هذه الفقرات المترجمة هي من نسخة فرنسية بعنوان :(contre les po'tes) للكاتب البولوني Witold Gombrowitz (1904 -1969) ويعد (غومبروفيتش) اليوم من كبار كتاب القرن العشرين. ومعروف عنه أنه أمضى فترة طويلة من حياة المنفى في الأرجنتين. ثم عاد إلى الوطن وهو في سن الخامسة والستين. وتدور أعمال هذا الكاتب كلها حول نقد المظاهر والأشكال الخارجية المحكومة بالفجاجة وعدم النضوج. ومن غرائب ما يروى عنه أنه كان شديد النفور من ارتياد قاعات المسرح، برغم تأليفه لثلاث مسرحيات منها مسرحيته الشهيرة (زواج). وقد تأثر به العديد من الكتاب المعاصرين، من بينهم الكاتب الشيكي (ميلان كونديرا).
'كل الناس تقريبا لا يحبّون الشعر. وعالم الشعراء عالم خيالي ومغلوط. لا شك أن هذه الثيمة حاملة لأوجه المبالغة، ولكني أعترف بأن الشعر لا يروقني، بل يضجرني قليلا. ربما باعتبار جهلي بأمور الفن وبأنني أفتقر إلى الحساسية الشعرية. لكن حينما يبرز الشعر ممزوجا بعناصر أخرى أكثر طراوة ونثرية كدراما (شكسبير) وكتب (دوستويفسكي) و(باسكال) فإنني أقشعرّ كأيّ كائن فانٍ ملبوسٍ بحقيقة الموت. وإن ما تستحمله طبيعتي بصعوبة هو تلك الخلاصة الصيدلية التي يسمونها ( الشعر الخالص) وخاصة حينما يكون موزونا. إن غنائيته الرئيسة تتعبني وإيقاعاته وقوانينه تغرقني في السبات. ناهيك عما تعكسه من فقر في النبالة. لذا فقد تدهشني كلمات من قبيل ( ورود، حب، ليال، ليلك..) وإني لأتهم أحيانا كل هذه الصيغ من التعبير وهذه الجوقة الاجتماعية التي توظفها بأنها تحمل في أعطافها نقصا وعيبا. وقد كنت أعتقد في البداية أن الأمر يتعلق بقصور في إدراكي للحالة. ولكنني صرت أفكر تدريجيا في جدية هذه الصيغ التي تستبد بقابليتنا في التصديق. فليس ما يكفل التوجيه كالتجربة. ولقد عثرت على بعض التجارب التي تعكس سمات الغرابة. كأن تقرأ قصيدة، وتقوم بتغيير متعمد لنظام القراءة بما يقارب العبث، دون أن يتمكن أحد من السامعين المرهفين المتعصبين للشاعر من إدراك الأمر. أو أن تحلل بالتفصيل قصيدة طويلة وتستنبط باستغراب أن هؤلاء المعجبين لم يقرؤوها كاملة. كيف يصير الأمر ممكنا أن تعشق شخصا بهذا القدر دون أن تقرأه.
إنه لا يمكن بالنسبة لمن يحب التدقيق الرياضي للكلمات أن يغفل عن التحول الجوهري الذي يلحق نظام العبارة. ذلك أن تراكم المتع الخيالية ومظاهر الإعجاب والتلذذ تنهض على ميثاق من الإدراك الضمني المتبادل. فحينما يعلن بعضنا أن شعر (فاليري) يطربه، فمن المستحسن أن لا نحاصره بأسئلة موغلة في الخصوصية. ذلك لأننا نميط اللثام عن حقيقة مقدسة بقدر كبير وشديدة الاختلاف عن تلك التي تجعلنا نعتقد أننا سنغدو منزعجين بسببها.
إن من يترك لحظة توافقات اللعب الفني يصطدم في التوّ بحشد من الأخيلة والتهويمات. كما هو شأن الذهنية المدرسية التي قدر لها أن تفرّ من المبادئ الأرسطية. ولقد وجدتني إذن في مواجهة المشكلة التالية: آلاف من الرجال يكتبون شعرا، وآلاف مضاعفة يظهرون لهم الولاء والإعجاب الشديد. فأولئك عباقرة عظام يعبرون بالأشعار منذ أزمنة مخلدة. وفي مقابل ذلك الجبل من المجد يجتاحني الاعتقاد بأن الرسالة الشعرية كانت تبحر في الفراغ المطبق. فلتتشجعوا أيها السادة.
بدلا من أن تهربوا من هذا الواقع المثير. ولتحاولوا البحث عن الأسباب، فالأمر يبدو اعتباريا. لماذا لا أحب الشعر الخالص؟ ولنتأمل لفظة (الخالص). إن السكر يكون لذيذا حينما نتناوله في القهوة، ولكن لا أحد يمكنه أن يتناول طبقا من السكر. وفي الشعر فإن الإفراط يتعب. إفراط الشعر وإفراط الكلمات الشعرية، وإفراط الاستعارات وإفراط النبالة، وإفراط التخليص والتلخيص الذي يجعل البيت الشعري مشاكلا للنموذج الكيميائي.
كيف قادنا ذلك إلى هذه الحال؟ حينما يعبّر الإنسان بشكل طبيعي أي من خلال النثر، فإنّ لغته تعانق تشكيلة لا متناهية من العناصر التي تعكس طبيعتها بشكل تام. ولكن ثمة شعراء يسعون إلى شطب كلّ عنصر غير شاعري من اللغة الإنسانية. تدفعهم في ذلك الرغبة في الغناء لا الكلام. وحينما يثبت مثل هذا الفعل التقليصي والإقصائي على امتداد العصور فإن التركيب الذي ينتهي إليه يكون في غاية التمام. بحيث لا تبقى سوى بعض الملاحظات، ومنها أنّ الرتابة تجتاح بالضرورة مجال الشاعر الأجود. فيصبح أسلوبه خلوا من الطابع الإنساني، وتغدو مرجعيته مجرد حساسية احترافية مخالفة لحساسية الإنسان الجمعي. وبين المحترفين ينبثق خطاب هو كذلك متعذر البلوغ كشأن بعض اللهجات التقنية. وهكذا يتسلق بعض أظهر بعض حتى يشيدوا هرما تتلاشى قمته في السماوات. بينما نظل نحن عند الأقدام حائرين. لكن الشيء الأهمّ هو أنهم يصبحون جميعا عبيدا لأداتهم. ذلك لأن هذا النوع هو أشد صلابة وأبلغ دقة وأكثر قدسية، ويحظى بالاعتراف والتقدير إلى درجة أنه لا يقف عند كونه مجرد صيغة تعبير. يمكننا إذن أن نعرّف الشاعر المحترف بأنه كائن لا يعبّر، لأنه يعبّر بالأشعار! ولكم صرّحنا بأن الفن هو عبارة عن مفتاح. وبأن من الشعر ما يتمثل في الحصول على متوالية لا نهائية من السمات الخلافية التي تتحدد انطلاقا من عناصر معدودة. ومثل هذه البراهين لا يخفي ظاهرة أساسية، وهي أن آلة صنع الأشعار هي كأي آلة، بدلا من أن تخدم صاحبها تصبح غاية في ذاتها. والتصرف تجاه هذه الحالة من الأشياء يبدو أكثر تبريرا إذا ما قسناه بمحاولات أخرى. وذلك لأننا نجد أنفسنا في حقل الإنسانية بامتياز. فثمة شكلان أساسيان للإنسانية متعارضان بشكل تام. الأول نستطيع تسميته بالشكل (الديني) الذي يجعل الإنسان يركع على قدميه أمام العمل الثقافي الإنساني. والثاني هو الشكل (العلماني) ويحاول أن يستعيد ملك الإنسان إزاء آلهته وربات إلهامه. ولا يمكننا سوى أن نتجنّد لمواجهة الاستغلال الممارس في كلا المظهرين. وإن تصرفا من هذا القبيل يمكن تعليله اليوم بقدر كبير. حيث إنه يتعين من وقت لآخر أن نوقف الإنتاج الثقافي لأجل أن نرى ما إذا كان ذلك الأمر الذي نقوم بإنتاجه مازال يتوفر على ارتباط معين بهويتنا.
وإن الذين حالفتهم فرصة قراءة بعض نصوصي حول الفن يمكنهم أن يفاجأوا بهذه الأقوال. بحيث إنني أبدو ككاتب عصري صعب الشكيمة و معقدا وربما مزعجا أيضا. ولكن وليكن ذلك الأمر واضحا، إنني لا أزعم أنه يتعين ترك الكمال الذي بلغناه من قبل، ولكنني أعتقد بأن هذه الارستقراطية الهيرميطيقية للفن يجب أن تكون بطريقة أو بأخرى مقلقة. فكلما كان الفنان أكثر رهافة كان عليه أن يعمل حساب الأشخاص الذين هم أقل منه استشرافا للرهافة. وكلما كان مثاليا كان عليه أن يكون واقعيا. وهذا التوازن الذي يستند على الاختزالات والتقابلات هو القاعدة لكل أسلوب رفيع'.
القدس العربي
12/01/2009