(يوميات بودلير)

سليمان المعمري
(العراق)

بودليرأن تقرأ يوميات بودلير يعني أن ترى الحياة بعين شاعر حقيقي، يكتب كما يعيش ويعيش كما يكتب.. أن تُستلب بالتأملات والرؤى البكر التي قُدر لها أن تصلنا (على الأرجح) في صورة الدفق الأول، وذلك لأنها نُشرت بعد وفاة كاتبها بعشرين عاما، ما يعني أنه لم يتح له أن يشذبها أو يجري عليها عمليات تجميل.. يتبدى لنا بودلير في هذه اليوميات (وكما يصفه مترجمها إلى العربية الشاعر التونسي آدم فتحي) كأوضح ما تكون الرؤية: يفكر ويشك، يحسم ويتراجع، ينحاز ويتخلى، يهجم ويدافع، يمدح ويهجو، يقارع الحجة بالحجة، ويتخذ لنفسه موقعا من كل ما حفل به عصره (بودلير عاش ما بين عامي 1821 1867) هذا العصر الذي نضح بمتغيرات عدة، وعج بأسماء لامعة في الفكر والفلسفة والعلوم والأدب (هيجل، كانت، كارل ماركس، فكتور هوجو، فلوبير، أوغست كونت، داروين، شوبنهاور.. الخ) ولعل هذا ما يصنع لهذه اليوميات أهميتها التاريخية.. قد نشاطر بودلير إعجابه ب(إدجار آلان بو) أو (أوفيد) أو (فاجنر)، وقد لا نشاطره سخريته من فولتير وموليير وجورج صاند، لكننا نسجل له أنه مارس حريته في قول ما يريد (بل وفعْل ما يشاء) ومضى، هو الذي يتحدث في يومياته عن أن الروح تمر بحالات تكاد تكون فوق طبيعية، يتجلى أثناءها عمق الحياة بأكمله في أي مشهد يتاح للعين مهما كان عادياً.. إن النظر إلى عمق الحياة هي مهمة الشاعر الحقيقي.. لكن الشاعر لا بد أن يكون إنساناً قبل كل شيء، بما يحمله هذا الإنسان بداخله من تناقضات صارخة: الحب والكراهية، الصدق والكذب، الخوف والإقدام، النبل والخسة، الغموض والوضوح.. إن المواءمة بين الشرط الشعري والشرط الإنساني هي التي تصنع الشاعر الحقيقي أو ما يسميه بودلير (الداندي) نسبة إلى (الدانديزم) الذي يعرفه بودلير بأنه المعادلة الخيميائية التي بفضلها يلتحم الشاعر بالإنسان لإنجاب الكائن الأسمى: الداندي.. هذا الداندي عليه، حسب بودلير، أن يعيش ويموت أمام مرآة، وأن يكون عظيماً في نظر نفسه قبل كل شيء إذ إن (الأمم لا تنجب العظماء إلا مرغمة.. إذاً لن يكون الرجل عظيماً إلا إذا انتصر على أمته جمعاء)، كما أن الداندي عاشق للفن والجمال، ولكن ليس الجمال النمطي المكرس.. الجميل عند بودلير هو شيء ما متأجج وحزين، شيء ما يفسح المجال للتخمين.. ويجعل من شروطه الغموض والندم، ويضيف إليهما شرط التعاسة.. وهو بذلك لا يزعم أن الفرح لا يجتمع مع الجمال، لكنه يعتقد أن الفرح حلية من أكثر حلي الجمال سوقية، بينما الكآبة هي إذا صح القول قرينة الجمال الرفيعة إلى الحد الذي لا يتصور معه بودلير نموذجا للجمال لا تسكنه التعاسة..

* * *

شذرات من يوميات بودلير

** عندما يأوي المرء إلى فراشه، تتمثل الرغبة الدفينة لجميع أصدقائه تقريباً في أن يروه يموت.. بعضهم للوقوف على أن صحته كانت أسوأ من صحتهم.. والآخرون يخامرهم أمل ما، في معاينة الاحتضار.

* * *

** ما من فتنة للحياة حقيقية غير فتنة اللعب.. ولكن ماذا لو كنا غير مبالين بأن نكسب أو نخسر؟.

* * *

** فيما يختص بالنوم، تلك المغامرة الكئيبة لكل ليلة، كان يمكن القول إن الناس ينامون يومياً بجرأة غير معقولة، لولا أننا نعرف أنها جرأة الجاهل بالخطر.

* * *

** يقال إن عمري ثلاثون سنة.. ولكن إذا عشتُ ثلاث دقائق في كل دقيقة، إلا أكون في التسعين؟

* * *

** الإنسان يحب الإنسان، إلى حد أنه لا يهجر المدينة إلا ليبحث عن الحشد مرة أخرى، أي ليعيد صنع المدينة في الريف.

* * *

** يبدو لي الإنسان المتعلق بالمتعة، أي بالحاضر، في هيئة رجل متدحرج من عل، أراد أن يتشبث بشجيرات، فاقتلعها وجرفها معه في سقوطه.

الاتجاه الآخر (العراق)
العدد 303
23-12-2006