لتحلَّ الرؤيا فيكَ، فهي منقذكَ.. ومعذِّبُك. لكنها حكماً أفضل من مواتكَ وحصرِكَ في الأشياء.
فلما اكتملت الفكرةُ، وأُشير إليها بتكوِّر الزَّمن لحظةً لا تُحسُّ جئتَ مكتملاً إلى حين، مرفوقةً كياستُكَ بطرفٍ من الحياء ومصابة عينك اليسرى بحَولةٍ كثيرة الصفات ومترعة طفولَتك، كانت، بحكمةٍ لا تزهو ولا تُبَرْهَن.
ولأنَّ من يعرف.. يعرف أنك ستنزوي فيجرِّحُ روحَك قلقٌ وتخلخل جسدكَ خيالاتٌ مبعثها كل شيئ. فلا تقوى لتكون.. إذ أن زمانك ليس في الزمانِ.. فينداح فيكَ ماء الموتِ، وكي لا تذهبَ إلى عَمائكَ مبكراً، أسعفْتَ برجلٍ يعمِّرُ موتَكَ فيكَ ليؤجله. يدلُّكِ إلى يديكَ فتخطئ.. يدُلُّكَ إلي عينيكَ فتنسى.
ليَلُمُّكَ الشَّطحُ فتذهبُ إلى آخر دركٍ في صياغة الحال مائلاً دون ميلٍ إلى أعراضِ الوحدة الصَّرْفة. عاشقاً كُن.. وماضياً إلى زوالكَ، فالغافلُ يقرأ ما يكفي المرامَ وما يَنْظمُ المكانَ في جوقةٍ تتداعى في التِّيْهِ/النورِ.
تتداعى الموسيقا .. ويمتد السطرُ، يوصلُ النقطةَ بنفسها. عاشقاً كُنْ، خبرة الصوتِ فيكَ حيازةُ الكُلِّ بين دفّتيّ شوقٍ يقتاتُ اسمَه.
كنْ.. فليس في النقصانِ معانٍ.. ليس في الاكتمال. ستفرح التشابيهُ وسيخرج نملُ الكلامِ من رؤوسٍ دائخة.
يمكنك أن تبدأ من أي نقطة.. إذ.. الاتجاهُ هو الفكرةُ وحسب.. إياكَ والحكايةَ، الحكايةُ فتنتةٌ وإغراء.. ذاكرة دبقة.. لا تجاملْهم، دعْ كتابك للريح، إنّ أيّة إشارة تكفي لزجّك في زنازين فهمهم، دعه للعابرين دون متاع.. للساهمين المعفرين باحتمال حريةٍ ورؤى لا نظائر لها، للماضين هكذا..
صحيح أنه من المستحيل نفي الشكل، ولكن مع هذا فلتكن مهمتكَ/ لعبتكَ محاولةَ النفيّ هذه، محاولة يائسة وصعبة.
لتنسَ النتائج. النتائج دائماً مضحكة.
رجل القبو هناك "يقول"، وذلك ربما آخر إشارة لوقوعه في حيّز، ولأنني ما استطعتُ أن أرفعَ إغماضةَ التشابك من أمامي، رميتُ جسدَ رجلِ القبوِ في أيّكة الكلام، ليس إجابةً تفكَّ الذهولَ، وإنما خطوة عميقة في الظلّ.
الكلمة/ الرحلةُ شساعةُ الانخطاف وسرعته، ليست شيئاً ليرسو.. فلتةٌ متدرّجة، انحرافٌ عن ثقل التضاد والثنائيات المطروحة على رقائقَ هشةٍ، محضُ زيارةٍ من لا شيء إلى لا شيء آخر.
ولا ينتهي مسلك الصوت إلاّ في لعبةٍ خطوطُها مناسبةُ الحماس في العجز الصائرِ المتحول.
إذن.. أولاً اللغة.. وربما أخيراً، اكتشافُ شكلها وسحب الخيوط من ماهيتها، توصيلها إلى آخر وظيفة لها، إحراق أرديتها، سَلْخُ التاريخ عنها.
شيء يشبهُ كسرَ الغاية، وقوعٌ في مصيدة القانون من الجهة المعتمة.
ماذا يعني رجل القبو : لا تقعْ في سياق، لا تكن ساذجاً وتحاكِ الفكرة، الفكرةُ جنس أصفر.. وقتٌ يحلُّ قبالةَ الجسد جداراً، خيارُ الحاجة وقد توكّأ على حركة صغيرة تشي بالعجلة والوجل.
لا تنغمر في العالم الواقع في أسر اسمه. كن فعلاً قابلاً للتحقق دون شروط، لا تكن/ كن خارج النظام - القوة - النص.
عَلّق جسدكَ على لحظة ليس لها خواص. ليس في شيء وأيضاً ليس في الموت أو الصمت.
ولأنّ صرختي كانت همساً أقول "مغامرة"، وأنا أتحمّل تناقضات تسوطني وستسوطني لاحقاً.
إنه مطمئن، لكن ليس كما يُفهم الاطمئنان، إذ هو يمضي هكذا في جوف نقطة مفتوحة لتضمّ الكونَ وتكونَهُ دون دليل.
ولأنني أحسّ بالارتباك على أشُدِّهِ أقولُ : كنتُ أتمنى أن يخرج صوتُ.. رجل القبو.. صوته نفسه من موقعه.. صوتٌ صافٍ لا تشوبه أصواتُ الأمكنة المختلطة، صوتي "أنا الراوي".
وستنكشف أنياب اللعبة , كذبتي التي صدّقتها "ذلك نصُّهُ أن يُملي عليَّ". وعليكم أن تتوقعوا بل وتتقبلوا انفجار صوتي، أنا الراوي، من كل الزوايا منخرطين في اللعبة ومتناسين قدرتكم على المحاكمة، وتتوقعوا أيضاً أصداءً كثيرة ربما لفكرة واحدة ما دمت أنا الراوي أحاول كرسياً مخلخلاً لهذه الدرجة.
لماذا الفكرة أقرب إلى نفسها وأصعب من أن تكون.
لماذا أرى الزمن يتفتت في الهواء لأجل حكمة لا تُفهم ولا تُسمى. لماذا أزنُ خفّة العدم برغبة، وأسندُ جسدي إلى معنى لم أشيّده، أكتب ارتباكي كأني أعيدني إلى أصلٍ أجهله ؟
هكذا مثلي في الجسد هيامٌ شاردٌ.
اعرف أحد ليس بريئاً مما سبقه من ذلك الإرث العظيم / من تلك الجهود..المساهمات. إذاً كيف يمكن لرجل القبو أن يوجد ما دام ليس ثمة أثر صافٍ لوجوده. بقيَ سلسلة بدائل تحتاج إلى قراءة. شيء يشبه كينونةً تقول نفْسَها في حركة جوهرية متحررة من الأثقال الواضحة. كأني أقع في برودة المُكتشف في حفرةِ المنتبهين لشروط الانتباه.
يحدث أحياناً أن يتفتت الظلُّ ليلمَّ الساهمون ذَهبَ شمس لا تُرى ولا يتأتّى نورها إلاّ في التباسها، في إشارةٍ هي الظل وقد بدا نقيضَها وهو ليس.
لكن أنا لم أستطع أن أنهض مثله نظيفاً من اللحظة الفارقة، أن أتماهى مع ما يشعُّ من جوهرة النسيان، مع ما يشعُّ من خيوط الرؤى وقد انبثقتْ من الكلّ، من ذلك اللمعان الموارب الذي يتراقص وراء ما يُرى ويُحس.
كأنه ما رغبتي سوى أن أستعيدَه، أقصد أحقِّقهُ داخل إمكانيات الإنشاء.
خيبة المدِّ في قبو النباهة المختلفة، ميراثُ السَّرد في خاطرِ السَّاهم، قبالة لحظة لا تحدّها ذاكرةٌ ولا تقعُ إلا خَلفَ مخيِّلة القارئ المسكين.
وإذا كان لا بد من الإيمان/ الركون بصفته رابطاً ومؤكِّداً للعلاقة مع نبض الزمان والمكان، مع ضرورات المدرَك، فإيمان الرجل تحوّل إذْ انفكَّ، وأصبح، أو أصبحت، تجليات إيمان الرجل نابعة من معاني التحول والانفكاك نفسها.
كل شيء يمكن أن يُردّ عليه ما دام العقل يحاكم، أو لنقل ما دامت سلطة العقل ترسم حدوداً. ولكن التصدي لرجل القبو يفترض مساءلة كل الأشياء لا لنفيها أو توطيدها بل لتصعيد ظلالها إلى آخر نقطة.
لكن العقل أيضاً خيبة المدِّ في قبو الاختلاف.. وقتَ ما يُرجئُ الندمُ صعوبةَ نفسه.
يمرّ الحفاةُ بين جسدي وكينونة الكائن دون صورة.
ما قصدتُ جيشاً من الآخرين فيَّ يُزهقُون السطر، ويرمون زئبقَ كلمتي في استقامة نظرهم، فتشحُّ يدي عن قطف ظلها.. بل الحفاةَ في هديرِ عطشهم.
يتراءى القبو طيراً هارباً في عتمة النفي، أو عتبةً أكثرَ اتساعاً من تابع مكانها، فيما يفيد الناظرَ دقةُ النبات في حوش الخلاء.. وانجدالُ البائدِ من الماء على تلّةٍ حجبت اللوحَ المكتوبَ وخشخشةَ التنفّس لرعاة السراب الحفاة.
خيبة المدّ في هوةِ الوصلِ. مكانَ ما يرمي الشاعرُ عينيه، رجل القبو دموعَه.
لا شيء في الإيمان ولا شيء خارجه، وحاضرات الصورة أشلاء مغطاة بقميص الزمن المفتوح المهترئ، هنا فساد الدوائر وفضائل الرؤية دون طائل.
ولأنني لستُ فاعلَ الكتابة ولا فاعل السكون، ولأنني مهجوس بشطح الأنبياء وآلاف الزاهدين.. ولأنني استواءُ الضدّ أمام احتمالات أضداد عظيمة، ولآنني أعظم من الشهادةِ والدليل وأكثرُ امتداداً من الزمن، لا أقع في هذا أو ذاك ولا بينهما. الباقي فيَّ ليس مني، وأنا عصارة ما يمكث فيكم عندما تقلدونني دون أن تعرفوني.
لا أريد أن أدّعي أني أعرف لماذا وضع رجل القبو روحه بين يديّ، هذا إذا كان هو فعلاً قد وضعها تاركاً لي هذه المهمة الصعبة، مهمة التبليغ والإرسال. ولكني أحدسُ إدراكَهُ.. أنهم قلّة هؤلاء الذين يصغون للصوت المكتمل في الـ هناك.. أهكذا إذْ أسأل.. أتقاطع معكم وأنحاز إليكم، أو بينكم وبينه، أمضي متناسياً حجمَ الوهمِ والحقيقة، مشدوداً لخشبة المشهد المهيأة، منداحاً كبقع الزيت على قماشة الوجود الملونة.. ! ؟
لا.. ما زال ثمة بياض يصفع، لا.. فما زال رجل القبو في مدى عينيّ يقوّس الترابَ موجةً أو طاحونةً، يُملي مصادفات القلب على ضريح الشرق.. يبذر بلاغةً لا يرغبها في تجاعيد الفضاء،... يخلط نفايات النعاس بلبن المعنى، يلمُّ نقائضي في وثن القول.. ويحرق أحمرَ الثمر بين يدي.
في القبو، أو في هيولى الصورة.. حيث زيت الموسيقا يسقسق في كرات الهباء , يقف الرجل في جرح الظلام هيكلَ وجعٍ ينهدم وينبني.. ينبني وينهدم.. وأنا ألمعُ وأدمعُ من شدّة مكوثي على الحافة وفي الخطوةِ المقلوبة.
حتى لو كانت آخر روح رجل القبو جسداً وآخر جنونه حكمةً، فذلك يتعلق بكارثة الانوجاد.
أيها السادة، أنا أرتجف الآن، ليس فقط لأنّه ليس ثمة شيء ناجز، بل لأن الناجزَ مجرّد ومكتمل، ولمَّا يريد أن يتجسّد فإنه ينفرط في الأجزاء، ولأن الأجزاء تعاود بحنين غريب لتكمل نفسها لترجع إلى أصلها، تحاول ذلك عبثاً.
الكون.. الامتثال - مغزى الضعف مغلفاً بجماليات حزينة، قد تلتصق بعض أشلائها على أمزجة مجنونة، لكنها لا تذهب في ذاكرة ووجدان العامة.
سوء حظ أوهنَ اليدين عن حمل المتاهة، وضَرَبَ الحالةَ حين خلعها من جذورها إلى مكان لا يلائمها.
كل شيء خطأ. ليس ثمة ما يحصِّنُ رجلَ القبو إلا ضعفه الملتبس.
ضعفُ رجل القبو مُسمّى ناقص، يعجز عن أداء مهمته في الوصول إلى الزوايا المتشابكة في المتاهة. إذ.. أنه لا آخَر.. لا آخَر..
حلقةُ العلائق غبار، تمريراتُ المطق السرية أضحت بالفعل في مرمى العلن.
الوحدة هي تمزيق للجسد أمام التماثل / اللاتماثل الرهيب.
فقدٌ مأساوي لكثافة النقطة الأساس، ذلك رغم شساعة الاتجاه للموت.. ثَمة لا اتجاه.. العودة.. الخرق.. التبديل.. الجهد.. الجنون... معاصٍ لا تُرتكب.
كل معادل مُقترح انتحارٌ. السؤالُ هو الخلاص، الجواب هو السؤال المعجزةُ.
في البساطة ديمومة الأشياء والأسماء
في الديمومة بساطة الأشياء والأسماء
في الأسماء والأشياء ديمومة البساطة.
اللغة معجزةٌ ناشفة، ذلك أن الوعي في تحققِ جزءٍ منه فيها لعبٌ يصفو أمام الشيء ويتعكّر أمام الاسم.
هل اللغة هنا خارج الدوائر، قبالة الجرائم العامودية ؟ والالتفافُ من خلالها ولأجلها إعادة إبليسية لتأهيل الطبيعة.. إنقاذِها مصفَّاةً وربما فارغة من دوافع الموت والعَوْد.
لا يحتمل الارتباكُ الخللَ لأنه جوهرٌ ما، اللعبة شرسة والقدرة على الاستمرار استهلاك لا يعي نفسه إلا بزواله.
المشيئة الكاملة لرجل القبو إشارات معقدة أحاولها أنا بما لا يحيطها، ومن الأمانة.. وما الأمانة هنا سوى محاولة تأكيد تناغم ما، التذكير أنّ رجل القبو لا يعبأ بشيء ولا حتى بما أحاول، أنا الراوي، قوله.. وهل من مهماتي أن أنزله من عرشه، أن أخرجه من قبوه، وكيف لي أن أفترضه بطريقة أكثر وضوحاً وما السبيل لتفتيق طقم صمته، لتفتيت غيوم فكرته ؟ !.
وإذا كان رجلُ القبوِ كتلةً، جسداً.. وتلك مقاربةٌ مقُترحة كي ندركَ الحالةَ، فإنه حتماً أفاد من السابق، اعترف أم لم يعترف، وإذا لم يكن السابق تلك الذاكرةَ، خزان المعرفة المثقوب، فليكن الكائن قبله دون ضبط، أو الآخر المختلف.
هكذا ثمة أنفةٌ من قطف الأسماء وصياغة الأحداث. رؤية لا تُدعَّم بـ "قال فلان وحث هذا"، التاريخ والاجتماع في الرأس فولاذ ذائبٌ متحولٌ إلى ضباب.
بكلام آخر.. الذاكرةُ فعلُ نسيان، أرضُ النسيان أكثر خصوبة والأشياء خارج صفاتها قبالة طفولة مخيلةٍ حقيقية تقبل القراءة ولا تقبل الحدّ.
وأنا في موقفي أمامَه، دون أن يريد، أراد إحراق ذاكرتي، إنه يحاور آخر شكلٍ للحركة.. الذهنَ بوصفه ذهناً، حرثاً مشوشاً، ليحرره من المعلومة، من الاستعراض وإغراءات الأشياء وسلوك ومسالكَ قديمة. إنه يرمي روحاً أمامي لتنبت ظلالٌ وأضواءٌ لتنتصبَ الفكرة مشدودةً إلى الحلم. الفكرةُ في الموت فعلُ طاقة انداح في غير المدرَكِ.. لكنْ الموجود. النسيانُ كونٌ في اليقظة الكامنة. ليس ابتغاء للمجاورة والتقابل، بل استنفاداً لطاقة الانحلال.. يتقصَّدُ رجلُ القبو ارتكاباته.
العالم لا يستمر ويسير دونكم، لكنّ أحداً لا يخلقُه سواه.
وإذْ هو ليس خطاباً، وإذ المطلق نفسه ليس خطاباً إلا في محاولات نقيضه، إلا في تمثُّلاتِنا عنه.
رجل القبو خارجَ الإسهاب مكتملٌ لأنه لا يشرح وإنما يُشرَح، خارج السجال لأنه فكرةُ السجال. وعلى الواقف في حضرته أن يعي بحدّةٍ إطلاقيّةَ اللغة وقصورَها.. إنها جثة الوعي.. تتفسّخ.. وتتسع ولا تعطب.
في الشائع من الأرض أو قبلها، نهضتْ ريحٌ.. حتى فرطتْ وفرط عنها وُعُوْدٌ بالأشياء.
أصوات تتحجّر ويبقى داخلَها امتدادٌ وليونة.
والسامعُ افتراضٌ حلَّ بدرايةٍ مشوشة. والسامع جسدٌ يحاول الحجرَ. والمحاولةُ استعارةُ ريحٍ صغيرة تهبُّ في القلب بين نسيان الريحِ/ البدءِ وملامسةِ الحجر الساقط، بوساطة ذاكرة تنمو.
والسامع يمضي طويلاً، ليخرج من الافتراض، يقع في الرقص.. يقلّد البرقَ والنهرَ وتويجات الزهر،.. و ويقلّد الامتدادَ والليونةَ فيه.
وتسرقه أسبابُه ليربط جسدَه بزمانٍ ومكان.. فيمدّ يده في عمقٍ منعوتٍ ولا يُسمّى، يسرق حرفاً.. نقطةَ نورٍ سائبة.. ليرى جهةً تستولد جهةً.. ليسرق من الغامض فيه، ليشبه ما لا يعرفه.
في الشائع من الزمن أو قبله، حلت كلمةٌ فرطت.. وفرط عنها وعودٌ بمعانيها ووعودٌ بالأسماء.
يبدو أنّ رجل القبو ليس مأخوذاً بالرحلة أو بأي شيء، وانجذابُه ليس ممتلئاً بما نعرفه، إنه يخوّض بعيداً، في العمق وحسب.
لسببٍ من جهلنا نقول : إنه يريد أن يمتلك تلك الأسرار، أن يمسحَ عنها الصدأ والغبار.. أن يحرقَه وهجُها دون "لماذا" و "كيف"، أنا الراوي أقول ذلك مرتاباً.. الراوي.... إنها كذبة ناعمة.. لا يوجد راوٍ.. إنها جملةُ أصواتٍ مُختصرة وغير حاسمة، ومع هذا لا بد من ذلك.
من على كرسيٍّ، وأمام احتمال حضور، أقول : خطورةُ مغامرته الآن أنه يدخل في هذه الأنفاق المتشابكة بكليّته، وهو يعرف أن الفنون والآداب تلعب لعبَته بوعي أو دون وعي، لكنها لعبة قديمة وستستمر.. لكنه يعرف أيضاً أنها فقط تلامس تلك المفاتيح، تقاربها لكنها لا تمتلكها أبداً، ذلك يقدّم الكثير من المتعة... ذلك رائع لكن ليس كافياً.
هو يدخل بكلّيته كما بشرٌ قبله مشوا وقطعوا أشواطاً في هذه الأنفاق، لكن أحداً لم يصل ولن.. فذلك من طبيعة اللعبة كما نفهم، نحن المنوجدين بين فكيّ المكان العاقل.
مع هذا ثمة عظماء في التاريخ لأنهم خرجوا منه، عظماء لا نعرفهم لأنهم لم ينتموا للمقولة الناقصة، وبدل أن يكفّنوا جسدهم في كتاب، قذفوا جسدهم مطلقاّ في المطلق.
بالمقابل ليغتني من سادوا : أقصد تلك الأسماء اللامعة، وهْم الأجسادِ التي تدحرجت في الصياغة، في فعل ينصّب نفسَه وبعضاً من فتات تلك التواريخ شكلاً للمعرفة وبوَّاباً لحقلٍ لا ينحدّ، حقل كلُّ جهاتِه أبواب.
فعلٌ نصّب نفسَه لا لشيء سوى لأنه الصياغةُ الفعلُ.. لأنه حركةُ النظام في المُتَّفَقِ عليه وفي الذي سيُتَّفق عليه.
ببرودة أعصابٍ سيسقط رجل القبو في توصيف ما، في هوية ما، فالقراءة دائماً جاهزة، إنه مجنون، عاشق تراجيدي مريض ولعبته مرهونة بالفشل.. ولا فرق جوهري بينه وبين غيره.. لا بأس أنا وحدي أقول : رجل القبو هو اللذة متحررةً من نقصانها، وأبعد من الدلالات الذهبية للجسد والروح.
هناك في الوراء ما هو الواسع الضيق ؟ لا شيء سوى قفزتنا... مهارتنا في الانعتاق من الخيارات. ظلام مبقّع بفتنةٍ لا نعرف المسافة بيننا وبينها. فنستعير ما ورثناه. نلعب به ونظن بغباء حكيم أننا سادة، وأننا ضبطنا وراءً ما، "هناك" ما.
ولو تخيّلنا عقلاء "الآن والهنا"، تواضعوا وضحوا بوقتهم الثمين للجدل، طبعاً بعنجهية المنتصرين سلفاً، ساخرين سيسألون أساساً وبالضبط ما هذا المطلق وما هذه الروح، إنها النتيجة التي بين أيديهم. ثم سيضحكون ملء أشداقهم لأنهم واضحون ويعرفون ما يريدون ويحققون ما يبتغونه.. ذلك من طبيعة المواقع.
ولكن ماذا بخصوص القلّة الحزانى الذاهبين في جنازة العالم، الذين يبكون لأنّ رجل القبو لن يُفهم، ولأن القوةَ الغبية تحكم كل شيء. هل سيمضون موشحين بالنسيان دون أدنى قدرة على تغيير شيء.
ربما ليست المسألة هكذا، فمرةُ حرّك رجل القبو يده، ففهمت ما لا أستطيع قوله.
كأني اكتشفتُ مدى حكمة رجل القبو، وأدركت كيف استطاع بمهارة العارف المتمرّس أن ينقذ نفسه من النص / السياق، من سطوة الدلالات الواضحة الناقصة.. إذ.. قذَف ظلالَ وأطيافَ المعنى في لغة تشبه الظلالَ والأطياف تماماً، ولا تتحققُ إلا إذا أُنقذتْ من ماهيتها، إلا إذا تحولت.. إلا إذا وقعت في يدِ الراوي، في اللغة / الجسد في نسقٍ له وظائفَ ومقاصد. إلا إذا تعرّضَتْ للخيانة. إذاً هي هناك صافية مكتملة متماهية مع شكلها وغايتها، وهي هنا مغتصبة.
هكذا أكرر، إن كل الثغرات الواردة واللاحقة تقع على عاتق النص - الراوي، أتحمّل مسؤوليَتها، أنا الذي أحببتُ أن أفرحَ بجسدي.
لا أعرف الآن تماماً ماذا أشعر وكيف يجب أن أشعر، فأنا منذ أن تورَّطتُ وحاولت هذا الخطاب ما زلتُ متأرجحاً بين اللذة ونقيضها، بين الصدق ونقيضه.. بين نقائضَ لا تنتهي.
هل أنا صدىً مقرّح لصوته ؟ هل إذا ما تنحًّيتُ عن هذه المهمة سيلغى هو، وحين هو لا يكترث، كيف يمكن اقتفاءَ القول.
النسيان.. حقائق العودة المزوَّرة.. الصمت ينحلُّ ولا يتحوّل، رجل القبو يخدّر الحضور، يضع ميزان الصور نصب عينيَّ ميزاناً بأكثرَ من كفتين.
لا شيء في الخارج. وهنا أيضاً ليس من شيء ليثير الانتباه.
تلك معرفةُ الذاهبين في سعادة لا تُقرأ ولا تقع. شفافيةُ الحدِّ المكانِ، اختصار القوانين في فقاعة صمت. المكوثُ في هشاشة الغامض لا يَقصدُ سوى نفسه.. متحرر من اللحظة. واقعٌ فيها.. صفقة مجدٍ.. صفقةُ موسيقا، لون يتشقفُ ليتجمعَ في المتعالي المتطيّر. ثمالةُ يأسٍ ترنُّ في فضاء المتخَّيل لتنقذ الظلَّ على الأقل من مرارات الشائع.. من كائنات المعنى وهي تمر في قاعات ملأى بالوصايا وبهم، قاعات ستُهدم بخفوتٍ يتجاوزه محتروفو النظر.
القبو ليس في الاستواء، إنه زخرفات الهامش ممعنةً في العمق.. إنه السقف مقلوباً.. إنه الأساس فائضاً.. إنه جسدُ رجل القبو ومستودعُه حيث أدواتٌ واقعةٌ من أيدٍ نسيت وظائفها،حيث هذا التواشج مع عتبات لا تؤدي إلى شيء، ممزوجة مع مخارج صعبة.. منمنمة.. هشة.. مموّهة، تستر أفكارً إذ تفضحها.. أفكارً مثل هذه الأشياء العاطلة. الهواء الرطب الثقيل.. الروح الممزقة.. الريبة.. الأثاث المهترئ.. الخلق.. الأبواب المخلّعة.. صناديق الوصايا المنهوبة.. الصدق.. تمائم الصفاء.. الدواليب.. كتب النمل.. الأبد.. جثث المرايا.
كيف المعرفةُ تأنف.. تنقطع.. تترك الأبواب مواربة.. كيف تتكدس على نفسها. كيف تستطيع بقدراتها الغريبة أن تخترع أفقاً في اللامكان، فتصبح هي الجهل كله.. لتحبَلَ من مخلفات الزمن في مطرحٍ أضيق من أن يكون. ؟
القبو أفقٌ رسبَ.
ولأنّ الرجل هنا، من الصعب أن يقول ما يمكن فهمه تماماً. هكذا ثمة انحيازات طائشة بوعي.. هكذا تفلتُ اللغةُ لتتجمَّع في السائبِ الرمادي، حيث الكون يرمي قدميه في طشت اللغة مطرطشاً نفسه الكائنة حوله المترامية هكذا.
في القبو ملكاتُ الوحدة.. لهفةُ البدءِ.. ثمرٌ مسفوك.. وأرواحٌ تُفَوّرُ صورَ الموت، ليس لغايةٍ ما، ليس لأجل شيء.. لهذا، القبو صادق كما الأمكنة التي وعدَ بها الله. القبو خارج الليل والنهار. والأشياء ليست راكدة كما يُظن، إنها تتأمل.. حركةُ التأمل دائماً باتجاه العمق، مضيٌّ في نفق الفكرة. إذاً الفكرة مكان.. إذاً الكلمةُ "هو"، ولأنه شقَّ خطوط العتمة، ورَوَّع شحوباً للتوِّ طَفَقَ، ولأنه جسدٌ وحيدٌ مكتوب على بياض لا ينتهي، لا يختار شيئاً ولا يجنّدُ الحبرَ ولا يدفع الكلمة / نفسَهُ للغزو.
ثمة اكتفاء.. اكتمال على هيئة سؤال لا ينقصه سواه تماماً، هو سليل عبارةِ الخارج والدلالةِ الموّارة للقبو.
ما الذي يُغري الممعنَ في نقطة لا تُفهم ولا تنتهي، سوى النقطة نفسها.
والذي يطقطق فوقه وحوله، فوق وَحَوْلَ القبو، فكرةٌ متروكة لكم.. فتاتُ أشكال تتجاذب.. أجزاءُ أنماطٍ مجبرةٌ على النموّ.
مرةً قالت له جنيّة : زفرة منك أفضل من عشرات كتبهم. فطردها.. مرة قال له إله : خسرانك يعني حضوري فيك. فبكى كثيراً لسوء الفهم..
مرة قال لنفسه : لا تمدح قبواً. ذلك كأنه يعني أنك تذمّ ما انبسط وارتفع..
فأغلق على نفسه وذهب بعيداً.
السكنات والحركات تتشرّبها الأشياءُ، وإذا ما تراءت، تتراءى على أنها حطام وقت، هكذا بين الإشارة واللعبة، بين هشاشة المعنى وكيانات البُطلان، تبدو الفكرةُ غولاً، والنأمةُ بحيرةً موسيقا
هكذا
المجرّد
والمجسّد
مذبحة هباء.
أنا الراوي دون ذاكرة، وهذا السرد المرتعش المعروق الذي لا يحتمل الحكاية، عَرَضٌ من أعراض تعب القبو. أنا الراوي أشفق على نفسي الآن، فلقد ذابت أصابعي من كثرة ما مسحتُ على الصورة.
ها أنا أمضي وحيداً حتى دونما أعداء. خطوتي القادمة ليست مزاراً. خطوة راكدة في الهواء مثل الهواء.
موجودات القبو كاملة، لأنها غير عابئة بنقصانها، ولأنها في لحظة عاصية خارجة. لأنها ليست وليدةَ ذاكرةٍ انتقائية ذكية، بل لأنها فتاتٌ هرَّ من صمتٍ يتوالد من نفسه مطلقَ كائنٍ. حبّةُ رملٍ في صحراء، معبد غائم في طرف الدنيا.. مقبرةُ أنبياء ما زالت أرواحهم ساهمة في الريح.
ليس للقبو مقابل.. ليس للقبو نقيض.
وإذا ما استدعى الخارج نفسَه، كما تضطرنا الحاجة، فذلك لا يدعو للأسف كما تخيّل بعض الذين دخلوا القبو وقتاً قصيراً، فما عادوا ليصدّقوا شيئاً عدا ما يجب أن يصدّقه من لم يمت.
"الخارج" نظام.. مقدمات.. ونائج.. حركة.. منطق.. رتابة.. وتتابع و.. و..
القبو رحمٌ، ليس مكاناً للفرجة.. ليس غرفةً في متحف، القبو هو خارجٌ ما.
هنا الرأس لا تستحي. جانب من الجمال أيضاً هو ألاّ تستحي. لكن ثمة مأزق يتعلق بالمفردة. لذلك ما عدتُ أعرف شكل اهتمامي بالآخر، ثقلَ الآخر فيّ.
أعزّي نفسي وأحاول القول بسرعة، هذا ضروري. القول دون الإصرار على الإجادة، هم سيتكررون كثيراً أما أنا فلا... ليس أمامي الكثير من الوقت.
العمقُ جمال.. والجملة الناقصة الغامضة كذلك. أشكال الجمال التي ورثناها كانت جُملاً مفتوحة. المكتمل بنيانُ كذبة لا يحرّض على المراهنة.. حشرات تنغل في باطن العين، وسخٌ يشرّشُ على الحواس.
في القبو لا تستطيع أن تقول كل ما تعرفه، ليس لأنّ اللغة لا تتسع، بل لأنّ المعرفة واقعة في المعرفة، ولم تعد لتستطيع أن تُصدّر نفسها، وكي لا تموت من شدّة اكتمالها، تقترح آخراً.. ظلاً ليحفرَ.. لينحتَ قليلاً من كثيرِها.
هنا ثمة طفولة كثيرة وزينة مذهولة.. وألوان لا تتميز، وعلبٌ مكتظة بألعاب لا تُهدى.. وأطلال جهاتٍ.. وعواصف تتلألأ داخل نفسها و"أنا" مكسّرة كالفخار.. وأردية نسيانٍ.
هذا فائضُ جسدٍ، فائضُ عبارةٍ خطرة وممحوة. في القبو تكبر الوحدة، تتضخم.. تتكاثر.. تمرض، تكتشف أن ما يفيض عنها هو هربٌ مما تعرفه.. معرفةٌ ليست من طبيعتها. واضحة لأنها قائمة، ومع هذا يراودها فرحٌ مقعّر لا يعكسها قدرَ ما يعكس الغامضَ فيها.
الجسدُ / الوحدةُ وحيدٌ خارج السلطات، والأمر يتعدّى ذلك إذ يبدأ في هجران نفسه بارقاً متعالياً دونما معنى واضح.
بقيت الجملة بديلاً. والبديل هنا رؤية بعيدة.. انقطاعٌ وقلق، لهذا، الجملة لا يمكن لها أن تكون هي نفسَها لمرة واحدة فقط. وإزاءَ الوضوح بوصفه سلطة وخطاباً، ماذا على الجسدِ الجملة أن يفعل ؟ ربما الرقص والهذيان.. لكن أيضاً الوقوع في مصيدة كهذه يبعث على الخوف. فالألم / الطاقة / الفعل، ليس نتاج الحريةِ وحدها الخفّةِ وحدها.
بعد سنوات قليلة، إذا لم أمت سأمرض، سأتعفن في القبو.. فقد انتهيتُ إلى أني أبداً لم أحب أحداً، أبداً لم أصدّق فكرة..
الهيئةُ دخيلة
مقلوبة
وخادعة.
الدخيلة هيئة الطفولة في السرّ.
ومع هذا :إني أكثر فقراً من أن أدخل القاعة وأقلب كل شيء رأساً على عقب.
كأنهُ لم يبقَ سوى خروج الكلمة من الكلمة، الجسدِ من الجسد، القبوِ من القبو، كل الأشياء من بعضِها.. رغبةً في الحالة المعْبر، حالة تهدف ولا تهدف، وحكماً لا تصل ولا تصيب. أعرف أهمية النقطة بين الواضح والغامض وال هنا وال هناك.. وأكثر أعرف أهمية أن أوسّع هذه النقطة، أجعلها مكاناً. أعرف أن هذا المكان موجود قبلي، لكن عندما نُفيَ الأنبياء والمجانين، وتغيّرت هيئات ومقاصد الرحلة الحلم، وعبث السفلةُ بالعالم وهيمن المقدس، ضاق هذا المكان، ويكاد الجميع يدرك خطورة احتمال الانهيار. لكن القليل.. ولأقلْ فقط سكان القبو وحدهم يدركون لو أُطبقَ تماماً على هذه النقطة سينتهي كل شيء بطريقة تخلو حتى من الشاعرية.
قد يبدو القبو فارغاً من ظلال حركة المدن، أو هبوب الطبيعة في الطبيعة، ومن أشكال التبادل والعلاقات. هنا النظر.. بؤس النزعة طائرٌ خسران. ما انعزالُ الجانحين سوى المرئي من الأفق. فالقبو وراء ما يبدو.. ولادةُ ليٍل مرصود. وما انكسرَ منذ قليل من الكوكب المصنوع بعناية خيال مقنّع هو صياغةٌ تطير، وما تحرّكَ داخل نَفَسِ السكون هو وثبة العطايا في التمثال وحوله.
- تقصد رغبة النسق في احتواء ما هو خارج عنه.
- الهجرة قاعة.. نصف مضاءة وجوابٌ مؤقت. وما يصمدُ في الركن لوعةُ الصانع. أما الوسط.. فهو الإضاءة المؤقتة. بقيَ أن أُفنّدُ الهيامَ.. أن ألهو في صلصال الوقت، وأن أحتجب، أنا البالغ، فيما تشابهَ من الثمر المفاجئ.
- تقصد أن الناظرين للقبو سلالة تاريخ أعمى.
- بؤس النزعة طائرٌ انفرطتْ أرياشه في الحلمِ.
في الحلمِ.. حلمٌ وشرقٌ عارٍ. بمطرقةٍ قُدّتْ من ليلٍ مرتاب حطِّمْ تمثالَ الهاوية. درِّبْ وأقرانكَ الشهقةَ ألاّ تكون الأخيرة.
لا يوجد في رأسي أفكار. يوجد كلمات، وإذا الكلمات أثمرتْ أفكاراً بآلياتها الخاصة، فهذه ليست مسؤوليتي.
إنها سلسلة خسارات محتملة وليست نهائية، وراءها افتراضُ انغلاقٍ.. كينونةٌ احتوت ما احتوته ثم انفصلتْ.. ثم حاولت قولَ ما تحتويه.. يعني، ثمة افتراق عن دبيب الراهن، لكن عندما تُقال الحركةُ، أية حركة، لا تُقالُ بمعزلٍ عن شروط. وربما هذا تسويغ احترازي، إذ لا شيء خارج العالم سوى ما هو فالتٌ من قبضة المعرفة، كما تقول أدبيات العقل.
ولأن هنا كل شيء ممكن، فباستطاعة رجل القبو جرَّ العالم، حبْسَه في نظرةٍ ما. لكن لماذا ؟
فالعالم ليس هنا فقط، وألوان الزمن الثلاثة واحدة، ورجل القبو لا يخاف خيانة ما يعرفه. القبو نفسه هو خيانةٌ للعالم الذي يمكن أن يُوافَق عليه كما هو، أيضاً، هو طموح النقطة الرمادية في أن تصبح قوس قزح. القبو تجريب القاع دون هدف جليّ
ما هو خارج المدرَك عالم غايةٌ في الغنى، كيف ذلك وما البرهان ؟ رجل القبو الأكثر قدرة على تصديق ذلك، ليس على أساس الحدس أو الإيمان، ولا على أساس من تجربة الانقطاع التي تفرض بالضرورة الاتصالَ مع عالم آخر مُفترَض. لا بل لأنّ ثمة تجليات تنبض وتبرق في قلب القبو، في قلب الرجل.
هذا ليس اعترافاً خَجلاً، إنها إشارة تلمع على يد رجل القبو، وهي ترتفع وتشير إلى العمق العالي.
المكان في حوزة رجل القبو محسوسٌ، منفيٌّ.. فكرة.. معادل جملة حلميّةٍ تنفتح وتنداح في فضاء يتسع دون سبب، فضاء... ليتناغم مع حواس هجرتْ وظائفها، أو استنفدتها لتصبح هي والمتخيّل الغامض شيئاً واحداً.
قد يخلو تخويض رجل القبو من المتعة، وربما لأنّ المتعة هي ملامسة الأشياء، أو هي على الأقل المسافةُ القائمة بين الجسد كقوة، وبين أشكال قوى أخرى محسوسة ومتباينة ومُركَّبة.. ثم الحركة بوصفها فعاليّة منتجة لتأكيد وتقليص واختبار المسافة المذكورة للوصول إلى تماهٍ يصعِّدُ رغبات الجسد ويهبها ممالكَها التي لا تنفد.
تلك طاقة الحيّ التي تتوالد عنها أحوالُ المتعة.
رجل القبو ينتبه إلى ذلك، يعي الجسد، لكنه يحاول أن يلغيه كسلطة تعمل فقط لحسابها ومتطلباتها. لا يتحقق ذلك إلاّ في تنظيف البؤرة الفارقة.. إلاّ في لغة تتجاوز نفسَها وادعاءاتها الإشارية، إلى كينونة قائمة مُلهِمة وليست ناجزة، تستعير آلياتٍ ناقصةً وترتبها في سياق رؤيا، بل تقذفها في غابة من الرموز.
ها أنا أسير رغبة في التوضيح والتوصيل، أسيرُ لغةٍ هي هويتي، قوة ضعفي.. حلمي.
إذاً ثمة انتباه حاد إلى كيفية تحويل ظل الكلمة الشاسع إلى مكاتب، ثم قذف محتويات المكاتب في الشوارع والبيوت، وشحن البشر بالواضح من كثرة قوته وحضوره.
إنه ترتيب همجي غامض لأذهانهم، وهم يقلّون وسائل نقلهم إلى حياة فقدتْ ظلَّها إلى الأبد.
ومع هذا لأقل : رجل القبو ليس أكاديمياً، وما يثير سخريَتهُ الحكامُ والمحكومون وطلابُ الجامعة، وها أنا أكاد أصدّق أنه مُنتبهٌ إلى العالم إلى الدرجة التي تدفعه إلى التغافل. وليس غريباً، لو أنه قصدَ وفتلَ مِقْوَدَ اتجاهه قليلاً، لاستطاع اللعبَ في ميادينهم بمهارة سيُحسَد عليها.. لكنه رجل قبو.
خطرَ لي كثيراً، أنه ليس أكثر من صوفي احترف الأقاصي، مختزلاً المعاني المذهلة وثمار الانقطاع الذهبية في لحظةٍ امتدت آخذةً شكل الصمت من أجل مطلقٍ ما .. لكن لا.. الصوفي احتمال روح.. احتمال كونٍ.. نقطةٌ بيضاء تتفشى في ضباب المعنى.. رغبة كاملة ناقصة.. سعادة تتقافز بين المشروط والمفتوح.. سعادة كأنها تحققت وكأنها لم تُحقق.. التباس رائع وغنيّ وخاسرٌ، موجودٌ بشدّة ومنفيّ بعنف.
وربما فيلسوف، لكن أيضاً لا. الفلاسفة شغيلة أنساق وسياقات يبنون على أنقاض غيرهم دون قدرة على الإلغاء. يمتحون من التاريخ، من الموروث والمنجز السابق الناقص حتماً، ويرتبون رؤاهم وتصوراتهم، كاشفين وأكثر، شارحين ومطورين للجملة المصاغة والمعادة صياغتها والتي مهما اختلفت ستقع في حقل المساهمة. ولأنه ليس لها أصلاً أن تكتمل، ستتحول مجتزأةً إلى نمط يثبت إلى حين في أيدي ورثة أيضاً مستهلكين إلى حين، قبل أن تنتقل إلى متحف الذاكرة المعرفية الذي سيبقى مفتوحاً.
كل ذلك ليس باطلاً، لكن رجل القبو ليس له مبتغى ليسمّى، ولا متحف سوى قبوه.
ورثة وأتباع.. كينونات مشكَّلة.. محاولات وأنماط.
المطلق في تتابع الصور.. المطلق في الفكرة التي وراء تتابع الصور، المطلق بريء من كل ذلك.
رجل القبو يبتسم ويذهب بعيداً، يحاور نفسه خارج القوى الممكنة، حين يحاور، إذا افترضنا، ما يمكن أن يُسمّى الظلال الحادة والمتحولة لجوهرٍ يقع في الواسعِ الفسيح، ويقع الواسعُ الفسيح فيه. والمغامرة التي تحاول إلغاء الحدود والضوابط.
لا تستحضر خطاباً ولا تؤسس لدلالة ولا ترسي نمطاً ولا تستقطب جمهوراً، إنها ربما موقف عدم.. محض سلبية، بل إنها لا شيء بصفةٍ عظيمة، قفزة رجل أعمى وأعرج في عماء لا يقع في مساحة قدرتنا على التخيّل، قفزة باتجاه الكلمة لبطش كل دلالاتها.
أنا الراوي.. نصف حمّالِ خطابٍ، كما تفهمون أنتم. ذلك أني لم أدعّم رجلَ القبو في إطار دراميّ ولا في رؤية تثبت بالمقارنة والالتقاء أو عبر علائق الانسجام أو التنافر مع رؤى سابقة، أقصد أسماءً ومواقفَ أسهمت في تكوين صورةٍ ما، أو ما يشبه الصورة للعلاقة مع العالم.
ماذا يفيد أن أقول إن رجل القبو أجبرني على إعادة وقراءة الكثير، أو إنه وضعني هكذا داخل السكون عارفاً لا يغريه شيء.. ساكناً ويساعد النقيضَ على ترتيب نفسه.
أنا حطام راوٍ، فقد كسرتُ الكرسي منذ البداية وساقتني لغتي الأخرى إلى احتمالٍ آخر.
لا أحد يستطيع محو المأساة، وقصارى الجهد النظر إليها وهي تتبرج دون طائل. ولأقل : ربما العالم لم يستفد من الفلاسفة قدر ما استفاد من شرّاح هؤلاء الفلاسفة، وإذ برجل القبو ليس فيلسوفاً وإذ بي لست شارحاً.. فلتكن الثرثرة محاولة لتحجيم الوهم وقوة الكذبة، ولتبقَ جملتي ترتج داخل نفسها وداخل إحساسها بالامّحاء الحاد الذي يتعالى دون أن ينبثق عن خط.. لأجل منطقة أخرى ستبقى حتى وقت طويل مرادفاً للحلم وقوة المجهول القائمة والقابلة للدرس والمُقتحَمة أبداً و.. المؤجلة.
أنا الراوي.. رأيت أرقاً في المعدن، وروحاً ساكناً في الخشب. لم أقصد لأحمل الكائنَ لوصفٍ.. ولم أُنشِئ الشيء َ.. لم ألذْ بالرمز.. قلتُ ما يشبه الشيء طافياً على يدي وعلى ماء فاجأني.. لمّا انخلع الجسدُ القبوُ كاملاً ناقصاً بين الكبرياء والتيه.
مجازاً، أنا الراوي، حياتي مشوشةٌ وضيّقة إلى حدود المحو المفترس، أفرّغُها طيورَ صياغةٍ تسقط في جهل المسافة الغائرة بيني وبينهم.. أكثر خسارة من عدمها.. مشققة.. خدرها طائش.. تشبه أشباهي.. تعمى بين يديّ رغبةً في أخذها إلى أصلها عبثاً.. رخوة لأنّ لها أضعاف موتٍ ولأنها نصف موجودة.. أدفعها إلى المرايا ناقصةً.. أنساها بحجّة أني أريدها خارج الصفات.. أسميها لأراها.. أمسكها جافةً مهيأةً للكسر.. مريضة مُعدية دون آخرين.. أضمّها إلى صدري حباً بها ورغبةً في قتلها.. تنقشني رمزاً قيدَ الاحتمال.. تميل بي إلى نهارات الحقد والجنون.. تميل بي إلى الصفاء.. ثم تسكن في حلمها أكثر من ركونها إلى أصدائي.. نرفع إهمال بعضنا.. هي القصيرةُ تتبخر هكذا.. وأنا أتحول إلى قطعة رمادٍ لا تُرى..
حياتي مشوشة وواسعة إلى حدود سيرسمها حمقى طيبون.
لم أعد بتلك البساطة لأحسّ عصارة الكلام بيدي فأفرح.. وليس لي حكمة من يمدح شيئاً أو يقيس حرارة الصدق.
هكذا كأني خلخلتُ مسامير النطق، ورفعتني من لزوجة شيء أخشى أن يُقال.. هكذا شعرت بالجوع.. شعرت أنَّ لي جسداً آخر.. لكن هل هذه حقاً مصادفة أن أسكن في قبو ؟
وقفتُ أمام كومات الكتب.. كنت حقيقةً أرغب في الحصول على كتاب مثل قصص الأطفال، فيه صور لشمس وجبال وأضواء تزهو وأزهار وحيوانات... أو على مجلات ملونة تحكي عن البشر كيف يطبخون.. ينامون.. يمرحون.. يذهبون إلى أشغالهم وأحلامهم.. كتب مثلاً عن المدن.. والعواصم.. و.. و... بحثت كمجنون، لم أجد.. أصابين نوع من الهستيريا.. فبدأت أصفع الكتب، أكسر كلّ ما حولي.
فكرت أن أخرج من القبو.. لكن الساعة متأخرة الآن.. وإلى أين يمكن أن يذهب المرء في مدينة كهذه.. وربما إلى أين يمكن أن يذهب المرء في عالم كهذا ؟
وما استبد بي ملاءة خيالٍ لا تستر شيئاً ولا تقع.. ولا يسوّرني الآن سوى خط من الأيام يكاد لا يكون.. وما عدت "أنا" لأقول : وحيداً.. أشدُّ الجذرَ.
ليس في الكلام كلام.. وما الصوت سوى لحية ندم على وجه دمية.
اعذرني يا رجل القبو.. فأنا كما تعرف شخص متناقض وضعيف، ولا أملك قوَّتك ومزايا انسجامك.. لكن صدّقني لو أنك نفسك حاولت أن "تقول"، لربما انتابك ما ينتابني.
كلما أفكر بالتنصّل منك، حقيقةً، أكتشف كم هذا مستحيل وكم أنتَ.. أنتَ.. وكم أنا ما زلت أفكر ب كيف.. ومتى.. و.. و..
أعرف أنك لا تركن إلى شيء ولا تصدّق أحداً.. لكن أرجوك مرة أخرى، صدّقني وصدّقْ أنّ ما أقوله الآن ربما ألغيه غداً.. فأنا سئم ومتعب، وليس لي قدرة من يحضّر جسده لفكرة واحدة، من يرفع اضطرابه شعاراً.. من يزيح الستارة ويُرجع المزهرية إلى مكانها.. من يُلصق وجهه على الواجهة.. ولا من يصرخ ويكسر الأثاث والمشاعرَ.. ليس لي قدرة من يقول الأشياء هكذا ببساطة.
لهذا أرثي جسدي.. أبكي وأفترض دفتراً في حقلٍ.. وعاصفة.. جثةً تنبض على جذع شجرة.. أساير بهاءَ العقدة في الحلم.. وأعِدُ يديَّ بعدمٍ شجاع.. وأفكر بالهطول والتشابيه العاطلة، بملكة عمياء ترعى أحلامها بجنون نادر.. ليس لي قدرة من يكتب قصيدة.. لا لشيء سوى لأنني أستطيع.
أبيع أشكالي لرهافة مخيلة ليست لأحد.. أحرّكُ بيديكَ الينابيع.. أَضيّقُ الحنين إذ أمررّه بين قائمتين من خشب الحكمة المهترئ.. وأمدح ما هو عكسُ الذاكرة ما هو ليس نسياناً.
مثلاً : هذه زهرة.. وهذا غيهب الضروروة.. دائماً المعنى منسوجاً دونما انتهاء.. دونما براعة.. أنتَ يا قبواً يتجوّل داخلي اهدأ قليلاً.. دعني أفر منك قليلاً، فأنا أشعر أني أمتلك قدرة هائلة ولكنها ليست بمتناولي.
ربما هي شفافية الضعف التي تكاد تتبخّر، لتتجمّع هناك في لحظة منشقة عن الزمان، تعادله، بل تتفوق عليه. لهذا تدوم وتموت في عراءٍ وصفهُ هو تحديدٌ مضحك لغرابة القدرة.
لم أقل شيئاً سوى إني خسرتُ، وخسرت.. فقراءتي للعالم فاسدة وشرسة لأنها الدم النازف المرتبك لمخيلة جريحة.. إذاً الخسارة تحققت.. الأفعال تواظب الآن على كينونتها الأخرى المستعارة، ليس لتحقيق نتائج بل لاستنفاد البقية من طاقاتها الخاطئة.
إنني لا أستطيع أن أعبِّر عن الكائن الراهن، فأنا لست صدى للماضي إلا بوصفه وهماً ونسياناً. أنا موقعي منطقياً في المستقبل.. وبحدّة منطقية أشد، المستقبل لن يحتمل صوتي.. فأنا خليط أزمنة أخرى ومشوشة، إذاً أنا هباء.. ربما ستلتقطني الأرواح القلقة في احتمال ما !..
كنت أنصّب تمثالاً لذئبٍ فوق الطاولة.. أشدّ عشباً يابساً إلى النافذة.. أضيّع أصابعي في القصائد وتحت آباط الكتب وفي عتمات نهارات مؤجلة، ألملم الخرائط.. أرتبها جيداً.. وأمزقها.. كنت أستعير الجهات من بيوتها ومن أدمغة سارية في دروب هوائية.. أستعيرها ثم أمتلكها ثم أعجنها ثم أحلّها، من أجل التحرر من الوطن والذاكرة والآخر، من ارتباكات الحياة ومناطق الضعف والقوة، من الهوية بوصفها أداةً أو موقفاً يجب أن يُحصَّن.
أستدعي التاريخ خيطاً أزرق يعلق على دخان الغرفة.. أتخيّل امرأة تغني لطفلها بلغة لا أفهمها.. وأدمعُ.
ثمة أفكار تخرج من العفن والرطوبة، من شظف الحركة، من فقدان الحسّ بالوقت.. قابلة لأن يُقبض عليها.. لكن من ؟ أولئك الذين يرتبون ويرقبون أفكارهم تحت الأضواء وأمام واجهات الكريستال وعلى أثاث تفوح منه رائحة النظافة والجاه.
أولئك نفسهم ما أسهل القبض على أفكارهم.. ما الفرق ؟
ربما الصياغة.. حجمها.. شكلها.. وقوة بريدها.
كنت أنصّب تمثالاً لفكرة فوق روحي.. أمرّر الصورَ من تحت قناطرها الكاذبة، أرمّم المناخَ حولها إذ أعبث بطينة البدئي، أستنفد خطاباً، أعمّر خسرانه بخسران.. أعيد قراءة كل شيء وقد غلبتني القراءة نفسها وترمتني بعيداً عنها..
أحنّط الفعل أمام الزمن، إذا أحوش جرحَه بقبضة تشبه المجرّة، ثم أطرحه في مرايا مهشّمة لأرى دماً ناشفاً بعد حين لقلّة من البشر أصغت إليَّ يوماً.
أغلق باب القبو عليَّ جيداً وأترك جسدي على السرير مسمّراً بكماشات من عشبِ الموت وأمضي باتجاه يودي إلى اتجاهٍ.. مالئاً الفضاء بصراخ يتساقط فتاتُه على رؤوس تتلصص عليّ باسترخاء وغباوة.
وقبالة باب القبو، أترك جسدي جثةَ فكرةٍ، وأندب كامرأة ثكلى في قبو.. بابُه المغلق مثل كذبة.
كنت أخبُّ في طمي الصياغة ككلمة عملاقة تطرطش الفراغ بعوالم لا تحد.. كنت أستطيع أن أنفخ على الأدمغة التي تقع أمامي كأنها أرياش.
كنت رأساً عظيمة ومجنونة.. فتىً ملقى على السرير يحتضر دون أن يلقي وصايا.. يقذف خبرات روحٍ شاخت من كثرة ما شدّت على الواسع فيها.
أنصّب نفسي تمثالاً للوهم، ثم أنكسر وأنهض وأغامر إذ أُغرق المكانَ والزمان. إذ.. أُلقي حواسي في موقد السحر.. إذ أُعيد اكتشاف المطلق على مصطبة ضائعة.
هكذا، وحدي أمام وحدي، وتسري أكوان بين يديّ فأسرّح نظري داخل الأنقاض الأولى.. ثم أمحو جسدي وأتهاوى في الكتب القديمة القديمة. ثم أنهض وأتجوّل بين الممالك.. أمرُّ على الألواح، أصحّح الأخطاء وأبتكر أخطاء أخرى.. أقعد أمام النهر تاركاً للطيور أن تأكل من كتفي لتطير.. ثم أرقّع جسدي بوحلٍ.. وأمشي.. !
تحت سقف ما، صدّقت أبي حتى نسيته.. تحت سقف ما، أحببت الموائد العامة بالخمر وطربتُ لغناء يشبه سذاجة الحسناوات. كنت آخذ من الخمر ما يكفي لتتحرك يداي، ولتنفتح شفتاي عن "آه" تحلُّ في أجساد ترقص دون أن تشير إلى نفسها.. وأمام الفجر أمضي وربما تمضي معي تلك الأجساد، إلى جبلٍ كنت، وربما كنّا.. نعطّل الراهن إذ نرمي ما يشبه قطعة معدن بين دواليبه، ونضحك لأننا نمنا في البريّة دون أن يأكلنا الضبع.
ما يرميني في أسفل لحظةٍ، يفور عنها ما لا يُرى.. خدرٌ مبعثه ما يخالجني الآن أو ما قد كان يخالجني منذ زمن وربما سيظل.. رغبة بدائية لها هيئة السرّ الذي يبقى سراً، وقد فاضت عنه كل الأحوال.. رغبة لا تُفشى، تجعلني بيني وبين "أناي" قدرةً هائلة في كونها مشيّدة أمام الموت أو أمام حبٍّ كأنه لن يكون.. قدرة تمضي وهي لا تريد، ساكنةً ومجبرة على الإخلاص لسكونها الهائل الزائل.
رجل القبو لا يؤمن بشيء. والذهاب خارج القبو أكثر قسوةً.. كل شيء إلى انقطاع.. فلم يعد ليبقى سوى توسيع دائرة الأسرار، لترسو فيها الروحُ العظمى وأطيافٌ كثيفة لأنوثةٍ عاليةٍ وأرياحُ أحلامٍ مجنونة.
هكذا يرتفع هيكل المجد على أساس لغة مؤجلة وإحساسات مضطربة، ليس لها أن تسند ولا أن تستند.
وإذا كان للأشياء الطالعة من وهم الذاكرة أن تتجسد، فإنها لا تستطيع ذلك إلاّ في الواقع أو قبالة الواقع. لكن ليكن المستحيل مرةً واحدة هو نفسه دون عناية أحد، دون مساعدة أي شيء.
كما حاول رجل القبو أن يبدّد نفسه في العالم، وبين هذه الأجساد النابضة، أن يخلع روحَه ويمضي في حياة رست وهي تحاول أن تنسى ذلك الشرخ بين الجسد وبين القانون، بين الشهوة وبين الزمن.
ولكني أعود وأؤكد أنه لم يفعل.. لأنه آتٍ من غياب الطفولة ولأنه .. أوه تذكرتُ ذلك المنام.
رأيت.. "كان رجل القبو طفلاً ذا سنة، ملقى تحت قنطرة وسط المدينة، مدينة ساحلية ربما في القرن التاسع قبل الميلاد، اصبعه في فمه، يتأمل حوله دون أن يبكي.
إلى أن التقطه شيخ أخرس.. برأفةٍ واثقة اصطحبه نحو دارةٍ قرب البحر.. هناك بين الشط وبين بساتين التين والزيتون نما الطفل.
ذات صباح، استيقظ الشيخ ليرى المدينة انقلبت رأساً على عقب.. مدينة تضجّ بالحركة والأسواق بيع وشراء.. مواشٍ.. سلال ملأى بالسلع.. حاجيات من كل نوع.. نساء يعرضن أجسادهن للشمس والرقص والملذات.. لغط ونقاشات.. كتب تُنسخ على مصاطب واطئة.. خطباء وطلاب في حلقات مثيرة.
عاد الشيخ.. لملمَ بعض الأشياء.. شدّ على قبضة الفتى ومضى به. قطعا تلالاً تنتشر عليها معابد ومزارات. مشيا في دروب مفتوحة على السماء تصطف على أطرافها تماثيل وهياكل غربية وعظيمة.. وعندما تعبا جلسا على تلّة تطل على المدينة، كان المشهد سحرياً، أوسع من المخيلة وأفتن من أن يوصف.
/ وأنا في المنام، فكرتُ أن رجل القبو منذ ذلك الوقت تعلَّمَ كيف ينظر إلى العالم من هناك، مصدّقاً بنفس الوقت هناك آخر /.
وعلى حدّ الغابة، قرب النهر، بنى الشيخ الأخرس بيتاً. فهو يستطيع أن يفعل كل تلك الأشياء بمهارة وسهولة، أصلح الأرض وزرعها.
وكان الفتى هناك يشبه روح الطبيعة وقوتها، يشبه ملاكاً بجناحين من غبطة وورد، الشيخ بعينيه اللامعتين يعاكس الغيم ويرفع يده كما يرفع زهرة، ويومئ للشمس في الشروق ويساعد النجوم لتنهض من شهقات النهر.
فجأة وجد الفتى نفسه مأخوذاً بغيمة صغيرة منسوجة من طيور ملوّنة، وربما جنيّة أخذت هذا الشكل، سحبتهُ هكذا رويداً رويداً باتجاه المدينة.
حتى أصبح كل ليلة يغافل الشيخ زائراً المدينة، حاشراً جسده الصغير بين الأجساد، دون أن ينتبه إليه أحد، سامعاً ما يُقال، خطباء وفلاسفة ولغة غزيرة كالمطر. تكررت الزيارات، وبدأ جسد الفتى بالهزال وفي رأسه جُملٌ وأخيلة وأكوان بترق وترهقه.
مرة كان الجدال محتدماً، شعر الفتى بحرارة تسري في جسده، ورجفة تخلخل مفاصله، فقذف نفسَه واحتلَّ الطاولة وطفق يقول حتى تسمّر الجميع في أماكنهم مشدوهين.. فقد قال الأشياءَ كلها دفعة واحدة وبعبقرية نادرة.
وبعد ما انتهى.. استفاد من اللغط والاندهاش، وانسلَّ عائداً شاعراً بالوهن والمرض. عندما وصل، وجدَ الشيخ ميتاً."
المنام رهاب الحكاية.. اهتراءات الذاكرة.. طزاجة الميتات خلفَ الكائنِ دون تحديد، وأمام المشاغل المتوهَّمة لرجل القبو.. إذاً للضرورة وسائل الوهم. والزمان ليس مكاناً في اللغة.
منذ فترة وأنا مهجوس بفكرة مكوثي أبداً في التاريخ. ترى هل يستطيع ذلك من لا يجيد التحرك في "الآن" ؟
بين "كان" و "الآن".. فقرةٌ ملأى بالاحتدام، جسد يتمرأى بالأشكال والأحجام، جسد أُخذ وأُخذ حد النفي.
كل الأشكال في المستقبل ستكون برّاقة ولامعة، لكن دون عمق، ومحروسة بمعادن جديدة، وسيتوالد حراس كثيرون من سجن مهماتهم.. وسيبقى قلة من القادة يقلّدون غرائزهم وهم يتفرجون على مهرجين بثياب لا لون لها.. قادة يعجزون عن إخصاب زوجاتٍ، زوجاتٍ سيستحضرن أطفالاً من برقٍ محنّط يزيّن رؤوسهن كالشرائط ويزين أروقةً تودي إلى خزائن ملأى بثروات غير قابلة للاستعمال.
هذا تتابع المكعبات المكتبات. رنينها.. تدحرجها باتجاه ذاكرة صلدة مغلقة.
كل شيء للبديل.. والبديل تمثال يحوطُهُ حراسٌ سيتوالدون من سجن مهماتهم حتى يتأكّلهم الجوع، ويبقى التمثال للبرد وعواصف لقيطة.
إذن إلى أين سيتجه رجل القبو، سيَّما أنه ليس مريصاً للدرجة التي تدفعه للعودة إلى تاريخٍ وضعَ الأبطال هوّةً في طريقه.
ربما بقي اللحظة التي تميل إلى نفسها ماضية في احتمال أفقٍ.
أضع كل الأسئلة على حدة، لأنّ كل الأسئلة بحثٌ واحتمالُ أجوبة.. وأجوبةٌ مقلوبة.. سعيٌ باتجاه المحاولة والعجز. وإذا وصل التنصّل إلى هذه الدرجة، فمن السهولة بمكان القفز فوق طروحات وأسماء كرّستْ نفسها كسلطة أكثر عنفاً وعنجهية من السلطات الكيانية القائمة، التي ترتب البشر، تصفّهم.. وتسفّهم، وتربط العلاقات كلها بحبال مشدودة إلى الغرف المضاءة في المبنى الأخير. إذا لم تكن المباني نفسها هي نتاج تلك الطروحات والأسماء.
وأصيخ السمع لوقع الأسرار على جثثي الكثيرة.. المتشابكة على أرضية القبو.. فيأخذني خدرٌ وتلفّني رائحة تبكي.
الندم وذيول القرارات الملتصقة على حائط رطب.. أكوان من الخطايا والدمع.. رسوم عميقة ورديئة وحشائش تتدلى على الحيطان كأشواق عشاق ميتين.. طاولات مهشمة.. وبقايا كرسي تصَّاعد منه حرارة جسد، أو ربما أحلام ملكة.
فسحات لرعشات متآكلة... وخفقان الأنوار.. وظلال منسربة كالسحر إلى تجاعيد الحديقة.. أشياء كالأراجيح والمساند.. كالنسيان مسكوباً على ممر عشبي يصل بخفاءٍ إلى ملحقات وراء القلعة.
نساء أربعينيات يفردن السجاجيد المزخرفة في بهو تفرُّ منه حمائم الغبار وتعدو فيه حيوانات صغيرة ومدماة.
غلمان بأردية ملونة ووجنات حمر، يحملون المواقد النحاسية وعُدد المائدة وشراشف زهرية، لأمرّ أنا عريس الرؤيا، حيث الردهات تتوارى خلف بعضها.
وحيث الحواس حبال تتدلى من عواميدَ رخاميةٍ تشبه شواهد مبالغاً في طولها، كان احتياجي لشمعة يشبه احتياجي لجسدي. غادرتُ الجمعَ واجداً نفسي في ممر طويل، كانت الأنوار باهتة، ولا أعرف لها مصدراً. وفجأة رأيتني أمام غرفة تقف على بابها عرّافة ضخمة تتهدّل خصلات شعرها كشموع مطفأة، تتنازع فوق نهديها فراشات أملٍ ويأس. قالت بصوتٍ خفيض : لا تدخل. الملكة متعبة قليلاً.. انتظر في الخارج.. رأيتُ بعض النساء الصغيرات يحملن طاسات الماء وسوائل ملونة، يدخلن.. وقفتُ بضعَ دقائق لا ألوي على شيء.. تفيض على وجهي هالةٌ وربما روح غير مرفوقة بأي إحساس، فقد كنتُ فارغاً دون مشاعر ولا أفكار لأقولَ.. لأقررَ.. مع هذا مضيت في الممر الطويل دون أن أعرف إلى أين يؤدي.
ولا ثغرة مفتوحة لنسائم تأتي من الحقول القريبة لتداعب الستائر التي مزقتها أظافر أزمنة صفراء، والتي يهمُّ رجال سمر بتبديلها، الستائر التي كانت تغطي نوافذَ مرسومة على الجدار. ولأني كدت أختنق، صرخت "اثقبوا هذا الجدار". وعدت لأصيخ السمع أكثر لوقع الأسرار على جثثي المتشابكة غلى أرضية القبو، ليأخذني خدر، وتلفني رائحة تبكي.
كل القصص العظيمة تستطيع اختصارها بجملة، تجارب البشر العظماء. الكتب كلها.. الحياة نفسها. لكنّ أحداً لا يرضى، وجملة واحدة لا تكفي.. فتتوالد التفاصيل ويدور الزمن حول نفسه مطيّراً مؤكِداً أمكنة تبدو مختلفة، وبشراً يبدون مختلفين. ولا مجد ليبقى سوى مجد الأسرار.
منذ سنوات لا أعرف حجمها تماماً، أجهزتُ على كل الأشياء. ولكن بغرابة شديدة ما زالت كل الأشياء ماثلة أمامي، لا تعبأ بي ولا تركن ليديّ إذ تحولان الترتيت. تبّاً لي ولها ولتلك القوة الغاشمة التي تدفعني.
الأشياء.. أرقام تصطف بين جسدي وبين الخواء.. قوانين تحوط الحركةَ.. تساعد الموتى على التنفس وترتّب الهواء في قنوات. كل شيء يستمر.. والدوائر تتدحرج وتتسع. القسوة أن تصيبك حرارة الجماعة أو رغبات الجماعة، إذا لم يكن الإعدام. ولهذا عندما كنت أشعر بحاجتي للإحساس بكوني لا شيء.. وبحاجتي للحقد. أدسّ جسدي في الاحتفال أو في الجنازة.. بينهم.. ثم أقفل باكياً.. أهبط إلى قبوي كسكران، أصفّ مفردات كثيرة أُقَلِّبُها على أوجه تكاد لا تُرى، وأضحك.. ثم أصفّ مفردات أخرى.. أعيد النظر إليها وأضحك من جديد، ثم أحلم بأزمنة متوّجة بالضياع.
لكتابة قصيدة، يمكن لك أن تستحضر روحَ الأبد ويمكن أيضاً أن تستحضر بعض الكلماتِ، لكتابة تاريخ يمكن استدعاء أي رجل يظن نفسه مصيباً، لكتابة فلسفة أحبسْ نصف عقل في مكتبة.
لا شيء حقيقي حتى هذه اللغة ليست أكثر من انصعاق ندم كوني، يفتح ثغرات الأنا ويفشلها ليكون ما هو كائن. ولتكون خديعة سيالة، تساقط عنها ببطء غبي هيئات وأجسام بقدر ما هي معنى هي فراغ يقدس نفسه حين يقدس وعيه للعمل وللعبث وسخريات التشكل.
أقسى أنواع العبودية أن الذاكرة ملأى بالأشكال والألوان والأسماء التي لم اخترها. وما أحلم به حقيقة رؤية نفسي هكذا دون "قبل" دون "بعد".
لكن هذا الحلم، وأي حلم صورة. والكائن الأول الذي كانها.. أورثني كل هذه الأزمنة الممتلئة الممكنة، كل ما أحقد عليه، أورثني حنيناً ما زال يدمرني ويصعقني.
ليس للوهم بيت، وكل قصور الحقيقة آيلة للسقوط. هكذا ينبسط العراء واسعاً مفسحاً لرجل القبو أن يمضي وحيداً دون ذاكرة ولا لغة.
والرحلة، كما اكتشفت أنا الراوي الفاشل، عناء ومجاهدة بين الوحدة وقوانين الصورة، بين غبار الحب وسقوفٍ مقلوبة.
فالغامض ليس غامضاً.. إنه الحيرة.. والحيرة مادة تشبه الرمل في عراء يشبه الصحراء. فقد كان كل شيء نقيضَ رجل القبو.. ورجل القبو خلاصة كل شيء. لكن الآن يجب تأكيد ملاحظة.. إنه ليس من الحكمة جلاء الخلاصة.
نيويورك 1997 - 1998
الرجفة
التي
وقعت
من
يدي
على الطاولة
حوّلت المكان
الى غابة
***
كأني أقرأ لك شعرا
كأنك تسمعين
كأن الجمهور
صفقة باب عتيق
فقط
لو الذاكرة
لم تكن جالسة
في المقعد الأول
***
وكل بقع الفراغ الأليفة
في الروح
كل هذا الواسع كل هذا الهائل
يبكي بجلال نادر
أمام قطرة الفرح العالقة
بين جسدي وبين الكون
أيها الجسد...
وأنت تشبه غبطة قدّيس
وأنت تشبه الماء
لا تعد الى بيتك أبدا
***
الآن أفهم المطر كثيرا
وأنا أرى وجهك غائرا بين يديّ
الآن..حيث الفرح
وحيث عصفور صغير
يسحب الزرقة كلها بمنقاره
وحيث صمت لا أعرف من أين أتى
يقلب الذاكرة على قفاها
الآن.. حيث أنت
على الكلام أن يغيّر عاداته
***
وأنت تصنعين أشياء عادية
تشبهين يديّ في أقصى الحلم
وأنت تكذبين عليّ
تضحكين
كم ستتسع هذه الحديقة
وكم ستتجرّح قدماي من الفرح
***
أن أحبك بهذه الغرابة التي لا تفهم
أن أمسح الغبار عن أحجارك الكريمة
أن أحرس مواعيدك وأوهامك
ككلب عجوز
أن أعمّر لأبّهة جسدك حيطانا من وقصائد
أن أرتجف من شدّة ما أخاف عليك
أن ألهث من شدّة ما أسمعك
ان أخبئ ياسمينك في ذاكرة مجعّدة
وأنسى كل ما عداه
أن أقعي كوهم مجروح
تحت نافذتك الزرقاء
منتظرا أن يسقط عليّ صباح صغير
أن أرقب عجلة الحب
وهي تدور باتجاهين
أن أمتثل لك برهافة كما لم أفعل أبدا
وأترك روحي تذوب على مهل
فوق بنطالك
أن أكتشف أنّ جسدي النحيل
يرنّ في حضورك مثل حرس العيد
أن أحبك بهذه الغرابة التي لا تفهم
يعني أن أتفتت خوفا كما لن تفهمي أبدا
***
مثل خطوط النمل
يريد الكلام هذا
أن يصل الى وكره
كلام..
جمع ما استطاع
من قش وحنين
***
أنت الملكة
قصصت لي
شعري وأظافري
***
قصرك الصغير
الجميل
ما أعلاه...
جسدك
***
من البحيرة
جلبت لك ماء
لتستحمي
من ضوء القمر
من صنع ستارة
***
مثل ساحر
ضربت كفا بكف
وأضأت لك البهو
بعد ذلك
لم أعد لأرى
***
ونحن نخبئ نجمنا
تحت الأحجار
هجمت علينا
قافلة من الشجر
***
قمر برتقالي
فوق تلّة القشّ
وكان جسدانا..
الثالثة صباحا
عربة محطمة
مشدودة الى عتمة
الزمن
***
أرواح الحطابين في الجبل
أخيلة الشجر
الضباب
دانتيل الهواء
غيوم ملونة
وربما لا شيء
سوى إصبعك فوق شفتي
***
يعذبني عقد الفضة العتيق
صورتك
يعذبني أن أنهض
كعجوز مريض
وأكنس الزبد
الذي فاض
من
كنزتك البيضاء
***
القهوة بردت
وأنت لم تستيقظي
الصباح عالق
على النافذة
أنا
والكرسي
والطاولة
نلمع من الانتظار.
***
هنا أخربش أشيائي.. وأتدرج مثل لون مثل خطأ
هنا قرب جسدك أطبع قبلة..
وأرقب بخشية سكرانة قلبي وهو يتداعى
تربكني يداك العميقتان.. قميصك الملقى جانبا
تربكني المسافة التي تورّمت بين جسدي وهواء الغرفة
أخدع عيني أو انخدع بخرائط متشابكة نافرة من أظافر
وأِشلاء مغمضة...
وأنام
بخفوت أنشدّ على صدرك وأنام
وكي تتأكدي من غيابي تذهبين في خدر يشبه القطن
وبأصابعك تمسحين عن رموشي ما تبقى من بياض القسوة
وعن شفتي ما تبقى من كلام
هذا الحنوّ صباح يأتي من حيث يشاء
يرشّ نعاسه على المكان... يهبط على كتفيك ويضيع
وهذا أنا صمت يتحوّل..
حطام أزمنة مترف الوداعة
حطام يسدّ بابا ونافذتين
.. مساء يشفّ في المرآة... مروحة معطّلة
أظافر صدئة تحكّ ذهب المفاجأة..
هواء ناشف يطيّر غطاء الأريكة
يد بيضاء تمسح الغبار
قطعة لحم من كتف السماء تقع في حضني
خوف ذاهل.. دمع ناصع لا يخطئ
رجل موحش.ونهداك. .. تلتان من طحين الحلم
أتذكرين الفناجين التي كسرت.. اللوحة الزرقاء
القصيدة التي أورقت في الزاوية
الكرسي وقد ركلته.. قطرات دمي بين أصابع قدميك..
الحمام الذي فرّ من القنينة البيضاء
ثم شعرك الذي يتطاير من شبّاك الباص
ثم الانتظار بركبتيه المرتجفتين.. ثن الأغاني التافهة
التي لم تعد كذلك.. ثم فرحي الصغير كحذائك فوق الطاولة المخلّعة
أتذكرين ...... يا الله.. ما أصفى هذه الحواس
على سقف رأسي من الداخل أرى ما سيحدث..
أرى اللغة.. أرى حروفا متشابكة وغزيرة
كأسراب من العصافير تضجّ ... لتفلت وتطير
أرى نفسي شرشا مخلوعا ومشلوحا في الهواء
أرى جسدك مغروسا في لحظة تتطاير.
يوقظني ما تساقط من بلّور سعالك على الوسادة
توقظني دهشتك الملساء...
يوقظني لو أني أمعنت في النوم ـ الحلم.. أموت
يوقظني أن يدفعني الله لأراك تحتضنين خاصرتي
وتبكين من شدّة الفرح.. وأبكي من شدة ّ ما لا أعرف.
ولأنك من أنتظر.. ولأنك جئت
ماذا عليّ أن أفعل يكل هذا
ولأن في قاع الرغبة شيئا يشبه جسدي
ولأنني في القاع أصرخ..
فيخرج صوتي حبلا من لحم فاسد
ولأنني أحسد طريقك إلي.. أفشل في صياغة المكان
وأقع نقطة مكسورة على الكرسي
ولأن ما اكتمل نقص للتو .. أغمر وجهي في صدرك
وأشهق .. مذبوحا أرجوك أن تذهبي
لأحبك.. لأتلمّس غيابك لأحلم أن أراك بعد سنين..
وأقول زهوا: ألم تصدّقي ان الحب هو هذا الحنين الفاحش
فتهزين رأسك وتدمعين
ولكن ماذا أفعل.. وأنت هنا أكثر من الأشياء
إذن ليكن الوهم أكثر وهما.. والزمان أكثر زمانا
ولأحتمل مغبّة أني عندما اشتقت لأحبك اشتقت لأفقدك
وعندما أحببتني أحكمت حياتك في يدي
ولأحتمل مشهد المعنى وهو يسقط قاسيا وبريئا كالموت
عندما كنت تأتين مجنونة وكالطفلة
كنت أدور حولك كي أحرسك من الوقت
أركض في كل الاتجاهات كي لا أضيعك
أنفخ روحي على شفتيك كي أتأكد من وجودي قليلا
وكي أطير......
عندما كنت تأتين ـ تذهبين لم أكن لأعرف
كيف أظل قادرا على هيئتي محتفظا بالكائن الذي هو أنا
أرجوك لا تطقطقي على الدرج
فالعالم لا يحتمل ان يسمع دقات قلبي
لا ترنّي على الجرس فتفقأي عين الجيران
لا تدفعي الباب كعادتك ليصدر صوتا أكثر حنانا من صوت أمي
لا تعانقيني.. فتهرّ ملامحي
... هنا ليس من مدفأة حطب
ولا وسادة من ريش العصافير
ولا حصير جدتي لتفور منها الطيور والتمائم
وليس من زعتر بريّ.. ولا نرجس
انها كما تعرفين غرفة باردة.. باردة
كنبة قاسية.. شرشف أكلت الرطوبة الزهور الكانت مرسومة عليه
فناجين قهوة مبعثرة .. دفاتر تختنق فيها كائنات البياض
ساعة تفحّ كعجوز تحتضر
رجل يسكن قرب جسده خائفا كنصف راهب
وخزيّ ينتشر على مهل
ي ن ت ش ر
ولا يفضي الى سرّ
صحيح.. لماذا عندما أحبك أفكر بكل الذين أعرفهم
وأحسب أن جسدينا جثة واحدة محشوة بعدد هائل
من وسائد العساكر
لماذا أبكي من أجل أمك التي خائفة تنتظر رجوعك
لماذا أفكّر بالانتحار كلما مسحت على شعري
لماذا أكره جميع أصدقائي بلا استثناء وأكرهك
لماذا نهداك وأكاذيبهم تصيّرني ملاك الخشية
الذي تلمع تحت جناحيه كتل عماء حالمة
أكاد أعرف كل شيء.. أكاد أموت من الخوف
كلانا مغفل.. لكن هذا لا يهمّ
فالتفاتة واحدة الى الأمام أو الوراء
تجعلنا ندرك ان الوقت قطعة نقود مزيفة
وربما الحب.. وربما الحياة أيضا
***
مكتمل بلا جدوى
غيابك.
ليس عادة،
حين جسدك
في أعلى النسيان
جسده
حين اسوارتك
تنقّط
دما
عليه.
مكتمل... ومغلق
هذا الحنين
= = =
خارجا من صمته
ليحصي يدك
ليدفع الباب
ولمرة أخيرة
لكن.. المسافة
إذ... نهضت عالياُ
أربكته
= = =
كلما فقدك..
يحدّق فيك
بعيداُ تذهبين في عينيه
بعيدا..
سقطتْ
من خطوته هاويةُُُ
كيف يتبعك ؟
فراغ.. كل شيء
سديم زمن
سوى جسدك يلمع
= = =
عميقاً
حفرت في سكونه
لم يمتْ
كان جسده فكرة
لو انتظرت قليلاً
روحه
نافورة لحم
= = =
مدهون حجر الخديعة.
تقفز عين الوراء
عينه.
الواضح حائط
لا تقفز الجهات.
أنت ميزان الحكمة
بكفّة واحدة
= = =
هذا الحلم الذي مرّ
طرقة العسل
في جرّة ستنكسر
خفقة حرير
في متاهة صافية
جنيّة تغطي نبع الكلام
بجديلة من ذهب ال هناك
***
وكان لي أن أذعن لأبواب شاحبة
وأن أفرش هباء يديّ أمامهم
زائل.. متراص بين العتبة والطاولة.
كانت الأصوات مرخية في قعر الأخلية
وكان زمنٌ ضبابٌ يجفّ بأرجاء ترتفع..
ثم ترطن من كثرة ثباتها.
من غمّس خيوط الضوء بالعسل وأثقلها
من فجأة رفعني الى وداع قرونه ترتعش وتتشابك ؟
وما كنت أبتغي أن أقطف اللذة من غير موضعها
غير أن الشمس ثابتة وأنا من يرى أحوالها
وما كنت لأرفع قدمي من الدم..
لولا بقعة النور وقد فرطت حروفاَ ظليلة.
وما كنت لأحبّ.. لكنه خوفي على بحيرة الظل أن تتحجّر.
هكذا.. الجوهر ورجْل الكرسي ما أقلّ بيانهما
هكذا أنا الساكن آية المشهد..
أنا الذي لا أطمئن الى نفسي
صدّقت شبّاكا في الهواء ينقّط مواعيدَ لاتصل الأرض
هنا حماسة الغياب... هنا عصير العنب
هنا المائدة كلها سقطت على ظلّي.
من يمسك نتفة من الريح.؟
هنا الباب مبعثر...
هنا الجسد حجر يفجّني
هنا الملاك لم يعد حارسا
انه يقاتل ظله
***
1
لأنك تأنف
تذهب...
حتى الذهاب
حتى اللغة
لاشيء...
وشيش
الله
وزهرة صفراء
نبتت قرب الرصيف
سحرتك البارحة
2
امرأة
غارقة بعدد هائل
من أزرار البيانو.
وكان طائر غريب
يسحب الستارة بمنقاره
وكنت
تلصق النظرة بالهواء
3
كان نسغا مرعبا
وكنت تسبق نفسك
لترى قشّ الظلّ
على
الكراسي المهجورة
4
علامة
تفوّر التجاعيد في الأعالي
علامة فراغ
أكثر صلابة من جمل واضحة
قطعة معدن سريّة
تفصل الشتاء عن الربيع
وكنت تقودهم
بل بعناد شديد
تسحب ظلالهم
أو نتف ظلالهم
وقد... انتهيت الى حائط
من خيوط ناعمة ..
رفيعة
موشّاة
كيف العالم يهبط عليك
وكيف أنت هناك
***
1
وحيدة....
لا أملك بيانو
ابتسامتي
تنقّط
كحنفية
في بيت مهجور
وذاكرتي تؤلمني
وحيدة مثل ملكة
تمشّط العشب
الذي نبت على تاجها
ملكة. ملكة ..
دائما توشك على كرسي
كبئر مقلوبة
وحيدة..
ولا أجرؤ أن ألملم
هذا الأصفر الجميل من على
جسد الخريف
2
أنا حبيبة الجميع
لكن من يستطيع أن يحبني
الفرح بساقه المبتورة
يقيس المسافة
بيني وبين أمي
أنا...
مثل قصيدة
تجلس على العتبة
تاركة البيت
لألفة يابسة
3
أنتَ كأنك لا تشبههم
كأنك كلهم
كأنك لا أحد
كأنك كومة أطفال
شابت سوالفهم
لمّا شاهدوا النجمة
4
السلال
ملأى بالموسيقا
كيف أفرغها وحدي
الشبّاك الأزرق
لم يعد معلقا بشيء
وأنا على حافته
مثل نبتة صغيرة
وخائفة
يا الله.. ماذا أفعل
5
هناك
في المتحف
حيث لا شيئ
ينعكس من شيئ
حيث كل شيئ
يبزغ من صميمه
أشعلت عود ثقاب
وبكيت
6
ولأن الحدائق
أغلقت أبوابها
نبتت زهرة فوق قميصي
أربكني كيف سأحميها
من هذا الهواء
ومن دم مفاجئ
ومن يد صديقي الكاذبة
7
كأني اكتشفت أكثر مما يجب
كأنّ الحياة ميزان لا يحتمل
كأن الحبّ بين يديّ
أفق تدهور في أدغال مذّهبة
لكن..
هذه الذاكرة
لماذا تشبه علبة الألوان
8
من رأى صغار الملائكة
يفتتون خبز جسدي له
من رأى أصابعه
في شعري
من رأى ضبابا بنفسجياً
يبعثرني على الرصيف
من أنا
راجعة
وحدي
***
أثرثر أمام النافذة
إذ.. الأشياء في الخارج واهية
وأمام المرآة
إذ ملامحي لا ترسو في شيئ
أثرثر..
وهذا كاف لأوشك على عزلة كتيمة
لأبقى مصاباً بمتاع قليل
وبامرأة.. نسيت صغارها الهلاميين
بين يديّ
أثرثر..
ولا غرف في هذا المكان
لأكتشف سكينة أخرى
لأتمدد على سرير آخر
الرطوبة سهلة هنا مثل الندم
أثرثر
كأني وحدي سأبقى أبشّر بك
***
حلمة مقطوعة
يمصّها ذئب أعمى
ليست لوحةً
في متحف
ولا نبوءة
لو يصدّقني أبي
العتمة
اندلقت
العتمة جزلانة..
وخرفاء
كالعجوز
فوق صحن اللبن
العتمة.. وهي تخفق
تترنّح
تحت
ذيل
القطة
تنتهي
إلى كسرة نوم
جسد
أو يافطة مجعلكة
تغطي الهاوية الصغيرة
وسط السرير
جسد...
أو
مصادفة
مغمضة العينين
علانيةً
تتآكل
إذ..
ترى امرأة
تصهل
في
بهو
الصالة
ستأتين...
ليس في الغرفة ما يدهش
فقط ...
قنفذ
يحكّ ما تبقى من الليل
ويملي مخيلته
ببطء
سقف الممر العالي
يقطر كلاماً لا يفهم
المرأة بكمّ قميصها
تمسح مخيلة التمثال.
المرأة تأخرت يداها
فتشبّهَ الحجر بيأسها
الصمت هنا مموّه
والوقت كذلك
يد المرأة....
وربما خشية التمثال
في هذا البهو الغامض
تشدّ على يدي
أتناسل
داخل جوربك الشفيف
وكي
أنجو من دوران الأزمنة
حول قلبي
بشهوة...
أعضّ الهواء المنتفخ
بين أصابع قدميكِ
انتظار... يرنُّ
جسد يمعن النظر بمتع مطرّزة.
لست منهم
وبأقل قدر من الحماس
تصفق المكان بالزمان
وتمشي
في قعر الصمت
يزور اليقين أعضاءه
وأنا أخرج من جسدي
كي أرى المرأة إجاصة زرقاء
آه.. المعرفة عصفور
يتمرّغ على طاولة من حجر
القصيدة
تأكل قلبها في الخفاء
شموس صغيرة
تقع في الآنية
دم
متثاقلاً
يمضي باتجاه قمّة الأرض
قمّة الفكرة
جمجمة فيها آلاف القدّيسين
يشدّون على جلاليبهم
على يقين مرتجف
كيف يكون العالم مشهداً واحداً
تلاطمه حقيقة واحدة
غيبوبة ملأى بالزبد
تنسفح في الهواء
روحٌ..
تفاحة معوّجة
في عمق المرآة
أيها السرّ
قليل من هباتك
يُحيي السراب
رأس مقطوعة
تسقط من الأعلى
وقبعة ثقيلة أيضاً
من يمحو المكان.؟
أيها الأطفال المشوهون
إنّ مملكتي قفرٌ
أنا الملاك الخائب
الذي أنجبه برق أعمى
نافذة..
بل
صاعقة
تيبّست على الحائط
بيت
بل فكرة متاهة منحوتة
فكرة ثقيلة
يجازف بجسده العميق
كي يضمّك
أيتها المسفوحة
في وهمِ هذا المكان
الآن
مبعثر مجدك على السرير
هو الرجل الهاوية
كيف سيجد يديه ليؤكد لك
أنّ لا فرق بين الضعف والقوة
حليب مضيئ
ثم أسى
ثم كرة صوف
مغمّسة بالدم
ثم بقعة ندم
تقطر نساءً غائبات
ثم كرسي مقلوب
و... جسد يخيط بقاياه
خصلة
من القصيدة
وقعت
في
أبريق
الماء
لا.. كلام لأملك
خلجة كقطرة دم
هذا .. ما تبقّى
خلجة تنظر الهاوية
بعينين شديدتين
ولأن العالم أضيق من فكرة
يا ظلّي يا حصاة لينّة
اشتعل
وأنت أيتها العتبة
ليتك غزال
***
1
مجنوناً
يحدّقُ بسرّة امرأة
انفلشتْ في رأسه
أبسط من الاسم
وأكثر دقّة من ثنيات النسيان
يفرش نصف جسده هنا
ويعرج بين الكلمات
2
الذي أستدعيه لا أعرفه
منحنى الشارة هناك
لا أعيش في هذه المدينة.
حجر الهدوء هنا
في القبو يحدث أن أقلّبَ الحنين
لأنتهي إلى عشب يغريني
أو إلى امرأة تفاجئ شعر صدري
في القبو أستطيع أن أقول
بحيرة تنعس في الضباب
ونجمة منسية في قارب ضائع
شجر ملون
يتهاوى من قميص طفلة تركض
لكن.. لا.....
في القبو أفرح دون ضجة
أبكي ليس لأجل شيء
الذي أستدعيه لا أعرفه
في القبو أنا العالم دون أشياء
3
الألفة عكس الداخل
مثلا
ولد يُخرج القش من لعبة موته
حبل من عسل قاس
يربط الكرسي بالطاولة
بعنق رجل يحلم بحقل
وراعية تفلّي رأسه من الأفكار
الألفة حبقة مغروسة
في علبة سمنة وقعتْ
من على الشرفة
في ذاكرة ساهمة
وقت مدوّر يبلعط في يد رطبة
مثل سمكة
نظرات شاغرة وطويلة
وأكثر انسدالاً من الرغبات
الألفة عكس الداخل
موتى يلعبون بالكلمات
يرمون قطط الضرورة
من الطابق الرابع
الألفة لحظة المكان
موسيقا تؤلف نفسها
4
قبضة الباب محارة
في يد المرأة ماينبئ عن موت
لا أعرف من في الداخل أنا أم هي؟؟
لكن الباب يُفتح
قبضة الباب بطن فراشة
أنا والمرأة قطرة دم واحدة
حكمة لا تُدوُّن..
آثار حبّ على الحافة
5
هذا الوصف مسكون..دلالة الغرفة خرساء.. القصيدة مثل موجة
والطفولة مثل مريض في فندق. وما تبقى من الشاعر جملة ستظل تتكسّر. .
هذا الصمت يحرس مالا يقال.. هذا الغموض صدق يتيم
الوصف دولاب مليء بالعناكب وأكاذيب الأجنحة
وما تبقى من الشاعر حسد المخيلة ومرآة ستظل تتكسر
6
تقطًّنَ الحجر في الحلم.. الأعمى قااسم.الكفاسم. .. يد الأعمى أشاأدهشوكم.كم.أدهشوكم.كم.. الشعراء الذين يرقّصون الرغوة في ليل الكلام
وحيدين في الليل يبكون.. عصا الأعمى هنا وقعتْ
البيت صدى مخلوع .. الأبواب والنوافذ ملح يذوب
الأعمى خارجاً يقودني.. كلانا وقع في الآخر.
7
مجنوناّ يحدّق بسرّة امرأة انفلشتْ في رأسه
أبسط مما سيحدث.. أكثر غموضاً من فكرة العيش
يفرش نصف جسده هناك ويعرج ...
***
وما أنا هنا لأعرّفَ مدينة ولا لأربط خطىً بمفاتيح
ولا لأنه يجب أن أكون. ليست يدي في قعر الجرح
ليست يد في الإطار.. ليس يدي لي
قلبي.لبي.لبي.. ولا أكتب ندماً ولا أحس عبور العالم
جملة تتفسّخ .. جملة قلّما تخرج.
قفص فائض من أجل جهة لا تُسمّى
***
مثلي.. كوحدي في سهل فسيح ومهجور. مثلي وأنا أهجّي إشارة اخترعتني
مثل يدي تقرقع في يدي.. مثل لا شيئ صاف ومعلّق على القصيدة
مثل ملاك يفلّي شعر طفلة على عتبة ما.. مثل ماذا ولماذا
علقت قطرة دم على شفتيّ.. اقصد كلمة ليس لها أن تنضج
***
كانت كافاً منقطعة. وكان ثمة شرشف برتقاليّ
يغطّي نافذة ضائعة في الليل
كانت امرأة وبكامل جسدها تنحني على قبضة الشرق
وكنتُ ألمُّ الأشياء بعيني من أجل بيتٍ ما
كنت نوناً مفتوحة دون سبب
***
ما المعنى سوى أرمل قصيدة.. سوى قبّة تتهدّم أبداً
سوى شجرة تفاح صدّقناها كما الموت.. سوى ريح ترقّع ثوبها في آخر الأرض
وما أنا العاشق سوى حصيلة كلام في هشيم ندىً على صفحة تنك
سوى مزاج الظلّ وراء جسد معراج
***
الذي يسمّر وردة في القفر.. الذي يفرّغ شحنة السور في المكان
الذي يعلّق سرج حصانه الميت على ثقب في الليل
الذي يرطن بما فعلت يداه .. الذي اقترح بيتاً في بطن النداء
الذي اصطاد حجراً من الجنة
ما أقسى أن يتهافتوا على ضريحه ويظنوا أنه هو .. هو
بينما هو الذي....
***
ما السعي نحوه سوى هو
غرس ولألأة
صمت الحجم يرتعش إلى الأمام
تلك حماسات ملونة.. مشدودة إلى هيكل كائن
في شدّة الأبيض.. في الأمكنة كلها
***
الدائرة
وهرة الكاف
***
أصدق الحجارة َوما يرسو فوق.
في جرار الزاوية دم..
أصدّقني
بين أنقاض الرؤى جسد يعوي
***
الباب هبة طارئ
وما الخارج والداخل سوى عبق العزلات
سوى مزاولة الهيئة في العين
الحائط تعب المتاهة
وأنتَ أيضاً عري الجوار
***
ف
ر
ا س
وكسرة ملتوية بحنان.. سين معلقة على رحم مقطوع
رُميَ بسبع نقاط متآكلة
عباءة المضاف إليه ليست فضفاضة
العباءة ممزقة
***
أعظم الشعراء
إذ تقع يدي في سلّة الكلام ألمّ الله وألمّني.
......
......
حملتني العين لأرى بئراً
قدّرتُ الاسم وحسبتني ماضياً
وأمعنت... إذ طويتُ سجادة السراب
ولأجل حكمة ما .. لم أقل ماااااء
وإنما صرخت .. دفتري مدوّر.. هكذا
1989 ـ1995
طرطوس ـ دمشق
أخذتني اللغة إلى بيتها.. تعرّت قالت:كن مثلي صادقاً
ابن لنفسك بيتاً.. ستجدني هناك. أنا أنت
أنا هنا وربما لا.. فكلما أدخل تجفل العتبة... البيت ليس بيتي وأنا مثلك دائماً في العراء المفزع.
بقعة جسد مركولة على السرير. المشهد لاحق.. المشهد ماثل الصياغة كذلك الخزانة مغلقة.. ثياب ملونة تستر جثة الغياب على الكرسي أوهشاشة ما يقال. الحقيبة الكبيرة مفتوحة دون سبب.. الستارة البيضاء المتسخة فضاء واقف يفصل الهواء عن الهواء يحمّل الثنيات معاني الوقت.
اليأس من المؤكد أنه اليأس يجعلني اؤمن بكل الأشياء دفعة واحدة. لكنه إيمان بارد ساهم بلا رغبات.. بلا طقوس
المثال: ملكة خاسرة
المقدّس: غيبوبة مفتوحة العينين.
بقايا ضحية أنا.. قبالة هياكل المصادفة.. لست بطلاّ.. البطولة عزلة الضرورة في النص/ المكان.
لا أعرف إذا كانت هذه رغبتي أن تبزغ الحكاية من الحدس من البقعة الحميمة المهجورة.. من الأقصى.. أن تبزغ غامقةّ عميقة وبلا ملامح.
وفعلاّ إذا كانت هذه رغبتي فلابد ستودي بي إلى لحظة لا تستباح إلى جوف نقطة تعادل الفراغ منكشفاً ودون علّة.
لقد ضيعتني الحكاية وضيّعتها حين في اللحظة الحاسمة وأمام قطرة الدم الأولى أخطأت كما تريدون وأرسلت المكان والجسد إلى حاجة لاتُمسّ بالأيدي.. حين مضيت مأخوذاً بنفسي..... كل ذلك في مواجهة الموت.
محاولات تقليص.. محاولات قول.. إحساس طاهر ومذلّ بالمرارة والعجز. وكنت أنوي أن أفرّغ النقائض من بعضها أن أساعد الظل على الاكتمال أنا الخفي المضاء بعيون تكذب.
أنا أكبر من أن أمكث في الأزمنة الرديئة القادمة.. أنا مرض لا يتفشى وعد لا يتحقق أيقونة لا تُعلّق.. عصر لا يصل وروح يعذب حامله ولا يتراءى.. أنا كذبة جاحظة.. خوف الشحنة التي تولّد الليل.. غرابة اللامجيئ.. غربة الكامل في العناصر.. عطلة الأمل تزرّر جسد الأيام.. هشيم الرغبة يتطاير في الأمكنة المهجورة أنا عشبة هزيلة.. بصقة على الرصيف.. نجم يتكسّر في الزمن المجنون البعيد .. هشاشة الحجر الهاربة .. ماء ملوّن يعبر بين ضفتي الخجل والانتحار.. أنا الخسارة اليتيمة التي لا ينتبه إليها أحد.
تركت حياتي ورائي ومضيت خيبة مغسولة بالصواعق . كل ليلة أنظر إلى جثتي الممددة أمامي مثل أم لا تصدق أن ابنها المسجّى أمامها ميت.
لم يعد يغريني شيء لم يعد يغريني الكلام. أنا بلاغة السكون.. المجد الذي أمحوه
الطفرة الحاقدة.. الجسد المزيف
أنا أصدَقُ من أن أمرّ وأمضي وأكثر حدّةً من أن أوجد.
ما يكسر الحالة ويذروها في الخلاءات.. ما يغربل الألم ويرفع بقاياه هرماً صغيراً لا يُرى قدرةُ السريرة على التزيين.
إذ لا جبروت يخلّع الفعل من الرد , وكل حضور هو مطر كاذب.
من أين ستأتي الحكاية ؟ ربما من رجفة الجسد.. من الخوف.. من الفقد.. وربما من مطارح غامضة كأنها لن تُكشف أبداً.
كان بإمكاني أن أخلّف كل شيئ ورائي دون أدنى إحساس بالحزن. لكن لماذا.. إن شيئاً كهذا يمكن له أن يصدّق
ما الذي أبتغيه الآن ؟
رميتُ
رميتُ
نوافذي
في نبعك المضطرب..
وحسدتُ قطعةً من أيامي لأن يدك المجنونة خلعت عن كتفي علامة الأبدية. ولم أحزن ولم أفرح لأننا معاً رفعنا الطفلَ صفاءَ الغامض من أنقاض الشفافية.
و.. ألمع كالعتمة في مجرى وحيد غريب وأستهدي إلى وحشتي حيث أعرف أن ما تقاسمناه هو قليل من فتات الروح من العارم الصاخب.
المقّدس ملكة خاسرة
المثال غيبوبة مفتوحة العينين.
والحكاية هي الغريزة تنتقي الزوايا لتفتحها.. لتنفيها تاركة لضوء المعنى أن يسيل متهالكاً في قعر اسمه.
هل حقاً انفجرت ذاكرتي لتعلق نتفها على أيديهم وفي الهواء الذي يحوطني. هل لم أعد أذكر شيئاً هل خسرت وسأخسر هل الجميع انتصروا عليً لأنني فقدت ما يمكن أن أحارب به؟
هل لم يبق سوى مزيد من اختراع الجهات.. هل أذعن مثل ملاك ؟؟ أيضاً لا أعرف.. لكن الذاكرة الآن مقلوبة على قفاها.. ومع هذا فهي تقذف كائناتها هكذا كما اتفق.
أيتها الحكاية لم يعد أمامي سواك .. دعيني أحيا بعيداً عنك من أجل الرائع المفقود .. من أجل حياتك نفسها التي يجب أن تُبعث في زمان ومكان آخرين وبالطريقة المثلى.
العمر قفر وأنت أيتها الحكاية خرافة الحواس.. ودخان الرغبات. وما السيرة سوى إجهاض الصعب سوى محاولة النبع.. سوى أكاذيب لا يقابلها حقائق.
القفر جسد وأنت أيتها الحكاية هذيان مثقوب.... نقاط أحداث تتخفّى فيلمع ظلها كائناً دون ملامح.. يعمّر أمكنة... أبنيةً دون أبواب.. هي القفر العمر الجسد يوشك على أسماء ويختزن ذاكرات تفرّخ شهوات وتدفعني أنا الراوي شاهدةً غائبةً من أجل جهات تتجعّد على بعضها ليبزغ عنها تاريخ مدرّب على التكرار.
العمر القفر الجسد.. الحكاية.. الراوي.. الكائن .. خطوات تتطفّل على بعضها من أجل أن يقع العاشق في السيرة.
غير أن العاشق طفولة لاصقة على الروح الذي لا يتحقق.. أنا الراوي ألهث فأبدّد الأشياء.. ولا أحد ليصدّقني.. أنا اللاصفة كثير في الكلام الذي يقلّد الصمت.
أقف مستديراً على قبّة جسدي. تبدأ الهجرة المختومة من الملامسة الأولى.. أتوسّط الملكة بؤرةً تتفتت عن تهاويل خائفة.
جسدها.. جسدي
انخلاع الحيّز
ليل
امتزاج النفَسين فاصلة عارية قبلها كل شيئ بعدها صرخة.
الليل قفزة المعنى في الاتجاه الخاطئ
امرأة جانبي .. نسمات مثل تلويحات عجوز عانس يائس
الهدوء .. وربما همهمات إ حساس خادع بالامتلاء.. من يخون من؟
الضوء هو نحول الفكرة.. وقوفها على ساق بلّورية مرتجفة.....الليل... الليلـــــــــــ !!!
الفكرة بجانبي.. تواتر الفوضى في لوحة.. للتو أرغب أن أمسح عنها ملامحها. ليس لأجل بياض يعيدني للحظة بدء.. بل لتأكيد عينين محفورتين دائماً في الملمح الأخير لليل.. الملمح الأول للفجر.
ليس في الحكاية أحداث.. بل أشياء تتحرك.. لتعبر الملكة العمياء.. ليس في الحكاية سوى عينين مغلقتين على معنى يتعثر في ردهة الندم المفتوحة.
كأن كل ما مضى جعل حواسي تختلط.. تخرب جعل جسدي فقيراً إلى هذا الحد. لا أحد يندم ندماً صافياً لأنه عاش كما عاش ' لا أريد أن أسمّي حالتي.. غير إنني أستغرب وأنا على حافة الكرسي / الموت كتلة يفور منها زمن آخر شغفي المريض لسرد الحكاية.
تباً للواضح الطاغي : الضوء
لماذا المكان دائماً هناك ؟! لابد ستخسر حكايتي بهجتها وهي ماضية في طريق غامضة ' وستدرك عند منعطف ما أنها وهم ٌ.. ستتأمل نفسها طويلاً مدركة خسارتها وستجعلني أنا المراقب الخطر المراقب الكسول أفهم أنه عندما وهبتُ لها نفسي فقدت كل شيئ وعوّضت عن ذلك بمتع واهية غير قابلة للحياة.
على أية حال.. الحكاية أنا .. وأنا لم تعد لي جهة لأمضي.. ولابد أن أحرّر هذا السكون من حدوده. فلا يهمني معرفة أنني في الماضي أم في قلب هذه اللحظة التي تتفشى غائمةً لتترك صوتي أو نتف صوتي تلتمّ على نفسها من أجل قليل من المعنى.. المعنى الذي خائفاً مرتجفاً يحتمي تحت سقف نقيضه.
يجب أن تحب ولا حبّ يذهب إلى كماله دون أن تسقط الجثث الكثيرة عن الجسد الأوحد .. عينٍ الصبابة التي لا تغفل. لا جسد إلاّ جسد المرأة الغائبة مكتملاً وخاسراً لأنه لا جسد إلاّ للغياب.
قلت ما أكثر الوحدة !! . قال : غادر الأمكنة. كل الأمكنة التي انبنت وتراصّت بالأجوبة يجب أن تهدم.. الأمكنة عليها دائماً أن تظلّ تتلعثم.. فهي ما أن تمتلك لغة تصبح سلطة كافرة آلة قهر لا ترحم.
يجب أن تحب.. أن تتلاشى في الخطوة العالية وهي تُمحى. فربما تتحقق الحكاية إذ... تمسك خيط نور يلتفّ على نفسه.. ينصّب نفسه لحظةً على قمة زمن.. جريانه زفرة. وليس بإمكانك غير النطق.. ومن ثم أشكال نقصانه في عهدة ما يرسو في اللغة.
والنطق حِكم وحَكَمٌ.. ولخظة خيط النور أوسع مما قررّها ' فلا نقيضها يؤكدها ولاهي لتفعل إلاّ ما وسع شغلك المدوّر دون التقاء ولا أسبابها دليل لنهايتها أو إشارة لوقوعها.
فليكن المنكبّ منها " نفسها " كاملة حيث لا أنت.. ولاهي يمكن مضاهاتها في الكينونة أو الزوال.
قلت ما أعرفه أكثر من هذا.. لقد جرّبت عباءتك.. سئمت هنا.. وهناك وما بينهما.
التبجح بالعزلة عزلة ناقصة.. جوفاء.. قاصرة.. مريضة.... لا تفضي إلى شيئ.
قال بين الخطأ والصواب القوتين السافرتين تنهض جوهراً مكشوفاً تنتصب سائلاً لتقصيك الروح إلى الريح. أفرح بك لأنك حمّال الشوق من منبعه إلى مقصده. أنت أكثر خسارة.. أنت طفل الشراسة .. أكثر ذهاباً إلى وجدِكَ. صدّق أن الملكة جارية وأن الجارية ملكة وأن الفصلَ حرفة الهائم.. صدّق أن لا كلام يرصّ جسدك ويشدّه إلى وهم أثر دفئاً من وهمك.. إلى لحظة كشف تهيم لتحرف السحر عن مداراته.. لتقود الوجود إلى صخبه الغريب.
ليست حقيقية ولا رؤيا حين وجدت نفسي بين جموع تنوح..تبكي بحرقة وبألم شديد تصرخ
...........
.......
يا الله ساعد تلك الملكة فهي لم تتربّع عرشاً أبداً.. صنعت عروشاً كثيرة وبددّتها في هذا القفر الواسع.
نحن المرضى الجميلين آمنّا بأحلامها وحفظنا حكاياتها وصدّقنا أكاذيبها حقدنا على الأقزام الذين يخرمشون هواءها حفظنا وصاياها أعطيناها هذا القليل الذي نملك اشتغلنا حرّاساً لأوهامها نسينا مصائرنا هدّمنا ذاكرتنا.. حاولنا فرحاً وهي تلتفت ولا ترانا تلمس ولا تحسّنا تعلّمنا من قسوتها استسلمنا ليدها تقودنا تقيّدنا كما تشاء لم تفدنا مهاراتنا ولم تسعفنا التجارب أحببناها تيّمنا بها ولمّا خفنا عليها خرمشنا هواءها نحن الأقزام الطيبين لم نكن نقصد الإساءة لكنا أسأنا إليها كنا الخطاة لم تغفر لنا لأننا أحببناها لأننا خفنا عليها لأنها الملكة الخائفة لأنها لا تطيق الخائفين ارتبكنا لم نعد قادرين أن نشبه وهمَ أرواحنا أن نشبه وهم ما تعلّمناه منها خسرنا تعطّل الدم في عروقنا ارتجفنا
نحن المرضى يا الله ساعدنا ساعد تلك الملكة فهي تنتظرك هزموها هزمناها نحن الحاشية الكسالى الفقراء
ساعد تلك الملكة ساعدنا يا الله.
البيت.. بل فكرة بيت
أحجار مرتجفة وعالية.. وما أدراني حجمي وأنا أخبّ في قطن ناعم هادئاً ومحشواً كبالونة بهواء الغبطة الملوّن.
أصعد.. أتطاير عميقاً.. رهيفاً ومنسلاً من ثغرات الفراغ المتشابكة.. وعالقاً مع ضوء القمر على حافة الشبّاك أكرّر السرّ وأتلوه.
فتحة البريق تندلق كالعسل على حجارة الأزقة السوداء على ظلال متورمة كأنها قناطر أسواق مسقوفة.. كأنها عتمات ملونة تتدرج على أبواب مفتوحة على أشجار ياسمين.
وكآخر شاعر رأى الأبد.. رأيت امرأة مصعوقة وجذلانة تدفع السور العالي العتيق عن العتبة.. تشدّ سماء المسافة الناضجة عن بطن بيضاء لملاك تهادى من أزمنة أخرى.. تفرد سجاجيد الجامع وحلي ومجوهرات ومنمنمات الدكاكين .. تخلط عقد الخشب بدوائر تتهاطل من آفاق جدّ منخفضة..... رأيتها برهبة تتمهل وهي ترفع قشعريرة البيت / الزمن من أشكاله المستعارة.
تلّة من الزخارف والخطوط المذهّبة وذاكرات المرأة وأقواس قزح تنزف وبقايا سلالم على محازاتها كرسي قشّ يتربّع عليه طفل يشعّ كنجم.
ما أدراني جسدي وأنا أرغب به.. وأنا أرقب العلامة وهي تتفشّى .. مشدّداً إنها بيضاء.. وهي ليست.
بماذا يغرم الجسد سوى بنفسه يقصي لغته إلى فسحة معلومة... ثم يقنص ألوانها من الغياب.. لعبة هي تنازع وهمٍ لهذا تعطّل الزمن قليلاً ثم تشتاق إلى قدرتها.
أيتها الملكة أنا شاعر عظيم لأنني أحببتك كثيراً وفقدتك كثيراً ولأنني أحتاجك ولا أحنّ إليكِ ولأن روحي تشبه غبار صوتك ولأن قصائدي تشبه أطفالك مبعثرين في الضوء.
هذه يدك على عقارب الساعة.. كتابة الأحيان .. سقوط الفرح أزرقَ على بطن الهامش.... مكان مأكول يجرّه أبيض روح إلى منتهى الوقفة أمام الجرف العظيم .. هذي يدك شحنة الرعب في الوسط الرجراج.. نفاذ ناشف نحو الأرض غائرة في خبر التكوّن.
أيتها الملكة
المثال تمثال من التفاح
المقدس جسدك متحوّلاً
لا يعرف الشاعر لون دمه إذ أن السائل منه هواء المسافة بين اليد وبين وجه الجموح على سطح القلب من الأشياء الذي هو أنت.. ثم نفاذ ماء الدهشة العاقر داخل سرب حمام لا يحط.
فجأة أنا الظلمة المربوطة بساق سوسنة أفلت وأنا الروح المشدود إلى أشلاء الحكاية أفلتّ ولأنك هنا صدّقتني و.. خائفاً فرحت لأني كنت فارغاً مني ولست ممتلئاً بك.
أعرف أني كنت نبيذك المراق سدى الولد المموّه بالعشب الذي تحبين.. النافذة المفتوحة بصفقة جناح.. الحجر خارج المتحف.. الندم الذي قتل والديه ثم اخترع نفسه ليموت فيها.
كلانا يدور حول فكرة خارج اللغة.. حول بيت خارج المكان.. وبشموعنا الصغيرة نؤلف رقصاً وباباً تدخله غيوم وأبجديات ورهبان خائفون.
كنت آخذك إلى أضرحة القشّ وكنت تأخذينني إلى كلمات ملأى بالهياكل وجذور الدم. صادقة تحبين هذا الخيل يشتعل في وهم السهول.. وكاذباً أحبّ عرق الساهمين الدراويش على أوراق العشب. تحبين يديّ عميقتين في النبع وأحب جسدك كاملاً في الماء.
تعرفين أني كنت الضعف الذي هرَّ من الريح.. والعين النازفة على بوابة النوم.. والذئب الذي يحرس موته...... تعرفين أني الزاوية الكثيفة في عقل الفراشة ... !!
هذا الهدوء المشوب بالخدر يضعني في مواجهة الحكاية من جديد. لكن... إذا كان المرء معنياً بالمواجهة لامناص أمامه من امتلاك ذاكرة قوية متينة. وأنا ما الذي أملكه سوى رواسب اللحظة.. وفيوضات من الأحاسيس الصاخبة الضّاجة.
أكره أن لي لغةً تدفعني إلى الحكاية وتخرّب ذهابي إليها.. أقصد وصولي إلى زروات المشاعر الحادة المختلطة يعني وصولي إلى هشاشة تجعل مني كائناً غريباً تدفعه تصورات غريبة إلى أخطاء هو يعرف معناها ولا يستطيع أن يحتمل تبعاتها.
أيضاً خارج المطاوع الهيّن.. ثمة هدوء أقصد بقعة جسد ترعى ذهب المجاهيل. رمد معشق لا يكتمل وخرائط لانحلال الجمع المبعثر في ثانية اللفظ الحامل العائق.
ماذا يفعل هنا أنا ؟ يقشّر رماد الصورة.. يرفع الوحشة إلى جسمها يُبطل الارتطام يوّحد الذاكرة بحفرٍ مرمية في السماء. فيالبعيد من الصمت يتراسل الذهاب أمواجاً.
ينقذ الشاعرُ الفردوس من المكان حين يربط موجتين بفكرة لا تفيد.
الكلام
هياج
ملائكةٍ
حين الرأس
مقطوعة.
ليس لأحد عليّ بسلطان.. أنا جوقة تنبح وراء العالم.. أصدق من الحنين وأكثر كذباً من المكان. كنت أعرف والآن أنا أعرف.. لكن ما الفائدة.. لم يكن عندي بيت. كانت هي الملكة لا أشك أبداً.. لكن قصرها مستحيل. تحت سقف ليس لنا كنا ننام مدركين بجسارة لا نُحسد عليها.. أننا لن ندوم.. لهذا كان فرحنا جباراً ودموعنا أثقل من المستقبل.. ومدركين أيضاً أنّ هذا الحب لن يتسنى له أن يخرج للحياة واثقاً كما يجب.
ليس سهلاً إدراك ما فُقد.. أقصد فهم الحكاية وسردها حين المكان رغبة تتقاطر في يدين تحاولان حياة لا اسم لها ولا شيئ إلاّ احتمال قسوة ملفّعة باحتمالات بياض شديد.
نعم.. نعم.. أفهم العالم داخل السور
على الناصية الذاكرة عرّافة كذابة.
الملكة الوحيدة التي كانت تصدّق الحلم وتعرف بجرأة نادرة كم هو فعل.. كم هو قوة. لكن الجميع فزعوا.. خافوا أن ينهدم يقين حياتهم.. اجتمعوا رغم كل أحقادهم لينتصروا علينا. كنا قويين أنا والملكة.. غير أنه لم يكن عندنا بيت.. فخسرنا كما ستخسر هذه الحكاية اسمها.
قلت: عندما نزلتُ المكانَ.. خلّفتُ ورائي فكرة ستظلّ تعذبهم.
قال المقدود من أزمنة وأبخرة : أنتَ لقيط تبناك رجل وامرأة ثم كما يحدث مع اللقطاء حدث لك إذ واجهتَ الحقيقة.. لأن حكمة ما تقتضي ذلك. فقد تخلّى عنك الرجل والمرأة عندما أنجبا طفلاً. هكذا مضيتَ لأنه كان عليك أن تمضي وإذا شئت هكذا ضعت. هذه الغرفة كذبة.. لم يكن عندك بيت ولن يكون وأنت مرتجفاً خائفاً تحتمي تحت سقف اللغة متناسياً لضرورات كثيرة أنها هي الأخرى كذبة يفوق حجمها الزمان والمكان اللذين تعرف.
بسأم انتبهتُ إلى ساعة الحائط كانت عقاربها تدور كيفما اتفق دون تشير إلى الوقت أبداً. ابتسمتُ.. ثم بكيت بغزارة تم بدأت عقارب الساعة تدور بسرعة عجيبة ومعها بدأت كل الأشياء تدور.. الجدران التي تنزّ رطوبة.. الأريكة العتيقة.. السرير.. رفّ الكتب المدفأة المعطّلة.. الكرسي الطاولة اللوحتان الزيتيتان.. سلّة القشّ الملأى بالأوراق الحقيبة البتوغاز الصغير الإبريق.. الــ.. ال ال.. الأشياء كلها تدور.. كلها دوائر تتسع.. تدور.. تتسع.. وأن ساكن في الوسط وحولي تدور روحي.. كائناتُ روحي الكثيرة.
فجأة هدأ كل شيئ.. فلمحتُ هذا الأزرق الذي يتماوج وينساب كالدموع. حيث ضاعت ملامح الغرفة لتتراءى أطياف الفرح شفّافةً ممتزجة ببياض يعلو ويهبط. وبهدوء ودون أن أفهم ارتجفتُ وطفقتُ أبكي وأخرج من جسدي كالموسيقا بعيداً مشلوحاً في مساحة أقرب في واقعيتها إلى السماء.
كنتُ أنده أصرخ..دون أن يُسمع صوتي. كنتُ قد قتلت المقدود من أزمنة وأبخرة.
هكذا بقيتُ أسبوعا كاملا فاقداً عقلي وبعدها لأول مرة في حياتي شعرت بحاجة إلى مرآة. إذ.. كان ثمة أفكار وأحاج تسيل باتجاه نقطة واحدة كاملة.
هل أحتاج إلى شيئ ؟ ! .. المطلق.. المطلق.. المرآة.. الدم على الحائط.
ثم انكسرت بين يديّ جملة أنقذتني من الموت. سقطتُ على الأرض شاعراً بدوخة رهيبة وأنّ آلةً تشدّ على رأسي وأنّ شراييني قد تصلّبت وأسناني أطبقتْ على [ لا] مصنوعة من معدن غريب. سالت من عينيّ نظراتٌ وتيبّستْ على عضلات جسمي الذي بدوره تيبّسَ. وهدأ بين أصابع قدميّ زبدٌ أصفر يشبه الحرير.
قالت الملكة : معقودتان يداي على ياسمين تحجّر على العتبة كي لا يدخل أحد.
قلتُ : ليس لبيتي أبواب.. انظروا ستائري تهتز بلا لون.. انظروا وأنتم غير قادرين على الاقتراب.
لأن الملكة فرحتْ خمسة أيام كما لم تفرح من قبل قالت: ادخل.. ودخلتُ.. ثم تذكرتْ.. بكتْ.. صرختْ . قالت: اخرجْ.. وخرجتُ ولأنها ارتبكت كما لم ترتبك من قبل رمت عليّ كل العشب اليابس الذي كان داخلها وقالت: ابق هنا. كنتُ مصدّقاً وخائفاً إذ لمحت بقع الدم على الحائط إذ أدركتُ أنّ بقع الدم لن تنشف أبداً قالت الملكة : هاك جسدي وذاكرتي ثم تذكرت أمها وبكت ثم لم أتذكر شيئاً وبكيتُ. أقصد.. ذهبنا بعيداً.. بعيداً فيما يشبه مكاناً قبالة مسقط الوهج.. مسقط الرطوبة لا يروقنا شيئ.. حتى الذي نحلم به لا نحبه.. الميتان بامتياز أنا وأنت سيحزن من أجلنا العشب الذاهب إلى يباس والريح الذاهلة إلى لا مكان.. والأطفال الذين يرسمهم الغيم.
أيها الخيال المريض.. أنا وهي حجة أشيائنا الزائلة.
كان نوماً مرسوماً بيدٍ طفلةٍ.. برتقالياً وعالياً ومزهوّاً بعمقه الهش. وكنا بمحاذاة ضوء يسيل على نافذة لا تشبه نفسها. وكنا نحتاج شجراً أو مشهداً لمراكب زرقاء.. أرضاً سكرانة بالشمس.
كنا نحلم بريح تهبّ على الثياب المعلّقة على مسامير صدئة.. كي نرى فوران الفرشاة.. كي نصدّق خوف الفرشات.. كان نوماً وربما قطعة زبدٍ واقعة على بلاط بارد..كنا نبكي لأن صفحات الكتب قاحلة البياض.. ولأن عسل العشق دبّقَ خطواتنا ولأننا صرنا شكل كلمة تتبخّر بحنّو لا يحتمل.. ولأن الأيام مركولة في الخارج مثل تابوت مخلّع.. كان نوماً مليئاً بأرواحنا.. نعرف لم يكن ذلك ليحدث لكن بقعةً حمراء وقعتْ.. لم نعد طفلين لنروي ما حدث.. نعرف.. أحد لن ينتبه إلينا الآن وربما غداً. ولهذا.. هكذا سنصرف عمرنا في مديح ألفة متآكلة على سطح فكرة لم تقع في مكان.
فجأة رأيتني أصعد.. أكرر السرّ وأتلوه وحيداً ومن بي شفتيّ تنفر أغانٍ بلغات قديمة بائدة.
فجأة.. أنا والمرأة كنا أما غرف صغيرة تخرج من سف الجبل. قالت المرأة : التاريخ كله يترهّل على جسدي ألا تحس شيئاً؟ ورائحة الشبق المنبعثة من الأسرّة الحجرية تكاد تدوّخني.. إني أرى الأجساد المالكة المملوكة تهدر في فضاء يسّاقط..إني أراني أرفع الأغاريد واللذة الأقصى عن جسدي كي لا أموت... إني مكبلّة بالوهج.. أنقذني
ثم... عانقتني........ ثم شممتُ غيوماً.. لمستُ مخمل روحي
قالت.. أقصد رقصتْ. كانت الغرف الكهوفُ شواهدَ موت كاذب ومفتوحةً كانت لدماء العصور الملونة.
المرأة تمايلت... جارية اللانهائي رقصت.. رأيت الأحلام والمراثي تخرج من الألواح.. رأيت البكاء شعباً من الفرح يخرج من الجبل.
خفتُ لما تعبت الملكة من الرقص... خفتُ لما تعبتُ من الغبطة.
كيف لي أن أصدق وحدتي الآن..... أنا والمرأة كنا أمام.... داخل.. أنا والملكة كأننا لم نكن
أيتها الملكة.. أنا الآن لستُ أكثر من عمق باطل...
البذرة الروح بئر في الهواء... الكذبة الجسد برهان الموت... كأني الحي دون صفة.. سلالة حبّ موجع.. كأنها الملكة التي برفّة جفن تمحو الحد بين الخسارة والربح بين الشيئ واسمه.
كانت تحب الإنشاد وكنت أحب زبد الحقيقة.. كلانا وقع في الكلام الأكثر غموضاً ودقة.. بين الحرف والحرف يتأرجح جسدي بين نجم ونجم تنزف ذاكرتها.
هي صرخت وربما رقصت.. أنا قلت : وانكسر المنظر إذ حصرتُ الأضواء بين قش الفطرة ومرايا تتهادى خارج الليل والنهار. قلت... قالت : قم وتهدّمْ.... هنا اللحظة أوسع من اللاشيء...... وكسرتُ عادة القول...
كانت الظلال واعية وكنت أريد أن أقفز.. من ركّنَ الواجهة هنا .. من هؤلاء ؟ خائفين ويتشدقون وحاولتُ الدمَ إلى غايته. ولأن جسدي ببطء تأجّل لأنني رسمتُ حداً رأيت الواجهة ورأيتهم.
من هؤلاء.. الخارجون كأنهم على مدى من الأباريق والجرار يرفعون أشياءهم من طمي السرو.. يأخذون الضوء والماء إلى قلق. كهنة أرواحهم أوابد صغيرة.. مرايا تجرّ النبع وما انكسر من العسل ... تنتشرون كبقع الزيت في ليونة الريح... لعبتهم عميقة حتى أنها لا تظهر. كهنة يحتشدون على باب رماد زئبقي.
من الواقف على العتبة من هذا الأبيض.. من هذه الملكة ؟؟؟؟
أخشى أن أنحني فيتفتت جسدي موسيقا.. أخشى أن أقول فتسقط السهوب الواسعة عني والأنهار وطيور الزمن.
المرأة تهدم جداراً من العصافير... تتلألأ لتأخذني إلى حب آخر.
أنا هنا........ وربما لا مثل مصادفة لم تعد مصادفة
والأبواب.. والنوافذ
أصداء رخوة
و...
وأخلع مني حكايات وأنسى
ولكن أين سيمكث هذا الهباء
أين سيمكث هذا الهباء
دمشق 1996 ـ نيويورك1997
مقاطع من مجموعة
1
أمي ليس عندها كلب
ولم تفكر بذلك أبدا
كلب تجره صباحا
وتزيّن عنقه بطوق جميل
وتفرح بذكائه وانصياعه
أنا متأكدة
أمي لا تحب الكلاب
لكن هاأنا أذكر
كيف كانت تجرني وراءها
وكيف كانت تعوي داخلي
رغبة بالفرار
الآن وبعد كل هذه الأيام
وأنا أجرّ ذاكرة بطيئة ورائي
أستطيع أن أفلت الحبل
أنا مثل أمي لا أحب الكلاب
2
مازلت تلك المراهقة
التي تذهب بعيدا
ثم تعود لترى الدنيا كما هي
البيت خطأ واضح
الطريق الى البرية
مقفر عبر القصيدة
مع هذا الكلمة شجرة
الفاصلة حجر
المعنى نهر
والنقطة الأخيرة حيوان ميت
4
هذه الزاوية للكتب
التي لن تقرأ أبدا
وهذه المسامير على الحائط
لأيقونات النعاس
هذه الأريكة لضيوف البياض
هذه الطاولة
لبقعة الفزع المنسربة من الشبّاك
هذه الأوراق لموت المخيلة
أما ما هو زائد فعلا
تلك المرأة التي تدّل على مستقبلها
من فوق الأشياء
بوساطة جسد مهترئ
4
أترك الحنفيّة مفتوحة
في الليل
كي
أموّه ضجّة الفرح
المتسلل الى غرفتي
و.. كي يقتنع أبي
انه ليس ثمة غريب
في البيت
5
كل صباح
أتأكد من موتي
ليس في الحرب
في المجاعة
في السجون
وساحات الاغتيال
ليس بسبب من الزلازل
والطوفانات وسقوط الطائرات
الخ.... الخ
فقط
لأني عندما أمدّ يدي
على الطرف الآخر من السرير
لا أجدك
6
لو فتحت الباب
أنا متأكدة
سأرى حصانا
وكلبا
ورجلا ينظّف بندقيته
وعلى أول الدرج جثتي
7
الجراد الذي طفر
من رأسك
يلتهم خسّ أحلامي
هذه استعارة سخيفة
دعني أقول بوضوح
أنت مريض
وأنا متعبة
وحدي أفهم
هذه أيضا استعارة!
8
ما كان عليّ أن أندفع
كالمجنونة..الى الشبّاك
أشرط الستارة
وأكسر الأصيص
لأنني ظننت
اني سمعت وقع خطاك
في الشارع
لكن .. فعلا كنت محظوظة
لأنه لم يكن ثمة سوى الطقس
قد عبر ..مخلّفا وراءه
رغوة زرقاء
9
في آخر الرواق
وعلى سرير العتمة
رجل يلحس جلد المعنى
بينما .. في الغرفة المجاورة
امرأة تمشط شعر ابنتها
10
أعرج ..
تعبر الى صوتك
بطني البئر
11
أمي تملك ثلاث جنسيات
وقلما تغادر البيت
تنزعج من أبي
عندما يغلبها الباسرة
تكره طناجر الطبخ
وصمتي أمام الضيوف
تسهر أمام نافذة المطبخ
وتتأمل القمر
صباحا تفتّ الخبز للعصافير
وتبكي
تحبني جدا دون أخوتي
لأنني الصغيرة ولم تكبر
المريضة ولم تصحّ
المسافرة ولم ترجع
12
العجوز صاحب البيت
جعل الحديقة
غرفتين إضافيتين
من قبوي أستطيع الآن
أن اطلّ على ما يسمى الحياة
وعلى ثلاث شجرات
يتقصّفن في قلبي
13
لو تدعوني الى طاولتك
أيها الغريب
لو صاحب المحل
يخفّف من النظر الى أفكاري
14
تبا للمتعة
التي تجعلني مجنونة
ألملم مفاتيح سقطت
من قطعة الموسيقا
تبا للطبيب الذي أكدّ كآبتي
تبا لي
وأنا أكره غنج هذه الخسارة
في غرفة الجلوس
لأقل باقتضاب شديد
عيناي فادحتان
ويداي ترتجفان في المجلى
15
الحذاء المنمنم الذي أهديتني
رميته من النافذة
الكتاب ذو الغلاف الأزرق
مزقته
الخاتم المزور الذي اشتريناه معا
دحرجته على السلم
كي أسمع رنين غيابك
حنانك ... خلعته عني
كما تخلع الصورة عن الحائط
بضربة نزقة ... ضربة واحدة
لم يبق منك سواك
عميقا كحجر ثقيل في بئر قلبي
16
أمام ترسانة الغياب هذه
بماذا سأحتمي
هل ينفعني أن أجعل يدي
على شكل مسدّس صغير
وأطلق ما تبقى من قلبي
في أعلى ومنتصف
صورتك الوحيدة
17
الغجري ذاك من ركّب لي
سنّا ذهبية وهو يغني
نسيت من شدّة فرحي
أن أسأله
أين حصانه الأبيض
18
أبريق النعناع بارد
على حافة الشرفة
هواء يثرثر
مع صفحات الكتاب المفتوح
على الكرسي المقابل .
وأنا .... مسترخية
ألقي بقدمي على فخذيّ الغروب
مستسلمة لهذه الوحشة النديّة
مصدّقة .. وبغرابة شديدة
ان كل شيئ الى زوال
ماعدا هذا المعدن
البضّ
الجسد
19
أريد أن أكون كما أنا
امرأة صغيرة لا تستحي من الرقص في أياد الميلاد
ولا من التهام البوظة في الشارع
ولا من قراءة الجريدة في المقعد الأول من الباص
ولا حتى إذا لزم الأمر من إطلاق الرصاص
على رجالات الدولة الأشرار
أريد أن أكون شاعرة على سبيل التسلية
وبقليل من الكلام
أكتب صادقة كالمجانين واضحة كالتعب
أهذي بدقة وأسمّي الأشياء
ليس كأني اخترعتها
بل كأني أستطيع أن أدفعها
لتعطّل جريان الذاكرة السوداء
أريد أن أكون كما أنا
امرأة تحزن لأنها تترهّل
وتتكسّر بحنو إذا ما سمعت موسيقا
تحب لأن الحياة باتجاه واحد
وتنام على الشاطئ لأنها موعودة بقرصان
ستأخذه معها الى الحديقة لتعرّفه على أصدقائها
الذين يفتّون قلوبهم لحمام لا يحط
أريد أن أقول دون أن يساء فهمي
أيها الرجل الطيب
لعابك في أذني جرّار التماعاتي
الى الغيب
20
في الغرفة المغلقة جيدا
ستبوس المرأة جسدها
ستمرّ عليه مرور الذئب
على يوسف
ستقطّع مخيلتها منصات رطبة
بينما مرآتها
ليست سوى صياد أعزل
21
لو استطعت أرسل لي فيء المغسلة الفوق السطح
خفق جناح الحمامة الرمادية قرب شبّاك نومي
الغبار وفردة حذاء ابن الجيران عن لوح التوتياء
لو استطعت قل لرجل عابر
القلوب المرسومة على الحيطان المغروسة بالأسهم
أجمل من معارض نيويورك
واذا ما هزّ رأسه احك له عن فتاة كلما ماتت
توقظها رائحة الطيّون
لو استطعت أرسل قطفة من أسرار الأولاد
الذين يتشيطنون وراء البيت
وبدلا من تقرأ كتابا عن ما بعد الحداثة
اذهب الى تلك القرى
واسرق لي ليمونة حامضة أو بصلة
فأنا دائخة منشدة الوحدة والخوف
22
أجنهد لأبقى
لكن
ثمة دائما
دم ممزوج بالأبيض
يجرفني
طفل لم أنجبه
يصرخ في وجهي
23
أيها الرجل
في طريقي إليك
صادفتك
لكن .. من شدة لهفتي
أكملت
أيها الرجل
الذي لم يعد أكثر من فكرة
بامكانك أن تنظر الى نهدي
وأنا أنحني
لألملم خطواتي الفائتة
24
ثمة واحدة مخدوعة دائما
واحدة ستترك وحيدة
في الفناء المغلق
تتأمل وقتا جافا كا لرمل
بين يديها الساهمتين
تتأمل سربا من الغيوم
واحدة ..
تدلف الى الداخل
لا تلوي على شيئ
25
مثل طفلين تعانقنا
في الباص
كانت رائحتك طيبة
وكان الركاب
شيئا فشيئا
يشيخون
26
ماتبقى في ذاكرتي
مشيتك التي تشبه مقص الحلاق
قبضتك البلهاء
وهي تدق على صدري
إصبعك يهذي فوق سرني
تلك الرجولة .. الأمومة الساخطة
27
قال الحائط : أه
وهو ينحني على مهل على بطن الظهيرة
كان الأب يذبح دجاجة بلدية
كانت الأم تنشر الغسيل
بينما الأولاد على الحصير يداعبون الجرو الأسود
قالت الشجرة الواقفة وسط الدار
الطقس ملوث بالدم
قالت العتبة :لا شيئ حقيقي
28
ماذا تبقى للغجري
بعدما حبسوه في المدينة
وقتلوا حصانه
وجرّدوه من خنجره وامرأته
سوى أن يصنع حدوة من كلام
رسنا من هواء فاسد
لأجل رأسه( الجديد )
29
لم أعد طيبة لأغفر لنفسي
ولا عاشقة لأقطف أغنية من الراديو
ولا مجنونة لأسابق خيول الوهم
لم أعد (أنا) لأقول كلاما أحبه
أنا فقاعة الصابون التي تتألم
لأن أحدا لا ينفخ عليها
30
جيبي ملآى بالمفاتيح
لكن ليس عندي بيت يخصني
لهذا نمت في البرية
ساعة أو اثنتين
هكذا أيقظني الفلاح
أيقظني الراعي
أيقظني الصياد
ولأنهم اختلفوا فيما بينهم
لم يغتصبوني
تمنيت لو الصاعقة قسمتهم
كلاّ على حدة نصفين
كما فعلت مع الجندي العثماني
الذي اغتصب جدتي
وهي راضية
31
سهرت يومين أشرب النبيذ
وآكل البرتقال .. وأدخن
من أجل كتابة قصيدة صغيرة
لكن ما حدث تماما
ليس أكثر من زجاجات كثيرة
وقشور كثيرة ودخان كثير
وامرأة متعبة
لم يهرّ كرز من مخيلتها على السرير
ولم يغطّ خيبتها عسب نديّ
32
جسدي قبضة من الفراشات
لو تمضي طويلا
في ربيعي
سيتسنّى لك أن ترى
لكن ..
لا أن تقطف قلبي الزهرة
33
سلاما أيها الفستان المبقّع بالزيت
سلاما أيتها الأسوارة
التي فقدت من قيمتها خمسمائة ليرة
سلاما أيها الحذاء الصغير على الرف
ميتا ولا تدفن .. حيّا ولا تمشي
سلاما أيها الوقت
يتدلى
من ساعة الضجر كلسان كلب
سلاما يت زر الجسد الذي فقع ..
كرج..
ضاع
وترك المرأة مشرعة دون أحد
34
كان ينام معي .
من وراء الحائط
كنت أختلس النظر
لو تجرّأت
لرأيت المشهد كاملا
لوصلت الى الأقصى
35
أكره جميع أصدقائي
وما شابه
أحتقر العائلة والمؤسسة
و..... و ... الى آخرة
لهذا أنا الخائفة
التي لم تنتحر حتى الآن
أكتب شعرا واطئا
سيقفز فوقه القراء
بابتسامات عرجاء
36
أدفش الباب
كرجل يدفش زوجته
لو ثمة نافذة
لفتحتها
كما طفل يفتح سحّاب بنطاله .
الغرفة..فكرة متورّمة
كومة عراء صدئة
صفقة جناح في اللغة
37
ليس الكلب المرتجف خوفا
تحت المطر
الأجرب .. المطرود على حدّ الغابة
بعيدا عن البيوت
الوحيد على باب المزرعة
الحزين .. الذي أفلت الحجل
انه الكلب
الكلب
في نظرتك أيها الحارس
هل أقولها؟
أيها .. أيها .. القارئ
من مجموعة
امرأة مرآتها صياد أعزل
كتبت هذه المجموعة بين 1990 و2000
بابلي ملعون
1
البدايات
المصقولة
بعناية شديدة
تفاحات
تدحرجت
كلها
على د رج
الغموض
ماعدا
المغروسة
بسكين
2
بقرات
الإشراق الجائعة
صباح الخير
آسف
هذا الحشيش
من معدن
3
على أطلا ل
الما بعد
أقف
أنا
البابلي الملعون
4
الملائكة
بملاعق حجرية
يأكلون وجودهم
أنا
على الطرف القصي
من المائدة
أكتمل
وأنقص
دون أن يتسنّى لي
أن امدح العدم
5
جثة زرقاء
تحت
المطر
لو أبقى هكذا
إلى الأبد
6
أرفع سيرتي
مقمطّة بالنسيان
أما هذا الحبر العالق
على أطرافها
ليس
سوى دمع الحواس
سوى خطأ أني هنا
7
سأرتبك من جديد
ملكة في غيبوبة
أما السرير
والملاءة
وكأس الماء
وبعض الشخوص الحزانى
أولئك
أشياء النسيان اللازمة
8
من المفيد جداً
أن تؤكد الستارة هنا
إنها
ستفصلك
عن
حياتك الطارئة
11
بلا يقين
حين يفتح البرّاد
وينهدل كل ذلك السرخس
....
.....
ينتبه أن ثمة أخطاء جوهرية
في الوضوح
12
لأني سئم
ألعب في جثتي
في غرفة اللغة
السيئة الإنارة
ولأنني أكثر كآبة
من غبار بعد مجزرة
أستطيع أن أنتقل بسرعة
إلى سوق الخضار
بيدي خسّة
جملة لا تفيد أحداً
13
النهد
الممتلئ
اللامع
في
قاع
القصيدة
لمبة موت
14
بين أشجار الصنوبر
أرى مناماتي
خفيفة
رهيفة
مثلك ....
تخطرين
عاريةً
من المطبخ
إلى غرفة النوم
15
لم أصل
ولكن يمكن لي الآن
أن أضع معطفي
على كتف المتراس
أن آتداعى
في الظل
الذي يملكه الأعداء
وأهمس
كمحارب متعب
كم من القسوة
أنني ممتلئ
بما لا أحب قوله
16
السعادة العابرة
مقيمة على الجسر
لها وجه امرأة
وجسد طير
الله
وأنا
وهذا الماء الجاري
خدمها
بكل ما أوتينا من قوة
نلمّع جناحيها الحجريين
ونشدّ تجاعيد بساط الأرض
تحتها
17
صباحاً فقط
الطاغية
بالشوكة يثبّت الطقس
وبالسكين يقطّعه
دائما
فقط
القاعة ملآى
مكتظة
بالطاغية
18
السكين
التي اعشوشب مقبضها
ولمع نصلها
هكذا....... أريدها
بمهارة تطرد نفسها
من كل الجثث
لتستقر في يدي
أنا الواقف منذ الأزل
أمام شاشة الموت
19
ماء النبع
أسوارة
تكرج
على الحافة
كل دعسة سمكة .
الطبيعة كاملة
ومزيفة
في العين
20
العدم...القرصان
بعينيه المفتوحتين
ودون عكاز
خطفهم
حدث أنهم لا يملكون شيئاً
على أقرب شاطئ قذفهم
وجدوا أنفسهم موجاً
لن يسترجعه البحر
ولن تضمّه اليابسة
بقوا هكذا تحت الشمس
مثل لا شيئ يحترق
وتفوح حادةً رائحة عذابه
من مجموعة( أشياء النسيان اللازمة)
المعدة للطبع
نيويورك
فراس سليمان محمد * من مواليد سنة 1969 بطرطوس (سوريا) * غادر الجامعة دون أن يكمل قسم اللغة العربية * يقيم حالياً في نيويورك * صدر له: - المدينة التي أسكنها بعيدة 1989شعر - رصيف 1992 - هوامش شعر 1995 - الأشعث والرجل الضئيل قصص 1996 - نافذة زرقاء 1999 شعر على الحافة - في الخطوة المقلوبة نص 2000 - امرأة مرآتها صياد أعزل 2003 شعر * له قيد الطبع: - أشياء النسيان اللازمة (معد للطبع)
|