خالد الرويعي

(1)

...وفي الذهاب صارت المسافات وحدها تطرز غيما لا شيء يحويه، لا شيء بعده..

أنظر:

ولا أحد..

تعب الجهات ينخر فيه ما تبقى، وكهوف من سرمد تهندس له طرقا من وحشة يرى فيها النفس كم هي منكسرة تعاقر جهنم وهي تتلوى على زفير كل ما فيه الهشيم وغربان تفتش في الجرح عن بقايا جثث لم يجهز عليها خنجر ما مضى، ترقب القيح كفريسة غدرت بها الغابات يوم أن كان الشجر رؤفاً، والوديان التي كانت رحماً ومأوى ها هي ذا تلعقها الضباع لفرط ما أغدقت عليها السهام من دم، يستشعرها الكائن كما لو أنها تذهب بك إلى الجحيم.. ولكن.. هل ثمة أنس وأنت تسامر لهو الرماد الأول لكل ذلك الجحيم.. أتكون النار ملاذاً عندما تشكي صقيع الوحدة! يسأل نفسه.. لكن ثمة وهج أبلغ من كل ذلك.. يخط لها كل ذلك:
ترى كيف هي مشاعر كلينا وهو يكتب للآخر أو ربما عنه، يرسم ملامحه أو ربما في محاولة منه أن يتهجى تقاسيمه، تلك تقاسيم قرمزية تفضح مشارق ألم دفين، وتلك سماوات تتخذ من البياض دليلا لها، أي سهد يا ترى سيصابي عجزي .. كيف للبوح أن يكون قاسيا إلى هذا الحد ، البوح هنا ليس استجداء لحنو الآخر ، هذا وذاك البوح متنفسنا الذي نعشقه وربما هو بوح لأنفسنا على الأقل وهي تقاسي وجع النهارات المغدورة.
هل في ما أكتبه غموض تشع من بين ثناياه تقاطيع وجهي..
ربما
لكنه على الأقل وليد لحظة كانت بجلها حاضرة لك.. أسرقها من بين ذلك الوقت الذي يغدر بي دائما
أحدثك
للغياب الصافن خلف بابي..
لاقتفائه بُردة الروح طاعنا ظل المحارب في اختراقات العدو..
لأشيائه المثقلاتي.. أحدثك:
ثمة هوة تسقطني كلما شارفت على البقاء.. تسقطني حيث الهاوية الأكثر دقة وحزماً..
يرهبن أشياءه في الغياب كما لو أنها لم تكن قط.. الورد يأخذ شكل البحر في ارتخائه والغيم يؤاخي ريحا كانت في القديم صرصرا تلهب حديد الصفات.. يخلع أسمالا ويخيط أخرى.. يهب الطيور براحا في القلب ويصف الروح بنار المحب، يغري الفراشات بأنواره الطالعة من فم الجهات، يستجمع حول مأدبته لفيفا من الكائنات الذهبية ويقف بباب دهشته أمام قُبلة (Klimt) حيث الذهب يوازي ذهاب الروح في اختلاج لا مثيل له.. يتطلع إليها كمن يرى سرد العمر في أشباه لا يعرفهم.. يغوص في الحفر الذي صاغته أنامل يتهجاها للوهلة الأولى.. كيف للجسدين أن يقصيا رهبة الجمود في كليهما ويغوصان في احتدام قبلة تدلك على بهجة اللقاء في اكتمال الخلق الأول.. كيف للذهب أن يكون متواضعاً لهذا الحد فيما المرأة المتسربلة به تدلك للذهب ذاته لا سواه، كيف استطاع أن يحرف العين لهدوء المعادن لا فحشها.. يستجمع حوله رهبانا وسلاطين ذرفوا معادن السلطة لذخائر الموج تحفّه قواقع ولآلاء لها من البريق ما يغدق على العاشق صلاة لا مثيل لها يهندس بأنامله شتاء اللهفة وأقدامه الريح يخطها في الحضرة آية آية، وبصوت راقت لها صنوف الكائنات جثا على ركبتيه يرتل حينها.

(2)

يسكن الليل هدأة الشارع غافيا على ما تبقى من هشيم المكان، لا صوت يقترح الفوضى لا آدمي يعزف الشارع بنعله.. يمرق في ذلك المكان غير عابئا بما يلف المدينة من وجوم، كل شيء بدا في مكانه، فيما السعف الواهن تمتشقه الريح في طريقها الصلدة محدثة ذاك التفرد الذي تبتغيه مدينتي.. نوافذ عارية تستسلم لمشيئة الريح في اكتراث هو في اللحظة ذاتها موسيقى ينبغي عليه التأقلم على تعاطيها بين فترة وأختها.
دخان يفصح عن مهالك باتت تندي بما استبد بها من اعتقالات تثير حفيظة الدم المثار على الأرصفة الحانية أشلائها على ركني الشارع.
ثمة عسس منهمكين في النبش عن بقايا إطارات لم يطالها الحرق ونقاط تفتيش لم تستلم بعد لعناد الطريدة.. يوقفه أحدهم:
- إلى أين تبغي؟
وبصوت جذل يفتش عن عبق بوصلته
- إلى أرضي.. ومبتغاي
- أرني بطاقتك
وبتذمر تلحظه بعض الأوجه التي تحيط به يخرج بطاقته بلباقة كان قد استعارها من سائق الأجرة الذي أقله تواً..
- تفضل
ضابط تعتلي سحنته العربية مزيجا من طائفية ما فتئ الناس تعليمها لأولئك المفتونين بحب التخلي عن سواسية الناس من (الطبقات الدنيا) الذين ساقتهم البهجة لاقتفاء الحـلم في (بلا - دينا) هذه وتلك.
- كنت أظنك منهم!
كنت اعي ماذا يرمي إليه ولكن كعادتي..
- منهم!؟
- أولئك العاصيين
يشق بعدها طريق الخيبة في وطن يستعير صفة المجد من عابر سبيل لا يدل على شيء، وهو في طريق عودته كانت الذاكرة تنهش معالم الطريق الذي ارتضاه لنفسه.
- يا للخيبة.. الخيبة مرة أخرى.. الخيبة في كل مكان، ثمة نزف عميق يشهر سيفه كلما لاح بفكرك أن ثمة بارقة أمل في الحصول على مستقبل للوطن.. مستقبل للقلب، ، غير أن القدر دائما ما يجيد لعبته بمعزل عن حدود ثقتك بالأشياء، ولكن ماذا ستفعل وأنت محكوم بالأمل دوما.. وتكتشف يوما بعد يوم بأن ثمة ألم يليه أمل، وأمل يليه ألم... وإلا كيف كانت الحروف لتشبه بعضها.
أهيأ نفسي دوما لاكتشاف الممكن عند الشخص وليس المستحيل.. أجدني وأنا أتحدث معك أسرد لك سيرة الخيانات التي يتحدث عنها البشر..
يحادث نفسه بأفكار كلما هيأت الصورة له مشهداً، الجدران لها لغة المستضعفين والخائفين، كل شيء بدا غريبا، مدن وقرى صاغتها أنامل العتمة، ورجال يمسكون بفتيل الحرب في ربطة حذاء.. رجال ونساء مساقون إلى حتف لا موت يردعه.
وبين كل ذلك، ثمة نواح غير معهود، وطفلة تفتش في الطاقة عن مشهد يؤثث عينيها ببريق والدها، تتناهى لمسامعه كلمات لم يعهدها قبلا، شتم وسباب وتهم بالخيانة.
كيف لك أن تعرف من يخون ومن هو أشد ولاء لك.. كيف لك أن تكتشف خيانة الروح وأنت لم تكتشف خيانة الجسد.. كيف باستطاعة أشخاصك الذي هم أقرب إليك من حبل الوريد أن ينعتوا أحدهم -فما بالك بالوريد- بالخيانة.. يحدث نفسه.
أطلال حرب هذه البلاد.. يا إلهي.. أي غربة هذه التي كنت فيها وأكون!
أؤمن بأن العاشق يدخل عادات الآخر.. فما بال ذلك الآخر لا يفقه شيئا مما تقول.. الخيانات في الحرب تحكمها المصالح بل أحيانا ينشد الشخص عزة في خيانتك.. وهذا مبرر في قسوة مثل تلك الحرب.. فكيف بالخيانات التي تتحلقنا من كل جانب.. وأنت بمعزل عن كل ذلك..
كيف لك أن تصمد في وجه كل ذلك.. من يمدك بالعزيمة لتحارب بها خيبة تكون في وقت من الأوقات هي كل ما تملك..
أسئلة لا يجيب عليها أحد، تختلط الأمور ويعتمر الرأس غياباً آخر غير الذي كان فيه..
- يا إلهي: عصي كل ذلك الألم على النسيان. وعصي ذلك النسيان على الأشخاص، وعصي على الأشخاص ترجمة الوطن، وعصي على الوطن ما معنى أن نحب.
كان يهيأ نفسه للقاء مأواه، كيف يكون له كل ذلك وما إن وطأة قدماه مسالك المأوى حتى انهالت عليه كل تلك الصور والأصوات:
- كيف أصف لك إحساسي بالخيبة والرعب من كل ما يحطني، هل ثمة غدر ينوي أن يقبلني هو الآخر.. أخاف من غد لا أعرف مصدره وإلى أين سيرديني.. ذاكرتي متعبة جدا وأنا ما عدت أحتمل المزيد من العناء، كل تلك الأشياء وغيرها تأتي دفعة واحدة في حضرة من الحزن والقهر.
كتب لها،
وهي لازالت في انتظارها المر،
كتب لها خوفا من مشاهدته وهو يعتمر كل تلك الصور.

(3)

أفردت بياضا - وخاطت عليه حروفاً له:
الجهات بحاجة إلى بوصلة ..
وها نحن ذا نتخبط في العماء ..
لا دليل لنا سوى ذلك النور الذي يدفعنا لأن نتواضع - ولا نرضخ - أمام الحياة بالرغم من قسوتها.. نتواضع لأننا لا نملك أن نكون مكابرين .
يخطر ببالي أن الشيء الوحيد الذي تستطيع أن تكابر في وجه هو الألم.. ولأن الألم قرين الأمل في اللغة .. فالجسد هنا ضحية الأمل وليس الألم فقط.