلاة. عاد الأسقف إلى السفينة التي أبحرت بعيداً. وعندما حلّ الظلام، جلس الأسقف في مؤخرة السفينة شاخصاً ببصره إلى النقطة التي اختفت عندها الجزيرة. فجأة، رأى الأسقف شيئاً أبيض يلمع على الطريق المضيء الذي رسمته أشعة القمر الفضية على صفحة الماء. اقترب الضوء من سفينة الأسقف بسرعة إلى أن تبيّن الأسقف النساك الثلاثة وهم يركضون على الماء!
عندما وصل النسّاك إلى السفينة تكلموا جميعاً بصوت واحد:
- إننا لا نستطيع تذكر أي شيء من الصلاة التي علمتها لنا، فلتعلمنا إياها مرة ثانية!
- إن صلاتكم سوف تصل إلى الله, لست أنا بالشخص الذي يجب أن يعلمكم. فلتصلُّوا من أجلنا نحن الخطاة. قال الأسقف.
الهوامش والإحالات
- تم الاعتماد بشكل شبه كامل في تفاصيل السيرة الذاتية لحياة فتغنشتاين على كتاب:
Monk, Ray.1991.Ludwig Wittgenstein: The Duty of Genius. First published.VINTAGE.London.
مونك، راي. 1991. لودفك فتغنشتاين: واجب العبقري. ط1. لندن. فنتاج.
- سارتر، جان بول: روائي وكاتب مسرحي وفيلسوف فرنسي. زعيم المدرسة الوجودية الفرنسية. من آثاره الروائية: (الغثيان) عام 1938. ومن آثاره المسرحية: (الذباب) عام 1943، و(الأيدي القذرة) عام 1948. ومن آثاره الفلسفية: (الوجود والعدم) عام 1943.
- رسل، برتراند: رياضي وفيلسوف وداعية سلام إنجليزي. يعتبر هو وألْفرد هوايتهد واضعَيْ علم المنطق الرمزي أو الرياضي. من آثاره: (الدين والعلم) عام 1935، و(تاريخ الفلسفة الغربية) عام 1945، و(السلطة والفرد) عام 1949.
- منح سارتر في عام 1964 جائزة نوبل للآداب إلاّ أنه رفض تسلمها.
- في إشارة إلى رجل الصناعة الأمريكي ذائع الصيت أندرو كارنيجي.
- فرويد، سيغموند: طبيب أمراض عصبية نمساوي. يعتبر أحد أشهر علماء النفس وأبعدهم أثراً في الفكر الحديث. أسس طريقة التحليل النفسي. وأكد على أثر اللاوعي والغريزة الجنسية في تكوين الشخصية. أصيب بالسرطان حوالي عام 1923 ومات به. أشهر آثاره: (دراسات في الهستيريا) عام 1895، و(تأويل الأحلام) عام 1899.
- لوس، أدولف: كاتب ومحاضر في مجال العمارة. ولد في النمسا وكان أصما حتى الثانية عشر من عمره. كان شديد النقد على الزخرفة لدرجة أنه فصل بين الشيء العملي و الشيء الفني. كتب مقال مشهور بعنوان (الزخرفة والجريمة) قال فيه أن العمارة والفن يجب أن لا يحتويا على زخرفة وأعتبرها من بواقي العادات البربرية وكانت أعماله بعد 1908 تعبيراً عن هذه الفلسفة ومن أهم وأشهر هذه الأعمال بيت ستينر عام 1910 على ضواحي فيينا.
- شونبورغ، أرنولد: مؤلف موسيقي أمريكي. نمساوي المولد. يعتبر أحد أبرز المؤلفين الموسيقيين في القرن العشرين. عُرف بتحرره من قيود الشكل الموسيقية التقليدية. وضع عدداً من الأوبرات والأعمال الأوركسترية. أهم آثاره: أوبرا (موسى وهارون) .
- هتلر، أدولف: زعيم ألمانيا النازية. وضع ما بين عام 1924 وعام 1926 كتاب (كفاحي) الذي اعتبر في ما بعد إنجيل النازيين. أصبح عام 1933 سيد ألمانيا المطلق. أدت سياسته الخارجية التوسعية إلى نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939. انتحر في 30 أبريل 1945، أثناء حصار برلين، بعد أن تزوج من إيفا براون.
- هرتزل، ثيودور: كاتب نمساوي يهودي. هنغاري المولد. مؤّسس الحركة الصهيونية. أصدر عام 1896 كرّاساً بعنوان (الدولة اليهودية) دعا فيه إلى خلق دولة يهودية بدعوى أن هذا الصنيع يشكّل الحل الوحيد للمسألة اليهودية، ومن ثمّ نظّم المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في بازل بسويسرا عام 1897.
- برامز، يوهان: مؤلف موسيقي وعازف بيانو ألماني. حافظ على التقاليد الموسيقية العريقة في فترة وضع فيها التوكيد على الحاجة إلى التجديد في دنيا النغم. ولكنه استطاع، مع ذلك، أن يبتكر أسلوباً ذاتياً متأثراً برومانتيكية عصره. أشهر آثاره: سيمفونياته الأربع المفعمة بمشاعره الشخصية.
- مالر، غوستاف: مؤلف موسيقي نمساوي. ضمّن أعماله، في رأي بعض النقاد، كثيراً من التافه والمبتذل لكي يقربها إلى فهم الجماهير ويضمن لها مزيداً من الذيوع. وضع تسع سيمفونيات وعاشرة لم تتم، وقد تأثر في هذه السيمفونيات بأعلام الموسيقى العظام من مثل بتهوفن وفاغنر.
- كليمت، غوستاف: فنان تشكيلي نمساوي يعتبر أعظم ممثلي الفن الحديث وأشهرهم في فيينا. ولأعماله أهمية كبيرة في الإشارة إلى الهوية الثقافية للعاصمة النمساوية.
- شيلي، ايكون: رسام ومصوِّر نمساوي. ابن لناظر محطة قطار (تولن) في مقاطعة النمسا السفلى في النمسا. يعد اليوم واحدا من أبرز الرسامين في العالم. قبل وفاته بالأنفلونزا الإسبانية والذي صادف موته بعد وفاة زوجته المحبوبة (اديت) بـ 3 أيام مباشرة عن عمر ناهز 28 عاما، قال لأحد الشهود : ((بعد موتي باكراً أم آجلاً سيكون فني موضع تقدير وفخر، يا ترى هل سوف يعجبون بفني بقدر ما نلت من إهانات بدون قياس وسخريتهم واستهزائهم بي؟)) . وفي ذلك الزمن، شتم البروفيسور الأكاديمي كريبن كيرل الفنان شيلي حيث قال: ((شيلي كان بُراز الشيطان في المدرسة))، وكذلك نقاد زمنه وجدوا أعماله موضع ازدراء وسخرية .
- كوكوشكا، اوسكار: رسام ومصوّر وأحد مؤسسي فن الانطباعية في أكاديمية الفنون. يعتبر واحداً من ابرز فناني التعبيرية الألمانية، هرب من الحكم النازي عام 1938 إلى لندن ليستقر فيها كما هرب قبله أيضا النبيل النمساوي انطوني سيلرن الذي كلّف كوكوشكا بتنفيذ جدارية كبيرة في سقف مدخل بيته في لندن الذي يعتبر محطة لقاء للفنانين والأدباء. كان سيلرن من مقتني وجامعي لوحات كوكوشكا وجزء كبير من رخاميات عصر الباروك من القرن الثامن عشر.
- فريجه، غتلوب: فيلسوف وعالم منطق ورياضي ألماني. كان أستاذاً بجامعة يينا. أهميته ذات شقين:1) باعتباره مؤسساً للمنطق الرياضي الحديث. 2) باعتباره فيلسوف منطق ورياضة. أهم آثاره: (ترقيم الأفكار) عام 1893، و(مبادئ الرياضة) في مجلدين عام 1893 وعام 1903.
- كان برتراند رسل الذي ينتمي إلى عائلة أرستقراطية مرموقة في الأربعين من عمره آنذاك وكان قد انتهى من تأليف كتابه ((مبادئ الرياضيات)) أحد أهم وأصعب الكتب الفلسفية خلال القرن العشرين والذي نال شهرة عالمية في الأوساط الفلسفية. أما لودفك فتجنشتاين فقد كان في الثانية والعشرين من عمره شخصاً مغموراً، على الرغم مما كان يتمتع به من ثراء واسع.
- مور، جورج: فيلسوف إنجليزي. عمل أستاذاً بكلية ترينيتي، ثم بجامعة كيمبردج. ترك تأثيراً كبيراً على الفلاسفة الإنجليز في عصره. ساعدت دراساته على تحرير الفلسفة الإنجليزية من سلطان الفيلسوفين الألمانيين (كانتْ) و(هيغل). أهم آثاره: (مبادئ الأخلاق) عام 1903، و(دفاع عن الحس المشترك) عام 1922.
- يذكر رسل في كتاباته اللاحقة أن فتغنشتاين جاء لرويته، عند مطلع سنة 1914، وهو في حالة اضطراب وإثارة، ليقول له:
- سأغادر كامبردج، سأغادر كامبردج حالا
- لماذا؟
- لأن صهري استقر بلندن، ولا أحتمل أن أكون قريبا منه. وهكذا قضى ما تبقى من فصل الشتاء بالشمال النائي من بلاد النرويج. - الكتاب المقدس للمدرسة والعائلة في العهدين القديم والجديد. (ب.ت). عني بترتيبه ونشره: الاكسرخوس باسيليوس كناكري. ص263.
- تراكل، جورج: شاعر وكاتب مسرحي نمساوي. يعتبره بعض النقاد من أكبر شعراء النمسا الذين يمثلون المدرسة التعبيرية. ولد في مدينة سالسبورغ ومات منتحرا بعد أن تناول كمية كبيرة من الكوكايين على أثر انهيار عصبي نتيجة المعايشة اليومية لبشاعة الحرب العالمية الأولى أثناء الخدمة العسكرية كصيدلي، في كراكاو في مستشفى للأمراض النفسية. أهم دواوينه: (سباستيان في الحلم) عام 1915، (خريف العزلة) عام 1920.
- ريلكه، ريْنر ماريا: شاعر نمساوي- ألماني. يعتبر أحد عمالقة الأدب الحديث. غلب على شعره التصوف والتجريد. قضى شطراً من حياته في باريس حيث توثقت صلته بالنحات رودان. توفى بتسمم في الدم ناشئ عن وخزة شوكة. أهم دواوينه: (سونيتات إلى أورفيوس) عام 1923.
- هيكر، ثيودور: كاتب ومترجم. عُرف بترجماته لأعمال الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد (1813- 1855).
- تولستوي، ليو (1828- 1910) : روائي ومفكر أخلاقي ومصلح اجتماعي روسي. يعتبر أحد أعظم الروائيين في العالم كله، وقد تميزت آثاره بعمق تحليله للإنسان ككائن اجتماعي. رفض في أواخر حياته مؤسسات المجتمع الأرستقراطي وفيها الملكية الخاصة والدولة نفسها. أهم آثاره: (الحرب والسلم) عام 1869، و(آنا كارينينا) عام 1877، و(البعث) عام 1899.
- كتب تولستوي مؤلفاً عن الأناجيل الأربعة، ودقَّق في كتب الإنجيل من وجهة نظره، وردّ وطَوى كثيراً من أقسامها ورتَّب من الأناجيل الأربعة إنجيلاً واحداً رابطاً جمل الآيات المفيدة -في اعتقاده- بعضها ببعض، وقد كتب تولستوي الآيات باليونانية وشرحها باللغة الروسية. وقد ترجم هذا الكتاب إلى الإنجليزية.
- مجموعة مؤلفين. 2006. أعلام الفكر اللغوي. ت: أحمد شاكر الكلابي. ط1. ج2. بيروت. دار الكتاب الجديد المتحدة. ص123.
- وصف رسل كتاب رسالة في المنطق والفلسفة بأنه ((حدث مهم في عالم الفلسفة)).
- الانطولوجيا Ontology : أحد بحوث الفلسفة الرئيسة الثلاث، وهو يشمل النظر في الوجود بإطلاق، مجرداً من كل تعيين أو تحديد.
- Wittgenstein, Ludwig.1999.Tractatus Logico-Philosophicus. London. Routledge.P.10.(Sec 3)
- Ibid.P47.(Sec 5.473)
- Ibid.P65.(Sec 6.21)
- Ibid.P25.(Sec 4.112)
- Ibid.P74.(Sec 7)
- شليك، فريدريك مورتس: فيلسوف ألماني. كان عالماً طبيعياً أول الأمر، ثم أستاذاً في جامعة روستدك وكيبل. في عام 1922، استدعي ليشغل كرسي أ. ماخ بفلسفة العلوم الاستقرائية بجامعة فيينا، حيث قام بتأسيس "جماعة فيينا". ثم سافر إلى الولايات المتحدة، حيث درَّس في جامعات أمريكية عدة، من العام 1929 إلى عام 1932. في عام 1936 اغتاله طالب نازي في فيينا، فأدّى موته إلى التعجيل بانفراط جماعة فيينا. أهم آثاره: (نظرية المعرفة) عام 1918، و(معضلات الأخلاق) عام 1939.
- كارناب، رودلف: فيلسوف وعالم منطق ألماني. في عام 1936 سافر إلى الولايات المتحدة، وهناك أصبح أستاذاً للفلسفة بجامعة شيكاغو، وبجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس. كان من مؤسسي "جماعة فيينا"، ومن زعماء "الوضعية الجديدة". أهم آثاره: (منطق النحو اللغوي) عام 1934، و(المعنى والضرورة) عام 1947، و(مقدمة في المنطق الرمزي) عام 1954.
- جماعة دائرة فيينا: مجموعة من المفكرين والمشتغلين بقضايا العلم والمعرفة. اجتمعوا في النمسا، فأطلق عليهم اسم "جماعة فيينا" أو "دائرة فيينا Vienna Circle، نسبة إلى المدينة التي تركَّزوا فيها. أما هدفهم، فقد شرحه بمنشور، نشر عام 1930، مؤّسس هذه الجماعة وهو فريدريك شليك، وكان عنوانه ((المفهوم العلمي للعالم)). وهو يطالب بحذف كل قضايا الميتافيزيقا، لأنه لا يمكن التعبير عنها منطقياً، لأنها ليست من وقائع العالم وإنما هي زائدة وغريبة عليه. فالميتافيزيقا ليست رياضة ولا وقائع؛ إنها ما لا يُعبّر عنه، ما هو غيبي، ما هو خلو من معنى، وهكذا أيضاً الشأن في قضايا الجمال والأخلاق، لأن القيم ليست من العالم أو في العالم.
- يعلمنا الكتاب المقدس أن الشيطان كان – في وقت ما – ملاكاً جميلاً يُدعى لوسيفر (ناشر الضياء) .وكان لوسيفر أحكم وأجمل وأقوى ملاك في الملائكة الذين خلقهم الله. ويبدو أنه قد مضت فترة زمنية بعد أن خلق الله لوسيفر، كان لوسيفر فيها يحب الله ويطيعه طاعة كاملة. ولكن جاء وقت تمرد لوسيفر فيه، وأخطأ ضد الله. فقد قرر أن يكون إلهـاً. رأى لوسيفر أنه لا يوجد أحد أجمل منه، ولا أحكم منه، ولا أقوى منه، ولا أعظم منه. لذلك قرر أنه يجب أن يكون إلها. فتمرد لوسيفر على خالقه وقال في قلبه: ((سأصعد إلى أعالي السماء ، وأرفع فوق كواكب الله عرشي)).
- الإتنولوجيا/الإثنولوجيا Ethnology : فرع من علم الاجتماع، يُفسّر الظواهر التي يصنفها علم الإتنوغرافيا، ويدرسها دراسة نظرية تسمح بتصنيفها وتعليلها، وتهتم بشكل خاص بالدراسات المقارنة للثقافات المختلفة. والهدف من المقارنات الوصول إلى نظرية عامة.
- سيكولوجيا Psychology : دراسة الظواهر النفسية والقوانين التي تحكمها.
- فينومينولوجيا/علم الظواهر/الظاهرية Phenomenology : علم يقصر المعرفة على مجرد الظواهر في الزمان والمكان، وهو ينكر وجود الأشياء في ذاتها أو ((النومين)) الذي قال به كانتْ.
- فتجنشتين، لودفيج. 1990. بحوث فلسفية. ت: عزمي إسلام. الكويت. مطبوعات جامعة الكويت. ص 60. القضية رقم 23.
- المصدر السابق. ص 110. القضية رقم 124.
- ديكارت، رينه: فيلسوف وفيزيائي ورياضي فرنسي. يعتبر في رأي كثير من الباحثين أبا الفلسفة الحديثة ومؤسسها. اكتشف الهندسة التحليلية. اشتهر بكتابه (مقالة في المنهج) عام 1637 وفيه اطَّرح كل المعتقدات السابقة ليعاود البحث عن الحقيقة شاكَّا في كل شيء إلاّ حقيقة واحدة وهي أنه يشك، ومن هنا كلمته الشهيرة: ((أنا أشك فإذن أنا موجود. وأنا أفكّر فإذن أنا موجود)).
- غوته، يوهان فولفغانغ فون: يعتبر أشهر أديب وشاعر ألماني، ألف العديد من الأعمال النثرية والمسرحية والشعرية ويعد أبرز ممثل للتيار الكلاسيكي الألماني. لم يكن غوته أديبا مرموقا فحسب، بل كان أيضآ عالم طبيعة ورجل دولة. أهم آثاره: (الديوان الشرقي الغربي)، و(فاوست).
- مالكولم، نورمان: فيلسوف أمريكي. كان تلميذاً ثم صديقاً لفتغنشتاين في سنوات حياته الأخيرة. ترك مجموعة من المؤلفات حول فتغنشتاين منها: Ludwig Wittgenstein: A Memoir, وكذلك كتاب Wittgenstein: A Religious point of view? وهناك كتاب: Wittgensteinian themes and dreaming.
- شوبنهور، آرثور: فيلسوف ألماني، قال بأن إرادة الإنسان اللاعقلانية العمياء، وليس العقل، هي التي تقرر معظم ما نفعله خلال حياتنا؛ وبأن مطالب هذه الإرادة لا تُشبَع، ومن هنا كان مقدَّراً على الفرد أن يحيا في قلق وألم وفي صراع مدمِّر مع إرادات الآخرين؛ وبأنه لا سبيل إلى الخلاص من هذا الوضع إلاّ بإنكار الذات. تأثر كثيراً بفلسفة أفلاطون المثالية. وقد تأثر بالبوذية، لكنه لم يقبل مذهب تناسخ الأرواح. أهم آثاره: (العالم كإرادة وفكرة) عام 1819.
* * * *
الفصل الثاني
واجهت النظريات الفلسفية واللغوية المعاصرة التي تناولت قضية " المعنى – Meaning "، صعوبات كبيرة حَدَت ببعض الفلاسفة – لاسيما فلاسفة اللغة – من التوصل إلى نتيجة خطيرة تفيد أن البحث في موضوع المعنى طريق مسدود في نهاية المطاف، أو أن هذا البحث صعب للغاية(1).
ويمكن القول أن من أهم هذه الصعوبات التي اصطدمت بها النظريات التي تناولت المعنى هي الوصول إلى معنى ثابت ومحدد للكلمات أو الجُمل.
وهذا هو بالذات المأزق العميق الذي لاحظه فتغنشتاين، قبل غيره من الفلاسفة، والذي قام بالتخلي عن تصوّره للمعنى في مرحلة تفكيره الفلسفي الأولى؛ وذلك عندما أوضح أن المعنى ليس هو الثابت وإنما هو المتغير والمتبدّل، وأن هذا التغيّر يكون بحسب طريقة استخدام الألفاظ/الكلمات المراد تحديد معناها(2).
على هذا النحو يبدو أن البحث عن معنى ثابت في اللغة إنما هو أمر في غاية الصعوبة، وقد آن الأوان لكي ندرك ذلك. هكذا حقّق فتغنشتاين وبقفزة واحدة ثورة في فلسفة اللغة وبالتحديد فيما يختص بموضوع المعنى.
لكن وقبل تبيان كيف قام فتغنشتاين "بثورته" الفلسفية - اللغوية تلك، فلنحاول أن نتبيّن كيف توصلت نظريات المعنى المختلفة إلى طريقها المسدود ذاك، ولتوضيح ذلك سوف نتناول نظرية "المعنى" كما جاءت عند الفيلسوف الانجليزي جورج مور كنموذج نظري على ما آلت إليه النظريات التي تناولت موضوع المعنى تناولاً أفضى بها إلى معنى ثابت وجامد للكلمات وبالتالي إلى طريق مغلق ومسدود .
نظرية المعنى عند مور
ترتبط نظرية المعنى عند الفيلسوف الإنجليزي مور بمنهجه في التحليل، ذلك أن التحليل عند مور يتم عبر خطوتين هما: (التقسيم) و (التمييز)، ومعيارهما واحد هو (التكافؤ المنطقي) بين ما يُراد تحليله والتحليل(3). والمقصود (بالتقسيم) هو تقسيم التصوّر موضوع التحليل إلى تصوّرات جزئية تؤلّفه، وعلى ذلك فلا بد للتصوّر من أن يكون مركباً غير بسيط، فعلى سبيل المثال، إن تحليل تصوّر (أخ) نراه ينحلّ إلى تصوّريْ (ذكر) و (من ينحدر من أصل مشترك).
أما المقصود (بالتمييز) – وهو الخطوة الأخرى للتحليل – فهو إحصاء لكل الاستخدامات الممكنة التي تدل على هذا التصوّر، ومن ثم التوصل إلى عنصر مشترك يجمع كل الاستخدامات.
أما (التكافؤ المنطقي) فهو يعني أننا عندما نقوم بتحليل تصوّر ما إلى تصوّرات أخرى فلا بد من وجود تكافؤ منطقي بين الطرفين، وإذا تحقق هذا التكافؤ يمكننا القول؛ إن للتصوّر والتصوّرات الجزئية الأخرى المعنى نفسه.
هكذا يتحدد – بحسب مور – المعنى الصحيح للألفاظ والعبارات، أي لا بد من وجود تكافؤ منطقي أو ترادف بين الطرفين – أي العلاقة بين التحليل وموضوع التحليل – وذلك حتى يمكننا القول إن لهما المعنى نفسه(4).
غير أنه واجه فيما بعد انتقادات عديدة لتحديده المعنى على هذه الصورة. ومن هذه الانتقادات، أننا لا نستطيع التوصل إلى التكافؤ المنطقي بين التصوّرات، ذلك أننا عندما نقسّم التصوّر إلى تصوّرات أخرى تؤلفه فإن ذلك لا يحقّق تكافؤاً منطقياً وإنما يحقق "تضمناً"، فنحن عندما نحلل تصوراً أو قضية إلى ما يؤلفها من تصوّرات أو عندما نستنبط ما يلزم عنها من قضايا، فإننا لا نقوم بعملية إيجاد متكافئات بقدر ما نقوم بعملية استخراج القضايا المتضمنة في القضية محل التحليل ولا تضمّن في المنطق غير المتكافئ.
إلى ذلك، وعلى اعتبار أنه لا يوجد تكافؤ منطقي بين التصوّرات فإنه لا يوجد هوية في المعنى بينهما، ذلك أن التصوّر هو نفسه معنى الكلمة وبالتالي فإن تحليله إلى تصوّرات أخرى يعني الإتيان بمعاني جديدة. من هنا يتضح لدينا أن بحث مور عن معنى ثابت ومحدد للكلمات أو التصورات لم يكن بحثاً موفقاً(5).
إلى هنا نكتفي بهذا الشرح المختصر لنظرية مور في "المعنى" كنموذج للنظريات التي تقول بالمعنى الثابت، لننتقل إلى نظرية فتغنشتاين الذي لاحظ ما وصلت إليه هذه النظريات من طريق مسدود ، ليقدّم مساهمته الفذّة في مشروعه الذي قلب الموازين التقليدية لموضوع "المعنى" رأساً على عقب كما سنرى.
نظرية المعنى عند فتغنشتاين
لقد ثار فتغنشتاين على نظريته حول "المعنى"، أي النظرية التصويرية للمعنى، والتي عرض لها في كتابة (رسالة في المنطق والفلسفةTractatus Logico-Philosophicus) الذي نشره عام 1921، والتي تنصّ على أن معنى القضية يتحدد بما يُقابلها من وقائع Facts، أما القضايا التي لا معنى لها فهي التي لا تقابل وقائع. بمعنى آخر، إن القضايا التي تتحدث عن أشياء في الواقع هي قضايا تحمل معنى ويمكن التأكد من صحتها أو خطأها عن طريق مقارنة محتواها اللغوي بما يُقابله في الواقع من أشياء وعلاقات. ذلك أن ((القضية لا تثبت شيئاً إلا بقدر ما هي رسم له)) (6). فالمعنى هنا ثابت ومحدد أيضاً، وهذا المعنى الثابت هو من الأخطاء الكبرى التي أشار إليها فتغنشتاين في مقدمة كتابة الآخر الشهير أيضاً (بحوث فلسفيةPhilosophical Investigations)، فقد نقد وجهة النظر التي مؤداها إن معنى أية كلمة هو الشيء الذي تمثله أو تشير إليه، إذ إن هذه الوجهه من النظر لا تكشف إلاّ عن جانب واحد من جوانب اللغة المتعددة وهو التسمية، ومن ثم فهي قاصرة(7).
على هذا النحو يمكن القول، إن الطريق المسدود الذي وصلت إليه النظريات التي تناولت موضوع المعنى الثابت، هو الذي أوحى إلى فتغنشتاين – فضلاً عن أسباب أخرى بالطبع - بنظريته الجديدة في "المعنى".
إن معنى كلمة؛ ما هو إلاّ الشيء الذي تعبر عنه الكلمة أو تشير إليه أو ترمز إليه(8). أو بتعبير آخر إن معنى كلمة ما يتحدد باستخدامه(9)، وطالما أن للكلمة الواحدة طرقاً عديدة للاستخدام، فإن للكلمة أيضاً معاني عديدة. وهذا هو حال العبارات، فمعنى أي عبارة يتم تحديده بالسياق الذي ترد فيه وطريقة استخدامها والظروف التي قيلت فيها؛ وكأن المعنى هو الجو المحيط أو المصاحب للكلمة، والتي تحمله معها في كل أنواع الاستخدام، وإن السؤال عن المعنى هو سؤال عن الظروف المعينة التي تُستخدم فيها هذه العبارة بالفعل(10).
تكشف نظرية المعنى عند فتغنشتاين عن طبيعة اللغة عنده، والتي هي طبيعة ليست كالرجل الصارم الذي يعرف دائماً ماذا يريد، ويفعل دائماً طبقاً لقاعدة محددة وإنما كرجل فضفاض متفائل له أنشطة متعددة يتلاعب بما لديه من أدوات دون صرامة أو خطة محكمة(11). ولعل هذه الصفات هي صفات اللغة العادية نفسها، لا بل يمكن أن نذهب إلى حد أن نظرية المعنى في الاستخدام متأثرة بطبيعة اللغة العادية. إذ وجد فتغنشتاين أن لكل لفظ من ألفاظ اللغة العادية معاني مختلفة تتبدل بحسب السياق أو (الاستخدام Use ). ولذلك نجده يرفع شعار ((لا تسل عن المعنى اسأل عن الاستخدام)) (12)، على اعتبار أن معرفتنا لإستخدام كلمة ما يوصلنا إلى معرفة معناها. هكذا نجد أن (اللغة العادية Ordinary Language) كانت من العوامل التي أوحت إلى فتغنشتاين بنظريته الجديدة في المعنى.
بالإضافة إلى ما ذكرنا، فإن للمعنى في نظرية فتغنشتاين، طابع عيني محسوس، أي يُنظر إليه عبر الاستخدام. هنا تجدر الإشارة إلى كَون فتغنشتاين لا يميل إلى البحث في العمليات العقلية بذاتها أو في طبيعة التصوّرات، وإنما يرى أن هذه العمليات والتصورات إنما تتضح بشكل أفضل إذا عرفنا كيف نستخدم الألفاظ الدّالة عليها. وهذا هو شأن "المعنى" والسياقات المتعددة التي يرد فيها وما هي الظروف والملابسات والجو العام الذي يُرافق هذا الإستخدام. وفي ذلك يقول فتغنشتاين إن المصدر الرئيسي لفشلنا في الفهم هو أننا لا (([نطلب](13) الرؤية الواضحة والشاملة لإستخدام ألفاظنا. فقواعدنا النحوية ينقصها هذا النوع من الوضوح)) (14).
ولكن السؤال المطروح هنا، هو هل يتم تحديد معاني جميع الكلمات في اللغة بواسطة معرفة طريقة استخدامها؟
هناك بعض الكلمات لا يتحدد معناها بواسطة الإستخدام، مثل الأسماء Names التي يتحدد معناها بالإشارة إلى دلالتها، وهذا ما ذهب إليه أنصار المذهب الإسمي أو النظرية الإسمية Naming theory. ولا ينكر فتغنشتاين هذه الوظيفة للغة وإنما يجعلها إحدى الوظائف الكثيرة للغة، حيث يقول في ذلك أنه بالنسبة لفئة كبيرة من الحالات التي تستخدم فيها كلمة (معنى)- وليس بالنسبة لها جميعاً – يمكن تعريف هذه الكلمة كما يلي: إن معنى الكلمة هو طريقة استخدامها في اللغة. ومعنى الاسم يتم تفسيره أحياناً بالإشارة إلى حامله أو مسماه (15).
وفتغنشتاين لم يتحدث عن جميع استخدامات كلمة "معنى" بل عن معظمها ومردّ ذلك أنه يضع بعين الاعتبار "الأسماء"، ذلك أن الأسماء لا يتم تحديد معناها بناءً على طريقة استخدامها في العبارات، وإنما يتم تحديد معناها بالإشارة إلى مدلولاتها. هذا وسوف يمر معنا خلال البحث أن التعريف الإشاري Ostensive Definition أو تسمية الأشياء ليس بحد ذاته لعبة لغوية Language-Game بقدر ما هو تمهيد لهذه الألعاب.
يرتبط مفهوم "المعنى" أيضاً بالقصد Intention ( ماذا نقصد.. )، ذلك أن ما نقصده بالعبارة هو ما يعطيها معناً معيناً، ونحن كثيراً ما نخلط في اللغة العادية بين المعنى والقصد، فنقول لشخص نريد أن نسأله عن معنى العبارة التي قالها: ماذا تقصد بعبارتك؟ يجيب فتغنشتاين على ذلك بقوله: لكن أليس ما نعنيه (أو نقصده) بالعبارة هو ما يجعلها ذات معنى؟ (ويتصل بهذا بالطبع القول بأن الإنسان لا يستطيع أن يعني شيئاً بسلسلة لا معنى لها من الكلمات). وأن المعنى هو شيء في مجال الذهن. إلاّ أنه شيء خاص أو "حميم" أيضاً، إنه شيء ما لا يدرك بالحواس، ولا يمكن مقارنته إلاّ بالوعي نفسه (16).
تطبيقات على نظرية المعنى كما وردت في كتاب "بحوث فلسفية"
يبدأ فتغنشتاين كتابه بحوث فلسفية بنقد نظرية المعنى عند القديس أوغُسْطين St. Augustinus (354- 430) (17) والتي تقول إن معنى الكلمة هو الشيء الذي تشير إليه ، ولتوضيح نظرية المعنى عند القديس أوغسطين، يقتبس فتغنشتاين فقرة من كتاب (الاعترافات) للقديس يقول فيها: ((حينما كان يسمّي (من هم أكبر مني سناً) موضوعاً ما، ويتجهون تبعاً لذلك نحوه، كنت أرى ذلك وأدرك أن الشيء إنما يسمى بذلك الصوت الذي ينطقون به، عندما كانوا يقصدون الإشارة إليه. وقد كنت أستنتج ذلك من حركاتهم الجسدية، التي هي اللغة الطبيعية لجميع الشعوب: مثل تعبير الوجه، وحركة العينين وبقية أجزاء الجسم، ونبرة الصوت التي تعبر عن حالتنا الذهنية أثناء البحث عن أي شيء أو الحصول عليه، أو رفضه أو تجنبه. وهكذا تعلمت بالتدريج، عند سماعي للكلمات وهي تستخدم بطريقة متكررة في مواضعها الصحيحة في مختلف الجمل، أن افهم الأشياء التي يعنونها أو يشيرون إليها. وبعد أن درَّبت فمي على تكوين هذه العلامات الصوتية، أخذت أستخدمها في التعبير عن رغباتي)) (18).
من هذا النص يمكن أن نحدد وظيفة اللغة عند القديس أوغسطين، بأنها وظيفة "شيئية" أو "تقريرية"، بمعنى أنها تشير إلى الأشياء. وكما نلاحظ أن هذه الوظيفة تشبه وظيفة اللغة كما حدّدها فتغنشتاين في الرسالة المنطقية- الفلسفية .
ينتقد فتغنشتاين في كتابه بحوث فلسفية هذا التحديد لوظيفة اللغة، ذلك أن القديس أوغسطين عندما تحدث عن وظيفة اللغة في النص السابق، لم يخطر في باله إلاّ الألفاظ من قبيل؛ (طاولة)، (كرسي)، (خبز)، (أسماء أشخاص).. الخ، أي إنه لم يفكر في الاستخدامات الأخرى في اللغة، وبالتالي فإن هذا التحديد لوظيفة اللغة هو تحديد قاصر يتحدد في اللغة التي تشير إلى (الأشياء Things) وحسب، أما الاستخدامات الأخرى، كالأمر، الاستفهام، التعجب، التحذير، التذمّر، التنبيه، ووصف المشاعر.. الخ، فلم يتطرق إليها القديس أوغسطين لا من قريب أو من بعيد، ولذلك يأخذ فتغنشتاين على عاتقه توضيح تلك الاستخدامات.
إذن، تتلخص نظرية (المعنى في الاستخدام) – على حد تعبير الدكتور محمود زيدان – عند فتغنشتاين، في أن معنى أي كلمة أو عبارة يتمثل في طريقة استخدامها في سياق معين، وأن هذا الاستخدام هو الذي يحدد معنى الكلمة أو العبارة، وبالتالي فإننا عندما نقول عن أي شخص إنه يعرف معنى كلمة ما فإننا نعني أن هذا الشخص يعرف كيف يستخدم هذه الكلمة. أما كيف نتعلم هذه الاستخدامات، فإن ذلك يتحدد عبر حياتنا الاجتماعية والاستعمال اليومي للغتنا العادية.
إن ألعاب اللغة Language-Games تصف صُوَر الحياة Form of Life، وما تتضمنها من أساليب كثيرة للكلام، حيث يتحدّد معنى كل رمز لغوي Symbol في الحياة بالاستعمال الذي نلجأ إليه، كما أن كل استعمال إنما يتحدد ضمن لعبة لغوية معينة. وما أكثر الألعاب في حياتنا، فهناك: ((إصدار الأوامر وإعطائها، وصف مظهر شيء ما أو ذكر مقاييسه، تكوين موضوع ما حسب الوصف (الرسم)، ذكر أو تقرير حادثة، ذكر احتمالات مختلفة عن حادثة معينة، تكوين الفرض واختباره، تقديم نتائج التجربة في قوائم وأشكال، تأليف قصة وقراءتها، تمثيل مسرحية، إنشاد الأناشيد، حل الألغاز، تأليف نكتة وإلقاءها، حل مشكلة في الحساب التطبيقي، الترجمة من لغة إلى أخرى، السؤال، الشكر، اللعن، التهنئة، الصلاة(19) والكذب(20))).
نستنتج من النص السابق أن معنى أي كلمة أو عبارة إنما يتحدّد بحسب اللعبة - اللغوية التي ترد فيها، وأنه لا يجوز الحديث عن معنى لهذه الألفاظ إذا لم نأخذ بعين الاعتبار اللعبة-اللغوية التي وردت فيها، كما أن طريقة الاستخدام إنما تتحدّد بهذه اللعبة.
فضلاً عن ذلك، فإن هذه الألعاب اللغوية تتغيّر، وهناك ألعاب لغوية جديدة تُستحدث وكأن لألعاب اللغة حياة كاملة حيث تولد وتتطوّر وتدخل في حيّز النسيان. أما مردّ ذلك، فهو بسبب كَوْن ألعاب اللغة، وكما أشرنا، صورة من صور الحياة، فهي في تطور وتبدل مُستمرَّيْن.
يذكر فتغنشتاين في كتابه بحوث فلسفية بعض الأمثلة لكيفية عمل الكلمات/الألفاظ في اللغة العادية.
• (((أ) عامل بناء، (ب) مساعده، (أ) يبني مستخدماً أحجار البناء: فهناك ((قوالب)) و ((قوائم)) و ((بلاطات)) و ((دعامات)). على (ب) أن يناول (أ) الأحجار، بالترتيب الذي يحتاجها فيه. وهما يستخدمان لهذا الغرض لغةً تتكون من الكلمات التالية: ((قالب))، ((قائمة))، ((بلاطة))، ((دعامة)). (أ) ينادي ويطلبها و (ب) يحضر الحجر الذي تعلم أن يحضره عند سماعه هذا النداء أو ذاك )) (21).
هذه إحدى نماذج ألعاب اللغة، ذلك أن كل الكلمات الواردة في اللعبة لا تُفهم إلاّ في السياق الذي وردت فيه، وأن هذه الكلمات قد تأخذ معانٍ مختلفة خارج هذه اللعبة. فإذا افترضنا أن (ب) عاد إلى منزله وإذ بشخص يقابله في الطريق ويقول له ((بلاطة)) فإنه - أي (ب) - لن يفهم ما يريده هذا الشخص من هذه الكلمة، أما في أثناء العمل مع (أ) فإنه يفهم تماماً ما تعنيه هذه الكلمة.
ولنفترض افتراضاً آخر، وهو أن هناك شخصاً ثالثاً (ج) ينظر إلى (أ) و (ب) كيف يعملان، ولنفترض أن (ب) تأخر عن مناولة (أ) ((بلاطة)) في الوقت المناسب، فإن (ج) قد يقول ((بلاطة)) ثم يقوم (ب) بمناولة (أ) البلاطة بالرغم من أن (ج) هو الذي قال ((بلاطة))، أي إن (ب) فهم أن (ج) يقول له إن (أ) بحاجة إلى ((بلاطة)).
نستنتج مما سَبَق، أن لكل كلمة استخداماً معيناً وسياقاً معيناً ترد فيه. وإننا بالنظر إلى طريقة الاستخدام والسياق نستطيع معرفة معناها، وإننا إذا فهمنا معنى اللفظ فإن ذلك يحدد نوع الاستجابة التي نقوم بها لدى سماعنا هذا اللفظ، مثل لفظ ((بلاطة)) كما ورد في المثال السابق.
• في إطار المثال السابق، ((يطلب (أ) من (ب) أن يعد ((البلاطات)) الموجودة، فيعدّها (ب) ويقول لـ (أ): ((خمس بلاطات)). (أ) يطلب ((البلاطات)) الخمس قائلاً: ((خمس بلاطات))، هناك بلا شك فرق بين ((خمس بلاطات)) عندما قيلت بصيغة "تقريرية"، وبين ((خمس بلاطات)) عندما قيلت بصيغة (أمر Order). إن هذا الفرق هو ذلك الجزء من الدور الذي يلعبه نطق هذه الكلمات في لعبة-اللغة، فلا ريب أن نغمة الصوت، وكذا النظرة أو الإيماءة، اللتين تصحبان النطق، وأشياء أخرى كثيرة بالإضافة إلى ذلك، ستكون كذلك مختلفة)) (22).
على هذا النحو نجد أن الظروف والملابسات المرافقة لنطق الكلمة/الكلمات هي التي تساعدنا على تحديد الاستخدام الذي يريده المتكلم.
لنفترض مرة أخرى، أن هذه الظروف والملابسات لم تكن مختلفة على اعتبار أن "التقرير" و"الأمر" قد يُقالان بشكل متقارب، فإن الفرق يبقى قائماً، وإن هذا الفرق يتحدد في طريقة الاستجابة والتطبيق عند سماعنا "للتقرير" أو "الأمر"، أي إن لصيغة الأمر استجابة معينة تختلف عن الاستجابة الخاصة بصيغة التقرير. فإذا عدنا من جديد إلى الأمثلة التي أوردها فتغنشتاين في كتابه "بحوث فلسفية" لوجدنا مثال آخر على الكيفية التي تعمل بها الكلمات/الألفاظ في لغتنا العادية، حيث قد يقول قائل :
• (( إنك سوف تفعل هذا )) (23). ماذا يمكننا أن نقرر، هل قيلت هذه العبارة على سبيل "التوقّع" أم على سبيل "الأمر"؟ ما الذي يعطي لهذه العبارة أحد المعنيين دون الآخر؟
إن طريقة إلقاء العبارة والظروف التي قيلت فيها والسياق الذي وردت فيه، كلها وأكثر هي التي تحدد أي المعنيين هو المقصود كما يقول فتغنشتاين.
• لنلاحظ الاستخدامات المختلفة لكلمة ((هذا)). إن كلمة ((هذا)) ليست إسماً إلاّ أنها ترتبط بالأسماء، فعن طريقها يتم شرح الأسماء(24). انظر كيف يمكن استخدام الأسئلة التالية، وكيف يتم الفصل فيها:
1- (هل هذه الكتب كتبي؟)
2- (هل هذه القدم قدمي ؟)
3- (هل هذا الجسد جسدي ؟)
4- (هل هذا الإحساس إحساسي؟) (25).
لكلمة ((هذا)) في العبارات السابقة استعمالات مختلفة، فهي في المثال رقم (1) تشير إلى أشياء خارجية وهي الكتب. وهي في المثال رقم (2) تشير إلى أحد أجزاء الجسد. أما في المثال رقم (4) فأنها تشير إلى شيء داخلي هو الإحساس.
بذلك نجد أن معنى كلمة ((هذا)) في هذه الجمل يختلف من جملة إلى أخرى، كما أنه قد يكون لكلمة ((هذا)) في المثال الواحد معانٍ مختلفة. ففي المثال رقم (3) قد يسأل أحدنا هذا السؤال وهو ينظر إلى المرآة، أو قد يعني فيما إذا كانت الملابس تلائم جسده؟ أو قد يعني هل يبدو جسدي على هذا النحو؟ أو قد يريد الإشارة إلى تغيرات طرأت على جسده. لذلك لابد لنا من الانتباه إلى الطريقة التي تستخدم فيها الكلمات لأننا إذا انتبهنا إلى هذه الطريقة فإننا نستطيع تحديد المعنى بدقة، فالمعنى كما يقول فتغنشتاين هو نوع من الفراسة Physiognomy(26). وإن عدم "تفرُّسنا" في اكتشاف المعنى يوقعنا في الخلط بين الاستخدامات المختلفة للكلمة/اللفظ الواحد.
إذا عُدنا من جديد إلى الأمثلة العملية التي يوردها فتغنشتاين في كتابه "بحوث فلسفية" نراه يقرر أهمية معرفة قواعد ((النحو)) في أي لغة لاسيما وأن الكلمات/الألفاظ قد يكون لها معاني عدة في اللغة، والمثال التالي يشير إلى هذه القضية ، فمثلاً؛
• - كلمة ((تكون)) أو ((Is)).
- عبارة ((الوردة تكون حمراء)).
- عبارة ((اثنان في اثنين تكون أربعة)) (27).
يمكن أن نلاحظ اختلاف معنى كلمة ((يكون)) في العبارتين السابقتين، وذلك لأن استخدامها في العبارة الأولى مختلف عنه في العبارة الثانية.
ففي العبارة الأولى ((الوردة تكون حمراء)) يشير الاستخدام إلى فعل الكينونة(28). أما في العبارة الثانية ((اثنان في اثنين تكون أربعة))، فيشير الاستخدام إلى علاقة التساوي، ولذلك فإننا لا نستطيع أن نضع بدلاً من كلمة ((تكون)) في العبارة الأولى إشارة (=) أو المساواة، في حين نستطيع القيام بمثل هذا الاستبدال في العبارة الثانية.
تجدر الإشارة إلى أن الاستخدام يتحدد بقواعد النحو Grammar، ذلك أن هذه القواعد هي التي تسمح لنا باستخدام كلمة ((تكون)) بطريقتين مختلفتين، ولذلك نجد فتغنشتاين يؤكد أهمية معرفة قواعد النحو في مواضع عدة.
• هناك استخدامات أخرى لألعاب-اللغة، والآن فكّر في الاستخدام التالي للغة: أرسلُ شخصاً ليشتري أشياء من السوق. أعطيه قصاصة من الورقة مكتوبا عليها هذه العلامات: ((خمس تفاحات حمراء)). يأخذ هذا الشخص الورقة إلى صاحب المتجر، الذي يفتح الدرج المكتوب عليه علامة ((تفاح))، ثم يبحث عن كلمة ((أحمر)) في قائمة أمامه، ويجد نموذجاً لهذا اللون في مقابل تلك الكلمة. ثم ينطق بسلسلة من الأعداد الصحيحة التي – افترض أنه يعرفها عن ظهر قلب – حتى كلمة ((خمسة))، وهو يتناول مع كل عدد يقوله تفاحةً من الدرج لها نفس لون النموذج الملون(29).
يقدم فتغنشتاين هذا المثال لملاحظة كيفية استعمال الأعداد Numbers، وكيف نستخدم لعبة "الأعداد" في حياتنا العادية. ذلك أن صاحب المتجر/البائع كان يأخذ حذره فلا يعدّ تفاحة واحدة مرتيْن أو يغْفَل عن تفاحة فلا يعدّها، بحيث يتساوى العدد الموجود في الورقة مع عدد التفاحات الموجودة في السلّة. فلو وضع صاحب المتجر/البائع ((ست تفاحات)) مثلاً أو أربع تفاحات في السلّة، لأمكننا أن نقول، إنه لا يعرف كيف يستخدم الأرقام أو اللعبة-اللغوية الخاصة بالأرقام.
• لنتخيّل المثال التالي: (أ) يكتب سلسلة من الأعداد، (ب) يراقبه ويحاول أن يتبيّن قانوناً لتتابع الأعداد. فإذا نجح في ذلك صاح: "الآن أستطيع أن استمر" فهذه القدرة، هذا الفهم، إنما هو شيء تمّ في لحظة. فلنحاول أن نرى ما الذي حدث هنا. (أ) كان قد كتب الأعداد: 1، 5، 11، 19، 29. هنا يقول (ب) إنه يعرف كيف يستمر. [ولكن] ما الذي حدث هنا؟(30).
لقد قام (ب) باستعمال خبراته المتعلقة بالرياضيات، إذ وضع عدداً من الفروض التي تساعده على الاستمرار في السلسلة إلى أن توصّل إلى الفرض الصحيح، إذ جرّب (ب) الصيغة التالية: (س = ن2 + ن - 1) ووجد أن العدد التالي يتفق مع فرضيته(31).
بعض السّمات العامة للألعاب-اللغوية
تفيد الأمثلة السابقة لبعض الألعاب اللغوية ما ذهب إليه فتغنشتاين من اعتبار ألعاب اللغة وبالتالي اللغة بمثابة عالم كامل من الحياة، حيث كانت تنوّعت استخدامات الكلمات/الألفاظ في اللغة العادية مما أكسبها مرونة تمكننا من القول أنها تتغير وتتبدّل حسب الاستخدام. عبر ما سبق يمكننا القول أن هناك بعض السِّمات العامة التي تتسم بها ألعاب اللغة هي:
أولاً: تتضح وظيفة اللغة عند فتغنشتاين في كتابة رسالة في المنطق والفلسفة في الفكرة القائلة إن الاسم يعني الشيء والشيء هو معناه، فقد انتقد في بداية كتابة بحوث فلسفية وجهة النظر التي مؤداها إن معنى أية كلمة هذ الشيء الذي تمثله أو تشير إليه، إذ إن هذه الوجهة من النظر لا تكشف إلاّ عن جانب واحد من جوانب اللغة المتعددة وهو التسمية Naming، ومن ثم فهي قاصرة(32). أو بتعبير آخر، إن وظيفة اللغة عند فتغنشتاين كما تتضح عبر "الرسالة" هي التقرير – تقرير وقائع - ولذلك فإن كل العبارات اللغوية إنما تشترك بهذه السمة(33).
أما بالنسبة للألعاب-اللغوية والتي تحدث عنها فتغنشتاين في "البحوث"، وهي "اللعبة" الجديدة التي عثر عليها لكي يتغلب على القصور السابق حول تصوره للغة كما جاءت في "الرسالة"، فليس هناك مثل ذلك العنصر المشترك الذي يجعل كل الألعاب تشترك بصفة معينة نستطيع استخراجها من تأملنا بألعاب اللغة.
فعلى سبيل المثال، إذا أخذنا مثال الألعاب المختلفة، فإننا لن نعثر على شيء مشترك يجمعها. هناك مثلاً الألعاب ذات الرقعة Board-Games (مثل: الطاولة أو الزّهر، الدّامة..) وألعاب الورق Card-Games، والتي يمكن أن نعثر على عنصر مشترك يجمع بينهم، ذلك أن هذه الألعاب أو اللعبتين في حالة – الطاولة والورق – نراهما تعتمدان على الحظ Luck.
لكن، ماذا لو أدخلنا إلى هذه المقارنة لعبة الشطرنج Chess؟ سنجد أن لعبة الشطرنج لا تعتمد على الحظ.
لنأخذ سمة أخرى للألعاب وهي سمة الربح والخسارة ، حيث تشكّل هذه السمة العنصر المشترك للألعاب الثلاثة السابقة – الطاولة (الزهر) والورق والشطرنج، لكن هناك ألعاب لا يدخل الربح والخسارة ضمن حساباتها، ومثال ذلك ((عندما ننظر إلى طفل يلعب مع نفسه ، ويقذف بكرته إلى الحائط ثم يُمسك بها مرة ثانية)) (34).
بذلك نرى أننا كلما حاولنا إيجاد عنصر مشترك بين الألعاب فإنه سرعان ما يفلت منّا. هذا الأمر ، أي فقدان العنصر المشترك هو ما شاهدناه بالنسبة للألعاب-اللغوية أيضاً، فقد وجدنا أن لعبة "الأعداد" تختلف عن اللعبة-اللغوية الخاصة بكلمة ((تكون))، و اللعبة-اللغوية الخاصة بكلمة ((تكون)) تختلف عن تلك اللعبة الخاصة بكلمة ((هذا))، وهذه الأخيرة تختلف بدورها عن اللعبة-اللغوية التي وجدناها بين (أ) عامل البناء و(ب) مساعده في مثال ((البلاطات)).
وعلى الرغم من عدم وجود أي عنصر مشترك بين هذه الألعاب، إلاّ أن هناك ما يطلق عليه فتغنشتاين بـ التشابهات العائلية Family Resemblances. حيث يقول، أعتقد أنني لا أكاد أجد تعبيراً يحدد هذه التماثلات أفضل من القول بأنها تشابهات عائلية. لأن أوجه التشابه العديدة بين أفراد العائلة الواحدة، مثل: البنية، والملامح، ولون العينين، وطريقة المشي، والمزاج.. الخ تتداخل وتتقاطع بنفس الطريقة(35).
يسعى فتغنشتاين من خلال ما تقدم القول، بـأنه وبالرغم من عدم وجود عنصر مشترك بين الألعاب اللغوية بشكل خاص، فإن هناك ملامح عامة تجمع بين هذه الألعاب، وهذه الملامح العامة تُشبه التماثلات الموجودة بين أفراد الاسرة الواحدة. ومن ثم فإن الألعاب تكوّن عائلة(36).
ثانياً: يرى فتغنشتاين أننا نُخطئ إذا ما اعتقدنا بأن هناك مظهراً موحداً للكلمات(37). إن هذا الخطأ يشبه ما نراه في غرفة قيادة إحدى القاطرات، حيث يوجد مقابض كثيرة كلها متشابهة بدرجات متفاوتة، غير أن لكلّ من هذه المقابض وظيفة أو وظائف معينة، فهناك مقبض خاص بالوقوف، كما يوجد مقبض آخر خاص بالتحويلة، وثالث خاصة بتنظيم الصمام، ومقبض رابع خاص بمضخّة(38). وهذا هو حال الكلمات فنحن يجب ألاّ نعتقد بأن للكلمات في ألعاب اللغة مظهراً واحداً وبالتالي وظيفة واحدة، وإن عدم تنبهنا لهذه الوظائف المختلفة،كثيراً ما يوقعنا في الخلط التي تنشأ عنها المشكلات الفلسفية.
إن الكلمات في وظائفها العديدة تشبه الأدوات Tools الموجودة في صندوق عِدَد أو آلات: فهناك مطرقة، وكماشة، ومنشار، ومفك، ومسطرة، ووعاء للغراء، وغراء ومسامير وقلاووظ (39). إن وظائف ألعاب اللغة أو الكلمات تختلف كما تختلف وظائف هذه الأشياء، كما أن لكل واحد من هذه الأشياء والألعاب، وظائف عدة تقوم بها.
وبطبيعة الحال، فإن ما يوقعنا في براثن الحيرة هو المظهر المتسق للكلمات حينما نسمعها منطوقة أو نجدها مكتوبة أو مطبوعة، ذلك لأن تطبيقها أو استخدامها لا يكون ماثلاً أمامنا بوضوح كاف، وبخاصة عندما نتفلسف(40).
ثالثاً: يمكن القول إن حل ((التناقضات)) أو ((المفارقات الفلسفية)) لا يتم عن طريق "تعريف" الكلمات، وإنما بواسطة معرفة طريقة "استخدام" تلك الكلمات في الألعاب اللغوية. ذلك أن الكلمة إذا كانت معرّفة فإن ذلك لا يحل مشكلاتنا الفلسفية. لأن معنى الكلمة لا يتحدد بواسطة التعريف Definition بل بواسطة معرفتنا لكيفية استخدامها Use في سياقات وألعاب لغوية مختلفة. وهذه هي طريقة فتغنشتاين في حل التناقضات أو المفارقات الفلسفية. ذلك أن التعريفات – كما يقول فتغنشتاين – عادة ما تفشل في حل تلك المفارقات(41). هكذا يغدو "التعريف" عند فتغنشتاين غير قادر على الإلمام بمعنى الألفاظ والكلمات والإحاطة بكل استخداماتها.
يخلص فتغنشتاين مما سبق إلى نتيجة خطيرة ويسيرة في آن، مؤداها أن معنى الكلمة هو استعمالها في اللغة التي تقوم الكلمة بدور فيها، إن معنى الكلمة هو طريقة استخدامها في اللغة(42).
إلى هنا ننهي حديثنا عن ألعاب اللغة عند دور التعريف الإشاري Ostensive Definition بالنسبة لألعاب اللغة.
إن التعريف الإشاري ليس حركة من حركات الألعاب اللغوية، وإنما هو بمثابة إعداد لهذه اللعبة، ذلك أن تسمية الأشياء أو الإشارة لها يشبه وضع أحجار الشطرنج مكانها الصحيح على لوحة الشطرنج استعداداً للعب.
على هذا النحو، تكون تسمية الأشياء كالطاولة أو الكرسي أو الكتاب ليس لعبة لغوية بقدر ما هو تأهّب للعبة، وكما أن لعبة الشطرنج لا يمكن أن تتم إلاّ إذا وضعنا الأحجار في مكانها الصحيح، فكذلك ألعاب اللغة لا تتم، إلاّ إذا قُمنا بتسمية الأشياء كحركة إعدادية للعبة. حيث تكون تسمية شيء يشبه وضع بطاقة على الشيء، ويمكن القول بأن هذا بمثابة تأهّب لاستخدام كلمة ما(43).
مقارنة بين كتابي "الرسالة" و"البحوث" حول بنية اللغة
استحضاراً للأفكار السابقة، يمكننا أن نعقد مقارنة بين بنية اللغة عند فتغنشتاين فيما اصطلح عليه بمرحلة تفكيره الأولى متمثلة بكتابة رسالة في المنطق والفلسفة وبين بنية اللغة في مرحلة تفكيره المتأخرة متمثلة بكتابة بحوث فلسفية .
ففي "الرسالة" كانت اللغة تتألف من قضايا Propositions أما بنيتها فتتكون من العلاقات أو ترابطات الأسماء (أمام، خلف، بجانب، فوق، تحت.. الخ) فيما بينها، وهذه البنية تتغير بتغير أو تبدل هذه الترابطات. أما في "البحوث" فإن بنية اللغة تتغير بتغير استخدام الكلمات واللعبة اللغوية التي تردُ فيها هذه الكلمات.
في "الرسالة" كان هناك ثلاثة أنواع للقضايا فهي إما (تقريرية) أو (تحصيل حاصل) أو (تناقض) (43). أما في "البحوث" فهناك عبارات لا حصر لها، تتعدّد بتعدد طرق استخدامها؛ ومردّ ذلك يعود إلى أن فتغنشتاين في "الرسالة" كان يقول بوظيفة واحدة للغة هي الوظيفة التقريرية، أما في "البحوث" فإن وظائف اللغة لم تعد تنحصر في عدد محدّد من الوظائف. ولذلك نرى أن العبارة Sentence في "الرسالة" لها معنى واحد، أما في "البحوث" فلها معان عديدة.
ولكن، لنا أن نتساءل ما هو مصدر الغنى هذا في اللغة عند فتغنشتاين في مرحلة تفكيره المتأخرة؟
إن مصدر هذا الغنى في مرحلة تفكير فتغنشتاين المتأخرة والمتمثلة في كتابة بحوث فلسفية هو اللغة العادية Ordinary Language، ذلك أن فتغنشتاين في رسالة في المنطق والفلسفة لم يكن يحلّل اللغة العادية أي لغة الحياة اليومية، وإنما كان يحاول إيجاد لغة منطقية، أي إنه كان يحلّل هذه اللغة المنطقية فقط(45).
كما تجدر الإشارة هنا إلى أن فتغنشتاين لم يرفض النظرية الإسمية أو الوظيفة التقريرية للغة أو وظيفتها في تسمية الأشياء، لكنه يضيف للغة وظائف أخرى لا حصر لها(46). فعلى سبيل المثال، لننظر إلى الكلمات التالية: مـاء - بعيـدا - أوه - النجـدة - رائـع - لا(47).
لا ريب في أن القول بأن لهذه الكلمات مسمّيات خارجية هو كلام يخرج اللغة من طبيعتها. لأن المفارقة – كما يقول فتغنشتاين – لن تختفي إلاّ حين نتخلى بطريقة جذرية عن الفكرة التي مؤداها أن اللغة تعمل دائماً بطريقة واحدة، و تخدم دائماً نفس الغرض(48).
من التباينات الأخرى التي يمكن ملاحظتها بين رسالة في المنطق والفلسفة وبحوث فلسفية، فكرة معيار الصدق. فمعيار الصدق للقضايا في "الرسالة" هو مطابقتها للوقائع Facts التي تمثلها(49)، أما قضايا تحصيل الحاصل (أو القضايا التحليلية) فإن معياره هو الاتساق الذاتي. أما في "البحوث" فالوضع مختلف، ذلك أن معيار صحة استخدام ألفاظ اللغة هو طريقة استخدامها في اللغة العادية (أو الجارية). هذه اللغة لغة صحيحة تماماً عند فتغنشتاين، ولذلك فإنها تصلح لأن تكون معياراً نقيس به مدى صحة استخداماتنا اللغوية.
إلاّ أنه يجب الانتباه إلى أن فتغنشتاين ليس لديه مقياس نموذجي يقيس بواسطته صحة ألعاب اللغة، وإنما صحتها تكمن بمقارنتها باللغة العادية. وهذا يعني أنه لا يوجد معنى نموذجى للكلمة الواحدة، لا معنى أفضل ولا أصدق ولا أحق من معنى آخر، كلها معانٍ صحيحة للكلمة(50). ذلك أن المعاني كلها صحيحة إذا ما جاءت وفق الاستخدام العادي في حياتنا اليومية للكلمات.
تطبيق نظرية المعنى على الاستخدام
في هذا الجزء سوف نحاول تبيان كيفية تناول فتغنشتاين لنظرية المعنى في الاستخدام للفلسفة ومشكلاتها، وسوف نكتفي بإيراد مثال واحد فقط لذلك وهو (الميتافيزيقا).
يشكّل نقد المفاهيم الميتافيزيقية إحدى المهام الأساسية التي اضطلع بها فتغنشتاين، إن في مرحلة تفكيره الأولى عبر "الرسالة" ومحاولته الفصل التام بين القيمة Value والواقعة Fact (51)، أو عبر مرحلة تفكيره المتأخرة عبر كتابه بحوث فلسفية حيث نجده يبيّن كيفية نشوء هذه المفاهيم ذات الطابع الوهمي Illusion.
ترتبط مشكلات الميتافيزيقا في كتاب بحوث فلسفية بسوء استخدام اللغة(52)، أي باستخدام اللغة استخداماً خاطئاً. وهذا أمر لاحظناه في كتاب رسالة في المنطق والفلسفة، إذ كانت اللغة ذات الطابع التقريري هي التي تشير إلى وقائع، في حين أن قضايا الميتافيزيقا هي التي لا تشير إلى وقائع، وبالتالي هي قضايا فارغة من المعنى Non-sense، لأن وجود الوقائع هو الذي يمنح القضايا المعنى.
إلاّ أن فتغنشتاين رفض أيضاً الطابع الميتافيزيقي للألفاظ بحجّة أن هذا الطابع ناشئ عن سوء استخدامنا للغة وعدم إلتفاتنا إلى كيفية عمل هذه اللغة.
فمن الألفاظ الميتافيزيقية الأكثر شهرة، والتي تنشأ عن تحميلنا للغة أكثر مما تحتمل أو ما هو خارج عن طبيعتها، هناك لفظ ((الماهية)) Substance.
يقدّم فتغنشتاين فكرته عن الماهية على أساس أنه ليست شيئاً خافياً لا يمكن رؤيته أو الإحاطة به بنوع من التنظيم، فمثلاً إن ماهية اللغة كامنة في طريقة استخدامنا لألفاظها وعباراتها ولا وجود لماهية خفيّة هي التي تحدد طبيعة اللغة. ولكن كيف تتكوّن هذه الماهية الخفيّة؟
إنها ببساطة نتيجة لسوء استخدامنا للغة. ذلك أننا ننسب للكلمات طابعاً ميتافيزيقياً/ماورائياً/خفياً/غيبياً يخرجها من السياق العادي/الطبيعي لاستخدامها. يقول فتغنشتاين في ذلك، إن ((سوء فهم منطق اللغة، يغرينا فيجعلنا نظن أن هناك شيئاً غير عادي، شيئاً فريداً، يجب على القضية أن تحققه، وهكذا فإن سوء الفهم يجعل الأمر بالنسبة لنا يبدو كما لو كانت القضية تفعل شيئاً عجيباً. (القضية شيء عجيب) هنا يكمن أصل ومنشأ التسامي أوالإجلال في اعتبارنا للمنطق. وهو الميل إلى افتراض وجود وسط خالص بين علامات القضية وبين الوقائع. أو هو أيضاً محاولة تنقية العلامات نفسها، والتسامي بها. لأن صورنا في التعبير، تمنعنا بكل الطرق من أن ندرك عدم وجود شيء غير عادي متضمن فيها، وذلك بأن تجعلنا نسعى وراء أوهام)) (53).
لذلك نجد فتغنشتاين يوجّهنا إلى أن معنى الكلمات إنما يتحدد بشكل فعلي، وذلك عبر النظر إلى استخدام هذه الكلمات.
على هذا النحو يتّضح لدي فتغنشتاين إننا واقعون تحت وهْم أن ما هو خاص وعميق وجوهري في بحثنا، إنما يكمن في محاولة هذا البحث بلوغ الماهية الفريدة للغة. أي النظام القائم بين التصورات الخاصة بالقضية، واللفظ، والبرهان، والصدق، والخبرة وغير ذلك. وأن هذا النظام هو نظام – فوقي خاص بما يمكن تسميته بالتصورات - الفوقية - في حين أنه، بالطبع، إذا كان هناك استخدام للكلمات التالية: ((لغة))، ((خبرة))، ((عالم))، فينبغي أن يكون استخداماً متواضعاً، مثل استخدام الكلمات التالية: ((منضدة))، و((مصباح)) و((باب)) (54).
على هذا الشكل، نجد أن ماهية اللغة هي في معرفة طريقة استخدام ألفاظها وعباراتها. ولذلك لابد من أن تكون قواعد النحو واضحة بالنسبة لنا ولأن معرفة هذه القواعد بشكل جيد تساعدنا على تكوين رؤية واضحة وشاملة لاستخدام الألفاظ، وبالتالي نستطيع أن نتخلص من خطر عدم فهم لغتنا فهماً جيداً. هكذا يقرر فتغنشتاين أن المصدر الرئيسي لفشلنا في الفهم، هو أننا لا نطلب الرؤية الواضحة والشاملة لاستخدام ألفاظنا، فقواعدنا النحوية ينقصها هذا النوع من الوضوح. أو كما يقول فتغنشتاين، إن الماهية يتم التعبير عنها بواسطة قواعد النحو (55).
ولكن كيف تنشأ الماهية الخفية للفظ ((الفهم)) Understanding، أي كيف نستطيع أن نقول عن عبارة ما أننا نفهمها؟
إننا نقول عن عبارة ما إننا نفهمها، إذا ما عرفنا كيفية استخدامها. وعلى ذلك فإن الفهم يتوقف على معرفة الاستخدام، وذلك عبر النظر إلى السياق الذي يرد فيه لفظ ((الفهم)).
إنني أفهمك ..
إنني أفهم هذه العملية الحسابية ..
إنني أفهم هذه القصيدة ..
ولكن، ماذا يحصل عندما أقول إنني أفـهم؟
قد يُطلب من شخص ما أن يُكمل المتوالية التالية: 2، 6، 18، 54، 162، يفكّر هذا الشخص بالمتوالية ثم يقول بعد لحظات، ((إنني أفهمها وأستطيع ان أكملها))، وإذا ما سألناه وكيف فهمت؟ فإنه سوف يقول لنا إنه قام باللجوء إلى خبراته بالعمليات الحسابية.
ما يريد فتغنشتاين قوله من كل ما سبق، التأكيد على أن الفَهم ليس عملية عقلية مجردة أو ماورائية وبالتالي ليس للفهم ماهية خفيّة، وإنما هو عملية مرتبطة بالخبرات وبطريقة استخدامنا للغة.
يقول فتغنشتاين، حاول ألاَّ تفكّر في ((الفهم)) بوصفه ((عملية عقلية)) على الإطلاق، لأن هذا التعبير هو الذي يوقعك في الخَلْط (56).
هكذا يَخْلص فتغنشتاين إلى أن فكرة ((الماهية)) الخفيّة هي التي تعطي الكلمات طابعاً ميتافيزيقياً/ماورائياً/غيبياً، في حين أن الكلمات إذا ما نظرنا إلى طريقة استخدامها فإنها لا تحمل هذا الطابع، فحينما يستخدم الفلاسفة كلمات مثل ((معرفة))، ((وجود))، ((موضوع))، ((أنا))، ((قضية))، ((اسم)) ويحاولون إدراك ماهية الشيء، فينبغي على الإنسان أن يسأل نفسه: هل تستخدم الكلمة بالفعل دائماً على هذا النحو في لعبة- اللغة التي تكون بمثابة موطنها الأصلي؟ إن ما نفعله هو إعادة الكلمات من استخدامها الميتافيزيقي إلى استخدامها اليومي(57).
خـاتمة
لقد قدّم فتغنشتاين في كتابة "بحوث فلسفية" نقداً للنظريات الفلسفية في موضوع "المعنى" بما في ذلك نظريته المبكرة (58)، وأراد بذلك أن يكشف عن دور النظريات في حالات الارتباك الفلسفي حول موضوعي اللغة والمعنى، وليفسح المجال، في الوقت نفسه، أمام تصور للمعنى في حدود الاستخدام، وأتاح له ذلك النقد أن يستبعد وجهة النظر التقليدية في الفلسفة باعتبارها بحثاً عن ((الماهيات المجردة)) ويحلّ محلها وجهة النظر الجديدة عن الفلسفة بوصفها حلاً للمشكلات الفلسفية عن طريق إظهار كيفية ظهورها كنتيجة لسوء الاستخدام الذي يجعلنا نتخبّط في متاهة قواعدنا الخاصة، فالمشكلات الميتافيزيقية تنشأ عندما نستخدم الكلمات خارج ألعاب اللغة، وإن شئت قُل عندما نأخذها بعيداً عن ((موطنها الأصلي)) في الاستخدام العادي/اليومي؛ فلا توجد مشكلة في وضع قواعد اللعبه أو اللغة، وإنما تنشأ المشكلة عندما نأخذ في تطبيق هذه القواعد، لأن الأمور تسير على نحو غير الذي افترضناه، إذ نبتكر قواعد خاصة بنا لا تفضي إلى شيء سوى الحيرة والارتباك؛ ولو أنعمنا النظر في مؤلفات الفلاسفة ولاسيما الميتافيزيقيين منهم، لوجدنا أنهم يستخدمون كلمات من قبيل ((معرفة)) و ((وجود)) استخداماً ينقلها من مجال الاستخدام العادي المألوف إلى مجال آخر تكون نتيجته اللبس والغموض والمفارقات اللفظية، ولكي نتغلب على ذلك يدعونا فتغنشتاين إلى إعادة الكلمات من استخدامها الميتافيزيقي إلى موطنها الأصلي، أي استخدامها العادي أو اليومي(59).
وعلى هذا النحو تصبح مهمة الفلسفة بمثابة ((العلاج)) من أمراض اللغة، بإظهار أن سوء استخدام الألفاظ قد نتج عنه الكثير من ((مشكلات الفلسفة)) (60). وفي هذه الحالة أضحت مهمة الفيلسوف بالمقابل تشبه مهمة الطبيب، فكما يعالج الطبيب الأمراض، بالكشف عن أسبابها، فكذلك الفيلسوف يتناول المشكلات الفلسفية بالتحليل للكشف عن الأسباب التي تؤدي إلى وجودها، وهي أسباب متعلقة باستخدام اللغة كما أشرنا.
وبذلك يقدّم فتغنشتاين نظرية في موضوع المعنى كانت ومازالت – في تقديري – جديرة بالدرس والبحث من جانب، والإعجاب والتقدير من جانب آخر لا سيما وأنها جاءت على خلفية نظريات تناولت موضوع المعنى تناولاً ما لبث أن اصطدم بصعوبات كبيرة الأمر الذي حدا بأغلب هذه النظريات إلى التراجع عن الخوض في هذا الموضوع الشائك من جديد.
إلاّ أن فتغنشتاين تناول هذا الموضوع الهام بنظرة جديدة متطورة تمثّلت فيما عرف بفلسفته الثانية أو المتأخرة عبر كتابه "بحوث فلسفية"، حيث أكد – على خلاف النظريات السابقة عليه – أن معنى الكلمة ليس له ثبات أو تحديد، وإنما تتعدد معاني الكلمة بتعدد استخداماتنا لها في اللغة العادية، كما تتعدد معاني الجملة الواحدة حسب السياق الذي تَردُ فيه.
الهوامش والإحالات
- زيدان، محمود فهمي. 1985. في فلسفة اللغة. (ب.ت). بيروت. دار النهضة العربية. ص 99.
- المرجع نفسه . ص 106 .
- المرجع نفسه ، ص 99 .
- المرجع نفسه . ص 99-100 .
- المرجع نفسه . ص 100-102 .
- L.Wittgenstein, Tractatus Logico-Philosophicus, Translated by D.F.Pears and B.F.McGuinness, Routledge, London and New York, 1999, Sec 4.03, P.22.
- إسماعيل، صلاح. 1996 . الاتجاهات المعاصرة في فلسفة اللغة. العدد 83 . الفكر العربي. بيروت. ص 70-71.
- بدوي، عبد الرحمن. 1996 . ملحق موسوعة الفلسفة . الطبعة الأولى. بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر . ص 256 .
- فتجنشتين ، لودفيج . 1990 . بحوث فلسفية. ت: عزمي إسلام . (ب.ت) . الكويت . مطبوعات جامعة الكويت. ص 188 .
- المصدر نفسه . ص 108 .
- زيدان ، محمود فهمي. في فلسفة اللغة . مرجع سابق . ص 106-107 .
- المرجع نفسه. ص 107 .
- ( نتطلب ) في النص المترجم.
- فتجنشتين، لودفيج. بحوث فلسفية . مصدر سابق. ص 109 .
- المصدر نفسه . ص 72 .
- المصدر نفسه. ص 194 .
- أوغسطين، القديس: لاهوتي وفيلسوف كاثوليكي. يعتبر كبير مفكِّري النصرانية في عهودها الأولى. اعتنق النصرانية عام 386م ودافع عن الكنيسة دفاعاً قوياً. حاول التوفيق بين الفكر الأفلاطوني وبين العقيدة النصرانية. أشهر آثاره: سيرة حياة ذاتية عنوانها (اعترافات) حوالي عام 400، و(مدينة الله).
- فتجنشتين، لودفيج. بحوث فلسفية. مصدر سابق. ص 47 .
- المصدر نفسه. ص60 .
- المصدر نفسه. ص163 .
- المصدر نفسه. ص48 .
- المصدر نفسه. ص58 .
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه. ص207 .
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه. ص 245 .
- المصدر نفسه. ص 242 .
- لا يذكر فعل الكينونة في اللغة العربية وإنما يكون مستتراً [ وينطق هذا الأمر أيضاً على اللغة الروسية ]، أما في بعض اللغات الأجنبية فيظهر، ذلك أننا في اللغة العربية لا نقول (الوردة تكون حمراء) ، وإنما نقول (الوردة حمراء) ، وقد ذكرنا كلمة (تكون/يكون) في المثال لأن اللغة الانجليزية تظهر فعل الكينونة ولكي يستقيم الشرح. ( راجع: المصدر السابق. هامش المترجم رقم 208 ، ص 242 ) .
- المصدر نفسه. ص48 .
- المصدر نفسه. ص122 .
- المصدر نفسه.
- زيدان، محمود فهمي. في فلسفة اللغة . مرجع سابق . ص 107 .
- فتجنشتين، لودفيج. بحوث فلسفية. مصدر سابق. ص 87 .
- المصدر نفسه. ص 87 .
- المصدر نفسه. ص 88 .
- المصدر نفسه. ص 53 .
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه. ص 142.
- المصدر نفسه. ص 72.
- المصدر نفسه. ص 62 .
- لمزيد من التفاصيل حول أنواع القضايا عند فتجنشتاين، راجع: إسلام ، عزمي. لودفيج فتجنشتين. ضمن سلسلة نوابغ الفكر الغربي (19) . القاهرة. دار المعارف . ص 170-218.
- راجع: زيدان، محمود فهمي. في فلسفة اللغة. مرجع سابق ص 29-42.
- المرجع نفسه. ص 108.
- فتجنشتين، لودفيج. بحوث فلسفية. مصدر سابق. ص 62 .
- المصدر نفسه. ص 179 .
- راجع القضايا: (2.221)، (2.222)، (2.223)
L.Wittgenstein, Tractatus Logico-Philosophicus, P.10.
- زيدان، محمود فهمي. في فلسفة اللغة. مرجع سابق. ص 110 .
- الجسمي، عبد الله الجسمي. هل كان لودفيج فتجنشتين وضعياً منطقياً؟ . بحث غير منشور. الكويت. جامعة الكويت. ص 25 .
- كانت مشكلات الميتافيزيقا والفلسفة التقليدية قد نشأت وفقاً لآراء فتجنشتاين في الرسالة المنطقية الفلسفية، عن إساءة فهم منطق اللغة.
- فتجنشتين، لودفيج. بحوث فلسفية. مصدر سابق. ص 102 .
- المصدر نفسه. ص 103 .
- المصدر نفسه. ص 197 .
- المصدر نفسه. ص 124 .
- المصدر نفسه. ص 108 .
- المصدر نفسه. ص 6 .
- إسماعيل، صلاح. الاتجاهات المعاصرة في فلسفة اللغة. مرجع سابق. ص72 .
- المرجع نفسه. ص 22- 23 .
المراجع والدوريات العربية والأجنبية
المراجع
باللغة العربية:
- إسلام، عزمي. (ب.ت). لودفيج فتجنشتين. ضمن سلسلة نوابغ الفكر الغربي(19). القاهرة. دار المعارف.
- بدوي، عبد الرحمن. 1996. ملحق موسوعة الفلسفة. الطبعة الأولى. بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
- برنهارد، توماس. 2005. صداقة مع ابن أخي فيتغنشتاين. ت:سمير جريس. دمشق. المدى.
- بوشنسكي، إ.م. 1992. الفلسفة المعاصرة في أوربا. ت: عزت قرني. الكويت. سلسلة عالم المعرفة- المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
- رسل، برتراند. 1983. حكمة الغرب. ت: فؤاد زكريا. الكويت. سلسلة عالم المعرفة- المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
- روبنسون، ديف و جروف، جودي. 2005. أقدم لك: رسل. ت: إمام عبد الفتاح إمام. ط1. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة.
- زيدان، محمود فهمي. 1985. في فلسفة اللغة. (ب.ط). بيروت. دار النهضة العربية.
- فتجنشتين، لودفيج. 1990. بحوث فلسفية. ت: عزمي إسلام. (ب.ط). الكويت. مطبوعات جامعة الكويت.
- كوتنغهام، جون. 1997. العقلانية فلسفة متجددة. ت: محمود منقذ الهاشمي. ط1. حلب. مركز الإنماء الحضاري.
- مجموعة مؤلفين. 2006. أعلام الفكر اللغوي. ت: أحمد شاكر الكلابي. ط1. ج2. بيروت. دار الكتاب الجديد المتحدة.
- محمد علي، ماهر عبد القادر. 1985. فلسفة التحليل المعاصر. (ب.ط). بيروت. دار النهضة العربية.
- محمود، زكي نجيب. 1963. الموسوعة الفلسفية المختصرة. (ب.ط). القاهرة. مكتبة الأنجلو المصرية.
باللغة الإنجليزية:
- Ludwig Wittgenstein, Tractatus Logico-Philosophicus, Translated by D.F.Pears and B.F.McGuinness, Routledge, London and New York, 1999.
- Forrest E.Baird & Walter Kaufmann, Twentieth-Century philosophy, Prentic-Hall, Inc. New Jersey, 1997.
- Ray Monk, Ludwig Wittgenstein: The Duty Of Genius, VINTAGE, London, 1991.
- Robert Audi,The Cambridge dictionary of philosophy,Second Edition,CAMBRIDGE university press,UK,1999.
الدوريات العربية:
- إسماعيل، صلاح. 1996. الاتجاهات المعاصرة في فلسفة اللغة. العدد 83 . الفكر العربي. بيروت.
- الجسمي، عبد الله. هل كان لودفيج فتجنشتين وضعياً منطقياً؟. بحث غير منشور. الكويت. جامعة الكويت.
الدوريات الأجنبية:
- Time,100 Person Of The Century: SCIENTISTS & THINKERS,MARCH 29, 1999.
* * *
عقيل يوسف عيدان.
باحث وكاتب كويتي (1976). ماجستير في الفلسفة الإسلامية والفكر العربي. نشر العديد من الدراسات والمقالات الفلسفية والنقدية في الصحف والمجلات الكويتية والعربية. صدر له: العقل في حريم الشريعة (الكويت 2005)، المجتمع المدني: فكر وواقع (كتاب مشترك) (الكويت 2006)، المرأة.. الإنسان (كتاب مشترك) (الكويت 2007).
البريد الالكتروني: ayemh@hotmail.com
* * * *
حقوق النشر محفوظة
الكتاب: أوجه المكعب الستة: ألعاب اللغة عند فتغنشتاين
المؤلف: عقيل يوسف عيدان
الناشر: مركز الحوار للثقافة - الكويت
العنوان على شبكة الانترنت: www.kwtanweer.com
الطبعة: الأولى، 2007
تصميم الغلاف: محمد النبهان
مركز الحوار للثقافة
2007