واهمٌ من يظنُّ ذلك
تقتضيكَ حياةٌ كاملة في منزل
حتى تكون على صوابٍ وأنت تسميهِ بيتًا
تلزمك حِزَمٌ لا تحصى من أشعة الشمس
وأكوامٌ شتى من الظلال والظلمةِ
ولا بد لك أيضًا من الطواف الدائمِ
بين الحين والآخر
في أرجائه من الداخل
وبجواره من الخارج
لن يصير المنزلُ بيتًا ما لم تفتقدكَ أشياؤه حين تغيب
ويشدُّك الحنينُ إلى معانقتها وملامستها
والتحديقُ الجائعُ فيها
لن يصيرَ إن لمْ يؤرِّقك بريقُ ذكراها ليلَ نهار
ويحطك دفؤها في كلِّ حين
ولتتذكر دومًا أنك لستَ في حاجةٍ لأن تُحقِّق قدرًا من الثراء كيما تكدِّسَ الكراسيَ الوثيرة والطاولاتِ اللامعةَ،
ثم تسميه بيتًا
ليس بيتًا ذلك الذي شيّدته فبدا وكأنه قصرٌ لملك،
حتى تسكنه روحك، وحتى تُغلِّفَ أنفاسُك أشياءَه وجدرانه.
البيتُ ليس ذلك المكان الذي امتلأ باللآلئ والمجوهراتِ
وكل الأشياء الميتةِ التي يُسميها الناسُ نفائس
ولكن البيتَ هو المكانُ الذي يعلو فيهِ ويهبطُ نَفَسٌ حيّ
حيثُ ارتفعتِ الجدرانُ
كيما تحوطَ طفلًا يُولد
وحيثُ ارتفعَ السقفُ ليُتيحَ لذلك الطفلِ أن يشبَّ
ويصيرَ رجلًا عظيمًا أو امرأةً عظيمة.
وحيثما تجد نفسك وقد صرت جزءًا لا يتجزّأ منه
مثل غصنٍ يزدهرُ في موضعه من الشجرة،
وإصبعٍ تقوى في قبضة اليد.
البيت هو المكانُ الذي يحوي كلَّ ما تناولته يدُك بالاستخدام
ونمتْ محبته في قلبك؛
المقاعد العتيقة،
دمى الأطفال وأوّل ما لامستهُ أقدامُهم من الأحذية،
المطرقةُ، ومجرفة الحديقة،
مزلاج البابِ وأصيص الزهر،
أعشاشُ العصافير في الشقوقِ التي أهمل البنّاءُ إغلاقها بإحكام،
حَجَرةُ الباحةِ التي طالما اتكأتَ عليها وقد أدركك التعب
أو امتطاها بنوك على أنها مهرةٌ مجنّحة،
الملاعقُ والأطباقُ والمكنسة الهرمة،
الفنجان الذي صار دونما مقبض،
أكرَة الباب الملساء وصنبور الماء السائب،
وقنديل الركن المكسور الغطاء.
البيتُ هو المكانُ الذي يحوي كلَّ تلك الكنوز،
ويحفظ فيما يحفظ بصماتِ الأصابع على الأبواب والأركان.
وحتى يصير المنزلُ بيتًا،
لا بُدَّ لك أن تبكيَ وأن تتنهدَ بحرقةٍ كلما نظرتَ في سرير محبوبتك
وما جاوره، واسترجعتَ تلك الذكرى حين داهمته ظلمة الموت،
وامتدتْ في السكون لتطفئ عينيها الباسمتين،
وتخرسَ صوتها الرقيقَ العذب؛
تلك المشاهدُ التي تمزِّقُ أوتار القلب
وتتيبّس من أجلها دموعُ العين،
هي ما يجعل المنزلَ بيتًا،
بيتًا حقيقيًا ومقدّسًا بما يشدُّك إليه من ذكرياتٍ حبيبةٍ
لا تمحى ولا تزول،
ولا تستطيع منها مهربًا.
أعوامٌ من الرقصِ والغناء،
وأعوامٌ من صخبِ الأطفال وألعابهم
تلزمك لكي تسمي منزلك بيتًا….
ولا بُدَّ لك أيضًا أن تتعلم كيف تتقنُ محبةَ ما يلامسُ يديك كل يومٍ فيه؛
الورودُ المجاورةُ للنافذة لا بُدَّ أن تتبرعمَ عامًا فعامًا
مذكرةً إياك بعزيزٍ ما، اعتادَ أن يُحبها
وإن لم تتمكنَ من إطلاقِ غزالٍ في الحديقة ينطُّ مع بزوغ أشعة الشمس الأولى؛
فلا بأسَ بقطةٍ تموءُ وتسحرك بتحديقها في وجهك،
أو زوج حمامٍ يُردِّدُ على مسامعك الهديلَ صباحَ مساء.
ثم ماذا؟
أيجدرُ بي ألّا أذكرَ شيئًا أخيرًا؟
ما لم يكن في قلبك متسعٌ لحبِّ كلِّ آجرَّةٍ فيه
وكلِّ قطعةِ حجرٍ بدءًا من أوّلِ حَجَرةٍ في مخزن الغلال
مطمورةٍ في صمتِ أساساته، وحتى آخر قطعةٍ تستقبلُ العصافير والمطر
وتفتحُ صدرَها للريح في قمته،
فأعلم أنك غيرُ جدير بأن تتشدَّقَ وتقولَ: «هذا بيتي»َ
القدس العربي- نوفمبر 2016