وكان قد التفتَ قَبلَ رحيله
عن الأرض إلى السماء،
فرأى أن سحباً سوداء كثيفةً
غطتها،
وعندها ذهب إلى ربوة عالية
ووقف يراقب من هناك الأرضَ
وهي تندثرُ وبنيها وهم
يغرقون.
***
وعندما تسيل سيولُ السماء، وتنزح على الأودية مياهُ
الجبال، جارفةً العشب والحجر والشجر وعظام حيواناتٍ
وطيور موتى،
يستيقظ إذ ذاكَ فرح عميق في الأرض، يهرع الرعاةُ
والحطابون والفلاحون إلى منابع الحياة الأولى، كمن هرع إلى
طفولة مفقودة وبحث عن أم أخذها الموت إلى غياب
أبدي.
***
وأنتِ
يا غمامة مطرنا الأولى
أيتها الرسولة
إلى جفاف الضرع
ومنفى الشعر
أيتها العذراءُ
المرسلةُ لأرض عذراء
أيتها المفتقدةُ
كروح الطفل
وقمر الرعاةِ
أيتها الخضراء
كشجر الحطابين.
***
ولكن
فقط حين تعود
أيام الصيف
ويخرج القمر من عزلتهِ
أعود أنا إلى ذكراكِ
متى عدتُ
وكان كل شيء في غياب
وماء الغيم هو ما سنعجنه
بالتربة ثم نشعل بالفرح
النهد الصامت الحزين
***
ولكنك تصغين إلينا
أيتها الغيوم
إلى نداء الطفلةِ العذب
وإلى صراخ الشجرة
الصراخ الذي تحمله ريحُ
القيظ الهادئة وهي
تتهيأ أخيراً
لذاتها لذات الحب
والحياة.
***
وعندما تولدين وتتشكلين أيتها الغيوم
ثم تلتحمين غيمة وأخرى في سماءٍ
لا متناهية، ندرك إذ ذاك طعم الماءِ
الذي سترسلينه إلينا
ونقف لكِ خاشعين كعباد أمام الله
وكعشاق أمام جمالكِ المطلقْ.
***
وحتى الجبال تحاول ضمكِ إليها
كي تسكني قممها
الجبالُ في أبديتها
الجبالُ العاشقةُ
سحبا تضيء ظلام أرض من العراء والخفاءْ.
***
ولقد عرفت أيتها الغيوم
ولادة الطفل بعد الألم
كما هو هطول الودق
بعد جفاف طويل
كما هو الجمال
في رحيله إلى الموت
والورد
في رحيله إلى الرماد
***
ترحلين
كزورق الشمس
في رحيله المجهول
وتذوبين
كنار هادئة
في السماء.
***
ان الماءُ
ونحن نغسل به
جسد الميتِ
يسيلُ
كرماد غيم راحل
عدا غموض الروح
وغموضكِ
أيتها العمياءُ في الحبَّ
وفي الهجير.
***
الأمُ وهي تغسل بالماء جسد الطفل الميت
وهي تغمس ساقيه ويديه وتغمض عينيهِ
بماء النبع، ثم تقطف من أقرب سماء
غيمةً بحجم جسده الغض، وتحفر لها بيتاً
بجوار لحده الصغير.
***
الغيومُ
وهي تسير هادئةً من سماء لأخرى
كالعشاق وهم يبحثون في سيرهم عن
ضوءٍ بعيد كسراب لا يصلون
إليه. ولربما دفنتهم في الطريق
الرمالُ وتناثرت أبدانهم العليلة في
الصحراء، والغيومُ ربما هطلت عليهم
وروتهم بالمياهِ ومضت تغمرهم بها
حتى فاض بهم الوجد وانتشر العشق.
***
متى عاد العاشق إلى منزله
ووجد البابَ مغلقاً
فتحت له الغيوم
أبوابَ منازلنا
وقلوبنا
***
... وصغيرة المنزل التي حلمت أن تكون غيمةً
تهطل ذات مساءٍ على عريش القرية، وستبكى
أمهاتنا لأن الغيوم هطلت ورحلت، وستبكى
الصبايا لأن العشاق كانوا غيوماً وهطلوا...
***
متى اشتعلت النار في الزمنِ
متى اشتعلت النار في الجسدِ
وأضاءت الأرضُ ضياءها الأخير
قبل الموت.
***
وأنتِ ماذا ستعطين دمى أيتها الغيوم
أيتها المرأة ذات الفم الشبق إلى الحب
ماذا ستعطين دمى؟
فرحٌ لا انتظره حتى والأرضُ تحتفل
بطفولتها، فرح كمثل النار وهي تغنى
لعشاق الأرض وكمثل البحر عندما تسكنه
وردةٌ في الفجر....
***
ليلٌ سيأتي مع الغيم
ونار ستضيء الكون
وهو يظلم، أيها الضوء
يا ضوء الشبق ويا جماله الحميم...
أعني أمام هذا الجمال الرحل
إلى المجهول.
***
ولقد سمعنا منكِ أيتها الغيوم سمعنا خبر عالم مخلص
أو عالم يبنى على أنقاض عالم قديم، ولقد سمعنا
منك الملاك وهو يوقظ الموتى إلى الحياة
والودق ليوقظ العشب ويشعل النار.
ثم متى نضج الثمر ومتى قطف الطفل الحلم
ومتى بكت امرأةٌ في العتمةِ، تذكرت الغيمَ
وتذكرت قبلة امرأة والغيم يمطر ذات
شتاءٍ بعيد.
***
هاهي الغيوم تحملُ إلى الأطفال الفرح بالمكانِ والزهو بالزمن
هاهي الغيوم تحملُ المعنى إلى العدم وتحملُ الرياح إلى ضياعها الأزلي
ليتحد البحر بالمطر ويقف الغريب أمام الأفق والشراع أمام
المجهول والغياب.
***
وسنفتح نوافذنا المغلقة وأبوابنا المهجورةَ
للصغار الفارين المختبئين من ودقك الثقيل،
أيتها الغيوم وأنتِ ترحلين بعيداً، أنظري
إلينا وارحمينا.....
***
وحتى أولئك المرضى في غرفهم المغلقةِ ينتظرونكِ
أيتها الغيوم، الغيوم وهى تحمل إليهم زهور
الموتِ وفراشاته الخضراء على القبور.
***
ولكنكِ أيتها الغيوم تهبين العشب للحياةِ
والأرض كأنها أنثاك لترتعش، كأنها
الجنون وهي تستقبل عشاقاً من الريح
ورجالاً يحملون معهم البذور إلى نساءٍ
موتى...
أفيقي معنا إذن
وارحمينا
ونحن نسير إلى الموتِ
نود لو شربنا منكِ
بعضاً من الروحِ
وبكينا....
***
والطير الناريَُ
طير الغابةِ
وابن الصحراء
أخذنا بعيداً إلى كهف جبلي عندما رآكِ
وأنت مثقلةٌ بالرغبة والحبِ
تحملين إلى الأرض خلودها
وإلى الزمن وردة الملاكِ
ورماده الجميل.
***
ونحن نرسلُ نشيد مجد لكِ أيتها الغيوم،
نرفع سارية المجد لكِ من العابرين
الذين رحلوا دون أن يروك،
من الذين ناموا في التراب وهم يحلمون
بظلالكِ ومياهك، من سر الحياةِ
المختبئ في بذرة الموت، وهو يتجه
إليكِ كنبع طفولةٍ خالد.
***
هل تنهين ترحالكِ إلينا، إلى ألمنا، أوراق عشبنا الجافة،
أمهاتنا الراحلات، أطلال حياتنا المنهارةِ بحثا عنك وشغفاً
بجمالكِ أيتها الغيوم؟
ونحن نسير في الأرض متجهينَ إلى شاطئ آخر ثم إلى جبل آخر
ثم إلى صحراء أخرى، بحثاً عن ألوانكِ الدافئة وما تعطيه
للقلب من ثمار غضة كنهود الصبايا عن قطرات نداكِ
الصغيرة كدموع الصبايا عن فرح غامر سيغمر التربة
حين تنهل من عشقكِ اللانهائي...
***
وإلى الأبد سيمضى الكائن بين الأحجار وتحت الرمالِ
لكنه سيظل ينتظر دوماً أن تبعثه الغيوم
بالمطر وترويه فتخضر من حوله الأرض بالعشبِ
وعلى قبره تحلق الطيور ويبتسم العشاق
***
العاشق وهو يحلم ببناء بيت من الغيم، الميت وهو يحلم بأن
يروى الغيم عظامه في التراب. هكذا نحلم جميعاً بجمال تشكله
الغيوم وبماء نشربه من التصاق ثدييها بجفاف القلب.
***
ولكن غضبكِ دائماً يأتي
بعد جفاف طويل
وبعد غياب
إذ هو ذا
نبي
أتت به الغيوم
وسكبته الأمطار.
***
.... وكان ما تبقى هو الحب
بعد أن غمرتنا السماء
بمياهِ ندم بعيد.
***
إشارات:
- شكسبير/ حكاية الشتاء (بدوا أنهم سمعوا خبر عالم مخلص أو عالم مهدم).
- ايف بونفوا (ننام في الغرف العليا، لكن نمضي أيضاً وإلى الأبد بين الأحجار).
إقرأ أيضاً:-