بابلو نيرودا

التقديم والترجمة: هنري فريد صعب

بابلو نيرودا"لقد سطع شعر بابلو نيرودا في سماء أميركا اللاتينية كما لم يسطع سواه. وهو مليء بالحب والعطف والاخلاص... أنا أنصحكم بالاصغاء الى هذا الشاعر الكبير في انتباه زائد". كذا كانت شهادة كبير شعراء اسبانيا فيدريكو غارثيا لوركا. وهذا السطوع وصل الى العالم العربي بقوة، ولاسيما إبّان انتشار التعاليم الاشتراكية في أوساطنا الثقافية والشعبية، ونشاط حركة النقل الى العربية لمعظم الاعمال الفكرية والادبية التي كانت تدور في فلكها، ومن بينها أعمال نيرودا بعد انتمائه الى صفوفها عام 1945. وكان تنامي هذا الكوكب الشعري في أربعة أطوار: الاول، طور "الغسق". فيه تبدو لهجته اصطلاحية في ثوب تقليدي. فنبرته على طرافتها كانت موقّعة على أوتار الكورس الادبي الذي شبّ عليه، حتى قال هو عن نفسه في هذا الطور: "ثمة أصوات غريبة تتداخل في صوتي". الطور الثاني، امتداد للاول من نواحٍ عدة (عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة). نكهة الشعر هنا قياسية وتأملية، والصور لا تأخذها فورة، وإنما تتلاحم في بناء منطقي، وفقاً للذوق الأدبي السائد. حتى ظهرت مجموعته "تجربة الانسان اللامتناهي"، فكانت محاولة انفصام عن الماضي. والواقع أن أهم هذه العطاءات تشكّل الطور الثالث: (راشف الحجارة الحمِس، الاقامة في الارض، في جزءيها الاول والثاني، الغضب والعناء، ومئة قصيدة حب). نحن هنا في حضرة نيرودا الحقيقي، نيرودا "الشاعر العجب"، الصفة التي اتفق عليها النقاد ومؤرخّو الأدب. نحن أمام شعر يقذفنا في دوار الزوبعة. صورة كبركان مائي في الجنوب الاميركي، تفرّ في حركات غامضة لا تستقرّ على حال. وعبثاً يبحث الناقد عن تحليل لها. إنها كقوس قزح، تفرض ذاتها. فالشاعر يغوص في بحر أحاسيسه، ليعوم قليلاً فيتنفس معنا. في هذا الطور، كما يتضح على الاخص في مجموعته "الاقامة في الارض"، يواجه نيرودا وجوده، ولكن في انفعال مغلق. لا تموضع يعانيه، لا خارج يحدّده. نبرته تقفز من الحزن الى القلق في أقنعة مسعورة، القلق الذي ينبع من رؤية حزينة للعالم والحياة: الموت، الألم، الفشل، العطش، الخواء، العبث، الرماد، الانسحاق، السقوط الدائم، والتفسّخ اللانهائي. وذلك من دون أن يسعى الى تحليل هذا الواقع، لأنه يجده في انحلال جاهز أمامه. ولهذا تكثر في قصائده صرخات الخيبة والضجر والقرف. أراد نيرودا كسوريالي، أن يصطاد الحياة العميقة. أن يُظهر ميوعتها الاختبارية، أن يخضع للضوء أنفاق اللاوعي المتشابكة. فعملية الشعر عنده، ألذّ من الفرح بقصيدة مكتسبة. والعالم حوله ممزّق، شنيع، ومغموس في الحداد، وما على الشاعر سوى الفرار منه. ولكن الى أين؟ الى الذات الواسعة، حيث استشفّ نيرودا مرايا محطمة وجلجلة انهيار، فتهاوى فوقها منبهراً، وجاءت كلماته أشبه بالرؤى أو الاشباح التي تجوس في الليالي السود، كلمات تخيف القارئ، كما أخاف العالم الشاعر، وتجعله يتنشّق الانقاض ويتذوّق جمال الفاجعة. فغرابة نيرودا هي في الانزلاق الداخلي، في الاختناق واللاتشكّل.لكنه وجد أخيراً طمأنينته في الحب والعقيدة. أما الحب فقد غنّاه في أكثر أشعاره حتى عُدّ شاعر الحب. الحب المكسوّ بالحنين والرغبة في تخطّي الحدود الجسدية. فالمرأة عنده صورة للعالم الذي أولع بمعرفته، صورة لأرضه التي يعشق. أما العقيدة فهي إطار الطور الرابع: (الجزء الثالث من الاقامة في الارض، النشيد الشامل، أناشيد أولية، إبحار وإياب...). في هذا الطور استيقظ في ضميره الحسُ السياسي، فأكسب صوته بحّة، الاّ في بعض قصائده مثل "ذرى ماكتشو بيتشو" في "النشيد الشامل". الزخم الغنائي البعيد المدى يتضاءل هنا، ليفسح في المجال أمام بلادة الخطابة والواقعية إذ إن الغنائية المنطلقة هي نبرة نيرودا الأقوى لا الملحمية أو العقائدية. لذا، نجده يسقط أحياناً في نثرية ثقيلة. إلاّ أنه برغم ذلك، يظل كشاعر عقيدة، أنجح الشعراء الذين غنّوا في ايمان عميق كي يسمعوا الجماهير. وفي ما يأتي، ترجمة قصائد له اخترتها من الطور الثالث، أي الطور الأجمل والأنقى.

الملفّ المضاد
اليمامة ملأى بأوراق بيضاء،
صدرها ملطّخ بالصمغ والاسابيع
وبالورق النشّاف الأكثر بياضاً من جيفة
وبالحبر المذعور من لونها المشؤوم.

تعال معي الى ظل الأدارات،
الى لون الرؤساء الشاحب الضعيف،
الى الأنفاق العميقة كالروزنامات،
الى الدولاب المنتحب ذي الألف صفحة.

سنفحص الآن العناوين والشروط،
الاعمالَ الخاصة والأرق،
العرائضَ ذات الاسنان الخريفية المقرفة،
وغضبَ المصائر الرمادِ والقرارات الحزينة.

إنها حكاية عظام مجروحة،
وظروف مرّة وثياب لا نهاية لها،
وجوارب رصينة فجأة.
الليل عميق، الرأس بلا عروق
يسقط منه النهار بغتة
مثل قنينة حطّمها البرق.

إنها الأرجل والساعات والاصابع
وقاطرة صابون منازع،
وسماء حادّة، من المعدن الرطب،
ونهر أصفر من الابتسامات.

كل شيء يتّجه نحو أطراف الاصابع الشبيهة بالزهور،
نحو أظفار كالبروق، نحو الاقلام الذابلة،
كل شيء يصل الى حبر الموت
والى فم الاصوات البنفسجي.

لنبكِ وفاة الارض والنار،
السيوفَ والعنب،
الجنس في سلطان جذوره القاسي،
مراكب الكحول المبحرة بين المراكب
والعطر الذي يرقص راكعاً في الليل،
وساحباً خلفه كوكباً من الورود المثقوبة.

لنسقط في عمق الاوراق،
لابسين بزّة كلب وفي الجبهة لطخة
لنسقط في غضب الكلمات المقيّدة،
في التظاهرات الميتة في عناد،
وفي الأنظمة المغلّفة بأوراق صفراء.

تدحرج معي في المكاتب، نحو الرائحة الغامضة
للوزارات والقبور والاختام.
تعال معي الى النهار الابيض الذي يموت
وهو يصرخ كخطيبة مقتولة.
وحده الموت
ثمّة مقابر وحيدة،
قبور ملأى بعظام لا صوت لها،
والقلب عابراً في نفق
مظلم، مظلم، مظلم،
نموت نحو الداخل كسفينة تبتلعها الامواج
كأننا نغرق في القلب،
كأننا نسقط من جِلْد الروح.

ثمة جُثث،
ثمة أقدام من ضريح بارد لزِج،
ثمة الموت في العظام،
مثل صوت صاف،
مثل نباح بلا كلب،
ينبعث من بعض الاجراس، من بعض القبور،
ويتضخّم في الرطوبة كالعويل أو المطر.

وحدي، أحياناً، أرى
أكفاناً ذات أشرعة
تنطلق بأموات صفر الوجوه، بنساء لهنّ ضفائر ميتة،
بخبّازين بيض كالملائكة،
بعذارى حالمات تزوّجن كتّاباً بالعدل،
أكفاناً تصعد نهر الموت العمودي،
النهر البنفسجي،
نحو العلاء، في اشرعة ينفخها صوت الموت،
ينفخها صوت الموت الساكن.

في رنين يصل الموت
مثل حذاء بلا قدم، مثل بزّة بلا رجُل
يصل ليدقّ الابواب بخاتم لا حجر له ولا إصبع،
يصل ليصرخ بلا فم، بلا لسان بلا حنجرة.
لكن خطاه ترنّ
وثوبه يرنّ، صامتاً كشجرة.

لا أعلم، أعرف القليل، وأكاد أرى،
لكنني أظن لأغنيته لون بنفسجات نديّة،
بنفسجات تعوّدت الارض،
لأن وجه الموت أخضر،
ونظرة الموت خضراء،
وله الرطوبة الناعمة في ورقة بنفسج
ولونها الوقور في شتاء ساخط.

لكن الموت يعبر العالم ايضاً مزوّداً مكنسة،
إنه يلعق التراب بحثاً عن الاموات،
الموت في المكنسة،
إنها لسان الموت الباحث عن الاموات،
إنها إبرة الموت الباحثة عن الخيط.
الموت في الأسرّة:
في الفُرُش الليّنة، في الأغطية السوداء،

إنه يعيش في استرخاء، وفجأة ينفُخ:
ينفخ بصوت غامض يملأ الأغطية،
وثمة أسرّة تبحر نحو ميناء
حيث الموت ينتظر في لباس أميرال.
فرس الأحلام
عبثاً أنظر الى ذاتي في المرايا
التي بطعم الاسابيع، وكتّاب التراجم، والاوراق،
أنتزع من قلبي ربّان الجحيم،
وأضع شروطاً جدّ حزينة.

أتيه من مكان الى آخر، أزدرد الاوهام،
أثرثر مع الطيور في أعشاشها:
إنها تغرّد غالباً، بصوتٍ بارد ومشؤوم
وتهرِّب الرّقى المؤذية.

في السماء بلد واسع
ذو بُسُط من قوس قزح خرافية
ونباتات مسائية:
الى هناك أتّجه، وليس بلا تعب،
أدوس أرضاً مقلوبة من القبور الجديدة،
أحلم بين تلك النباتات الكثيفة للبقول.

أعبر بين تلك المستندات المفرحة، بين الأصول،
في ثياب كائن غريب ومهزوم:
أحبّ عسل الاحترام المستعمل
والتعليم المسيحي العذب الذي تنام بين أوراقه
بنفسجاتٌ عتيقة أُغمي عليها،
والمكانسَ، ذات الاسعافات المؤثّرة،
التي في مظهرها، بلا شك، كابوس ويقين.
أهدم الوردة التي تُصَفِّر والقلقَ الفاتن:
أحطّم الاطراف المستحبّة: وأكثر ايضاً،
أراقب الزمن المتناسق، بلا مقاييس:
في نفسي مذاق يحزنني.
أيّ فجر أشرق! أي ضوء من حليب،
سميك وملزوز، وإصبعيّ، يحميني!
سمعت فرسه الأحمر يصهل
عارياً، بلا نِعال، ومشعّاً.
أطير معه فوق الكنائس
أعدو عبر ثكن العساكر المهجورة
وجيشٌ قذر يتبعني.
عيناه اللتان من أوكالبتوس تسرقان الظلمة
جسده الجرَسي يعدو ويعدو.

أنا في حاجة الى ومضة ضياء دائم،
الى قُربى مهرجان تتسلّم ميراثي.
فنّ الشعر
بين الظل والمسافة، بين الزخارف والعذارى،
وبائنتي قلب غريب وأحلام مشؤومة،
أشحب فجأة، تذبل جبهتي،
وفي حداد أرمل ساخط أطوي كل يوم من عمري،
آه، في كل ماء غير مرئيّ أشربه في خدر
وكل صوت أتلقّاه في ارتعاش،
أُحسّ العطش الغائب نفسه والحمّى الباردة نفسها،
وأُذناً تولد، وقلقاً غير مباشر،
كقدوم لصوص أو أشباح،
وفي قشرةٍ تمدّدية ثابتة وعميقة،
كخادم ذليل، كجرس ابحّ،
كمرآة عتيقة، كرائحة بيت وحيد
يدخله في الليل الضيوف سكارى،
وعلى الارض رائحة ثياب مرميّة، وغياب زهور
- لعلّها نوعاً ما أقلّ حزناً -،
لكن الريح في الحقيقة، بغتةً، الريح التي تجلد صدري،
والليالي الساقطة من مادة لانهائية في غرفتي،
وضجيج نهار يحترق تضحيةً،
كلها تطالب في حزن، بالنّبوئيّ في ذاتي
وصخب أشياء تنادي وما من مجيب
هناك، وحركة بلا هدنة، واسم مبهم ¶
من مجموعة: Residencia en la Tierra

النهار الثقافي
6 – 11- 2007