التقديم والترجمة: عبده وازن

يبدو الإقبال العربي على الشعر الياباني الكلاسيكي، وخصوصاً قصيدة الهايكو في مختلف نزعاتها ومدارسها، مزدهراً على خلاف الإقبال على الشعر الصيني، الذي يكاد يكون ضئيلا وشبه غائب. ويعكف المترجمون العرب باستمرار على نقل تراث الهايكو حتى بات ممكناً القول إن المكتبة العربية تضم عدداً وفيراً من دواوين الهايكو المترجمة، سواء من اليابانية مباشرة أو من لغات وسيطة كالإنجليزية والفرنسية. وقد تركت هذه القصيدة أثراً في شعراء عرب فعمدوا إلى كتابة قصائد هايكو عربية تراعي المعايير اليابانية، ومنها على سبيل المثل الشكل المختصر والمناخ الطبيعي وحركة الفصول. أما الشعر الصيني، الذي كتب في الحقبات نفسها التي ازدهرت خلالها قصيدة الهايكو، فلم يحظ باهتمام المترجمين والشعراء العرب إلا نادراً، مما ترك نقصاً واضحاً في المكتبة العربية الشعرية، التي أضحت تضم مختارات واسعة من الشعر العالمي. لماذا لم يهتم العرب بالشعر الصيني الكلاسيكي كما اهتموا بالشعر الياباني الكلاسيكي؟ هذا السؤال تصعب الإجابة عنه إجابة شافية. علماً أن الأدب الصيني الكلاسيكي يتجدد باستمرار، ولم يفقد على مرّ الأزمنة بريقه الداخلي الذي يميزه عن سائر الآداب القديمة. هذا أدب قادر دوماً على تجاوز البعد التاريخي والجمود الذي يهدد الأدب القديم غالباً، وعلى اختراق الماضي التقليدي والانفتاح على الحاضر الذي يتجه نحو مستقبله. فكما أن الأدب يجسد رغبة الشعب الصيني بالبقاء، فهو يمثل أيضاً حافزاً ذاتياً على الاستمرار كإرثٍ حضاري لا تأفل أبعاده، ولا تخبو معطياته المتنوعة. 

ارتبط الأدب الصيني منذ جذوره الأولى بالحكمة القديمة والفلسفة، ولم ينفصل عن الوحي الديني. فالأدب والدين والفلسفة والحكمة كانت تلتئم جميعها في سياق واحد يتوِّجُه هدفٌ واحد أيضاً هو البحث عن المعرفة. وكان الأدب الصيني أدب تجربة ووعي، ناجماً عن معاناة حقيقية وأزمات عميقة. وقد حاول هذا الأدب، على غرار الحكمة والدين أن يجيب عن الأسئلة الوجودية التي تعتمل في العمق الإنساني. فانتشر الشعر بوفرةٍ في الصين القديمة، وكان يتناقله الجميع ويحفظونه عن ظهر قلب ويتنادرون به، حتى أصبح التراثُ الأدبي ذاكرة شعب وكنزاً حضارياً زاخراً بالرؤى والمواقف الأصيلة. ولا غرابة أن يحتل الشعر مركزاً مرموقاً في حياة الناس العاديين وفي كيان الدولة والحكم. وإذا انفصل الأدب المكتوب عن الأدب الشفوي على مستوى الكتابة والتدوين فإن النوعين هذين تفاعلا فيما بينهما، وكان الأدب المكتوب امتداداً للأدب الشفوي والذاكرة الجماعية. فأقوال الفلاسفة وحِكَمُهم جسدت مخزوناً فلسفياً أدبياً أوحى إلى الشعراء الكثير من الآراء والرؤى. فقد كان الأدب شديد الصلة بالمجتمع، يملك وعياً تاريخياً واضحاً ويرتبط بهموم الجماعة وآلامها ويُسهم في توجيه الحضارة وإرسائها. وإن كان الشعر يجسد بداية التجربة الكتابية في الصين كامتدادٍ للغناء الديني والابتهالات الروحية، فإن النثر ظهر متأخراً. فغالب الكُتّاب كانوا مأخوذين بالروح الشعرية والنَفَس الموسيقي والإنشاد الوجداني. وقد اقترب الشعر كثيراً من جوهر الغناء وأغرق في اللون الغنائي الراقي، فاللغة الصينية لغة حضارية بحق وعنصر أساسي في الأدب الصيني، وهي لغة تنتمي إلى النموذج «الآحادي» من كونها كتابة تصويرية. وقد تمكنت أن تحتوي الشعر وتدفعه إلى استيحاء الطبيعة بمناظرها الحسية وصورها الملموسة.

ولا يُخفى أن الأدب الصيني الكلاسيكي اليوم هو بمثابة تراث عالمي يلجأ إليه الشعراء والكتّاب العالميون ويغرفون منه ويستوحون أبعاده. ولعل الإقبال على الأدب الصيني القديم الذي يزداد يوماً فآخر، وخصوصاً في أوروبا وأميركا، خير دليل على ديمومة هذا الأدب وريادته. 

هكذا تبدو قراءتنا للأدب الصيني نابعة من حاجة ملحة وهي الإلمام بحضارات الشعوب والانفتاح على الثقافات المتعددة ترسيخاً للجذور وتأصيلاً للهوية الذاتية.

يقترب الشعر الصيني الكلاسيكي إذاً من الحكمة والفلسفة ويصبح مغامرة في البحث عن «السرّ» و»الحقيقة» وهما جوهران بارزان في مفهوم التأويل الصيني الميتافيزيقي. يصبح الشاعر حكيماً اختبر الحياة وما وراءها وأدرك ببصيرته وبصره أسرار الوجود. وقد ألفى نفسه في خضم من المبادئ الدينية التي لا تنفصل عن الرؤية الفلسفية. فكان الدين مرجعاً أساسياً، فكرياً وروحياً وأدبياً، يلجأ الشعراء إليه في غمرة العذاب والقلق ويفيئون ظلاله الوارفة. وقد كانت الديانات الصينية الكبرى الثلاث، المتآلفة على اختلافها، منبعاً شعرياً خصباً نهل الشعراء منه، وهي: البوذية، الكونفوشيوسية والتاوية. لقد تأثر الشعراء بمعطيات هذه الديانات الثلاث واعتنقوا مبادئها واعتمدوا رموزها في قصائدهم وكتاباتهم. فقد علمتهم البوذية أن العالم يخضع لحركة دائمة تقوم على التشكل والتطور فالانحدار والموت. والإنسان لا يلمس ذروة الحكمة إلا حين يقتلع العيوب من نفسه. 

أما تعاليم كونفوشيوس فقد رسمت ما يشبه السلوك الاجتماعي الذي يدفع بالناس إلى الارتقاء. وقد ركّزت على بعض المبادئ الأخلاقية، كالصدق والتقوى والأمانة وغيرها، بينما دعت التاوية إلى الهروب عبر الاتحاد الكلي بالطبيعة والحلول في عناصرها، ومنحت الإنسان حرية ذاتية في التأويل، غير يقينة أودوغماتية. دعت التاوية الشعراء إلى الهدوء والسكون والإصغاء إلى حركة الفصول. وقد تأثر الشعراء بالدعوة وخلدوا إلى الطبيعة وتصوفوا وهجروا الحياة وصخبها.

راح الشعراء يبحثون عما وراء الأدب، عن النداء الغامض السري وعن الجوهر الخافي للغز الكون. لم تأخذهم بدعة الفن للفن إلا في مراحل قليلة، وإنما كان هدف الأدب أن يرقى بالنفس والأحاسيس إلى مصاف الانقشاع الرؤيوي. فكانت لهم شطحات صوفية ومسافاتٌ أثيرية وروحية ودوراتٌ افتتانية واضحة الملامح. فالشعر الذي يدعو إلى الهروب كان يدعو أيضاً وفي الوقت نفسه إلى الاتحاد بالقوة الكبرى، على غرار النهر الذي يصب في البحر الشاسع. غير أن التأمل الفلسفي والديني لم يثقل كاهل الشعر (أو النثر)، بل منحه جذوة داخلية وزاد من شفافيته وبريقه. فالتأمل الفلسفي في الصين ناجم عن مبادئ قديمة طبيعية كانت قد استوحت حركة الفصول في تعاقبها المستمر. فحيال إيقاع الفصول تمكن الفكر الصيني القديم أن يصف الأشياء بحسب مبدأين أساسيين: «ألين» و»اليانغ»، وهما يمثلان الظلمة والضوء، الرطوبة والحرارة، الأرض والسماء، التقلص والتمدد، الجنس الأنثوي والجنس الذكري. وكان هذان المبدآن يفسران، عبر التناقض والتعاقب والتحول، صيرورة الأشياء والكون. وحيال هذين المبدأين يتطابق مبدأ آخر هو «التاو» الذي يجسِّد نظام تضامنهما وترابطهما وتواصلهما.

وقف الشاعر إزاء التناقض الوجودي الخلاق والثنائية الكونية موقف المتأمل والمتصوف. فقد أتاح له التأمل أن يغرف من الينابيع المتعددة ومنحه حلماً كونياً ونفَسَاً غنائياً ودفعه إلى أن يتجه نحو الأزلي متجاوزاً «الحزن البوذي» أمام العبور الكوني للأشياء والعناصر. فامتزجت الصوفية بالبوذية والتاوية، واندمج الواقع التاريخي بالخيال وأصبح الشعر فسحة روحية وفضاء صاخباً بالتأمل والتصوف والإدراك الحدسي والحسي. وأصبح الشعراء نساكاً ومتصوفين يُصغون، إلى جوهر اللغة إصغاءهم إلى جوهر الوجود والزمن.

حاول الشعراء الصينيون القدامى أن يعبروا عن خلاصة الأشياء، عن الروح التي تخالج العمق الداخلي ولم يبالوا بالتفاصيل والظواهر الخارجية. فالجوهر كان الحافز الوحيد الذي دفعهم إلى التأمل والإصغاء والكتابة. فإذا عالم الأشكال ليس إلا عالماً من «الندى» وفق المقولة البوذية. وعالم الشعر هو عالم من الضوء والظلال، من الألوان المشرقة والعناصر الندية. فارتباطه الأساسي بالطبيعة جعل الطبيعة تحل بمناظرها وصورها داخل المشهد الشعري – الصوفي. فإذا الرؤية الشعرية قائمة على الخلق المشهدي انطلاقاً من الأرض والسماء. وإذا الحلول في الطبيعة حالة إغراق روحي وصوفي: تصبح الطبيعة آنذاك مرآة تعكس الأحاسيس العميقة والجوهر الكوني الخافي، ويصبح للعالم الخارجي تأويل جديد، روحي وحلمي ووجداني.

يقترب الشعر الصيني من الأدب التصويري دون أن يقع في مجانية الصورة وبعدها الحسي المجرد، بل هو يمزج البعد الصوفي الملموس بالبعد الروحي الصافي، كي يعيد تشكيل العالم بحسب ما تقتضي الحالة الصوفية. فالطبيعة بعناصرها أشبه بالذريعة التي تبرر حلول الروحي في الحسي. وقد كان الشعر الصيني شعر طبيعة بامتياز لكنه حاول دوماً أن يبحث عن السر الكامن وراء الطبيعة نفسها، وعن اللغز الذي تبوح الطبيعة به في حالات الصفاء والإصغاء. وهي طبيعة وهمية سحرية، حلمية واقعية حسية صوفية بهية الجمال تتجاوز تناقضات العناصر وتغتسل بصفاء التأمل الروحي. وهي تحضر عبر المناظر الكثيرة التي يرسمها الشاعر كما لو أنه يكتب بالألوان المائية النضرة. وهي مناظر حسية مشبعة بالأبعاد والرموز: منظر القمر علامة لقاء لأنه يجذب أنظار العشاق في وقتٍ واحد، العصافير التي تعبر السماء توحي بالرحيل الموسمي، العشب الذي ينبت على العتبة يعبر عن حالة الوحدة في إمحاء خطوات الغائبين. مناظر ومناظر يبتدعها الشاعر المتأمل، المستسلم لخدر الطبيعة وصفاء الروح: منظر المسافر الذي يعاني العذاب، منظر النهر الذي يشق مجراه ليصل إلى بحر اللانهاية، الجبل الذي يرمز إلى العنفوان، الليل المقمر، الربيع الطلق، الخريف، البحيرة وصفحتها المائية... الغروب كرمز لشيخوخة وانحدار الزمن. وإذا الشاعر رسام يجمع العلامات والأشكال كي يعيد خلق العالم عبر اللغة. وهذا ما يؤكد ما تقوله الأسطورة الصينية القديمة إن أشكال الكتابة قد استُوحيت من العلامات التي تسطرها النجوم في السماء، أو من آثار الحيوانات على الأرض. وهذا أيضاً ما يؤكد بدوره العلاقة الوطيدة بين الطبيعة والإنسان، بين الطبيعة والتعبير. ومن هنا ينبثق الموقف الرومانطيقي الذي يسم الشعر الصيني ككل. لكن الرومانطيقية الصينية تختلف عن سائر المدارس الرومانطيقية لاقترابها من الحالات الصوفية الصافية. فالأشياء الطبيعية لا تحضر إلا من كونها رموزاً توحي بأسرارها. واللجوء إلى الطبيعة هو نوع من الهروب الذي لا يتخلى عن المواجهة. فالشاعر الصيني يواجه الزمن في فراره والموت في حلوله. لكنه لا يخاف الزمان خوفاً غامضاً ولا يعرف حالة الكآبة التي تولدها فكرة الرحيل. فالموت مرحلة تؤول إلى الولادة الأخرى. ولا بد من عبور الموت وصولاً إلى البحر الشاسع.

غير أن مرور الزمن يهدد بالسقوط والانحلال. ولا يُخفي الشاعر الصيني نظرته التشاؤمية: كلما عبر الزمان تأكدت المأساة. فالفراق هو الذي يثير الأسى وليس الخوف من المجهول. والشاعر الصوفي لا يعبأ باضمحلال العمر لأنه يعيش (في داخله) حالةً من التواصل والإشراق. وعبر الصراع الوجودي والوجداني الذي يحياه الشاعر يحل الحب ويخفف من حالات الوحدة والعذاب. وهو حب صوفي وحسي يدعو إلى السكون والهدوء والتأمل الجمالي. لكن الشاعر لن يحيط المرأة بهالة خاصة ولن يعبدها على الطريقة الرومانطيقية، بل ستكون جزءاً من المنظر الذي يرسمه. تحضر المرأة كزوجة تنتظر عودة رجلها الذي اختطفته الحرب أو كفتاةٍ حالمة تقف على النافذة أو كحبيبة نقية نقاء ماء النهر. فالحب في نظر الشاعر الصيني حالة خلاص وبهاء، لا يدفع إلى الوقوع في الشهوات الحسية بل يدعو إلى التسامي الروحي.

تنوع الأدب الصينيالشعر الصيني غني ومتنوع، يحوي الرسم والموسيقى والتأمل. يأخذه الحنين إلى الماضي، إلى مسقط الرأس وملاعب الطفولة. وقد عاش الشعراء مآسي الناس وويلات الحروب، وعرفوا المنفى والرحيل. فتأوهوا ورثوا وراحوا يبحثون عن عالم مثالي بعيد يقيهم وحشة الزمان وغدره. واختلط الشعر بالتاريخ أحياناً فكان ضمير الأمة، يوجه الناس ويمجد الخير ويمدح الدولة. وكان شعراً أخلاقياً في أحيان أخرى يدعو إلى إصلاح المجتمع ورفض الظلم وبناء وطن سليم معافى.

ولعل تنوع الأدب الصيني منح التجربة الأدبية غنىً في المضامين والأساليب وعمقاً تأملياً وبعداً وجودياً. فهو أدب شامل يُعنى بالأمور المطروحة على المستويين الفلسفي والديني وعلى المستويين اليومي والحياتي. وقد ترجع هذه الصفة إلى طبيعة الديانات الثلاث التي غرف الأدب منها. فإذا حاولت تعاليم كونفوشيوس أن تنظم حياة الإنسان وسلوكه الطبيعي فإن التاوية مثلاً دعته إلى اللجوء إلى الطبيعة والحلول فيها. وكان هذان الاتجاهان قطبي الدائرة التي تمحور الأدب فيها. فكان أدباً صوفياً روحانياً خيالياً من جهة وطبيعياً واقعياً من جهة ثانية، دون أن يشكل هذا التنوع تناقضاً أو تنافراً. فالأدب الصيني منسجم الاتجاهات متناغم الملامح، واسع الأفق عميق الجذور، حي وناجم عن تجربة أصيلة ومعاناة صادقة. أدب يوحي ويبوح ويُلمح ويُرمز، ويلج الأعماق الإنسانية ويسبر غور المخيلة، ويلقي على الواقع ضوءاً ساطعاً. إنه باختصار، أدب الحياة والموت، أدب الواقع والخيال، أدب الجوهر والمعرفة، أدب البحث عن السر الكامن وراء الأشياء وفي جذور العالم، في ما يحوي العالم من أبعاد وجودية وزمنية وفلسفية.

الراقص 

ما أكبره، ما أعظمه! 

يتهيّأ ليرقص الرقصة الكبيرة. 

قرص الشمس في سمْته تماماً، 

على المنصّة، أمام القصر. 

ما أجلّ قامته، 

حين يرقص في الديوان الأميريّ ! 

له قوّة النّمر، 

والعنان له وشاحٌ. 

في يده اليسرى يحمل ناياً 

وفي الأخرى ريشات عصفور، 

كم يسطع بألق أحمر! 

امنحوه كأساً، يقول الأمير. 

على الرابية ينمو شجر البندق 

وأعراق السوس في المستنقعات. 

قلْ بمن أفكّر؟ 

بجميلة بلاد الغرب. 

آه! ما أجملها، 

سيّدة بلاد الغرب. 

قوس القزح 

قوس القزح ينهض فوق الشرق! 

لا أحد يجسُرُ أن يدلّ عليه! 

الفتاة كي تتزوّج 

تترك في البعيد الأخوة والأهل! 

بخارٌ صباحي حين الغروب! 

إنّه المطر حيال الضُحى! 

الفتاة كي تتزوّج 

تترك في البعيد الأخوة والأهل! 

لأن الفتاة التي تراها 

تحلم أن ترحل وتتزوّج 

فلا تحفظ عفافها 

قبل أن يصبح ذلك أمراً. 

جرادة الحقول 

جرادة الحقول تصرخ 

وجرادة الروابي تقفز! 

ما دمت أغني فأنا لم أرَ سيّدي 

فليضطرب آهٍ، قلبي الجزع 

ولكن، حين أراه، 

حين أتّحد به، 

يهدأ آنذاك قلبي! 

أتسلق جبل الظُهر 

أذهب لأقطف زهر الخنشار! 

ما دمت لم أرَ سيّدي، 

فليتألم قلبي الجزع. 

لكني، حين أراه، 

حين أتحد به، 

يفرح آنذاك قلبي! 

أتسلق جبل الظُهر 

أذهب لأقطف زهر الخنشار! 

ما دمت لم أرَ سيّدي، 

فليحزن قلبي ويكتئب! 

لكنّي، حين أراه، 

حين أتحد به، 

يسكُنُ آنذاك قلبي! 

اللبلاب 

اللبلاب في الحقول 

مبلّل بالندى! 

إنّه شخص جميل 

وعيناه جميلتان! 

لقد التقيته: 

إنّه كما تمنّيته تماماً! 

اللبلاب في الحقول 

مبلّل بالندى! 

إنّه شخص جميل 

وعيناه جميلتان! 

لقد التقيته: 

كلُّ شيء جيّد معك! 

مرحلة «الهان» و»الواي» (من 206 ق. م. إلى 264 ب. م.) 

أغنية 

في الشمال امرأة جميلةٌ، جميلة حقاً 

بالقرب منها ما من امرأة تبدو جميلة. 

بنظرةٍ تهدمُ الأسوار 

بنظرة ثانية تنهار المملكة. 

الجدران والمملكة على الأرض، مَنْ لا يعرف 

أنّ الجميلة تختال من جديد؟ 

لي ين – نيان 

الندى على وريقات الجناح 

كان الجناح مغطّى بالندى 

لم يلبث الندى أن اختفى لدى شروق الشمس. 

لكنّ المختفي سوف يسقط في الفجر الذي يلي، 

الإنسان يموت ويرحل: متى يرجع إذاً؟ 

تيان هنغ 

متأملاً البحر الشاسع 

أرحل صوب الشرق حتى جبل الحجر 

لأتأمل البحر الشاسع. 

المياه تزبد إلى ما لا نهاية 

حول الصخور المختالة المفروشة في البحر. 

هنا الأشجار تنبت كثيفة 

على بساط الأعشاب الغزيرة. 

وفي صفير ريح الخريف 

تكبُر أمواج هائلة وتصعد. 

أيتها الشمس والقمر، من بين الأمواج 

تبدو الطريقُ تنبثق. 

ونهرُ النجوم الباهرُ 

يتدفق من بين الأمواج هذه. 

أيّ مشهد! آه أيّتها الغبطة الفائقة! 

أيّتها الأشعار، أشعاري غنّي مثالي الأعلى! 

تساو تساو 

تأمّلات شعرية 

في عمق الليل، حين لا أقدر أن أنام، 

أقوم وأجلس، أعزف على عودي الرنّان. 

خلف الستارة الرقيقة يتألق القمر، 

والهواء الصافي يهبّ رافعا قميصي. 

أوزّة وحشية تصرخ وحيدة في الحقول البعيدة، 

عصفور يطير، يغنّي في الغابة. 

أروح وأجيء بلا نهاية... ماذا أستطيع أن انتظر أيضاً؟ 

قلبي ممزٌّق كلياً بالقلق الذي يحتلّه. 

جوان تسي 

(265 – 419) ب. م مرحلة «التسن» 

أغنية النمر الوحشي 

لا يشرب الحكيم من «نبع اللصوص» ولو كان شديد العطش، 

وإذا أخذه الحَرّ فهو لا يستريح في ظلّ شجرة فاسدة. 

هل يحدث ألا يكون لشجرة فاسدةٍ أغصانٌ؟ 

الإنسان الحرّ عليه أن يحتمل كثيراً... 

أسرجتُ حصاني لأخضع للقدر، 

السوطُ في يدي، أرحل في مغامرة بعيدة. 

حين أجوع، آكل قرب عرين النمور الوحشيّة، 

حين أبرد ألجأ إلى غابة الطيور الجارحة. 

غربت الشمس ولم تنتهِ مهمتي، 

الزمن يعبر، السنة تمّحي في الليل. 

غمامات كثيفة تنتشر قرب الشاطئ 

والجبل يتأوّه في عصف الريح. 

في عمق الوديان الداكنة أتحدث بمهارة، 

ثمّ على قمة الجبال أغني طويلاً. 

مَن ينقر الأوتار بجنون لا يخلق موسيقى هادئة، 

ولكن كيف بمثال عال يصبح المرء صاخباً؟ 

أن أحيا، ليس في الحقيقة شيئاً بسيطاً، 

لماذا عليّ أن أبوح هنا؟ 

أريد أن أكتم في القلب فضيلة جرّبتُها، 

ولكن أن يكون رأسي مستقيماً أو منحنياً، فأنا أخجل أمام الناس.

لو كي 

مرحلة «حكم الجنوب والشمال» (420 – 589 ب. م.) 

منذ رحيلك 

منذ رحيلِك، يا حبيبتي، 

تكدّر الذهبُ والريشةُ وفقدا بريقهما. 

أفكّر بكِ دوماً: هكذا الشمس والقمر، 

يرجعان دوماً، يلوذان في الصبح والمساء. 

ليسون تسيون 

هي كانغ 

الفارس غريب عن عالمنا، 

من طبيعته أن يقتات بالغمامات الزهرية. 

جسدُه، متحرّراً من القيود يوحي بإله مُخبّأ، 

وكلامه يشهد على مهارة تأملية. 

في وسط الجمهور يحارب الأفكار العامة، 

صديقُ النسّاك، يقصد الجبل. 

ريشات طائر «الفينيق» تنكسر أحياناً، 

ولكنْ مَن يقدر أن يقهر روحَ تنّيني؟ 

ين ين – تشي 

رباعية 

ما أجملها، المرأةُ المجهولة 

تغسل قدميها الشديدتي البياض في الماء المتهادي. 

القمر يلتمع في وسط الغيوم 

بعيداً بعيداً لا أحد يقدر أن يبلغه 

سي لينغ – يون 

مَن أفكّر به 

إنّها الساعة المرتقبة... لم يعد. 

عيناها ترنوان إلى البعيد، توقفت عن عملها الشاق، 

على درب الشرق، مشت مئة خطوة. 

طلع القمر، لم يبق سوى قلة من العابرين. 

سي تياو 

الناسك 

أُنظرْ إلى الأشجار التي تنبت على الهضبة: 

لكلّ شجرة قلبها الخاصّ. 

أُنظرْ إلى العصافير التي تشدو في الغابة: 

لكلّ عصفور موسيقاه الخاصة. 

أُنظرْ إلى الأسماك التي تسبح في النهر: 

سمكة تطفو وأخرى تغوص. 

مرتفعات الجبال تثير الدوار، 

أعماق الحياة لا تُسبر! 

ظاهرُ الأشياء سهلٌ للنظر، 

لكنّ مبدأ الأشياء يصعبُ البحثُ عنه. 

الامبراطور وو دي لينغ 

الوداع 

يرحل المسافر، بقلبه المثقل بالهموم، 

وحيداً يعبر آلاف الفلوات. 

النهر داكنٌ والمطر سينهمر، 

وعلى الموج الأبيض تهب الريح. 

هو سوين 

إلى سيّدي الفتيّ 

في أثوابي الحريرية، تنحف قامتي، يوماً فيوماً، 

أزهار الدراقن، أزهار الخوخ فقدت لونها. 

أفكّر بسيّدي، لكنه لا يرجع، 

وإن رجع فهل يعرفني؟ 

هينغ تشاو 

مرحلة «سواي» (581 – 617 ب. م.) 

الأوراق المتساقطة 

كم شجيٌّ تساقطُ الأوراق، في بداية الخريف، 

تتهادى تائهة، كقلب المنفيّ، 

تطير، تحوم ولا تسقط، 

وكأنها تتحسّر على الغابة، وطنها. 

كونغ تشاو - نغان 

مرحلة «التانغ» (618 – 907 ب. م.) 

تأملات بعيدة 

خلال النظر إلى القمر 

فوق البحر، ينبثق ضوء القمر، 

من ضفةِ السماء إلى الضفة الأخرى نتقاسم هذه الساعة. 

حين نحبّ، نشكو من طول الليالي، 

وحتى الصباح تطير تأملات الحبّ. 

مبهورين، يغمرنا الضوء، نطفئ الشمعة، 

مبلّلين بالندى، نرتجف، نرتدي ثوباً. 

ولأننا لا نستطيع أن نقدّم مثل هذه الهدية بسخاء 

فمن الأفضل أن ننام أيضاً وأن نحلم بلقاء سعيد. 

تشانغ كيّاو – لينغ 

أغنية لينغ – تشاوي 

ُخمرة العنب الطيبة في الكأس الملتمعة! 

رحتُ أشرب، لكنّ ربابة الفرسان جعلتني أُسرع. 

إذا سقطتُ، سكرانَ، على الرمل. لا تضحكوا 

وانغ هان 

ليلة قرب الساقية في كيان – تو 

قرب الجزيرة الضبابية يرسو المركب، 

وفي غروب الشمس يتجدّد قلق المسافر. 

شاسعة هي القرية: السماء تنخفض نحو الأشجار، 

الساقية صافية: القمر يقترب من الناس. 

مونغ هاو – جان 

الوزات البيضاء 

على الأكمام التي من قماش التول الأحمر، تظهر بوضوح، 

ولكن في صحن من حجر اليشْب لا تبدو كأنها موجودة. 

وقد يقال إن راهباً عجوزاً، حين توقف عن الصلاة، 

وضع أمام معصميه لآلئ من بلّور. 

لي بو 

ليلة بين الأصدقاء 

كي نطرد الحزن الأبديّ للعالم، 

فلنتمهل في الشرب، بمئات الأواني. 

الليل الجميل يدعونا إلى التسامر، 

القمر مضيء تماماً حتى أننا لا نقدر على النوم. 

وحين تحلّ النشوة، سوف ننام في عراء الجبل، 

السماءُ غطاءٌ لنا والأرض مخدّة. 

لي بو 

أغنيات العصافير والفيض 

الناسُ يخلدون إلى الراحة، أزهارُ العنبر تتساقط: 

ليلٌ ربيعيّ هادئ، على الجبل الأجرد. 

القمر، حين يطلع، يعكّر صفو عصفور الجبال، 

حينا تلو حين صداحه يُجيب على فيض الربيع. 

وانغ واي 

في الجبل 

من الوادي المغطّى بالأشواك، صخراتٌ بيض تنبثق، 

في السماء الباردة تتناثر ورقاتٌ حمراء... 

على درب الجبل لم تمطرْ، 

لكنَّ زرقة السماء بلّلت ثوبي. 

وانغ واي 

رباعية 

حين غروب الشمس تبتعد القممُ المائلة إلى الزرقة، 

تحت السماء الشتائية، المنزلُ الأبيض يضمحلّ. 

قرب الباب الخشبيّ، أسمع نباح كلب، 

في الثلج والرياح، ثمة مَن يدخل منزله ليلاً. 

ليو تشانغ – كينغ 

الربيع الأسير 

انكسرتِ البلادُ، بقي النهر والجبل، 

المدينةُ في الربيع، الشجرات تنمو والنباتات. 

الزمنُ الهارب يقطف دموع الأزهار، 

العصفور الطليق يجرح قلوب الذين تفرّقوا! 

نيرانُ الحرب لم تخمد منذ آذار. 

ألفُ مثقال من ذهب: رسالةٌ من الأهل! 

الشعر الأبيض حار قليلاً، بعثره المنفى، 

ولن يربطه المشبك أبداً. 

تو فو 

مطر نديّ في ليلة ربيعية 

المطر النديّ ينهمر في الفصل الجميل: 

في الربيع، يجعل الحياة تتفتح. 

وبحسب رغبة الريح يتسلّل المطر في الليل، 

يأخذ الأشياء صمتُ النداوة... 

الدروب المحفوفة بالأشواك تلفّها الغيوم. 

وحده، على النهر، مصباحُ القارب. 

الفجر يضيء الأماكن القانية المبلّلة: 

زهراتٌ مثقلة على أغصان منوّرة. 

تو فو 

عابر جبل لانغ – بي 

على الطريق، أمام البوابة الصخرية، ما من علامة، 

يفوح عَبَقُ البخور، في الضبابة، يملأ وادي الصنوبر. 

فتاتُ الطعام في الساحة يجذب العصافير، 

على الأشجار تتدلّى الأثواب الرثّة: لقد انطفأ الراهب. 

واي ينغ – وو 

نزهةٌ في الجبل 

بعيداً، بعيداً دوماً، عالياً عالياً في الجبل البارد، على الدرب الحجريّة...

بين السحب البيضاء الكثيفة، يرتفع منزل. 

أوقفتُ عربتي ورحتُ أتأمل بحنوٍّ غاباتِ القيقب عند الغروب:

أوراقُها المكسوّة بالجليد الرقيق أشدُّ حمرةً من أزهار الربيع.

مرحلة «السونغ» (960 – 1279 ب. م.) 

فوق البحيرة 

الغيوم السوداء تقطرُ حبرها، ولكن دون أن تحجب الذرى، 

المطر الناعم كالرذاذ يغمر قاربنا باللآلئ المتناثرة. 

تهبّ الريح فجأة وتُجلي منظر البحيرة، 

على صفحة الماء تنعكس السماء. 

سو تشي 

عابراً «باب السيف» 

على ثيابي امتزج غبار السفر ببقع الخمر، 

خلال هذا التجوال البعيد، كان ثمة ذكريات مُقلقة! 

أيكون لديّ أبداً موهبةُ شاعر؟ 

تمطر رذاذاً. أصعد دابّتي وأعبر «باب السيف». 

لو ياو 

مرحلة «الكين واليوان» (1115 – 1367 ب. م.) 

رباعية 

على الأغصان، الأخضرُ النضرُ، باقاتٌ كثيفة، 

البراعمُ الصغيرة مختبئة تماماً: من هنا وهناك بعضُ النقاط الحمراء...

أحبّ تلك القلوب الفوّاحة التي لا تتفتّح بسهولة، 

لتتمايلْ أشجار الدراقن والخوخ في ريح الخريف! 

يوان هاو – ون 

حول رسم «الغابة في الغيوم بعد المطر» 

تكاد الجبالُ ترحل، محمولةُ بالغيوم العابرة، 

أمام الجسر، بعد الأمطار الغزيرة، يحلّ فيضان الربيع. 

فلأجدْ سريراً في فندق الغابة بين الغيوم، 

كي أسمع هناك، حين أغفو، 

ألحان الديكة ونباحات الكلاب في بقعة الخالدين. 

يانغ وي – تشان 

قرب البحيرة 

الريح تنعق في أعلى الأشجار، 

المطر يقرع صفحة البحيرة... 

الصيّادون تواروا جميعاً، 

الأوزّات الوحشية تتبادل الحديث بين نباتات الأسل. 

سا تو – لا 

مرحلة «المينغ» (1368 – 1643 ب. م.) 

أدب الأسئلة الوجودية 

ارتبط الأدب الصيني منذ جذوره الأولى بالحكمة القديمة والفلسفة، ولم ينفصل عن الوحي الديني. فالأدب والدين والفلسفة والحكمة كانت تلتئم جميعها في سياق واحد يتوِّجُه هدفٌ واحد أيضاً هو البحث عن المعرفة. وكان الأدب الصيني أدب تجربة ووعي، ناجماً عن معاناة حقيقية وأزمات عميقة. وقد حاول هذا الأدب، على غرار الحكمة والدين أن يجيب عن الأسئلة الوجودية التي تعتمل في العمق الإنساني.

البحث عن «السرّ» و«الحقيقة» 

يقترب الشعر الصيني الكلاسيكي إذاً من الحكمة والفلسفة، ويصبح مغامرة في البحث عن «السرّ» و«الحقيقة»، وهما جوهران بارزان في مفهوم التأويل الصيني الميتافيزيقي. يصبح الشاعر حكيماً اختبر الحياة وما وراءها وأدرك ببصيرته وبصره أسرار الوجود. وقد ألفى نفسه في خضم من المبادئ الدينية التي لا تنفصل عن الرؤية الفلسفية. فكان الدين مرجعاً أساسياً، فكرياً وروحياً وأدبياً، يلجأ الشعراء إليه في غمرة العذاب والقلق، ويفيئون ظلاله الوارفة. وقد كانت الديانات الصينية الكبرى الثلاث، المتآلفة على اختلافها، منبعاً شعرياً خصباً نهل الشعراء منه، وهي: البوذية، الكونفوشيوسية والتاوية. 

من كتاب الحكمة الصينية 

عندما نجتاز النهر ندمر الجسر. 

*** 

حين نضع السهم في القوس لا يبقى إلاّ أن نرميها. 

*** 

لا يقترب من الأرجوان إلاّ الأحمر، 

ولا يقترب من الحبر الصيني إلا الأسود. 

*** 

ما مِن ريح تعصف لكنّ الأمواج تعلو. 

*** 

ضجّة كثيرة من أجل لا شيء. 

*** 

الجلدُ يضحك لكنّ الجسم لا يضحك. 

*** 

أن نرسم أرغفة كي نخفّف جوعنا. 

*** 

مَن يجذب النبات كي يعجّل في نموّه؟ 

*** 

حيال الأوراق التي تسقط نتوقّع الخريف. 

*** 

حين تنطلق الكلمة، 

حتّى أربعةُ خيول لا تستطيع أن تلتقطها. 

*** 

المخدّة باردة والغطاء متجلّد. 

*** 

حين نشرب الماء ينبغي أن نفكّر بنبعه. 

*** 

كالسمكات التي تسبح في أسفل القِدْر. 

*** 

من الحجر تنبثق الشرارة: الزمان. 

*** 

الشمس جديدة والقمر تبدّل. 

*** 

ماء النهر ليس أبداً هو نفسه. 

*** 

الأمرُ الموجه في الصباح ليس هو نفسه عند الغسق. 

------------

الحياة-الأربعاء 26 أبريل 2017