جرجس شكري
(مصر)

صانع الصور

سترة

جرجس شكريأنا وسترتي نخرج في نزهات شتائية
أعهد إليها بحفظ سجائري
و لا نسأل أحد عن الطريق
أحملها في يدي حين يختنق العالم
و أحيانا تقفز إلى كتفي
كقطة
حين يغلبها الشوق
فتعض علي يدي بجيوبها
و أبتسم مطمئناً
سترتي باهتة و الشارع صاخب
و مع هذا تلح بالخروج
و حين أتدلل تدفعني بقوة
فأحملها و لا نكلم أحد
سترتي تحب الشارع مثلي
و لا أعرف كيف ولدت هذه المحبة
و لا أذكر
من أين جاءت هذه السترة

فقط حين أكره العالم
أختفي في سترتي
فتمشي هي وحيدة
لا تكلم أحدً .

موت

بيتي كبير و أوسع من محبتي
و ظللت أياماً كثيرة
أروح و أجئ
أكلم الغرف في هذا الشأن

فكلما نظرت إلي حائط
تتألم الحوائط الأخرى
و كلما نمت في غرفة
أسمع عويلاً في الغرف المجاورة

و حين قررت أن أرحل
بكي البيت
و صار تابوتاً أنيقاً
أمرني أن أنام فيه بسلام

حياة

ثمة قطار يحمل الموتي
إلي فوق
و أنا في العربة الأخيرة
بعد أن فقد السائق كل المحطات

إلي أين ؟
سأل راكب إلي جواري
ثم القي بخاتمة من النافذة
و بكي

خلع أخر ملابسه
و صنع علماً
ربما يدل العابرين علينا
و السائق ينصح عبر إذاعة داخلية
بالسهر علي راحة الموتى
وحين كان القطار يعبر الصحراء
أمطرت
و تسرب الماء إلي مقاعد الموتى
فأزهرت الجثث وتفتحت

و فيما بعد
وجدنا وروداً تتدلى من المقاعد
و الموتى يبتسمون
اقترح راكب أن نفتح النوافذ و الأبواب
ففعلنا
و قال أخر
نتقاسمهم فيما بيننا
فأخذ كل منا ميتاً إلي جواره
و رحنا نسامرهم
و السائق يمشي في خط مستقيم

مذبحة

الأيدي تتهامس
سيقانهم تتعانق
و وحدها أحذيتهم تئن تحت الطاولة
الرجل يأكل قطعة خبز
ثم يشرب كأساً
و المرأة أيضاً
فتضحك عيونهم في صمت
و تهتز الطاولة .

النادل سكران
و صاحب المطعم يكشر عن أنيابه
فتقف السكاكين علي الطاولات
و تبتسم للزبائن
الأيدي مازالت تتهامس
و السيقان في أحضان حارة
نامت العيون
و ماتت الطاولة من الخجل

النادل يترنح
زجاجة النبيذ هربت مذعورة
و صاحب المطعم سقطت أنيابه

من يكبح جماح هذه السيقان

وحدها
كانت السكاكين تفهم الموقف

محبة

السحابة تضحك مع النافذة
السحابة تهبط
تخلع ملابسها
انظري
يتكسران سوياً فوق السرير
السرير يسهر علي نومنا
و يعلو صوت الملابس في الخزانة
الجدران تنقل للجيران أخر التفاصيل
و السقف يدعو السماء إلي سهرة عائلية
أسرعي
ضحكة كبيرة هربت من الحائط
علينا أن نمسك بها
و إلا انفجر العالم من الضحك

موسيقي

إذ يعود العازف آخر المساء
بعد أن يخرج من الكورال وحيداً
يفتح حقيبته
و يوزع موسيقاه علي المارة
دائماً
حفنة من أطفال البانجو
تدخن مدينة أصابها الزكام
يمدون إلية مناديلهم
و يعتذرون للموسيقي

العازف يقسم لزوجته
أن الدمى أصيبت بداء الرقص الجماعي
في الميادين العامة
و عليه أن يعمل كثيراً
تحتضنه الزوجة كي ينام
و هكذا أياماً كثيرة
حتى قرر
أن يدق مسامير طويلة في الحانه
و يقاطع الكورال

ذكري

هاجمنا ذات مساء
رسم ضحكة كبيرة في وجهه
حزم وسطه كامرأة
و قال :
لخاطري تعلو الموسيقي
و ظل يرقص
و نحن نصفق
حتى استسلمت الحياة

ثم صرخ في وجوهنا و هو يبكي
بعد أن عقد رأسه بشئ أسود
فارتعدت أجسادنا
و تماهى في الظلام

و أخيرا خلع سرواله
فصرخت شهواتنا خلفه

و فيما بعد
و كلما حل المساء
نشاهد خجلنا مذبوحاً
يبكي و يرقص
و نحن نتضاءل في صمت

فيلم رومانتيكي

أحتاج أن يكون اليوم أنيقا
مزين بالورود الحمراء
و سأطلب من السماء أن تمطر
ستزورني امرأتي
و كضرورة درامية
تضع هي القمر فوق رأسي
و القي بالشمس تحت قدميها
و حتماً ستعم الظلمة
و هنا
سآكل من خبز امرأتي
و أشرب من فمها
و بقبلة واحدة
نبعثر العالم

و بعد

نأمر الحرب أن تعود إلي قواعدها مرهقة
حليقة الرأس
و في حين
نشاهد الجنود يوزعون الصواريخ علي الأطفال
للذكري
امرأتي تبتسم للحرب
تأخذ بيديها
يستقلان طائرة علي شكل عصفور
و يذهبان إلي الحانة
أنا هناك بانتظارهما
أعد الكئوس
و اغني

نسكر و الوقت صباحاً
و في المساء
ترتدي الحرب سترة النادل
و هكذا تقضي أيامها الأخيرة
الأرملة الحزينة
تعد الكئوس
و تزين الحانة بالورود

و يبقي .
أنا و امرأتي نجوب الشوارع
فننتبه فجأة
للظلام يعم الأرض
فتأخذ القمر من فوق رأسي
و تعيده إلي بيته
أرفع الشمس من عند قدميها
إلي فوق
و تحدث الحياة
أسألها :
حين تحدث الحياة
أين نخبئها
فنضحك
و يصفق الجمهور

الذي يمتنع عن مغادرة الصالة
فنهبط أنا و امرأتي من الفيلم
و معنا الأرملة
نعقد مؤتمراً صحفياً
تتعهد فيه الأرملة الحزينة
بارتداء سترة النادل إلي الأبد
و نهبط إلي الشوارع
إذ تحدث الحياة

حيث الأنبياء علي هيئة خبازين
يطعمون نبوءاتهم للنار
يصنعون خبزاً
و يوزعونه علي المشاهدين
أما الملائكة فقد هبطوا إلي الحقول
علي هيئة رعاة و فلاحين
و هجم رجال الشرطة علي الشوارع
يكنسون و يغسلون الطرقات
و أيضا يبتسمون للمارة
فتضحك الحرب
تموت من الضحك
و أضحك أنا
تضحك امرأتي
يرقص المشاهدون
و تصادر الرقابة الفيلم .

******

ضرورة الكلب في المسرحية

( خيانة في أربعة فصول )

الفصل الأول

من أجل حياة مديدة
يوم مولده
جاءوا بكلب أسود
و أودعوه غرفته
ربطوا عمريهما باتفاق سري
فإذا عوى
يصرخ الطفل
و يصلي الأم كي تطرد هذا الفزع
و حين يمرض الطفل
تحرق أمة عروسة ورقية
فينام الكلب أيضاً

كانا يتقاسمان كل لحظة
و حين مات الكلب
ظل الطفل إلي أن شاخ
يعوي و يصرخ
في أن
صديقه الذي دفنوه في طفولته

الفصل الثاني

قال
صباح الخير أيها الرب
ماذا ستفعل هذا الصباح
أنا أعمل كثيراَ
أحفظ لحظات عديدة
و التقط الاف الصور
لكلاب و حفاه و متسولين
لبشر يسكنون معاطفهم
و مشاهد متكررة

و حين أشاهد جنازة تمر في خشوع
أضحك
و بركة واحدة أفقد كومة من السنوات

ماذا ستفعل هذا الصباح ؟
صرت أقيم علاقات طيبة مع النادل و الحلاق و ماسح الاحذية
و امنح ابتسامات يومية لسائقي الباصات و المشاة
و لا مانع عندي
من ذبح الرؤساء و هدم بيوت الأولياء
و عمل عرائس و رقية ضاحكة
من سير القديسين و حياتهم
إذن ما المانع
من أن أمد ساقي في قلب المشهد ؟

الفصل الثالث

قال :
إذن ارتدي قناع مهرج و ارقص
و بصحبتي فرقة من الكلاب الضالة
حتما ستعم الدهشة
و يخرج الناس من معاطفهم
و رويداً
سيعتادون الضحك ممزوجاً بالعواء
و اذا صارت الأمور هكذا
أخلع قناعي و اسألهم :
هل الكلب ضروري في المسرحية ؟

و هنا
يبدأون في العواء
ثم تهز الكلاب أذيالها
و نرحل

فيخطر لي أن أكون لصاً
يسرق تعاليم الآلهة و يصنعون ألحانا راقصة
أيضا يسطو علي مقاعد الحكام
و يصنع منها نعالاً قوية للأطفال
و بالطبع يمنح كلابه سلطة مطلقة
لتعم السعادة و يعوي الجميع في سرور .
حينها
سأكون شيخاً هرماً
يعلم الناس حتمية العواء

قال :
بما أنني سأخجل من دور المهرج
و أخاف صورة اللص
سأرغب آن أكون حفاراً
يعيش علي أطراف المدينة
يدخن و يرعي لحيته
ثم يدرب الكلاب الضالة
علي ترتيب الموتي و حفظ مواسم المطر .
و بين الحين و الآخر
يشعل النار إلى جوارهم
يتدفأ و يبادلهم نظرات صامتة
و هم يملأون التوابيت
فرحاً و عواء .

و هنا يخطر لي
لماذا لا أكون ميتاً
فهناك مقبرة هادئة تلتف حولها الأزهار
و تابوت أنيق و ستدق الأجراس
بينما تحملني عربة تجرها الخيول
ناحية الأمجاد السماوية البعيدة

و لأنني سأقتنع أن هذه رغبات كئيبة
من شأنها أن تعطل مسيرة السعادة
أفكر فقط أن أكون مواطناً صالحنا
يبتسم دائماً
و يعول زوجة لها نهدان كبيران و رأس فارغ
بعلمها كل مساء صلاة الشكر
و حين يطمئن
يفتح فاه
يقبلها في هدوء
دون ضرورة
لآي كلب في أي مسرحية .

الفصل الرابع

وجدوني ميتا
بعد أن انفجر رأسي
رفض الطبيب دفن جثتي
و صمم أن يعرف ماهية الأفكار
و رأي مسئول كبير أن هذا لم يحدث
و لم يحن وقت الموت بعد
و عليه
وضعوا جثتي في حلة أنيقة
ثم طافوا بي كل الشوارع

و هنا تساءل المارة
عن أسباب هذه الأناقة
و أنا مازلت في حلة رسمية
و كان من الطبيعي أن تعوي الكلاب و يقلق الحفارون
وتحذر وكالات الأنباء اللصوص علي الهواء و لكن -
المسئولون سيطروا علي الموقف

و ظلت جثتي أياما تطوف أنحاء الدولة
و وحدها حبيبتي كانت تمشي خلف الجثة
بملابسها السوداء مع كاهن عجوز
ترغب أن تقبلني و الأمر مستحيل
و الكاهن مصمم أن يأخذ اعترافي
و يناولني الجسد و الدم
و حين احتجت منظمات الإنسان
و هددت أعضائي الميتة
بالثورة
رأي المسئولون
أن أوقع علي وثيقة تؤكد
أنني ضحكت حتى انفجر رأسي

حينئذ نزعوا الحلة الأنيقة
و أسلموني للحفار عاريا
فقيلتني حبيبتي
و استراح وجدانها
ثم رسم الكاهن علامات الصليب علي وجهه
ثلاث مرات
و وضع خبزا عطنا في فمي
اتبعه بشراب مر
و عوى بصوت عظيم
مت بسلام
فهذا ضروري في المسرحية .