عبده خال
(السعودية)

1

فعلها ذاك القواد الخسيس .
هاهي الطائرة نفسها تقلع في طريق العودة ومدينة عدن تنام ملتحفة برداء البحر كعذراء سلبت بكارتها فلاذت بجمع ثيابها الممزقة لستر عورتها المستباحة .
هكذا نعتها عياش قبل أن يلوح بيده مودعا على بوابة الفندق،كانت قدماي تصعدان سلم الطائرة وشيء يسيل من صدري لاعنا هذه المدينة .
مدينة خلع الإنجليز رداءها وقبل أن تفيق عاقرها الروس وتركاها تتلفت باحثة عن مخلص يأتيها من خلف الغيب،تتلفت صوب البحر وعندما تمل تعلق أهدابها على قمة جبل شمسان في انتظار مرتبك .
- حتى المدن تتشتت خطاها حين يمتطي صهوتها سائس أخرق .
هذا تعليل عياش للارتباك الذي تعيشه عدن،يحفظ تضاريسها كما يعرف وجه أمه الذي تهدل بجريان ستين عاما جرفت جمال امرأة عدنية،ولد في حي المعلا وتنقل في أحيائها كعود أراك مهمته تلميع أرصفتها،وحين غادرها للعمل في السعودية اختنق وكاد يموت في أزقة جدة فنقل للعناية الفائقة تحت سماء عدن ليعود خيلا يصهل في كل حين ويحمحم بعشقه لها في المطبوعات المحلية .
فوجئ حين راني أقف على باب منزله ،اتسعت حدقتيه من خلال نظارته المحدبة،وجمعني بين ذراعيه مرحبا،لم يكن ذابلا كما عهدته ،شيء ما يروي عروقه ويطفر من بين وجنتيه..ليس هو ذلك الشخص الذي جمعتني به مقاهي جدة المتناثرة على شاطئ الكورنيش،كان شخصا حيا متدفقا .
في متجره بشارع قابل نكس رأسه بين ذراعيه،وعندما عجز عن ابتلاع جملته انحنى ودس جملته في أذني :
بلدكم كحظيرة كبيرة تربي العجول لتذبحها بهذا الملل .. لا شيء فيها سوى العمل أو الموت.!
يمقت السوفيت والإنجليز على السواء ، فكليهما بذرا في تربة عدن مسامير الوجع لتتحول المدينة إلى آهة بحجم الألم الذي مضى والذي سيأتي .
هاهو يقف مرة أخرى لتوديعي ،نقف سويا لمضغ فاصلة في عمر قصير،كالأموات نتجاور وليس لنا من هم سوى انتظار همة وشراسة نمل عليه أن ينجز مهمته بقرضنا بأسرع ما يمكن .!!
حزم حقيبتي وناولني تلك الأوراق الرسمية صامتا،كان يعلم أني سأطلق على مسمعه : أين هي .؟
وقبل أن يتلقى هذه الرصاصة،حمل حقيبتي وغمغم على عجل :
- سأنتظرك عند بوابة الفندق .
نهار كسول يعرك سره بين خطوات عمال الفندق المتوجسة من إحداث ربكة يمكن أن تفزع منها أجساد نزلاء الفندق المنهكة،تنام تلك الأجساد في هذا الضحى انتقاما من ليل أضنى أعطافها وسلب ماءها في صفقة ساقطة.
قبل أن اصل إليه،كنت أتلفت في ممرات الفندق لا شيء هناك سوى تلك النادلة التي أبقت على ابتسامتها ناصعة وانكسار مريع وأنا أضع بين يديها ما تبقى من حساب مكوثي كنزيل حظي بمعاملة خاصة ..هكذا أفهمتني السيدة التي أنهت إجراء إخلاء غرفتي .
الهواء يعبر الشارع الفسيح مبشرا بقدوم غيوم حبلى بماء مهين،تصرف السماء بروقا صغيرة تتوه في أرجاء المدينة،وتبقى في المدى شارات يوم ماطر .
على بوابة فندق وضاح وقف عياش وجلا لوداعي،تتلجلج كلماته وعيناه تحوم من خلف نظارته خشية من أن يلمحه أحد معارفه في هذا المكان،رغب أن يكون الوداع باترا ،لم يبقني كثيرا بين أحضانه هذه المرة،دفعني مرارا واختصر الوداع بنصائح طالما سمعتها منه،في هذا الوداع عاد وجهه الذابل الذي كان يحمله في أزقة جدة ،عاد كهلا يحمل غربته ووجع الترحال :
نجد أقدارنا أينما ذهبنا فلا تبتئس .
دفعني نحو سيارة أجرة - كانت تقف بجوار البوابة في انتظاري - وانزوى جانبا،لم ألتفت لتلويحيته ولم أشأ أن تتلاقى عينينا فدسست جسدي داخل سيارة الأجرة مهملا كلمات الوداع التي كان يطلقها تجاهي،منحته نصف التفاته،كان يقف في مكانه،في جهة لا تكشفه ولا تخبئه،ويده الملوحة تثير الريبة باختلاسها لحالتين متناقضتين فحركتها تنبئ بالتريث والوداع معا،أخر ما لمحت منه تلك النظارة المحدبة أكثر من اللازم والتي تكاد تسقط من على أرنبته الغليظة تقابلها دائما رغبة ملحة لأن أثبتها له كما يجب .
سائق سيارة الأجرة شاب ثلاثيني غرق وجهه في سمرة داكنة أبانت بياض عينيه ولمعانها،استوى خلف مقود السيارة بابتسامة منشرحة :
عياش أوصاني بك خيرا .
تنازعني رغبة البقاء،لعنت عياش في سري لم يكن جازما في تأخير موعد رحلتي،فبمجرد أن أعلنت له رغبتي بالعودة حتى كانت بطاقة صعود الطائرة ترفرف بين يديه :
قلت لهم انك ضيف الدولة وانك جئت في الدرجة السياحية ومن العيب أن تعود كما جئت فمنحوني بطاقة صعود الدرجة الأولى واعتبر هذا الفعل هديتي لك .
أمسك بيدي المتسللة إلى جيبي :
إياك أن تفعل،عد لأبنائك وسأنتظر أخبارك .
(أبنائي،لم اخبره بشيء لا أعرف لماذا لم أحدثه،النار لا تنه مهمتها حتى تسقط عمود الخيمة،شبت النار يا عياش،أحترق كل شيء .!!)
حينما عبرت سيارة الأجرة مكتب الخطوط اليمنية كدت آمر السائق بالتوقف :
هل يمكنني الحصول على رحلة في الغد .
لا أدري، هل تريد أن نتوجه لمكتب الخطوط .
لا لا ،استمر في طريقك .
هذه الرغبات المختلطة تصيبني بالارتباك،ماذا يحدث لو بقيت .؟
الغمام يتواصى بالتوجه إلى قلب المدينة وقد تخلى عن قليل من رذاذه ليعلق على زجاج السيارات وعلى واجهات المحلات وينحدر من على رؤوس العابرين للشوارع الموزعة في شرايين المدينة .
قولد مور،خور مكسر ،صهاريج كوجلان هاهم الإنجليز يضعون أسماءهم ويمضون ..شوارع عدن بقايا لذاكرة إنجليزية لم يستطع الرفاق محو الثقافة الانجلوسكسونية التي جاءت إلى هذه البقعة في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي،ولم يستطيعوا إجادة لعبة الإحلال والإبدال،بقى الإنجليز يمدون أعناقهم من خلال الشوارع ،والبيوت،والتاريخ،والذكريات، هنا في المعلا رفات الإنجليز الذين لم يحافظوا على هذا الثغر الإمبراطوري،فحين أفرغت الخزانة البريطانية بفعل الحرب العالمية الثانية تخلت بريطانيا العظمى عن مستعمراتها،تخلت تحت شعار حرية تقرير المصير،هذه اللعبة السياسية القذرة تتناسخ صورها،وكل صورة تحمل استعمارا بشعا يسوس الشعوب الغائبة بفعل الجهل والجوع والبطش .
كان أنور لديه شهية واسعة للعن الغرب واتهامه بالتربص بنا في كل حين .
أنور صورة لفارس عربي سقط من على جواده وظل يركض في أرض المعركة بلا سيف أو درع،يحوم مدافعا عن صدره بالشتائم ،وعياش صورة أخرى :فارس أيقن من الهزيمة فترجل عن فرسه ليتعرف على الضحايا،وليعرف أيضا كل المؤامرات التي تركته يجول أرض المعركة بهذه الهزيمة،مشكلة عياش أنه يعرف التفاصيل ويعيش داخلها .
كادت نظارته أن تسقط من على أرتبه أنفه وهو يسهب في تلك التفاصيل :
حين جاء السوفيت حولوا هذا الميناء إلى مربط لخيولهم،ومدفأة لحرق حطب اخضر،ومجرى لرغبات ستالين،والرفاق العرب في كل أفعالهم لم يفطنوا للشرط التاريخي الذي يقيم عصب نظريتهم المحتدمة،فللمكان شخصية رافضة وقبل أن تستزرعها عليك أن تتصالح معها،أولئك السوفيت كانوا زراعا حمقى يبذرون الحبوب في أي أرض من غير تقليبها،أبقوا علفا يابسا لا يصلح غذاء لتلك الأجساد المهدودة،واليوم تقف عدن بوابة لذكريات الساسة المتنحارون على سجلات التاريخ والمختصمون بين شواهد القبور المقبقبة على وجه هذه الأرض الرحبة .
عندما أمسكت يدي بسلم الطائرة أضفت جملا كثير في وصف هذه المدينة :
- آوه يا عياش عدن تقف اليوم بوابة للعذاب،بوابة لدهك الجسد وبيع الرغبات الدنسة والهوى المبتذل.
ثرثرت كثيرا بهذه الخواطر والتي غدت - من غير أن اعلم - طعما لذاك السائق الذي وجد في نقمتي على الإنجليز والسوفيت - معا - فرصة لأن يريني معرفته بالتضاريس السياسية التي عبرت هذه البقعة من الوجع العربي .
لم يكن عبدالفتاح إسماعيل خير ممن مضى ..وقلنا أن البيض خلع رداء الاشتراكية وسيسمح لنا بان نحلم قليلا لكنه نكص قبل الأوان ..الكل لوثنا
أطلق جملته على مسامعي كطلقات رشاش لن يقف قبل أن يفرغ خزينته ،كان علي أن اصل للمطار قبل فوات الأوان ولو استرخى هذا السائق في سرد حكاياته فسأمكث ليلة أخرى في هذه المدينة المستباحة، ( ما بالي الآن على عجلة من أمري فقبل لحظات كنت راغبا في البقاء لليلة أو ليلتين - كنت قد استحثثته للحديث كي اقطع تلك الصور الضاغطة على أعصابي،كنت أجاهد للفصل بين زمنيين،وحين بدأ حديثه كانت تقف أمامي بعنفوانها وتغتالني .استوى جسدها بضا شهيا تدربت على إظهار مفاتنها المخبأة،ارتوت نهديها كما يليق بشجرة طفحت ثمارها وتخلت مؤخرتها عن توترها الدائم وبقيت لدنة تستعصي على اللت،كانت تتلوى كحية أدمنت الرقص على ناي زمار محترف،لم تكترث كثيرا بفجيعتي،وكلما وقف جسدها بالبال متعريا يسيل بالمتعة ويلقي بثماره على قارعة الطريق هممت بالعودة واستدعاء تلك الرغبة بالبقاء،سللت خيطا عشوائيا للحديث عن اليمن،وفي كل مرة أجد السائق مفتونا بسرد وقائع من التاريخ،حدثني عن الإمامية،وعن انفصال شطري اليمن وعن تسلل الإنجليز لشواطئ عدن،وعن قدوم الماركسية،وعن الثورة،وفي كل حديث له تبدر من رأسي عدة اهتزازات فيظنها استحسانا لمقولاته.
قضم على شفتيه بحسرة :
يبدو أننا سنظل رهينة للاحتلال فيما ستأتي من أيام .
تنبهت انه استرخى في مقعده وقلل سرعته لحدودها الدنيا،منتشيا بسرد وقائع التاريخ اليمني محللا الضوائق الاقتصادية والسياسية التي عبرت هذه البقعة الاشتراكية فيما مضى من زمن :
الرفاق علمونا أهمية التاريخ وأهمية التثقيف لكنهم نسوا أن يوفروا لنا حياة كريمة .
تلجلج ومد عنقه من زجاج السيارة باصقا زوائد القات الطافحة بين أسنان فكه الأيمن كطحالب بحرية ملها البحر :
نعم نسوا ذلك ..هاجر الكثيرون هربا من الفاقة تقافز معظمهم للسعودية ولم يكترثوا بتأميم أملاكهم هنا،بنوا مجدا هناك ..
كنت أفيق من شرودي في أحيان هربا من تلك الصور التي تداهمني عنوة،صور لها لزوجة المخاط تثير التقزز وتلتصق بالجسد ومع كل محاولة لإزالتها تبقى شيئا منها عالقا بين الجسد وراحة اليد،عياش أراد توديعي بكلمات التصبر وتهوين ما حدث .
رأيتها كأحسن ما تكون عليه حين تتزين،لازالت محتفظة بعادة ترك غرتها تغطي جزء من وجهها وتتصنع رفع تلك الخصلة عن عينها في كل حين ..كانت أشهى مما كانت عليه .
صوته يصلني كطاحونة تقاعست عن طحن حبيباتها،ربما يتحدث الآن عن مجزرة الرفاق الحمر،كنت اسمعه يصف تلك المقتلة التي تخلى فيها الرفاق عن الأيدلوجيا واستعاضوا برداء القبيلة،هؤلاء الماركسيون أرادوا أن يجعلوا الماركسية - في عدن - كعبة تحج إليها العرب فحين فقد قرباتشوف مؤشر البوصلة واتجه غربا أثار حمية عبدالفتاح إسماعيل الذي اخذ يبحث عن وسيلة لإعادة المجد الستاليني في جنوب الجزيرة العربية وليعاود بث الرايات الحمراء على بقاع الأرض،أي حمق كان يمتلكه ذلك الرأس.! قرباتشوف يجد في البروستريكا منفذا لبقاء السوفيت كقوة عظمى،وعبدالفتاح إسماعيل يصمه بالخيانة العظمى للإرث الماركسي .!!
أظنه لم يقل هذا .. اختلط علي الأمر فقد قرأت شيئا شبيها بهذا في كتاب حرب الخليج لمحمد حسين هيكل.
يقف في رأسي عمر المؤذن ذلك المتيقن من إيمانه لم يتمتع بشبابه قضى سنوات سجنه في عمائر الإسكان بالشرفية وحين خرج عاد لأفغانستان،عاد بعد أن شارك في إسقاط الرايات الحمراء،عاد يبحث مع رفاقه عن معركة أخرى بينما كانت أمريكا تتسلل إلى جوفه،حمل كرهها إلى بشاور ربما ترافق مع ياسين ليهجرا بلدهما ويستقران بين جبال باكستان وأفغانستان ..ربما
كان السائق لا يزال يتحدث عن الدحابشة،هكذا وصفهم :
- هم يضيقون علينا أرزاقنا .
ثرثرة هذا السائق لم تكن متوقعة،كنت في حاجة لاستعادة ما حدث بشيء من الحيادية،كنت في حاجة لاستيعاب ما حدث ..لعنة الله على السياسية فهي تجعل الكل عالما وخبيرا،قاطعته كثيرا وفي كل مرة أمني نفسي أن يقول لا أعلم لكي يتوقف هذا الشلال الذي فتحته على نفسي،فكلما هربت منه جاءني كالطوفان،فاتقيه بهز الرأس والتعقيب بكلمة أو كلمتين وفي كل مرة لا أتتنبه إلا والسؤال يغادر فمي :
وكيف وضعكم بعد الوحدة .؟
كان متزاحما بمياهه وكمن كان ينتظر نفقا ليعبر منه نحو الضوء حشر كومة من القات المقطوف في شدقه الأيسر ومز سجارة ماركة كمران :
الدحابشة يضعون أقدامهم في بطوننا ولا أحد يستطيع أن يقول ثلث الثلاثة كم !!
صمت لبرهة كأنه تذكر آلما حادا نخر قحف جمجمته فعقب على عجل:
- علي عبدالله صالح أراد الوحدة لكن الحرب والفاقة بقرتا بطوننا .
صمت كما فعل سابقا وتطلع نحوي بارتياب:
هل أنت يمني .؟
وعندما لم اجبه واصل صمته واستحث همته في إيصالي من غير بطئ فيما كان المطر ينهمر في محاولة يائسة لتطهير أدران المدينة .

سوف تصدر هذه الرواية قريبا عن دار الجمل بألمانيا