مارينا تسفيتاييفا شاعرة الكبرياء الجريح

ترجمة وتقديم ابراهيم استنبولي
(سوريا)

مارينا تسفيتاييفالكبرياء والحياء أختان توأمان،
من المهد، بوفاق، نهضتا.
"القِ الجبين إلى الوراء ! " أوصتِ الكبرياء.
"غُضِّ الطرفَ " هَمَسَ الحياء.
هكذا أنا أعيش
خافضةً العينين.
مُلقيةً للخلف الجبين حَياءٌ وكبرياء.

مَن يدري، لعل القدر شاء أن يقدّم لها بوريس باسترناك ذاك الحبل الذي سوف تكتشف فيه الحل الذي ينقذها من المهانة التي لم تعد قادرة على تحمّل وطأتها.. فحزمت أمرها وقامت بشنق نفسها بذات الحبل الذي أعطاه باسترناك لها لتحزم به حقيبتها يوماً ما عندما تم إجلاؤها أثناء الحرب. فكما لوأن الحبل قام بمهمة صوفية نوعاً ما لم تكن بالحسبان!
ولدت الشاعرة الروسية مارينا ايفانوفنا تسفيتاييفا في 8 تشرين أول من عام 1892 في موسكوفي عائلة البروفيسور في جامعة موسكو ومؤسس متحف الفنون الجميلة في العاصمة الروسي ايفان تسفيتاييف، والدتها م. أ. ماين، عازفة بيانومن أصول بولونية وألمانية ( توفيت عام 1906). وبسبب مرض والدتها بالسل كانت تسفيتاييفا مضطرة لقضاء فترة طويلة من طفولتها في إيطاليا، سويسرا وألمانيا. كانت تسفيتاييفا تتحدث اللغتين الفرنسية والألمانية بطلاقة. وفي عام 1909 استمعت إلى سلسلة محاضرات عن الأدب الفرنسي في جامعة السوربون.

تشكّل الشاعرة

بدأت الشاعرة نشاطها الأدبي في موسكومن خلال حلقة الشعراء الرمزيين، حيث تعرفت إلى بريوسوف1 الذي ترك أثراً كبيراً على شاعريتها المبكرة. ولم يكن أقل تأثيراً على تشكل الشاعرة ذلك الوسط الفني والشعري لبيت الكساندر فولوشين في القرم، حيث كانت تحل ضيفة بصورة دورية على مدى عدة أعوام.
صدر أول ديوان شعري لها تحت عنوان «الألبوم المسائي» عام .1910 وفي كتابها «معسكر البجع» 1917 تغنت بالحرس الأبيض..
لقد ظهر واضحاً النضج الإبداعي عند م. تسفيتاييفا في المجموعتين الشعريتين «الفراسخ» 1921 1922 و «الحِرفة» .1923 كما وتجلت شخصية الشاعرة الفريدة من خلال سلسلة من القصائد المكرسة لبعض الشعراء المعاصرين: بلوك، آخماتوفا، أوالمكرسة لشخصيات تاريخية وأدبية، دون جوان مثلاً، تلك الشخصية الرومانسية التي كانت صعبة الفهم على معاصريها، والتي تُماثِل فيها إلى حد ما بين شخصيتها هي ذاتها وبين أبطال قصائدها، وحيث يتم تعويض تراجيديا حياتهم الأرضية من خلال الانتماء إلى عالم الروح، عالم الحب والشعر.
إن أشعار تسفيتاييفا ذات الطابع الرومانسي والمبنية على موتيفات القهر والتشرد والتعاطف مع المنبوذين، تعكس الحياة الفعلية للشاعرة. ففي الفترة 1918 1922 كانت الشاعرة تتواجد مع الأطفال الصغار في موسكو، بينما زوجها سيرغي أيفرون يحارب إلى جانب الجيش الأبيض ( من هنا الأشعار المتعاطفة مع حركة البيض «معسكر البجع» 1917 1921.)

بعد روسيا

عام 1922 تسفيتاييفا تلحق بزوجها سيرغي أيفرون لتبدأ مرحلة الشتات في حياتها: برلين، براغ، باريس.. وقد عاشت هناك فقيرة لدرجة اضطرت أن تطلب يوماً من صديقتها التشيكية آنا تيسكوفا أن ترسل لها فستاناً لائقاً إلى باريس من أجل حضور سهرة أدبية!.
وقد تميزت فترة إقامتها في الخارج بعلاقة متوترة مع المهاجرين الروس، حيث كان للسادة النقاد في المهجر موقف عدائي تجاه أفضل إبداعها الشعري ومنه آخر مجموعاتها وهي على قيد الحياة «بعد روسيا» 1922 ,1928 ,1925 وكذلك «قصيدة الجبل» و«قصيدة النهاية» 1926 ومن ثم تراجيديا حول موضوعات قديمة «أريادنا» ,1927 والتي تم نشرها تحت عنوان «تيسيوس2» و"فيدرا".

نهاية الدرب

عام 1937 وبعد أن أصبح جاسوساً للمخابرات السوفياتية طمعاً في العودة إلى الاتحاد السوفياتي، هرب سيرغي أيفرون من باريس إلى موسكو، تلاحقه تهمة التورط في عملية اغتيال سياسي. بعد زوجها وابنتها اريادنا ( آلّي) عادت مارينا تسفيتاييفا عام 1939 إلى الوطن مع ابنها غيورغي (مور) حيث كان ينتظرها مصير مرير. إذ رغم أنهم لم يعتقلوا مارينا تسفيتاييفا ولم يقوموا بقتلها، إلا أنهم قاموا بإذاقتها أقسى أنواع العذاب النفسي.. ففي نفس عام 1939 تم اعتقال كل من الزوج والابنة. ليتم إعدام س. أيفرون في عام1941 ولتمضي ابنتها أريادنا 15 سنة من الاضطهاد قبل أن تتم إعادة الاعتبار إليها عام 1955 أما مارينا تسفيتاييفا ذاتها فلم تتمكن من إيجاد لا بيت ولا عمل، ولم يسمح بطباعة أشعارها.
ثم جاءت الحرب الوطنية العظمى. وعندما جاء بوريس باسترناك ليودِّع مارينا تسفيتاييفا قبل سفرها في رحلة الإخلاء فقد قدم لها ذلك الحبل « الغامض»: حاولت تسفيتاييفا أن تعمل في غسل الصحون في مطعم بيت الأدباء في مدينة تشيستوبِل حيث انتهت رحلة إجلائها.. لكن مجلس زوجات الأدباء رفض ذلك خشية أن تكون.. جاسوسة ألمانية. ثم سافرت إلى إيلابوغ، حيث راحت تغسل.. ثياب الشرطي المحلي! ولما بلغ الشعور بالمهانة حداً لا يطاق «اكتشفت» تسفيتاييفا على الأرجح سرّ الحبل الذي أعطاها إياه باسترناك .فانتحرت شنقاً بمساعدته لتفك بذلك لغزه التراجيدي.
دفنت تسفيتاييفا في مقبرة مدينة إيلابوغ في تتارستان في 2 أيلول من عام 1941
لقد تحول قبر مارينا تسفيتاييفا إلى مكان يحج إليه هواة الشعر الرفيع... وقد سبق وتنبأت الشاعرة مذ كانت فتية: «أشعاري، سيأتي دورها، كما الخمر المعتّق» ولم تخطئ. لكن دور أشعارها هذا لم يحن إلا بعد مماتها.

-1-

أشعاري ، التي كتبتها باكراً جداً،
لدرجة لم أكن أعرف أنني شاعرة،
التي خرجت، كما الرذاذ من النافورة،
كما من الصواريخ الشرارة.

التي اندفعت، كما الشياطين الصغيرة،
إلى المنارة، حيث الحلم والبخور،
أشعاري عن الشباب والموت
أشعاري التي لم تقرأ !

المبعثرة فوق الغبار في المكتبات
(حيث لا أحد اشتراها ولن يشتريها!)
أشعاري تلك، كما النبيذ المعتق،
سيأتي دورها.

-2-

واحد من أسلافي كان عازف كمان،
خيّالاً ولصاً مع ذلك.
أليس لهذا طبعي يميل للتشرد
وشعري يفوح برائحة الريح؟

أليس هو، الأسمر، يسرق المشمشَ
بيدي عن العربات،
المسؤول عن مصيري الملتهب،
أجعدُ الشعر وأنفه معقوف؟

وهو ينظر إلى الفلاح وراء المحراث،
راح يفتل العلّيق في فمه.
لقد كان رفيقاً سيئاً، حاذقاً
ورقيقاً كان العشيق!
هاوي الغليون، القمر والخرز،
وجميع الجارات الشابات...
ويبدو لي أنه كان جباناً،
ذاك السلف اصفر العينين.
أنه، وقد باع روحه بفلسٍ للشيطان،
لم يمشِ في منتصف الليل إلى المقبرة.
ويبدو لي أيضا، أنه كان
يحمل سكيناً في رقبة الحذاء،
وأنه قفز، أكثر من مرة،
من خلف الزاوية كما القطة بخفة...
ولسبب ما أنا فهمتُ
أنه لم يكن يعزف على الكمان!

وأن كل شيء كان بالنسبة له بخساً،
كما الثلج في العام الفائت صيفاً!
لقد كان سلفي مثل هذا عازف كمان.
هكذا أنا أصبحت شاعرة.

-3 -

لم أتقيد بالوصايا، لم أشترك في السر.
يبدو، طالما لم ينشدوا فوقي صلاة الوداع،
سأرتكب الإثم كما اَرتكِبُ كما ارتكبْتُ:
بشغف!
بما منحني الرب من حواس بكل الخمس!

أيها الأصدقاء! الشركاء! أنتم، يا مَن تحرقهم
الوساوس!
أنتم، الشركاء في الجريمة! أنتم، الأساتذة الرقيقون!
الفتيان، البنات، الأشجار، النجوم، الغيوم،
في يوم الحساب سنرد على الرب، أيتها الأرض!

-4 -

إلى بلوك 3

اسمُكَ طيرٌ في اليد،
اسمُكَ قطعةُ جليدٍ على اللسان.
حركةٌ واحدة وحيدة للشفاه.
اسمكَ خمسةُ أحرف.
كرةٌ، مُلتقطةٌ في الجو،
جرس فضيٌّ صغير في الفم.

حجر، أُلقيَّ في بركة ساكنة،
ينشج بما أنت تُسمى.
في فرقعة خفيفة لحوافر ليلية
يهدر اسمك عالياً.
ويلفظه لنا في الصدغ
زنادٌ يدوّي بقوة.

اسمك، آه، لا يجوز!
اسمك في العينين قبلة،
في صقيع لذيذ لأجفان متسمرة.
اسمك قبلة في الثلج.
بَلْعَةُ ماءِ زلالٍ جليدي أزرق.
مع اسمك النوم أعمق.

-5-

قبلةٌ في الجبين تمحو الهمَّ،
اُقبِّلُ الجبين.
قبلة في العينين تزيل الأرق.
أُقبِّلُ العينين.
قبلة في الشفاه تسقي الماء.
أقبل الشفتين.

قبلة في الجبين تمحوالذاكرة.
الجبين أقبل.

-6-

أيها الرفقاء اللطيفين
أيها الرفقاء اللطيفين،
يا مَن تقاسمتم معنا المبيت!
المسافات، المسافات، والكيلومترات،
والخبزَ اليابسَ...
هديرَ العرباتِ الغجرية،
الأنهارَ الهاربة القهقرى
هديرْ...

آه، مع الفجر الغجري، الباكر،
مع فجر الجنة
هل تذكرون ريح الصباح والمرج بلون الفضة؟
ضباباً أزرق على الجبل
وعن قيصر الغجر
أغنية...

في منتصف ليلةٍ حالكة،
تحت سطح أغصان قديمة،
نحن أهديناكم أطفالا رائعين
كما الليل،
أطفالا كما الليل فقراء...
وصَدَحَ بلبلٌ
المجد.

لم تبقيكم، يا رفقاء اللحظة الرائعة،
ولائمُنا المتواضعة ونعيمُنا الفقير.
كانت المواقد تشتعل بقوة،
وكانت النجوم تتساقط إلينا
على الحصير.

-7-

غنيٌّ أحبَّ فقيرة،
عالِمٌ أحبَّ غبية،
مورّدُ الخدين أحبَّ شاحبة،
طيّبٌ أحبَّ لئيمة:
أحبَّ الذهبُ قطعةَ نحاس.

أين، أيها التاجر، ترفُكَ؟
"في سلّة مثقوبة!"
أين، أيها المزهو، علومك؟
"تحت وسادة طفلة!"

أين، أيها الوسيمُ، وجنتاك الورديتان؟
"ذابت خلال ليل قاتم".

والصليب الفضي في سلسال؟
"تحت جَزْمة الصبية!"

لا تعشق، أيها الغني فقيرة،
لا تعشق، أيها العالم غبية،
لا تعشق، صاحبَ الخدود الحمر شاحبة،
لا تعشق، أيها الطيب لئيمة:
أيها الذهب لا تحب قطعة النحاس.

- 8 -

إلى بوريس باسترناك

المسافة: فراسخ، أميال...
أوقفتنا، أجلستنا كلاً على حدة،
لكي نتصرفَ بهدوء
في جهتين مختلفتين من الدنيا.

المسافة: فراسخ، رحابات...
فكّت عرانا، فرّقتنا،
باعدت بين أيدينا، إذ فكّت لحمتنا،
ولم تدرِ أن ذلك التحام
الإلهامات والأربطة...
لم يفسدوا بيننا، بل وسّخوا،
قسّموا...
جدار وخندق.

أسكنونا، كما النسور
المتآمرة : الفراسخ، الأقاصي...
لم تكّدرنا ارتبكوا.
في أحياء فقيرة من مختلف نواحي الأرض
وزّعونا، كما الأيتام.

أيٌّ هذا أي واحد آذار هذا؟
شتتونا كورق اللعب!

24 آذار 1925

9

(إلى روح س. يسينين)

...وليس شفقةً قليلاً عاش،
وليس مرارةً قليلاً أعطى،
كثيراً عاش مَن في أيامنا عاش،
كل شيء أعطى مَن أعطى أغنية.

1 فاليري بريوسوف: شاعر روسي 1837 1924 مؤسس الحركة الشعرية الرمزية.
2- تيسيوس : ملك أثينا . حسب الأسطورة اليونانية، عندما ذهب تيسيوس إلى كريت فقد ساعدته أريادنا إذ أعطته خيطاً يعينه على الخروج من المتاهة.
3 الكساندر بلوك من أقوى الأصوات الشعرية في روسيا في بدايات القرن العشرين.. وأحد أهم رموز الحداثة الشعرية في روسيا . (المترجم)

ملحق السفير الثقافي
24/08/2007