ناتاليا غينربورغ

نقلها إلى العربية : محمد صوف

ناتاليا غينربورغليس في آبروتزو أكثر من فصلين. الصيف و الشتاء. في الربيع يسقط الثلج و تهب الريح كما في الشتاء. و الخريف حار صاف كالصيف. يبدأ الصيف في يونيو و ينتهي في نوفمبر.. عندما تنتهي الأيام الطويلة الحارة في الهضاب الجافة، و عندما يغيب الغبار الأصفر و لا يصيب الأطفال إسهال، يبدأ فصل الشتاء.. عندئذ تتوقف الحياة في الشوارع، يختفي الأطفال الحفاة من درج الكنيسة..

في البلد الذي أتحدث عنه، يذهب كل الرجال تقريبا للعمل في تريني، في سولونا و في روما، هذا البلد بلد بنائين.. بعض البيوت هنا شيدت بذوق.. فيها شرفات و سواري كفيلات صغيرة.. و ما يثير الدهشة أنك إذا دخلتها تجد فيها مطابخ كبيرة حافلة بشرائح اللحم المعلقة في فضائها.. و غرفا واسعة قاتمة و فارغة. في المطابخ النار مشتعلة دوما.. أنواع كثيرة من النار.. نار من خشب البلوط و أخرى من أغصان الشجر و أخرى من الحطب و أخرى من أوراق الشجر التي يتم جمعها من الشارع.. من السهل أن تعرف الفقراء من الأغنياء من مجرد النار أكثر مما توحي به الملابس و الأحذية التي كان يتساوى فيها الجميع.

في البدء عندما جئت إلى هذا البلد، كانت كل الوجوه تتساوى عندي.. الفقراء و الأغنياء.. الشباب و المسنون. كانت أفواه أغلبهم خالية من الأسنان.. النساء في هذا البلد يفقدن أسنانهن في سن الثلاثين نتيجة الإرهاق و سوء التغذية و عسر الولادة و الرضاعة التي تتوالى دون توقف. ثم بدأت أميز بين فيتشانزينا و سوكوندينا آمونتزياتا و آدولوراتا.. و بدأت أدخل البيوت و أتدفأ بنيرانها المختلفة.

عندما بدأ الثلج يسقط لأول مرة، اعترانا حزن بطيء الإيقاع.. كان البلد منفانا . و كانت مدينتنا بعيدة. و بعيدة كانت الكتب و بعيدين كان الأصدقاء و الأحداث المتنوعة التي لا تستقر على حال في حياة حقيقية.

كنا نوقد المدفأة الخضراء ذات المدخنة العالية التي تخترق السقف.. كنا نجتمع كلنا في الغرفة حيث توجد المدفأة.و هناك كنا نطبخ و نأكل. كان زوجي يكتب على المائدة الدائرية الكبيرة و الأطفال ينثرون اللعب على الأرض. في سقف الغرفة رسم لنسر.. كنت أنظر إليه و أفكر أنه منفانا. النفي كان النسر و المدفأة الخضراء التي تلقي فحيحا.. النفي كانت الرفقة الطويلة و الساكنة للثلج. في الساعة الخامسة تدق أجراس كنيسة سانتا ماريا و تخرج النساء للتبرك .يرتدين خمرهن السود حول وجوههن الحمراء.. كل مساء، كنت أنا و زوجي نتجول .. كل مساء كنا نسير يدا في يد و نغرق أقدامنا في الثلج.. و في البيوت التي تمتد على جانب الطريق كان يقطن أناس معروفون و لطيفون.. كلهم كانوا يخرجون أمام أبواب مساكنهم و يقولون لنا .. بالصحة و العافية.. أحدهم سأل مرة متى ستعودون إلى دياركم ؟ و كان زوجي يرد .. عندما تنتهي الحرب.. و متى ستنتهي الحرب ؟.. قل لنا أنت الذي تعرف كل شيء.. أنت الأستاذ.. متى ستنتهي هذه الحرب ؟ كانوا ينادون زوجي بالأستاذ.. فقد كان يصعب عليهم نطق اسمه.. و كانوا يأتون إليه من كل فج عميق يستشيرونه في مواضيع مختلفة، يسألونه عن الفصل الملائم لاقتلاع الأسنان، يسألون عن المعونة الاقتصادية التي تمنحها المحافظة و عن الرسوم و الضرائب.

في فصل الشتاء يموت عجوز بإصابة في الرئة.. و تقرع أجراس سانتا ماريا نعيه.. و يعد دونيكو أوريكيا النجار التابوت، تجن امرأة و يأخذونها إلى ملجأ كوليمادجيو.. يتحدث عنها أهل البلد لزمن.. كانت امرأة شابة، نظيفة.. أكثر أهل البلد نظافة.. يقولون إن ما حدث لها بسبب إفراطها في النظافة.. في فصل الشتاء يولد توأمان في بيت جيجيتو دي كالتشيدونيو، ينضافان إلى التوأمين الذكرين الذين ازدادا قبل ذلك، فيثير الأب الصخب في المحافظة لأنهم رفضوا أن يمنحوه الإعانة لأنه، يملك قطعة أرضية فلاحية و بستانا كبيرا كمدينة، و بصقت إحدى الجارات على عين دوريا حارسة المدرسة،.. فأصبحت دوريا تجوب البلد واضعة عليها ضمادة ليؤدوا لها التعويض. كانت تقول إن العين جد رهيفة و البصقة مالحة.. هذا الحدث أيضا شغل أهل البلد زمنا إلى أن استنزف القيل و القال..

كان حجم الحنين يزداد كل يوم.. و كل مرة كان الحنين جميلا، كان رفيقا رقيقا يمنح قليلا من الانتشاء.. من مدينتنا وصلت رسائل تحمل أخبارا عن أعراس و عن مآتم كنا خارجها. أحيانا يصبح الحنين مرا و حادا و يتحول إلى كراهية.. كنا نكره دومينيكو أوريكيا و جيجيتو دي كانتشيدونيو و آمونتيزيانا و أجراس سانتا ماريا.. كانت كراهية خفية.. فقد كنا نعترف بكونها في غير محلها.. وكان بيتنا دائما يكتظ بالزوار الذين يأتون لطلب خدمة أو لعرضها.

أحيانا تأتي الخياطة و تعد لنا أكلة السانبيوكولي.. كانت تحيط خصرها بقطعة قماش و تحك البيض و ترسل كروتشيتا للبحث عمن يقرضها قدرا كبيرا. كان وجهها المحتقن دائم الغرق في التأمل و عيناها تلمعان بنوع من الإرادة الفياضة.. أوشكت مرة أن تضرم النار في البيت لتتوفق في الوجبات التي تعد.. يصبح ثوبها و شعرها أبيضين بالدقيق و على المائدة الدائرية حيث يكتب زوجي، تمدد العجين..

كانت كروتشيتا تشتغل عندنا في البيت. لم تكن امرأة بعد،، فقد كان سنها لا يتجاوز الرابعة عشرة. الخياطة هي التي جاءت بها إلى بيتنا.. هذه الخياطة تقسم العالم إلى فريقين. فريق يمشط شعره و آخر لا يفعل.. و علينا أن نحترس من الفريق الذي لا يمشط شعره فهو حتما مصاب بالقمل.. كانت كروتشيتا تمشط شعرها و لذلك جاءت بها لتعمل في خدمتنا، كانت تروي للأطفال حكايات طويلة عن الموتى و المقابر.. كان يا ما كان.. و حدث أن كان هناك طفل فقد أمه.. و تزوج أبوه من امرأة ثانية.. لم تكن زوجة الأب تحب الطفل.. فقتلته عندما ذهب والده إلى الحقل، و طبخته. عاد الأب في المساء و تعشى.. و بعد أن انتهى من الأكل بدأت بقايا العظام تنشد ..

زوجة أبي..
طبختني في قدر
جاء أبي جائعا
و أكلني في لقمة

عندها خنق الأب زوجته بحبل و علقها في مسمار أمام الباب.. أحيانا أجدني أردد هذه الأغنية، فأرى البلد برمته و أتذوق طعم الفصول و هبوب الرياح الباردة و قرع الأجراس..
كل صباح أخرج مع أطفالي فيندهش الناس و يستنكرون أن أعرض الصغار للبرد و الثلج.. أي ذنب ارتكب هؤلاء الصغار ؟ .. يقولون.. و يرددون.. ليس هذا وقت التجول.. عودي إلى بيتك..
كنا نسير عبر البادية البيضاء القاحلة.. و كان المارة القليلون الذين نلتقي بهم ينظرون إلى الأطفال بنوع من الشفقة .. و يرددون أي ذنب ارتكب هؤلاء الأطفال ؟
هناك. إذا ولد طفل في الشتاء لا يخرجونه من الغرفة حتى يأتي الصيف..
في منتصف النهار يلحق بي زوجي و نعود كلنا إلى البيت..

حكيت للأطفال عن مدينتنا.. كانوا صغارا عندما غادرناها و لا يحتفظون بأي ذكرى عنها. قلت لهم إن البيوت هناك تتكون من عدة طوابق.. قلت لهم إن البيوت و الشوارع هناك كثيرة و المتاجر جميلة.. رد الأطفال و هنا أيضا عندنا جيرو. كان متجر جيرو أمام البيت. و كان جيرو يجثم عند الباب كبوم عجوز.. و تجوب عيناه الدائريتان الشارع بكثير من اللامبالاة.. كان يبيع كل شيء.. المواد الغذائية و القناديل و الورق و الأحذية و البرتقال.. عندما كانت تصل السلع و يشرع في إنزال العلب يركض إليه الأطفال و يأخذون البرتقال المر الذي استغني عنه و رماه، و في أعياد الميلاد تأتي حلوى الفستق و الجوز و أنواع من الشراب و المعسلات، لكنه لم يكن يتنازل عن قرش واحد من الثمن الذي يطلب.

تقول له النساء : إنك رجل خبيث.. و يرد : الطيب يصبح مضغة سائغة في أفواه الكلاب.. و في أعياد الميلاد يعود الرجال من تيرني ، من سولمونا و من روما.. يقضون أياما ثم يرحلون بعد أن يكونوا قد ذبحوا الخنازير.. نقضي أياما لا نأكل فيها غير لحم الخنزير و مشتقاته و لا نتوقف عن الشراب.. ثم يعود صياح الخنازير يملأ الشوارع من جديد
في شهر فبراير يصبح الجو رطبا و تتجول عبر السماء سحب رمادية ثقيلة.. حدث ذات مرة أن تكسرت الميازيب عند ذوبان الثلج. و بدأ المطر يهطل على البيوت و أصبحت الغرف عبارة عن برك. حدث ذلك في البلد بكامله، لم يسلم بيت واحد من الماء. كانت النساء يفرغن سطول الماء من النوافذ و يكنسن ما تبقى عبر الأبواب. هناك من كان يذهب إلى فراشه بمظلة. قال دومينيكو أوريكيا إن ذلك كان عقابا على ذنوب ارتكبها أهل البلد.. دام ذلك لأكثر من أسبوع ثم اختفت آثار الثلج من السقوف. و قام آريستيد بإصلاح الميازيب.

عند نهاية فصل الشتاء، يستيقظ فينا نوع من الحزن.. قد يأتي شخص ما لزيارتنا. قد يكون شيء ما حدث أخيرا.. كان لابد لمنفانا من نهاية. و بدت الحياة التي نشارك الجميع فيها أقصر. و أصبح البريد يصل بسرعة أكثر.. كل الأمراض التي أصابتنا من جراء البرد بدأت تتلاشى.. كان قدر الرجال رتيبا و متشابها.. و كان وجودنا يسير وفق قوانين قديمة و قارة لا تتغير.. و الأحلام لا تتحقق قط.. و بمجرد ما تتكسر أحلامنا ندرك أن أفراحنا غير حقيقية.. و بمجرد ما تتكسر أحلامنا يغمرنا الحنين إلى ما مضى من الأيام.

مات زوجي في روما.. مات في سجون الملكة كويلي شهورا بعد أن غادرنا البلد.. أمام فداحة موته.. أمام الرعب الذي عشناه قبل موته، وجدتني أتساءل هل ما حدث، حدث لنا نحن الذين كنا نشتري البرتقال عند جيرو.. هل ما حدث، حدث لنا نحن الذين كنا نتجول في الثلج.. لقد كان آنذاك لدي أمل في مستقبل مريح و سعيد، حافل بالرغبات التي تتحقق و بالتجارب و الحياة العادية..لكن تلك الفترة التي عشناها كانت الأجمل في حياتي.. الآن فقط أدرك ذلك بعد أن استطعت النجاة..
الآن فقط عرفت .

القدس العربي
2012-04-11