n09121703.jpg

قصة نَديِجدا طيفّي (1
ترجمة نوفل نيّوف

هكذا كانت البداية.
ثمَّ قال اللهُ: «لِنَصْنَعِ الإنسانَ على صورتِنا، كمثالِنا»
(
سفر التكوين 1، 26).

وهكذا كان. إذ راح الإنسان يعيش ويتكاثر، ينقل الأبُ لابنه، والأسلافُ لأحفادهم تلك الروحَ الملتهبة، ذلك النَّفَسَ الإلهيّ.
وظلَّ البحث عن الله موجوداً فيه إلى الأبد، في الإقرار وفي الإنكار، ولم يَخْبُ فيه روح الله إلى أبد الآبدين.
كان طريقُ الإنسان طريقَ الإبداع. لقد وُلِد لأجله، وكانت غايةُ حياته فيه، ونيابةً عن روح الله استمرّ يبدع العالم.
«
ثمَّ أَمَرَ اللهُ: «لِتُخْرِجِ الأرضُ كائناتٍ حيَّةً، كُلاً حَسَبَ جِنسِها، مِنْ بهائمَ وزواحفَ ووُحوشٍ وَفْقاً لأنواعِها».
(
سفر التكوين 1، 24).

وهكذا كان.
واختلج جسدُ الأرض الرطبُ الذي لم يكن قد تجمَّد بعد، وتململت فيه رغبة الحياة على شكل دوّارات (2) هي نقاطٌ متحركة، وامضة.
وملأت الـدوّاراتُ البحارَ والأنهار وكلَّ مياه الأرض، وراحت تبحث عن طريقة لاكتساب الحياة وتثبيت القدم فيها.
وتحولت إلى حلقيّات، وإلى علقيّات، إلى تساعيات الأعين لها شواربُ راعشةٌ مرهفةٌ تشعر بأصغر نَفَس من أنفاس الموت.
ثم انقلبت إلى حشرات، وبرمائيّات، وراحت تزحف نحو الشاطئ، وبنهمٍ تتلمَّس الأرض بأرجلها الغشائية، وتلصق بها صدرها المحرشَف. ثم عادت من جديد تبحث عن الحياة وتتملّكها.
بعضها أطلق أجنحته وطار في الهواء، وبعضٌ منها مضى زاحفاً على الأرض، فيما تصلَّب العمود الفقري عند بعضها الآخر واستقرَّ على أرجله.
وشرع الجميع يتأقلم، ويصارع، ويعيش.
وبعد عصور طويلة من العمل، كانت أوَّلُ حشرة طوَّرت نفسها قد اتَّخذت شكل كائن شبهِ بشري. فذهب هذا الكائن إلى الناس وعاش معهم. لقد أحسَّ أنه لن يستطيع الحياةَ بعدُ من غير الإنسان، وأن الإنسان سيقوده خلفه إلى مملكة الروح التي لم يكن لشبيه البشر من سبيل إلى بلوغها. كان ذلك يرضيه ويمنحه الحياة. ولم يحتفظ أشباه البشر بتلك الشوارب المرهفة السابقة، غير أنهم احتفظوا بالرهافة.

■ ■ ■

اختلط الناس بأشباه البشر. وتزاوج الطرفان فيما بينهما وأنجبوا أطفالاً. فكثيراً ما تُصادِف بين أفراد أسرة واحدة مَن هم بشرٌ صغارٌ، ومَن هم أشباه بشرٍ صغارٌ أيضاً. ويُعَدُّ هؤلاء وأولئك إخوة.
غير أن هناك عائلاتٍ من البشر الأقحاح، وأخرى من أشباه البشر الأقحاح.
وهؤلاء الأخيرون هم الأكثر عدداً، لأن أشباه البشر حافظوا على سرعة التكاثر منذ أيّام حقبة العلقيّات التساعية الأعين. وما زالوا حتّى اليوم يتحكّمون بالحياة عن طريق عددهم وشدة رغبتهم بالحياة.

■ ■ ■

ينقسم أشباه البشر إلى نوعين: أشباه البشر من الدرجة العليا، وأشباه البشر من الدرجة الدنيا.
وقد حقق النوع الأوَّل قدْراً كبيراً من النجاح بالتآلف مع الحياة الروحية ومحاكاةِ مختلف تجليات العقل البشري، ما جعلهم يبدون في نظر كثيرين من المراقبين السطحيين أناساً أذكياء وعباقرة.
إلا أن الإبداع متعذِّر على أشباه البشر لأنهم يفتقرون إلى المبدأ العظيم. هنا يكمن عذابهم الأكبر. إنهم يطوِّقون الحياة بأرجلهم وأجنحتهم، وأيديهم، وبنهمٍ يتلمّسونها ويمتصّونها، ولكنهم لا يستطيعون الإبداع.
إنهم يحبّون كلّ ما هو إبداعي، ويحيط باسم كل نابغةٍ إكليلٌ من أسماء أشباه البشر.
يخرج من بينهم ببلوغرافيون مدهشون، ونقّاد مخلصون، ومحاسبون متفانون وكتّابُ سيرة، ونظّامون (3) بارعون.
إنهم يحبّون إبداع الآخرين، وبشبقٍ يتمسّحون بهذا الإبداع.
يحبّون نسخ قصائد شاعر، كتابة نعيِ فيلسوف يعرفونه، أو ما هو أكثر إبهاجاً بعد، كتابة مذكِّراتهم الشخصيَّة عن إنسانٍ موهوب يمكنهم أن يكتبوا فيها «نحن»، وأن يقرنوا اسمهم باسم ذلك العبقري.
إنها لذّة فرحة خنفساء تفكِّر بملاك: «إننا نطير!».
في المدّة الأخيرة، شرعت تظهر كتبٌ غريبة، ومرعبة.
يقرؤونها، ويثنون عليها، ولكنهم يتعجَّبون. إن فيها كلَّ شيء. أصالة الفكر الخارجية، وشكل الديباجة الباهر. وتظهر في القصائد جميع ملامح الانتماء إلى المدرسة الرائجة. غير أن شيئاً ما ينقص هذه القصائد.
أين هي المشكلة؟ أولئك هم أشباه البشر الذين ركبوا موجة الحركة الجديدة يتدرّبون.

■ ■ ■

أشباه البشر من الدرجة الدنيا أقلُّ حساسية.
إنهم ما زالوا يتلمّسون التراب ويتكاثرون، وبعددهم يسيطرون على الحياة.
همْ يحبّون كسْب الأشياء، وشتّى القِطَع المحسوسة القاسية والنقود.
هم لا يخزنون الأموال عن وعيٍ، مثلَ إنسانٍ راغب بالسلطة، وإنما بعنادٍ وبلادة، وَفقاً لغريزة امتلاك الأشياء.
وهم يأكلون كثيراً، ويتعاملون بجدّيّة كبيرة مع مختلف مسارات الحياة. وإذا ما قلت ذات مساء في مكان ما بين الناس: «إنني اليوم لم أتناولْ غدائي بعدُ»، رأيت كيف يستدير جميع أشباه البشر برؤوسهم نحوك.

■ ■ ■

شبيهُ البشر يحبُّ العمل. فالعمل غريزة فيه. وبالعمل وحده يستطيع الحفاظ على وجوده البشري، وهو نفسه يعمل ويرغم الآخرين على مساعدته.
إن فكرةً إبداعية واحدة تبرق لحظةً في رأسِ عبقري تنقل البشرية بضعة قرون إلى الأمام على تلك الطريق العملاقة التي يتوجَّب على أشباه البشر أن يتقدموا فيها بأرجلٍ غشائية، وأجنحةٍ ثقيلة، وتَلوِّي العلقيات، وجهدٍ لا نهاية له. إلا أنهم دائماً يسيرون في طريقٍ واحدة وراء الإنسان، وكلَّ ما يُلقي به العبقري إلى الحياة الدنيوية الخارجية يصبح مُلْكاً لأشباه البشر.

■ ■ ■

يتحرَّك شبيه البشر ببطء، ويستوعب بعُسْرٍ، وما كسَبه مرّة لا يرغب بالتخلّي عنه أو تبديله.
إن الإنسان يبحث، ويضلُّ، ويحزم أمره، ويسنُّ قانوناً هو خلاصة بحثه وتجربته.
شبيه البشر يخضع للقانون تماشياً مع الظروف. والإنسان يهدِم القديم، إذا وجد ما هو جديد وأفضل منه، فيما لا يتخلّص شبيه البشر ممّا هو مألوف إلا بعد صراع طويل. إنه الأخير دائماً على جميع المنعطفات في طريق التاريخ.
بينما يقرِّر الإنسان ويختار، يكدح شبيه الإنسان ويمالئ الظروف.