ترجمة وتقديم: فاضل السلطاني
اليزابيث غنينغس
ولدت اليزابيث غنينغس عام 1926، وبدأت بداية شعرية قوية، لكنها تراجعت في الخمسين في السنوات العشرين الأخيرة. ويعزو بعض النقاد ذلك إلى محدودية عالمها الشعري الذي تغلب عليه النزعة الرومانسية. صنفت، نقديا، ضمن مدرسة "الحركة" التي كان من أبرز وجوهها الشاعر فيليب لاركن، لكن في الحقيقة، عناصر قليلة تجمعها بشعراء هذه الحركة. وتقول هي ذلك: "أنا إمرأة وكاثوليكية، وهذا يعني أني أكتب عن مواضيع ليست ذات أهمية لمعظم شعراء هذه المدرسة".
جسد واحد
يتمددان الآن منفصلين
كل منهما في سرير.
هو مع كتابه، مبقياً المصباح
مشتعلاً لوقت متأخر
وهي مثل طفلة تحلم بالطفولة
وبكل الرجال في مكان آخر
كأنهما ينتظران حدثاً ما
الكتاب الذي يمسكه لم يقرأه
بينما عيناها مثبتتان
على الظلال فوق رأسها.
منطرحان مثل نفايتين
من عاطفة سابقة
كم يتمددان ببرود
نادراً ما يلمسان بعضهما
وإذا فعلا، فذلك أشبه بالاعتراف
بمشاعر قليلة، أو بمشاعر أكثر مما ينبغي
إنهما في مواجهة الطهارة،
مواجهةً كانت كل حياتهما استعداداً لها
منفصلان بشكل غريب
ومع ذلك، قريبان من بعضهما بشكل غريب
الصمت بينهما مثل خيط عليك ان تمسكه.
لكن حذار ان تطويه.
والزمن نفسه مثل ريشة
يلمسهما برقة. هل يعرفان
إنهما عجوزان، هذان الاثنان
اللذان هما أبي وأمي.
اللذان خرجت من نارهما،
الباردة الآن؟
***
فاليريا ميلتشيوريتو
فاليريا مليتشيوريتو من الجيل الجديد في الشعر البريطاني. وبالرغم من ولادتها في سويسرا لأبوين ايطاليين، ولم تهاجر إلى بريطانيا إلا قبل اثنتي عشرة سنة، إلا انها تكتب بالانجليزية كما يكتب بها أبناؤها، وتعتبر نفسها شاعرة بريطانية. وهي تهتم أيضا بالمسرح والفنون الجميلة اللذين درستهما أكاديميا.
المجهول
عن أمي ورثت طريقاً معبداً بالحجر،
واسعاً مثل حوض امرأة حامل.
وأكثر طولاً من نفاد الصبر.. مرتين.
عن أبي ورثت قصصاً كان يرويها بعينيه،
قصص المدن التي لم يروها أحد،
عميقة ومليئة بالشك.
ربما كان سمعها عبر همسات أسير حرب
وهو في فراشه.
كانت أمي تقول ان الأفكار مثل القوارب
تحتاج إلى مرساة.
لا أحد في عائلتنا كان يستطيع أن يبحر
مع الأفكار المليئة بالشك
لكنها كانت تهزّ خيالنا
مثل دوار البحر
حتى نخضرّ تحت خدودنا الوردية.
في نومه كانت رموشه
مثل معمل ينتج كوابيس
لا يريد أن يعرف عنها شيئاً في النهار.
إني الآن أختار طريقي بعناية فائقة.
العجوز والجبل
عاش الرجل العجوز على قمة الجبل
عاش الجبل فوق الرجل
كان مقاتلاً، ساخراً، وشهيداً
أسره الفاشيون لكنه نجا
الرجل العجوز، أبي، أصبح منذ ذلك الوقت وحيدا،
خائفاً مثل الجبل وبعيداً مثله
حوّل طفولتي إلى غرفة انتظار صامتة
نُفيت منها حتى دميتي الأكثر شجاعة
كل مساء كان يختفي في عالمه
ليسقي صليبه نبيذا خاليا من الماء.
أزهرت الأشواك في غرفة عقله الخلفية
وكان الطريق إليها
أن نأكل خبزنا اليومي من الغيظ
الحديث بالألمانية كان ممنوعاً في بيتنا
ولذلك اعتدنا، نحن الأطفال، على الهمس بها في الظلام
لم يرتد قط قمصاناً رمادية، ومع ذلك قيدته
منذ زمن سرمديّ
حين أصبح سجينا
أصوات الكاتدرائيات التي تغط في النوم
دفعت أفكاراً عديدة مؤلمة لتدخل عالم النسيان
باسم أولئك الذين لم يحسوا أو يلمسوا
ذلك الجبل اللامرئي الذي قدمه التاريخ
حُفرت الأرض مرتين
في المرة الأولى، ارض الحقل الجافة،
وفي الثانية القبر.
ذاب الشتاء الأبدي فجأة وسال في الأنهار.
وذهبت أنا لأزرع البطاطا على قمة الجبل.
مايكل هامبرغر
ولد هامبرغر في ألمانيا عام 1924، ونزحت عائلته إلى بريطانيا، في الوقت نفسه الذي تسلم فيه هتلر السلطة. ومن هنا نرى ان موضوعة المكان، واختلاطات الأزمنة، إضافة إلى ولعه بعناصر الطبيعة العذراء، تشكل مادة شعره الأساسية.
ويعتبر هامبرغر، على نطاق واسع، واحدا من أهم الشعراء البريطانيين، "وأصعبهم" أيضا. فقد آمن هامبرغر دائماً ان الشعر هو فن يتعارض مع القراءة السهلة والمباشرة.
يقول عنه مارثن بوث: "نادراً ما يكون هامبرغر كليلاً، أو مسرفاً، أو محدوداً شعرياً. انه يكتب دائماً من منظور واسع".
ويرى ريتشارد دوف ان شعره هو واضح وغامض في الوقت نفسه، ومن هنا تنبع صعوبته.
وترجم هامبرغر الكثير من الأدب الألماني إلى الانجليزية، ولعل أهم هذه الترجمات، ترجمة الأعمال الكاملة للشاعر الألماني هولدرين التي أنجزها بعد عمل عشرين سنة، وصدرت قبل أيام. وما يزال هامبرغر، رغم ثمانينه، نشطاً في المجالين اللذين كرس لهما عمره: الشعر والترجمة.
غربان الزرع
رحلت، كما ظننت،
لم اسمع عنها منذ سنوات،
رحلت مثل النقّار الأزرق،
لاقط الذباب،
مثل حجلات
التل الذي اجتاحته الجرافات.
لكني أنا الذي أرحل الآن
بينما تعود هي، أو انها
لم ترحل قط.
انها تتقافز
أو تنقر غصون شجرة
الدردار العارية.
نسيت التغيرات، أشغال المزرعة،
جثة الغراب في خزان الماء،
عش الغراب،
عظام الغراب المتيبسة،
الريش المتيبس الذي حشا المداخن ـ
لم يعد هناك منجم لتنظيفه (؟)
سمعتها، رأيتها ثانية في الهواء البارد الصافي
وبذهابها انتهت مهمتي
آخذة حصاد ثلاثة آلاف سنة من الطقس،
السخام "الفضي".
هذا ما تركه ضجيجها فوق الأشجار
ضائع
أمشي حائراً
في ما كانت شوارع
في المدينة التي سميتها بيتي،
أرض جافة، طرق
ثقبتها هياكل المخازن والمكاتب،
والشحاذون الجاثمون
وسط القاذورات
فجأة..
واجهتني بقعة محوطة منسية،
مظلمة لعدم الاستعمال،
كانت قصراً منذ أمد بعيد
لكنها لم تعد تلوح أو تنوف،
وليس لها واجهة للعرض
وقد سحبت الأسقف المقببة بعناية
كان على كتل الهيكل الحجرية المربعة،
بعدما حوط قبل هدمه،
ان تسند الاسمنت المتشقق للطود
الأعلى الذي نقل إليه المراوغون
كراسي سوء الحكم
وحيداً هناك كان بإمكاني
أن أجتاز الفناء،
واشق طريقي عبر الصلصال
للمرة الأولى والأخيرة
دخلت، كما لو كنت مدفوعاً،
وسط القصر الذي ما يزال سليما
لكن ما ان خطوت
فوق الحبل الوحيد هناك
حتى صرخ حارس مخفي
ـ "ألا تقرأ؟"
وهو يلوح بإلكترونياته
ـ "رجاء لن اسبب أي ضرر،
لن ألمس أية تجهيزات،
لا دفتر ملاحظات، ولا صورة
ولا تقريراً
لا شيء مما أرى
وسأذهب، مثلما أتيت،
فارغ اليدين
قال لي بهدوء بالغ،
مقترباً أكثر مما ينبغي،
"ألا تقرأ الصحف أيها الرجل؟
هل دارت بك الدنيا؟
أو، وهذا الأسوأ،
انك من هؤلاء الذين يعتقدون
ان العالم قد انحط؟
انك تبحث عن هالة؟
متصنعاً الخبث والغموض أليس كذلك؟
تحرك، تحرك سريعاً،
لقد حذرتك.. لا تجادلني..."
عن (الشرق الأوسط)
إقرأ أيضاً: