("مختارات من الشعر الأرمني عبر العصور ")

كوليت مرشليان

"مختارات من الشعر الأرمني عبر العصور "الشعر الأرمني عبر العصور" موضوع استقطب الدارسين والنقاد في العالم في أطر مختلفة، وفي تجارب عديدة. وترجم هذا الشعر الى لغات متنوعة ومنها العربية، وليس الشعر الارمني محط انظار الباحثين لجمالياته وحسب انما لارتباطه بارث ثقافي وحضاري عميق وبعيد زمنياً، منذ اختراع الأبجدية الأرمنية المكونة من 36 حرفاً على يد ميسروب ماشطوتس عام 404 وتفرعها واستقلالها من عائلة اللغات الهندو اوروبية، وانطلاق الشعر مع اللغة التي رست على قواعد واضحة وايضاً ما قبل تلك المرحلة حيث ان اللغة الارمنية سبقت ذلك التاريخ بقرون عديدة وقد كانت لغة متكاملة وتضم قاموساً ضخماً وكانت قادرة على التعبير وقد كتبت مؤلفات عديدة وقيمة حتى صارت تلك الحقبة تعرف باسم "العصر الذهبي للأدب الأرمني". لكن أدب تلك المرحلة، اي قبل اختراع الحروف الأرمنية النهائية مجهول تقريباً ولا يعرف عنه الا القليل. وكان يتضمن الأغاني الشعبية الأرمنية في العهد الوثني خاصة في اقليم كوغطان. وقد كان يطلق على المعنيين المتجولين في انحاء ارمينيا الذين يؤدون تلك الأغنيات في الاحتفالات والمناسبات اسم "الكوسان" ومن ابرز تلك الأغاني القديمة المشهورة حتى اليوم تلك التي تصف مولد الاله "فاهاكن" من مخاض تشترك فيه عناصر الطبيعة في السماء والأرض والنار والبحر، وقد سمي "فاهاكن" اله الرعد والقوة. ومن المرجح ان المقطع الشهير من هذه الأغنية هو جزء من ملحمة شعرية كبيرة ضاعت او لم يتم تدوينها كما يجب عبر العصور. هذه المرحلة وغيرها من المراحل المتقدمة عبر العصور يؤرخها كتاب "مختارات من الشعر الأرمني عبر العصور" الصادر عن "المجلس الأعلى للثقافة" في القاهرة ضمن "المشروع القومي للترجمة"، وقد وضع الترجمة الحرفية والتعليقات الدكتور فاروجان كازانجيان واشرف على الصياغة الشعرية وقام بالمراجعة اللغوية محمد ابراهيم ابو سنّة، وتصدرت الكتاب مقدمة بعنوان "عندما يكون الشعر هو الوطن" لفاروق شوشة، فتمهيد ومن ثم نبذة تاريخية لخصت مسار الشعر الأرمني عبر العصور وصراعاته ومفاهيمه وتحولاته. وقد قسم هذه النبذة الى مراحل تاريخية تزامنت مع ولادات الشعر منذ فجر اللغة الارمنية النهائية عام 404 م. وارتباطها باللغة القديمة ومنذ الأناشيد التاريخية القديمة منذ فترة العهد الوثني وصولاً الى الشعر الديني ومن بعده المرحلة الحاسمة مع الشاعر كريكور ناريجاتسي (951 ـ 1003) الذي عمل وحده وعبر شعره على فصل الكنيسة عن الشعر وجعله لهذا الأخير كيانه المستقل.
وفي النبذة ايضاً اضاءة على الشعر الدنيوي الذي تمثل في الملحمة "الهايرين" المؤلفة على الأرجح في القرون الوسطى من شعراء مجهولين من ابناء الشعب الأرمني، كذلك تأتي النبذة على تلخيص "الشعر الأشوغي" وهو فرع مستقل من الشعر الأرمني منذ بداياته في القرن السابع عشر وصولاً الى قمته الابداعية مع "سايات نوفا" (1712 ـ 1795) الشاعر التروبادور الذي غنى الشعر متنقلاً في ارجاء البلاد وخارجها، وصولاً الى مرحلة النهضة في الأدب الأرمني (1701 ـ 1850) مع استخدام لغة "الكرايار" التي عملت على تنقية اللغة من الشوائب الأجنبية، اما العصر الحديث في الأدب الأرمني فهو بدأ مع العام 1850 وفيه استخدمت اللغة الارمنية الحديثة "الاشخارايار" وصولاً الى العام 1915 الذي ارتبط بتاريخ اقتلاع الأرمن من موطنهم وتشتتيهم في كل ارجاء العالم. ومع هذاالتاريخ ولد ايضا "ادب المهجر" الأرمني وصولاً الى الشعر الحديث المرتبط بالمراحل الحالية وهو تاثر منتصف القرن العشرين بقيام ارمينيا السوفياتية وبعدها ولدت المرحلة الأدبية الجديدة وذلك منذ العام 1991 اي منذ استقلال ارمينيا. نقتطف من هذه المختارات التي تم ترتيبها زمنياً ابتداء من العصر الحديث حتى العصور القديمة.

باروير سيفاج
(1924 - 1971)

اقتراح للحاسبات والآلات الدقيقة

في جميع أنحاء العالم
دائماً تحسبون
تحسبون كل شيء
احسبوا اذن
على اي موجة وفي اي وقت
من الثانية
كم غراماً من الدم يتدفق
من قلب الفتاة الى خدودها الحيية
ليشتعل هذا الوهج الحراري النووي
الذي نسميه ـ ببراءة ـ "الحياء"؟
حمم الأشعة الكونية
التي تتدفق الى عيوننا
فتبرق مندهشة
حينما تبصر فجأة عيوناً اخرى وتسحرها
هل هذا الاشعاع المتبادل
بين الأعين العاشقة
مفيد للقلوب
ام ضاربها؟
تحسبون تحسبون
عندكم كل شيء بحساب
احسبوا اذن
كم كيلوواط من الطافة
منحناها ليلمع شعر اطفالنا المخملي
ولأيديهم الرقيقة الصغيرة
كم اعطينا لنحس بروعة قوام حبيبنا اللدن
او لكتف جدتنا الواهن؟
وهل عائدنا اقل ام اكثر مما اعطينا؟
انكم مع ذلك مستمرون في الحساب
احسبوا ارجوكم، احسبوا ايضا
كم نظرة شبق
انطلقت من عيني الواحد منا
والى كم من النساء قد نظر باشتهاء
والى اي عدد من النساء
قد نظر بوله عذري
او بمودة اخوية؟
اذكروا لنا بحساباتكم
أين هي أماكن النساء اللواتي
كنا نتمنى ان يقعن في غرامنا
ولكننا للأسف لم نلتق بهن ابداً.
حددوا لنا عدد الأطفال
الذين كان من المنتظر
ان ننجبهم
ولكننا لم نحظ بذلك
وفقدناهم الى الأبد.
(...) وربما تفصحون
لم لا تكون هناك صلة
بين صمم بيتهوفن
وبين هذه الانفجارات
والتي تزداد ضراوة
في العالم الآن
وحول العالم
واذا كانت هناك صلة
أوضحوا أرجوكم
هل العالم سعيد
ببيتهوفنات لا حصر لها الآن
ام ان الصم
يتكاثرون فقط.
احسبوا من فضلكم
وللمرة الأخيرة
بأية طريقة
وبمساعدة اية آلة خيرة
كيف يحتفظ الانسان بانسانيته
او الذي يجعل من الانسان انساناً؟

سايات نوفا
(1712-1795)

الكمانجا

من بين كل آلات الموسيقى انت الملكة
ايتها الكمانجا
لا يقدر الرجل الوضيع ان يقدّرك
فانت ممتنعة عليه ايتها الكمانجا
حاولي ان تلحقي بالأيام الطيبة ايتها الكمانجا
لا احد يستطيع ان ينزعك مني
فانت رهان العشاق ايتها الكمانجا
من الفضة: اذنك
يزين الجوهر رأسك
ومقبضك من العاج
وبطنك منقوشة بالصدف
وترُك من ذهب
وحديدُك نافذة
من ذا الذي يجهل قدرك
ما انت الا لآلئ وماس ايتها الكمانجا.
قوسك المحلاة بالذهب
تصدر نغماً بألف لون
اما شعرك فهو من ذيل "الراش"
حين تبوحين بالقافية الجميلة
يسهر كثيرون حتى الصباح
وينام الكثيرون كأنهم مخدرون
انت كأس ذهبية ممتلئة بالنبيذ الحلو المذاق ايتها الكمانجا
تعطين للساقي من غناء اضعاف ما يمنحه من نشوة
انت معظمة في الايوان
وحين يجيء وقت الراحة ترقدين على الرف
ينعقد المجلس من جديد
تشيعين ندى حلواً وصفاء
تصطف حولك الجميلات
وانت نصف المجلس ايتها الكمانجا
تسعدين الكثير من القلوب الحزينة
وتشفين داء المريض
حين ينبعث صوتك الحلو
ينشرح صدر المغني
لا اعني الا ان يقول الناس
"طابت الحياة لمن يعزف عليك"
وما دام ساياط نوفا حياً
سترين الكثير ايتها الكامنجا

كريكور ناريجاتسي
(951 ـ 1003)

مناجاة الى الله من أعماق القلب

لك في الاعالي
يا من ترى الخفايا
ارفع صوت التنهدات
ونحيب الفواجع
وصرخات القلب
ثمرة الرغبات المحرقة لعقلي المضطرب
اضعها على نار الاسى الملتهب
وبمبخرة ارادتي ايها الرحمن ابعثها اليك
لتشمها وتنظر اليها
بحب يفوق حبك
للقداس المنذور لك
وسط البخور الكثيف
تقبّل كلماتي القليلة بالرضى لا بالغضب.
دع هذه الكلمات تصعد من اعماق غرفتي.
المفعمة بالمشاعر
دعها تصل اليك مباشرة
هذه الأضحية الكلامية
التي اقدمها طواعية
وقد انضجتها ضراوة
خطاياي الفادحة
وان امثل امامك
مدافعاً عن قضيتي
متشفعاً بالضراعة ايها الجبار
فلا تجعل ذلك يبدو مضجراً لك
مثل يعقوب "العاق"
الذي رفع يديه الى اعلى
كما اتهمع اشعيا
ومثل جور بابل الذي ورد في المزمور الثاني والسبعين
بل اقبله راضياً مرة أخرى
مثل عطر البخور المستحب في هيكل "شيلو"
ذلك الذي بناه داود مجدداً
من احل راحة تابوت العهد
العائد من الاسر
رمزاً لاكتشاف \
روحي المفقودة
من جديد.

نيجوغوص صارفيان
(1905 ـ 1971)

غابة فنسان
(مقاطع)

تمتد غابة "فنسان" من "مارن" الى ما بعد "الدون"
آخذة في مجالها
الجزء الاكبر من "البحر الأسود".
انها تصل احياناً الى السماء.
تمضي ابعد من الاشواق والذكريات
تصعد أعلى من وطن مجهول يتراءى من الحلم
وفي ايام الأحاد والأعياد
في الصيف
تتدفق احاسيس خضراء
كالعصارة التي تسيل من الاشجار
وقد غدت شفافة من قدسية الشروق
تأخذني الى اقصى درجات السمو
سفينة تنبثق من الظلام
حيث تفيض الحشائش
ساطعة عذراء
تتكلم.
تنبض قمم الاشجار
غارقة في السكون
تمتص وتفرغ ضوءاً ما
تنسكب الظلال
تحلو الارض والهواء والنبات
وعبر فيضان الاضواء
متعددة الالوان
ومن خلال الاحمرار الدامي
للسحب الهاربة
والجريان الفارغ الحزين لسنوات عمري
اعرف مغزى اضطرابي
انفعل انفعالاً عذباً بالامل
لالتقي بالصبي الذي اسكره البحر.
ولكن الغابة تمزقني ايضاً
وكأنها قاض يأمرني:
"قل كل الحقيقة والحقيقة وحدها"
يدق قلبي
حائراً ومضطرباً
يسمع صوت الحفيف
كأنه همس الهول
يتفجر ضوء من اصطدام قمم الاشجار
بالاسلاطك الكهربائية
الاصطدام بين السالب والموج
بين الطفل والرجل الراشد
بين المثقف والعامل
بين الغربة والشوق الى الوطن
بين الجمال الذي يلقيني من القبح
والقبح الذي يحفزني الى الاعالي (...)

من اناشيد كوغطان
من العهد الوثني

مولد فاهاكن

كانت الارض والسماء تعانيان المخاض
وفي مخاض مثله كان البحر الارجواني
اما مخاض البحر،
فكان يمتد من قصبة حمراء
ثمة دخان كان يصعد من فوهة القصبة
ثمة لهيب كان يصعد من فوهة القصبة
وفي قلب اللهيب
كان يركض فتى اشقر
فتى له شعر من نار
ولحية من لهب
وكانت عيناه شمسين.

المستقبل
الاربعاء 19 تشرين الثاني 2008


إقرأ أيضاً:-