ربيع جابر
(لبنان)

(عبدالجبار الغضبان- البحرين)قيمة الكاتب لا تُحددها شهرته. قيمة الكاتب يُحددها عمله. ما صنع. ما كتب. هذه الحقيقة البسيطة لا يجري تجاوزها اليوم فقط. هذه حقيقة يمكن تجاوزها في أي عصر. ما يُحزن في عصرنا هذا هو الطغيان غير المعقول لوسائل الإعلام... وللنزعة الاستهلاكية. كل كاتب هو بضاعة في الوقت ذاته. والبضاعة الأذكى (المرغوبة أكثر) هي البضاعة القادرة على تسويق نفسها. دُور النشر في أوروبا وأميركا تشترط على الكاتب "شروطاً إعلانية" في أي عقد قانوني لنشر مؤلفاته. عليه مثلاً ان يوقع كتابه، ان يقابل صحافيين، ان يزور مدارس وجامعات، ان يظهر على الشاشة الصغيرة، ان... كل هذه ضرورات للانتشار، للحصول على أرباح، للوصول الى اكبر عدد ممكن من الزبائن، من القراء. صناعة الكتاب تجارة كاملة. لكن هذا المقال لا يريد ولوج تلك المتاهة. موضوعنا أشد تعلقاً بالطبيعة البشرية، وبنقطة ضعف أصيلة في هذه الطبيعة اسمها الشهرة.
يمنح الغرب (الرأسمالي) لكل كاتب قادر فرصةً للعيش من أعماله. هناك قد تكون الكتابة درباً الى الثروة. أما هنا، في الشرق (منبع الحكمة)، فباتت الكتابة درباً الى الوجاهة والظهور والتمكن. الإبداع يتحول رتبة اجتماعية. ان تنشر كتاباً في الأدب أو النقد أو السياسة، ثم ان تُطل على عيون الناس من صحفٍ لا تُعد وشاشات لا تُحصى. بات الكتاب ذريعة للظهور ليس أكثر. غير مهم كثيراً ما يحويه كتابك بين الغلافين الأول والأخير. فقط الغلاف الأول مهم: هنا يكتبون اسمك. والغلاف الأخير أيضا: هنا يتحدثون عنك. هذا هو الأساسي. لا احد يقرأ كتباً هذه الأيام أصلا. حتى قراء الصحف باتوا يكتفون بالعناوين. بدل ان تبذل جهداً في تأليف كتابك ابذلْ جهداً في مد الجسور مع هؤلاء الذين يُدبجون المقالات النقدية في الصحف. اختصرْ الطريق. لا تكنْ مغفلاً. أهم من أدبك كيف تُسوق اسمك. قيمتك شهرتك.
خطر مزدوج: الحرب والتفاهة
نشرف على حربٍ. ليست المرة الأولى. منذ قرنٍ نحيا حروباً متواصلة. لكن، هذه المرة، يبدو الزلزال الآتي أشد فظاعةً. الحروب في بلادنا شكلت دائماً ذريعة لتخلفنا. العدو فزاعة. العدو ذريعتنا لكل فشل. لكن الحرب ليست الخطر الوحيد الذي يهددنا. الخطر لا يأتي من خارجٍ. ولكن من الداخل أيضا. الخطر اسمه التفاهة أحيانا. السخف والجهل والأمية، ثم ادعاء المعرفة (القيمة) بعد ذلك. ليجلسْ كل فردٍ مع نفسه في غرفةٍ موصدةٍ وليحاسبها. ماذا صنع بالوقت؟ كم بذل من جهدٍ؟ وماذا أعطى للعالم؟ لا نُعطي شيئاً. ونطلب من العالم يوماً بعد يومٍ بعد يوم ما لا يستطيع العالم ان يعطيه لأحد.

وظيفة الكاتب

عاصفة الحياة لا ترحم أحدا. في العالم الصاخب العنيف نحتاج الى أفرادٍ يسكنهم الهدوء، افراد يتحولون بالتأمل والجهد والعمل الى مرآة لهذا العالم. ننظر الى ما يصنعون فتتضح أمامنا صورة الأشياء. نرى خرائط ونرى حياةً ونرى دروباً ونرى علامات ونرى منارات هادية. لا يُطلب من الكاتب غير هذا: أن يكون صادقاً. أن يكتب من اجل الكتابة. ان يكتب لكي يكون مرآة العالم. لا يُعطى لكل إنسان ان يتمثل العالم في أعماقه صافياً واضحاً. ولا يُعطى لكل انسان ان يملك التقنيات الكافية لإعادة انتاج هذه الصورة بواسطة الكلمات. لكن ما يبقى في الختام لا يزيد على هذا. وظيفة الكاتب ان يكتب. أن يكتب من اجل الكتابة. لا ان يكتب للمال أو المجد أو الترقي الاجتماعي. فإذا أحس بالرضى عن إنجازه ملأه الفرح. وملأته الحياة الحقة. أن يعترف العالم بإنجازه، أو ألا يعترف، فهذا نافلٌ. ليبحثْ عن السلوى في مزيدٍ من العمل. لا شيء يضيع. والثمين يبقى مخفياً وقتاً ثم يظهر. وظيفة الكاتب ليست مطاردة الشهرة. الشهرة لن تمنحه الامتلاء. الامتلاء يخرج من الأعماق فيغمر عينيك ويغمر العالم ولو كنت مجهولاً ولا أحد يعرف عن أعمالك شيئاً. ابحثْ عن السلام في رأسك. لا تفتش عن سلامك الشخصي (عن قيمتك) في رؤوس الآخرين. في صورتهم عنك. رؤوس الغير متاهات يصعب سلوكها تعجّ بالنفيس والعبثي والرخيص معاً. ليست مسكناً طيب الهواء. اسكنْ في رأسك. في ما تراه وتقرأه وتتخيله وتكتبه. هذه علاقتك بالعالم. ان تقيم بين أخوتك، ان تتأمل الطبيعة والعلاقات البشرية واختلاف الأحوال وتصرم الوقت، ان ترى الى أعماق خفيّة وغير خفيّة، وأن تكتب كل هذا. الحياة تمضي بسرعة والفهم يأتي على مهل. تذكرْ ان الموهبة لا تكـفي. السلــيقة وحدها لا ترفع بناء. قيمة العمارة ليست رسمها فقط بل الجهد المبذول فيها أيضا. تـذكر ما هو مهم. صحة البدن وصحة الروح. صفاء العقل ومتانة الإرادة. ثم حقق ذاتك. انظرْ الى هذا العالم واكتبْ ما ترى. ولا تنسَ الخيال. تـذكرْ دائـماً فلاسفة القرن التـاسع عـشر: الواحد يحتـاج الى الخيال حتى يرى في الأشياء لا ما صنعته الطبيعة بالفعل ولكن ما حاولت صنعه أيضا ولم تستطع. تذكر كل ذلك ودعْ الرغبة في المجد جانباً. قيمتك ما تصنع. ما يخرج منك. ما تكتب. وليس ما يُقال اليوم فيتبدّد غداً، وكالدخان يتلاشى.

الحياة
2003/02/05