منتخبات من الشعر الأسباني المعاصر
(ما بعد الحرب الأهلية إلى اليوم)

انتخبها و ترجمها: عبدالهادي سعـدون

(العراق/أسبانيا)
ahsadoun@hotmail.com

ما بعد الحرب الأهلية إلى اليومنادراً ما نجد ترجمات عربية متكاملة عن الشعر الأسباني المعاصر، باستثناء الترجمات المتعددة لشعراء معروفين مثل لوركا وألبرتي وماتشادو، ولكن نقل جديد مختلف لأسماء شعرية معاصرة وبمنتخبات شاملة ولأكثر من صوت شعري تكاد المكتبة العربية تفتقر لها. أذكر هنا واحدة من أوائل المنتخبات من الشعر الأسباني المعاصر المنقولة إلى العربية عن وسيط لغوي آخر (الفرنسية)، حيث كانت مفاجئة للأوساط الثقافية أن تجد ثراء آخر وأصوات متميزة غير التي تحفظ لها وتستشهد بأسمائها.وكذلك الترجمات المتفرقة(التي لم يضمها العربية، اعتقادنا) لمترجمين مختصين بالآداب الأسبانية.بينما نشط في الآونة الأخيرة النقل إلى العربية، كتب بأكملها لأسماء معاصرة، ولأسماء و مترجمين جدد.
من المعروف إن الشعر الأسباني المعاصر لم ينتشر ويخرج عالمياً سوى في ظرف العشرين سنة الماضية، وبالأخص بعد انتهاء حكم فرانكو، وأسبابه عديدة لا مجال لذكرها، غير إنني ملزم بالتأكيد على المناخ الثقافي الجديد وفرص الإطلاع على نموذج الآداب العالمية الأخرى، وهي الفرص التي ساعدت على شيوع التجديد والتجريب في الأدب الأسباني، وإن جاء متأخراً عن الآداب الأوربية، والمتوسطية على وجه الخصوص.
المتتبع لحركة الشعر الأسباني المعاصر، يلمس تنوعاً تجريبياً وتداخلاً ضمنياً بين الأساليب والرؤى الشعرية وطرق نقلها وتفصيلها، حتى إن الجيل الأدبي الواحد(أو ما يصنف على هذا الأساس) يرتبط تنوع الأصوات و اختلافها بالتجربة الشخصية والإطلاع والتأثر سواء الداخلي أو الخارجي.
نلاحظ كذلك بأن أغلب الشعراء الأسبان كانت تحدوهم رغبة للحاق والمواصلة على الأقل مع النموذج القريب، ونعني به الشعر الأميركي لاتيني (لغويا على الأقل، الأسبانية كمحدد مشترك)، وكذلك محاولة التفرد والتميز عن النموذج الأوربي الآخر(تواجداً جغرافيا)، الذي شكل بتنوعه ونماذجه الرئيسية بؤرة جذب تقليدي أحياناً، ومتابعة وتداخل تام في أحيان أخرى.
من هنا نرى إن الشعر الأسباني المعاصر (ما بعد الحرب الأهلية الأسبانية) قد تمثل بقدر وآخر التجربة الأسبانية العريقة ابتداء بنماذج شعراء القرن الوسيط حتى مـوجات الحداثة في القرن التاسع عشر، دون أن يلغوا كثيراً مسألة التداخل والتجريب والمعاينة مع النموذج الشعري العالمي.وهكذا في انتقاء نماذج تامة منذ الأربعينات إلى اليوم، ستجعلنا نقرأ مختلف المدارس والأساليب من الرومانتيكى حتى السوريالي إلى آخر موجات التجريب، رجوعاً إلى شعر الحياة أو اليومي كما يطلق على آخر نماذجه الشعرية، بشهادة أوكتافيو باث نفسه.
جاءت تجربتنا هذه بنقل نماذج شعرية معينة لشعراء آخرين رأينا بترجمتها أن يكتمل على الأقل عينة عن المشهد الشعري الأسباني المتكون مع أواخر الأربعينات حتى نهاية الثمانينات، مع تصرفنا بانتخاب الأصوات المناسبة والمهمة داخل المشهد دون غيرها.

*****

كارلوس بوُسونيو

Carlos Bouso?o

كارلوس بوُسونيوكارلوس بوُسونيو:ولد عام 1923 أصدر طوال حياته أكثر من سبعة دواوين شعرية وأكثر من كتاب نقدي، أول كتبه صعود إلى الحب 1943 وآخرها المطرقة في السندان 1996، وقد جمع أعماله الشعرية في مجلد واحد بعنوان ربيع الموت أصدره عام 1999.

النظرة الجديدة

إمنحني يدك، أيها الوجع،
إمنحني يدك، أيها الألم، صديقي القديم،
إمنحني اليد من جديد، وكن رفيقي مرة أخرى،
مثلما كنت لمرات عديدة في الظلمة الساحمة.
مضت النوارس في السماء
لطخن البحر بسواد العاصفة المقبلة.
ابسط يدك أكثر، لأنني أعلم الآن
ما جهلته حينذاك. أستطيع أن أستقبلك دون ضغينة
و دون تأنيب. أتقبل زيارتك الغامضة.

لأنك في عيني، أيها الألم، الوجع،
تمارس انشغالاتك الدقيقة.
و حيث تصوغ مهارتك،
براعة الصائغ الذي لا مثيل له.
هناك
تخزن خلاصك حتى الختام،
تبصم فوق المذبح رقتك المفرطة،
تفاصيلك اللذيذة،
ومنتصف ليل المعجزة
تطلق ببط ء جوهرتك الدقيقة
إلى السماء،
استعراضك الذهبي
المصاغ بلا عجالة،
الحقيقة المتراكمة التي ترتبها بعد حين
في نظرتي الجديدة.

مثل الآن تماماً، بعد انهماكك في الكهف الغائر،
في الستر المخفي إذ أقاسي حمى صنيعك.

مثل الآن تماماً
أستطيع أن أنظر
خلف العالم المألوف، عالمُ يغلي،
و يستشيط لهب الألوان خلف رمادي مألوف،
خلف الظلمة يتشكل الضوء،
تتدور
الزهرة، يشعً القرمزي المنتعش
بل هناك الكثير،
خلف الظهور الشذي، إذ يرى بشكل آخر،
يشف نحو أزليته،
مثل بلدٍ جديد.

بلدٌ جديد، ساكنٌ في الضوء،
خلف ظلام ليلي المهتز.

***

كنتَ هـناك

كنتَ في الوضوح،
حيث تعلمتَ
نصف حقيقتك.
والنصف الآخر
تعرفت به
في الظلمة.
هناك،
في القاع الأشد عتمة،
كنتَ
هناك.

***

لـن أغـنـي

لن أغني، كلا أيها الحزن
لا أستطيع،
لن أغنيها
لأن السعادة تصعدني
في موجة وحيدة
و تسلبني.
تحملني من الأرض
فأمضي كحلمٍ بلا ضفاف.
أعيشُ في هواء شفاف
وأحتك بالريح و الجبال.
مَنْ يراني عندما أهذي
و كيف يعلنُ ضوء الفجر،
طارقاً نقطة السماء الضيقة
صفائها الضيق الرقيق.
أتراني أشجعُ الغابات النقية
و أهمسُ بين القصب ؟
صوتٌ وحيدٌ، أنا
أقول للنباتات الخضر:
، يا لأغصانها الطرية.

****

خوسيه إييرو

José Hierro

خوسيه إييروخوسيه إييـرو: مدريد 1922، له تأثير كبير في الشعرية المعاصرة.حصل على أغلب جوائز الأدب في أسبانيا، آخرها جائزة ثربانتس عام 1998. له أكثر من 15 كتاباً شعرياً، من بينها:أرض دوننا 1947، تماثيل ميتة 1955، كم أعرف عني 1974 وآخرها دفاتر نيويورك 1998.

أرض دوننـا

تركونا منتصف الطريق
بين خيوط الضوء، مضينا كالعميان.
نحنُ طيور مارقة، غيوم صيف مرتفعة
متشردون أزليون.

ناسٌ سيئون يمضون منشدين في الحقول
و مع أن الطريق وعرة
و قاسية هي الأزمنة،
فقد غنينا بأرواحنا
إذ لا يوجد رجل وحيد
يدرك منطق غنائنا الحي.

نحيا و نموت،
ميتة و حياة الآخرين
وعلى ظهورنا يضطجعُ العديد من الموتى.
صوت عميق يأمرنا أن نثرثر قليلاً
مثلما ماتوا جميعهم،
فقد عاش طرفة عين،
مُحرقين بجنون
الحياة التي لم يحيوها أبداً.

أنهار غاضبة،
أنهار راكدة،
أنهار وامضة.
(ولكن لا أحد يقيسنا من الأعماق، بل بأفقية)
نعضُ الضفاف، ندمر السدود
يقولون أننا نمضي كالعميان.

ولكننا نعيش
مياهنا تحتضن عطر الميتة،
و حيوات الأحياء و الميتين.

و الآن لتروا إذا ما كان مفرحاً
أن تعلموا بيقينٍ مؤكد
أننا ولدنا من أجل هذا.

***

خريف

خريفٌ بيدين ذهبيتين.
رماد ذهبي، يداك، تركتا الطريق ليسقط.
تعود الآن للمشي في دروب عتيقة
و جسدك مزنر برياح كل العصور.

خريف، بيدين من ذهب:
بغناء بحرٍ مضطجع في صدرك اللانهائي،
دون سنابل أو أشواك تجرح الصباح،
بفجرٍ يبلل سماءه بأزهار من خمر
كي يمنح سعادة للذي يعرف أن يعيش.

جئتُ من جديد،
بالدخان والريح والغناء والموجة المرتجفة،
في قلبك الكبير، المحترق.

*****

آنخل غونثاليث

Angel Gonzalez

آنخل غونثاليثآنخل غونثالث: ولد في مدينة أوفييدو 1925، درس القانون، وأقام في الولايات المتحدة مدرساً في جامعاتها. يعتبر أهم شاعر شكل حلقة وصل ما بين شعراء الخمسينات والستينات. أول ديوان له يحمل عنوان عالم خشن ظهر عام 1956، ثم تليها: بلا أمل 1961، درجة أولية 1962، وعود أو أقل 1985.حاز على أهم جوائز أسبانيا الشعرية، آخرها جائزة أمير أستورياس للآداب 1985.

زمـن آخـر يجـيء


زمن آخر يجيء مختلف عن هذا.
وأحدهم سيقول:
" قلت سوءاً،
كان عليك أن تقص حكايات أخرى:
آلات كمان تتوتر باسترخاء
في ليلة متضمخة بالعطر،
كلمات مدهشة، مصنفة
للتعبير عن حب غير مشروط،
حب يعبر عن الأشياء كلها."
ولكن اليوم،
عندما يصبح ضوء الفجر
مثل زَبد قذر
ليوم بلا فائدة مقدماً،
أنا هنا،
النعاس، الضجر والقلق
أناشيدي المهزومة
ولكني أغني،
كل ما فقدته،
من أجله أموت.

***

قصيدة أو أقل من قصيدة

ـ التوافقي

عندما كنت شاباً
أردت أن أعيش في مدينة كبيرة.
عندما أضعتُ شبابي
أردت أن أعيش في مدينة صغيرة.
الآن،
أريد أن أعيش.

ـ شـفـق
لم يكن حلماً
ذاك الذي رأيت:
هو الثلج
و يشتعل.

*****

خايمه خل بيّدما

Jaime Gil de Biedma

خايمه خل بيّدمـاخايمه خل بيّدما:برشلونة(1929 ـ 1990)، أصدر أصدر ثلاثة دواوين هي:تبعاً لحكم الوقت1953، رفاق الرحلة1959، فضائل1966، وتقف بعدها عن النشر، ليعيد نشرها في كتاب واحد هو أشخاص الفعل عام 1975، ترجم وكتب في النقد والسينما أيضاً.

السقف

/الواحد منا يعيش بين ناس وجهاء.
بينهم مَنْ يتحدث/
عن السقف، ومعضلاته
الشيء نفسه وكأنه إبن عمه
ـ و قريب جداً، أيضاً.

حسن يبدو أن السقف
بخطر حقيقي. لا أحد يعلم تماماً
لماذا يحصل له هذا، ولكنهم يتحدثون فيه.
أحدهم يحكي عنه منذ عشرين عاماً.

وهناك من يتحدث أيضاً، عن العدو:
كائنات مفرطة بخوفها،
تتجول في كل الأمكنة، ويُلمِحونَ
لغبار الحجرات، بالشيء ذاته.
وهناك من يقيم دعائم
كي لا يسقط: هم ناس حذرون.
(شيء غريب، ففي الإنكليزية كلمة scffold تعني
في الوقت عينه، دعامة و عمود مشنقة.)

أحدهم يخرج إلى الشارع
و يقبل فتاةً أو يشتري كتاباً،
يتجول، سعيداً. ولكنهم يصعقونه:
كيف تجرؤ ؟
و السقف … !

***

موعظة العائلة

كم أنت ممتن لي يا أبي،
ترافقني بكل هذه الثقة
التي صنعها موتك بيننا نحن الإثنين؟

أنت لا تستطيع أن تمنحني شيئاً
وأنا لا أستطيع أن أمنحك شيئاً
ولهذا تفهمني تماماً.

***

إنشغالاتي

ليس لي، هذا الوقت.
و إن كان لي نبض العصافير
خارجاً، في الحديقة،
فيضهُ في الأوراق الصغيرة،يحركني
مثل الألفة.
ولا يقول الشيء نفسه الآن.
أستيقظُ
كمن يسمع شهيقاً فاحشاً. و لأنها قد أشرقت.

تشرقُ يوماً آخر لا أكون فيه مدعواً
ولا للحظة سعيدة.ولا أيضاً للحظة ندم،
و حتى لا أكون عتيقاً
" إيه يا ربي، إمنحني
قوة و شجاعة "
تدعوني في الحقيقة لأندم
بما تبقى من الصراحة.
الآن لا شيء أخشاه أكثر من إنشغالاتي.

شيء ما أتذكره عن الحياة،
ولكن أين تكون.

***

عن الحياة الرائعة

في بلدٍ عتيق لا يوصف
شيء مثل أسبانيا بين حربين
أهليتين، في بلدة قرب البحر،
تملك بيتاً، ما يكفي من المال
و ذاكرة معدمة. لا تقرأ
لا تعاني، لا تكتب، لا تدفع الفواتير
و تعيش كنبيل محطم
بين خرائب فطنته.

***

أغنية ختامية

الأزهار الورقية ليست حقيقية
و تحرق
مثل جبهة متأملة
أو لمس طبقة جليد.

الأزهار الورقية، في الحقيقة
تشتعل أكثر قرب الصدر.


إقرأ أيضاُ