تقديم وترجمة: حسين محمود

Ilan Amihaiرغم أن القصيدة الشعرية اليوم متمردة علي قوانين الشعر التي عرفت علي مر عصور الأدب، لكن جوهر القصيدة يظل واحدا. والحقيقة أننا لا نستطيع أن نفصل الشعر الحديث عن مقدماته القديمة، رغم أن الكثير من النقاد ­ وخاصة المحافظين منهم ­ يتباكون علي أن الشعر اليوم لم يعد يمت للمعروف عن هذا الجنس الأدبي بأي، بل وينكرون أي استمرار واتصال في مسيرة الشعر. ومن ينظر إلى الشعر الإيطالي المعاصر، الذي يقرأه الإيطاليون اليوم، لا يستطيع أن يفصل بينه وبين الشعر في بداية القرن العشرين. وشعر بداية القرن العشرين مرتبط، ولو بصلة متصادمة، مع شعر القرن التاسع عشر، وهلم جرا.
وقد لا يفاجأ الدارس للشعر الإيطالي في النصف الثاني من القرن العشرين أنه خرج من عباءة الهرميطيقية أو الهرمسية، التي سيطرت علي الشعر الإيطالي في النصف الأول من القرن العشرين. وهذا طبيعي، لأن الهرميطيقية نفسها خرجت من عباءة الرمزية في القصيدة الفرنسية. ولكننا لا نستطيع اليوم أن نسمي الاتجاه الوليد، باسم خاص به، لأن هناك تعدد في الأشكال الحديثة، لا يسمح لنا بعقدها في سلسلة واحدة لها خواصها المميزة. وهو تعدد بعدد الشعراء أنفسهم، حيث بات الشاعر الحديث يمثل مدرسة في حد ذاته، ويرفض الانصياع في إطار حركة واحدة محددة.
ولكننا يمكن أن نقول إن القصيدة الإيطالية الحديثة نشأت في إطار القصيدة الميتافيزيقية الأوروبية، التي تتجاوز الرمزية التقليدية، واعتبارا من أعوام الثلاثينيات أصبحت المدرسة الهرميطيقية تحتل مكانة أساسية في المشهد الشعري الإيطالي.
بل إن الهرميطيقيين الإيطاليين يعتبرون فرعا من فروع المدرسة الرمزية الفرنسية، وهم يجسدون الخط الذي يربط مالارمية بالناتج المغلف بالغموض لفاليري. والهدف هو خلق لغة للقصيدة وإبعادها عن السباق مع عالم وسائل الإعلام وشعاراته وسهولة قوافيه، ولإعادة وظيفة الصفوة للمفكر وإبعاده في نفس الوقت عن أشكال الاتجاه التدخلي الذي اشتهر به داونزيو ومارينتي.
وتفهم الهرميطيقية المرتبطة بالاتجاهات الرمزية الأوروبية القصيدة علي أنها ممارسة مطلقة للغة، وهذه الممارسة لا تصلح إلا نجحت في التعبير عن الضمير الغنائي بنقاء أصيل، دون أي تأثر بالاعتبارات التعليمية والأخلاقية والمذهبية والنظرية. وكانت الهرميطيقية بالنسبة لبعض النقاد تمثل تحولا يتجسد فيه الاستدعاء المسيحي لفنون الموسيقي والغناء، الاستدعاء الديني والميتافيزيقي، الذي ينكر التاريخ، ذلك التاريخ الذي يتماهى أمام المطلق، والذي يتحرر من الهياكل والبني البلاغية، والذي يطرح علي أنه تجديد جذري للإنسان. وكان الناقد فلورا هو من حسم هذا الاتجاه نظريا وأطلق عليه اسم الهرميطيقية في بحث له نشر عام 1935، وأطلقه في البداية من باب الاستهجان علي قصائد اونجاريتي، ثم علي قصائد مونتاله .
وكان فلورا ومدرسة كروتشه في النقد يعيبون علي هذه المجموعة من الشعراء إغراقهم في التجرد وإعمال الفكر، وبالضعف الشكلي، وبانعدام التواصل مع القارئ. وقد وضعهم النقاد داخل الاتجاهات غير العقلانية، ولهذا كانت الهرميطيقية بالنسبة لهم فئة سلبية من الاتجاه الاضمحلالي.
وبعد هذه البداية السلبية استقر المصطلح مع اختلاف المدلول. ففي عام 1940 خصصت مجلة (بريماتو) تحقيقا مفصلا عن الهرميطيقية، ودرستها دراسة تقييمية مفصلة، وشملت هذا التحقيق بلقاء مع الشاعر مونتاله الذي وضع الأساس لما يمكن أن يسمي بالتراث الهرميطيقي.
ويميز انشيسكي في موسوعة القرن العشرين تحت كلمة (هرميطيقية) بين ثلاثة أجيال من الهرميطيقيين، يضم الأول الشعراء اونجاريتي ومونتاله وسولمي، ويضم الجيل الثاني كوازيمودو وبينا وسينسجاللي وجاتو، أما الأخير فهو يضم لوتسي وسيريني.
وإذا كنا نستطيع أن نضع الجيلين الأول والثاني زمنيا في النصف الأول من القرن العشرين فإن الجيل الثالث ينتمي وبقوة إلى النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين. ومن الطبيعي أن الأجيال الثلاثة ترتبط فيما بينها بعوامل مشتركة قوية، وفي نفس الوقت تفصل بينها عوامل اختلاف لا تقل قوة.
ولكننا حتى نستطيع أن نفهم الجيل الحالي من الشعراء الإيطاليين وخاصة من ينتمي منهم إلى الهرميطيقية فلابد أن نشير إلى أونجاريتي ومونتاله باعتبارهما أساتذة هذا الاتجاه.
وقبل أن نتعرض لهذين الشاعرين الكبيرين لابد من وقفة قصيرة مع المصطلح، لكي نري معناه ومدلوله، وكيف كان له تأثير كبير علي القصيدة الشعرية خارج إيطاليا، وربما ساعدنا هذا علي فهم الاتجاهات الحديثة في الشعر العربي.
والهرميطقية لمصطلح تعني الإلغاز. فالهرميطيقي كما تقول المعاجم يعني العزل الكامل الذي لا يسمح لأي شيء سواء كان سائلا أو غازيا بالتسريب علي الإطلاق. كما أنه يأخذ معني الغامض وغير المفهوم والذي لا يمكن الوصول إلى معناه. وفي العصور القديمة في اليونان كانت الهرميطيقية تطلق علي المذاهب الفلسفية والدينية التي كانت تتضمنها كتابات هرميس تريزميجستوس، ولقب هذا الفيلسوف الذي ينتمي إلى العصر الهلنستي المتأخر (القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد) يعني الوجه الذي تم تكبيره ثلاثة أضعاف حجمه، أما الاسم الأول فهو للإله اليوناني هرميس والذي يوازي الإلة المصري القديم توت، ويعزي إليه وضع أساس علم الكيمياء، وبالتالي توصله إلى شكل أنبوب الاختبار المحكم العزل والإغلاق، وذلك عن طريق وضع قاع مغلق للأنبوب الزجاجي.
وأصبحت الهرميطيقية كمصطلح أدبي يشير إلى هذا القدر الذي استهجنه فلورا وكروتشه من الانعزال والانغلاق والغموض والإلغاز. وهو في نفس الوقت يشير إلى هذا القدر الذي امتدحه النقاد المحدثون الذي يعزز قوة القصيدة الحديثة بالاستخدام الواعي والمتعمد للغة مكثفة وغامضة.
وقد بدأ هذا الاتجاه، الذي تعاظم شأنه علي المستوي الأوروبي بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن الماضي، علي يد الشاعر الإيطالي السكندري المولد والتربية، جوزيبي اونجاريتي، والذي اعتبر القصيدة (لغة في المطلق) و(إضاءة غنائية). كذلك كانت لأونجاريتي تجديدات شكلية علي مستوي النص الشعري، فلم تعد به علامات ترقيم، فالغيت النقطة والفاصلة وما إلى ذلك، كما اتخذت الكلمات معاني متعددة بتعدد القراءات المختلفة لها. ومع مونتاله عرفت القصيدة الحس المأساوي للتاريخ والسخرية. وأضاف سابا موسيقية عالية وقوالب أكثر بساطة تنتمي إلى الحياة اليومية.
وإلى جوار هؤلاء الشعراء الكبار جاءت مجموعة من الشعراء بدأوا إنتاجهم ونشاطهم أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها وسيطروا علي المشهد الشعري الإيطالي في النصف الثاني من القرن العشرين بدءا من كوازيمودو وبييرو بيجونجاري (الأربعينيات) وماريو لوتسي الذي قدم أكثر القصائد الهرميطيقية اكتمالا اعتبارا من عام.1940 وأسس ألفونسو جاتو مع فاسكو براتوليني مجلة (كامبو دي مارته) التي نشرت العديد من المجموعات الشعرية الهرميطيقية، وليوناردو سينيجاللي وكارول بيتوكي وليبيرو دي ليبيرو، والناقد كارلو بو.
وشهدت الهرميطيقية الإيطالية أنشط أعوامها في الثلاثينيات، وخاصة في فلورنسا التي كانت حاضنة لهذا الاتجاه ومجلاته الشهيرة. وكان هدف هذه الحركة الثقافية هو نسف الاتجاه الذي مثله جبراييل دانونزيو الأكثر تفخيما وتعظيما، والاتجاه الذي يمثله باسكولي الأكثر حزنا وكآبة. كما أن هذه الحركة انطلقت من الرغبة في تقليد الخبرات الرمزية وما بعد الرمزية في فرنسا وبخاصة الشاعرين مالارميه وفاليري. كذلك غلبهم الشوق إلى استعادة الكلمة الشعرية لشحنتها التعبيرية الأصيلة والتي فقدتها عبر عصور طويلة من التعقيد الأدبي، وبالتالي فإن الهدف الأسمي الذي وضعه الهرميطيقون نصب أعينهم هو الوصول إلى قصيدة (نقية) متحررة من أي قصد يمكن أن يظهر خارج القصيدة نفسها. والكلمات عند الهرميطيقيين يجب أن تتخلص من خواصها الاتصالية لتحتفظ فقط بخواصها الدلالية، وخاصة تلك التي تتعلق بالقدرة علي التأثير، مع بعض الاشارات الدينية، ومن هنا ارتبطت الهرميطيقية بالمسيحية روحيا، بيد أنها ارتبطت أيضا بالوجودية الفرنسية عن طريق جيه ريفيير وسي دي بو. كما أن الكلمات في القصيدة الهرميطيقية تنعزل عن السياق من خلال قطع الوشائج المنطقية التي تربط الكلام بعضه ببعض. وهكذا يتم زرع الكلمات في منطقة غير مرتبطة بالزمن مليئة بالاستعارات والتشبيهات تبدو وكأنها عناصر بلاغية مشتركة تميل الغموض والإبهام. وبهذا الأسلوب جازف الهرميطيقيون بالانعزال في فضاء خارج التاريخ، برغم هيمنة النظام الفاشي. وفيما بعد قرر الهرمينطيقيون أن العزلة في فضاء داخلي كان هو الشكل الوحيد للهروب من بلاغة الفخر التي تميز بها النظام الفاشي.
والواقع أن من ينظر إلى تطور القصيدة الأوروبية على المدى الطويل يمكنه أن يلاحظ بسهولة أن متوسط حياة القانون الشعري أو المدرسة الشعرية يصل إلى قرن كامل، ونقصد بالقانون الشعري، هو الأسلوب المسيطر والغالب على نظم الشعر منذ نشأة هذا الأسلوب وحتى تمام نضجه ثم تعرضه لأزمة الاحتضار. ويشمل هذا القانون الشعري علي فكرة ومفهوم القصيدة ووجهتها الوظيفية وأغراض الشعر (اختيار موضوعاته) وطريق معالجتها علي الورق، وصولا إلى الشفرة اللغوية والأسلوبية البلاغية والعروضية التي تقيس قدرتها التعبيرية. وقد لاحظ أحد نقاد الأدب في إيطاليا أن الأعوام الخمسين الأولي من كل قرن تشهد نمو ونضج المدارس الشعرية الجديد، بينما تتميز الأعوام الخمسين التالية بتعدد الاتجاهات الثقافية الأقرب إلى الاستكشاف بحثا عن نموذج ثقافي قوي، ويكون في حد ذاته هو المهد الذي يشهد ولادة قانون شعري أو مدرسة شعرية جديدة. وبناء علي هذه الملاحظة فإن الهرميطيقية لابد أن تأخذ طريقها إلى الاختفاء رويدا رويدا بينما توضع بذور مدرسة شعرية جديدة.
وبناء علي هذا أيضا فإننا نتوقع من شعراء إيطاليا الجدد أن يمهدوا لمدرسة شعرية قوية قادمة تسيطر علي النصف الأول من القرن الحادي والعشرين.
ومن يريد أن يترجم لشعراء إيطاليا المعاصرين فإن يجد نفسه أمام كم كبير من الشعراء الذين أثبتوا ذواتهم الشعرية بالفعل، ولا يستطيع أن يستبعد الكبار لأن ما يمثلونه من اتجاه شعري لا يزال قائما، ولا يستطيع ألا يعتمد علي قراءة الشعراء الشباب بما يمثلونه من تنويعات شديدة الثراء لنفس اللحن الأساسي.
وهكذا اخترنا أن نترجم قصائد أكبر ممثلي جيل الأساتذة مثل بيرتولوتشي ولوتسي وكابروني وسيريني، ثم نعرج علي الاتجاهات الحديثة المعروفة باسم (الورشة) وممثلها الكبير بيير باولو بازوليني، باعتباره الأشهر، والذي يعرفه الجمهور العربي بأفلامه السينمائية التي لا تقل شاعرية عن قصائده، وهذا لا يعني التقليل من قيمة زملاء له مثل فورتيني وروفيرسي.
ومن الجيل الرابع للهرميطيقيين أخذنا الشاعرة ماريا لويزا سباتسياني باعتبارها رفيقة الشاعر الإيطالي الكبير (الحائز علي جائزة نوبل) اوجينيو مونتاله، وحاملة لواء الهرميطيقية من بعده. وهذا الجيل غني بالكثير من الشعراء الجديرين بالدراسة.
وكان لابد من اختيار إحدى قصائد زانزوتي، وهو أكبر الشعراء الإيطاليين الأحياء، وصورته هي المهيمنة علي الساحة الأدبية. ومن الاتجاه الطليعي التجريبي أخذنا باليستريني. ومعه الشاعر الكبير جوديتشي، باعتباره صاحب أسلوب خاص يحول الحياة نفسها إلى أبيات شعرية وفي هذا صدي لشاعرنا اونجاريتي الذي جعل لكل دواوينه عنوانا مشتركا عن الحياة. والحياة اليومية كملهم للشعراء هو الذي جعلنا نختار الشاعر رابوني. ومن ممثلي الاتجاهات المستقلة، التي تخرج عن القطيع، اخترنا الشاعر لوي، رغم أننا كنا نميل إلى أن نختار مؤسس الفكر الاشتراكي الليبرالي كالوجيرو وهو شاعر وفيلسوف، ولكنه صعب عسير الترجمة. ومن شعراء العامية الإيطالية ترجمنا إحدى قصائد لوي، رغم الشهرة الكبيرة التي يحظى بها جويرا. وهناك طائفة من الشعراء الذين يكتبون الرواية أيضا، ويعرفون باسم الشعراء الروائيون وقد اخترنا منهم فولبوني. كذلك كان بيللتسا ممثلا للشعراء الجدد الذين يحظون بجمهور واسع من محبي الشعر. والشاعر ديليا من شعراء الثمانينيات.
أما شعراء العقد الأخير من القرن العشرين والأعوام الأولي من العقد الحالي فقد اخترنا منهم علي سبيل المثال البيرتو بيرتوني وبيترو برونو وماريو باودينو وبيادجو أريكسي ودوناتيللا بيزوتي وانطونيللا أنيدا وبيترو برونو وروبرتو كاريفي. وهم جميعا يضمهم الموقع الرسمي للشعراء الإيطاليين المعاصرين علي الإنترنت والذي يضم أكثر من أربعين شاعرا.

المختارات

ببير باولو بازوليني

لحم وسماء

أيها الحب الأموي
الموجع، لجبال الأجسام
المشمولة
بسر الأرحام.

ومواقف غالية
بالعطر غير واعية
يضحك معدوم الحياء
والأعضاء منه براء

بريق شعر يفكر
إهمال معذب
من النظرات..
اهتمامات خائنات...

أرهقه النحيب
عود حميد
باللحم الذي يحرق
بابتسامات رائعة.

ويجن جنوني في قلب
ليلة العطلة
بعد ألف ليلة أخري
من هذا اللهيب المشوب

من ديوان (بلبل الكنيسة الكاثوليكية)

***

لوتشيو بيكولو

الشعاع الأخضر

من الأبراج الممتدة والشرفات
رأينا في وجه النسائم
آخر نظرات الشمس
تتحول إلى كريستال أعماق
بحرية... ثم أتي الليل
ورفرفت أجنحة ضخام
للفراشات: معني الظل.
ولكن الشعاع الذي بدا أنه ضائع
في دوران الأرض المتتابع
أشعل باللون الأخضر فينا الأعماق
حيث يغني دوما
حدوتة، كان صوتا
سمعناه في النهارات، زهور
غابات مرتعشة في الصباح.
من ديوان (الشعاع الأخضر) 1993

***

أتيليو بيرتولوتشي

بلد شتوي

أن تظهر الشمس بعد الجليد،
وتصطبغ السحاب بالأحمر
كأنها عبيد: فإن الجليد فوق الأسطح
حمرة سوف تلون، وجنة الأميرة.
قد تهب ريح خفيفة
وتطفئ الماء، الذي كان قد نام،
بصوت راع نعسان.
قد تخرج صبيات بالشيلان،
وأعينهن السود كلها لمعان،
وفجأة تجري يدفعها الهواء
كأنهن طيور تنهض للطيران.
والغجر يخطفون الأولاد.

عن ديوان (نيران في نوفمبر) 1934

***

ماريو لوتسي

رحلة حج

أيها البحر البحر
طلق عليل
كسير لتوه
بحر بداية الربيع
من جدران
المدينة الساحلية
عندما كان
في الانتظار شد إلى نفسه
الحادثات المقبلة.
كان يصفي، وهو يغزل
إلى أقل القليل
مرافئ قصية
وكان يدخل في كل منعطف
من ثنايا الشاطئ الصخري المتعرج
وكان يرتطم
بحواجز الأمواج نابحا
حرمته الموج
والماء والملح
النور والهواء
كان من قبل
قد أخذ البحر
في رحلة الحج تلك.
متى؟ لم يكن يتذكر الوقت،
فالريح كانت شرقية شمالية قوية ­
والآن الرحلة الطوافة الشاقة
للأرض، للشمس
كانت تعيده إلى نفسه،
إنما (نفسه) لم تكن موجودة
وربما لم توجد أبدا
أو أنها فنيت...
أواه يا حرية، أواه يا أيها الخلاص
من الحياة في عز الحياة... آمين.

هرولت الذكري شاقة
وداعا للتوقف، وداعا للسكون الحار.
كان تمتع قليلا
بسحبه لشهيق الهواء
في هاجرة الأمواج
وفي توقفها.
ولكن ذلك البرق الآن
الإنذار
لما تبقي من طريق...
كان يأتي فوقه،
هو، ذو القاع الفائر
لم تخمده سنواته البحرية
والرحلات الجريئة
أو أنه كان إنذارا
من كمين
الأحداث القادم؟
لكن المسيرة متبادلة وفريدة،
يتساوى المصب والمنبع...
تتفكك ولكنها تعود
إلى نفسها الرحلة،
وهذا التصاعد المتباين
لدوامة النور، ليس له شاطئ ولا مرسي
و لكنه يقترب،
إلى أي نهاية يقترب؟

من ديوان (تحت الجنس البشري) .1999

****

جورجو كابروني

الغرفة

حيث كان يعمل في الغرفة
كانت تشع برائحة الميناء
تدخله زوابع حية بيضاء
تدخله، بشراع مرفوعة!

كان للقاطرة عاشق
والقلب بين أضلاعه خافق
يعشق الحياة والانطلاق،
والكتان، بين أصابعه.

صبية بسراويل قصيرة،
وقدودهم نحيفة، علي طول الخنادق،
وهم يتبادلون السباب بالاسم
كانوا يعلبون الكرة

(كانت أنينا تنظر إليهم
من تحت لتحت، وكما
­ عمدا ­ كانت تسرع
الإبرة، كانت تلتمع!)
من ديوان بذرة البكاء (1950­1958)

فوق الصحراء

الواقع مثل الفن.
عالم الملامح
والتاريخ، سوف نحمله
معنا أيضا
في قاع الماء، المهزوز
واللامع، وغشاؤه الأسود
لا يستطيع أي قمص
أن ينزلق فوقه ­ ولا أي
يعسوب سوف يحلق
فوق الصحراء، كلها.

من ديوان (جدار الأرض) 1975

****

ماريا لويزا سباتسياني

يغلبني الانترنت كإعصار

يغلبني الإنترنت كإعصار
من الأصوات المغتربة. وهكذا ففي حفل
جيد التنظيم، مع أصدقاء منتقين،
يندفع الرعاع الجائعون.

الرحمة لصوامع الحبوب التي حصدناها
علي مر السنين بحب كبير. جرادات
رهيبة تحضر وتبتلع
وقتنا المقدس.

رأيت ستة أشخاص يموتون، كلهم

رأيت ستة أشخاص يموتون، كلهم
مصابين تقريبا في النفوس.
الأدوية بالأكوام، والأساتذة،
كانوا يزيتون أصغر التروس.

النخاع، والبروزاك، والأمفيتامين،
نقل الدم، زرع الأعضاء، والنيتروجليسرين.
تلاشت النعمة، الندى
الذي ينسحب من كل ورقة أمام الشمس.

ربما كان المجموع قابلا للإصلاح.
ولكن لو كان كل جسد بشري سيارة فيراري،
لكنت أجريت فحصا أخيرا وتأكدت
ما إذا كان الكاربيراتور باقيا.

لم تعد، أعمدة التلغراف، تعرف

لم تعد، أعمدة التلغراف، تعرف،
أنها كانت أشجارا.
لا تحاول علي الأقل، في الربيع،
أن تنبت برعما.

وبفضل الإنترنت والفاكس أصبحوا يسقطونهم
للمرة الثانية. كانت
لسبعين عاما نافعة. أقل من ذلك أو أكثر
يدوم مصير الإنسان.

حسنا فعل
جوتبنرج، إذ اخترع

حسنا فعل، جوتنبرج، إذا اخترع
الحروف المتحركة. تضغط
مفتاحا، فإذا الحرف قد تعشق
في الخانة المناسبة.

ويستريح الكاتب أخيرا
بعد ثلاثة آلاف عام. ولكن المنظومة
تختل أحيانا، فيقهقه في
وجوهنا ذلك الكلام الفارغ.

من ديوان (أيام الشوك).1996

****

أندريا زانزوتٌو

الكرات

كما في الناحية الأخرى من البحار
تصرخ البراءة تصرخ ­
أطفال لم يعودوا فرادى معزولين
علي سواحل لا تنتهي
يجرون يهرولون وينتصرون
تسرقهم الخدعة تلو الخدعة

وما الذي يمكن أن ينضح بكل هذه البراءة؟
وبكل هذا المرح الطفولي؟
ماذا يتوحش مثل الجو الخانق
مثل الأشياء الإلهية
هداياهم التي تهرب، كرات
فوق كل العالم، تتجاوز كل سلطة؟

زمرة حتى أنني شاردا ناعسا
أصل إلى منعطف
إلى منحدر تنهار فيه فجأة
كل الحدود في ضحكة واثبة،
زمرة شديدة العذوبة، حقيقة
غير إنسانية، آخرة مثالية
في تليفزيون فردوسي، زخات تبرق،
طنات مجد ومجد ومجد
لهذا الصيف الجميل.

من ديوان (آداب السلوك في الأحراش) 1975­.1982

***

جوفاني جوديتشي

نوفمبرية

لمجافاة الوسن في الزمن اكتمل
من حياتك الخالدة العام السبعون
وليس من إرادتي أنك قررته
وإنما من أرادتك التي لم تخرجي منها أبدا
عندما تنهمرين مني دموعا ليلية:
أنت شعلتي انطفأت وبهاء رماد

ولكن لا تنسي ­ هات لي معك
من المدرسة الطباشير الصغيرة التي كنا نرسم بها
سفنا وسفنا علي السبورة الصغيرة مع أسمائنا
التي تنمحي ­ لا تتركيني
هنا الآن بدون مكان حتى أستجدي ملاذا:
آه يا نوفمبرية آه يا توتة الرقة الشوكية

من ديوان (هرطقة المساء).1999

شاعر

رجل، جميل جمال
كما يقال عن ذلك الذي
وهو للمظهر ناكر يحبب الناس فيه
بسبب الطريقة البشوشة في مواجهة البلايا
أو يعطيك من طرف اللسان حلاوة:
وهو في صنع الأشياء من الكلمة
تلميذ وحداد

من ديوان (كم يأمل أن يعيش جوفاني) ­.1993

الرخاء

كم حصلوا علي ما لم يكن لديهم:
عمل، منزل ­ ولكن بعد أن
حصلوا عليه انغلقوا فيه.
سأكون بينكم لبرهة أخري.

من قلب المعجزة

أتحدث عن نفسي من قلب المعجزة:
ذنبي الاجتماعي هو أنني لا أضحك،
أنني لا استثار في اللحظة المناسبة.
فيما أموت، حتى أنتظر أن أعيش.

الحقد هو لمن ليس له أمل:
وإذا فمن الرحمة بي أن تجعلني أؤمن
بأن هناك حياة حقيقية أكثر في مكان آخر.

من ديوان (الحياة في أبيات شعرية).1965

***

نانٌي باليستريني

مقدمة
مسرحية ملحمية

ها أنا ذا هنا مرة أخري
جالس أمام جمهور الشعر
الجالس أمامي عن طيب قلب
ينظر لي وينتظر القصيدة

وكالعادة دائما ليس لدي ما أقوله له
وكالعادة دائما يعرف جمهور الشعر هذا جدا
ومن المؤكد أنه لا ينتظر مني قصيدة ملحمية
نظرا لأني لم أفعل أي شيء لأستوحيها

والحقيقة أن الشاعر الملحمي القديم كما نعرف جميعا
لم يكن هو المسئول عن شعره
وإنما جمهوره هو المسئول الحقيقي عنه
لأنه كان علي علاقة مباشرة

مع شاعره
الذي كان يعتمد علي جمهوره
في استلهام الوحي
ودفع الأجر

ولهذا كان شعره يتطور
حسب مقاصد جمهوره
ولم يكن الشاعر سوي المفسر الفردي
لصوت جماعي كان يروي ويصدر الحكم

وهذا ليس حالنا بالتأكيد
وليس لهذا جئتم اليوم هنا في هذه القاعة
وللأسف فإن الذي تسمعونه ليس
شاعركم الملحمي

وهذا لأنه منذ قرون عديدة
كما نعرف جميعا
تأتي الكتابة أولا
ثم الطباعة

فصلوا بجدار من الورق والرصاص
المنتج عن
مستهلك الشعر المكتوب
واللذين أصبحا هكذا منفصلين دون رجعة

ولهذا فإن الشاعر الحديث اليوم
ليس لديه الآن الجمهور الذي يعتمد عليه
يستلهم منه ويأخذ منه الأجر
لم يعد إلا جمهور مجهول الهوية أو عارض
مثلما أنتم الآن أمامي
لم تعودوا صوتا جماعيا بعد
يحكي ويحكم
من خلال صوته الفردي
يقولون إن علاقته بالجمهور فقدت كل قيمة
لم يبق له سوي أن يركز اهتمامه
علي مشاكل الفرد المفرد
وعلي سلوكياته الخاصة

الشاعر الحديث مكتف ذاتيا
وعمليا لا يحصل علي أجر
ولا يصدر أية أحكام
وكل ما يهمه ما يقولونه لنا

هو فقط
خياله
هواجسه الواعية
وغير الواعية

لأنه بالنسبة له يقولون لنا لا يوجد
إلا الفرد كمفرد
مختلف بالكلية
ومنفصل عن الآخرين
وهكذا فالشاعر الحديث
وحيد
أو هو أيضا أمام جمهور الشعر
يتحاور فرديا مع شعره
يتخيله بالطبع كأنه آنسة فاتنة
ويريدكم أنتم أيضا أن تتخيلوه هكذا
موجودة في هذه اللحظة إلى جواره
أي إلى جواري أي أمامكم.

عن ديوان (جمهور المتاهة) 11992

***

جوفاني رابوني

الجرح نفسه

هذه الرايات ليست رايات،
وأنت ترى بدلا من الحروق والجروح
بها أزهار في النوافذ وفي الشرفات
البيوت. منذ فصول ربيع لا تحصي

والمبارزة توقفت هنا، السادة
نقلوها إلى مكان آخر. ولكن في الأمسيات
في ليالي مثل هذه، سوداء
حتى الانسداد، قيحتها الرعود

أنت تعرف كم هو حزين وبأي مخالب يضغط
القلب البسيط. الحقيقة
هي أن الحروب أبدا لا تنتهي.

والجرح نفسه عينه يئن
على الدوام، ومن ليست لديه منها هو فقط
الذي يستطيع أن يطرد ذكريات الحياة.

من ديوان (كل فكر ثالث) 1993

***

عقل تعيس

ليس لهذا الحاضر ينبغي الآن
نعيش­ وإنما فيه ­ هكذا: لن تكون هناك طريقة
يبدو، أن نحصل علي غيره، ليس هناك مسمار
يطرد هذا المسمار. ولا لمن يحلم

يناسبه أفضل، لأنه يتورط في معظم الأحيان
في تجسيده، ويزيد تعقيد العقدة
لو حاول أن يفكها (يظل في الكل
من يؤمن باللا شيء) أو يتحرق شوقا،
ولكن بأي سكين؟ أن يجتثه. والعقل
التعيس أليس لديه حظ آخر،
إلا في الفكر؟ لا يسلو عقلي في أي

شيء غيره، حتى لو احتشد
المشتتون من الناس
بجلال في صلاة أو في إيداع شهادة.

من (كل الأشعار).1997

***

فرناندو بانديني

نصائح للزوجة

البيت الريفي الذي كنت به تحلمين
بالحديقة الصغيرة التي فيها تزرعين
نباتات الزينة وأجمل الزهور تحبين
وربما جميلات الليل وورود،
إنما ينتمي إلى الأشياء
التي لن تكون لنا أبدا. نتحدث عنه لا نزال
في أيام الحماس وأيام التعب والكلل والهزال
والآن؟ الآن نمضي
بحثا عن البيت في الطرقات
التي لم نزرها أبدا في خريفنا هذا
الذي يفوح بعبير مرير لعالم الأموات

لكن كل شي غال!
تتصفحين عندئذ صور المجلات
لمناظر وشواطئ ساكنة زرقاء،
وتفكرين في رحلات لأيسلندا، لكابودوتشا، لكوبا.
المكان الأخير الذي سنزوره
سوف يبدو لنا كأننا من قبل رأيناه
(قد جئنا هنا من قبل) لأنفسنا سوف نقول
بدهشة وذهول.
سوف تدق ساعات من جديد
غريبة متنافرة من أحد الأبراج
بعيد، سوف تكون هناك

حمامة تمنحها شمس شاحبة
بياضا وبريقا كأنها حبة جليد عنبرية
لكن حصاد النور الذي أخذناه من نصيبنا
سوف يبقي في العيون تحت الجفون

لن يسرقه منا
الليل أو ساعة موتنا.

من ديوان (خط الطول جرينتش) ­.1998

داريو بيللتسا

فقدان المعني

وداعا للقلوب، وداعا للحب
كنتم علي الرحب وكنتم معبودين
المسموعين أقل
حتى لا تضموا
صورا مسكينة، أو انتحار.
كان هذا ما يكتبونه ذات يوم:
سذاجة مريضة
لنحلق في الأعالي، ونضحي
للعدو، لا تنتهي.
كل شيء اليوم فقد المعني
دون تهديد دون هدنة
حتى أنتم أيها القلوب، حتى أنت أيها الحب.
استحياء
الشعراء حيوانات ناطقة
يتشاجرون علي الأجمال بأبيات
معطرة ­ لا أحد يقرأها،
لا أحد يستمع لها. يصرخون
في الصحراء بقانون جاذبيتهم.

اليوم بعد ليلة مؤرقة
مزروعة بالحبوب المنومة
حبوب ملونة تثير القلق
استأنفت كتابة قصيدة
ضد الشعر، علي استحياء
بضيق، مصير لا يرحم،
باليقين الأبله للضعفاء.

من ديوان (بيان عن الجمال الفاتن).1996

***

جاني ديليا

صمت كبير

حياتك هي نفسها حياتي
التي تقبض عليها بين ذراعيك
في اللحظة التي يتحمل فيها
شخص آخر غيابي.
كم أكثر مني يعيش محروما
لا تتأخر باسم الحب
في أن تشعر برفع النظرة علي الصباح
الذي يمر في عزلة متواترة.

الموسم الحقيقي صمته كبير
حتى لو كان الشتاء في كل مكان
ينهض سامقا في القلب
حيث السمع والبصر كل مرة.

من ديوان (سرية) .1989

***

فرانكو لوي

خوف

(ما باحبش التليفون.. بأحس معاه بالخوف
لا باعرف مين على الناحية التانية.. ولا باشوف)
وأنا قاعد بالسماعة المعووجة
باسمع الخوف من بعيد:
بيوصل كأنه صوت الموت
جاي لي بيدوب بين الإيد والإيد...
خايف من نفسي، ومن الباب اللي وراي
باين عليه بيتفتح وينادي صوت ترماي
من بعيد لبعيد، وبيسحبني في شوارع بور
بسلك سماعة زي طوق الكلب
في طريق النور.

من ديوان (إيسمان) 2002

***

باولو فولبوني

حب نفسه

الفجر لا يترك بعد
الموجة الليلية الأخيرة
ما يزال يحتفظ بلوعة
الإصرار وحيدا، حازما
كل حبل الهواء نفسه، حزمة
نوره غير المنفصمة
تتداعى من الستار الأسود.

الاتجاه معاكس
لمسار القدم الذي توقف
والنظرة التي واكبت
بوداعة أول قطعة أرض
خالية، لم تفرد يد معاكسة
لتشير إلى مشهد
مهما كان صغيرا، تكاد تخالف
اتجاه البكرة السوداء، الفرج الفاضح
لليلة الحبلى، غير المطروحة...

ولكن الفجر المندفع أمام ناظريه
يمد ذنبه شاحبا
مضيئا فوق الرأس عاليا
ثم يذوب في بخار داخل
الرمال المستحيلة.
لا يمتص منه شيئا ولا يوقظه
والموجة الليلية فقط
الأكبر تحت عارضة
القمر داخل الصندوق الجديد

يلمس منه المرفق والرموش
الملتمعة لا تزال من التأوه
لؤلؤة القوقعة
حبه لنفسه.

من ديوان (مع نص في المواجهة).1986

***

البرتو بيرتوني

بولونيا،ستالينجراد

ربع الساعة تلك قبلك
أو قبل الدرس عن سيريني
ربع الساعة تلك في الاختناق المسروق
الذي يغلق في منطقة المعرض كل منفذ
و الذي أقطعه من المسار الأيمن
مع بعض الآخرين
متعجلا، متلهفا
لست قادرا ولو للحظه أن أكون مواطنا صالحا
ربع الساعة هذا أنسخه
من النواة دون نعاس ولا كلمة
إلا من نبذة بنفسجية
في الممر­ من البار حتى مع
الدولار النقدي­ أنا من سده الباب
الخرساء من التراب ومن العتمة
أقول اسمك
في الهاتف أولا.

من ديوان الكتالوج هو هذا ( بارما 2000م)

لباس بحر

من قطعة واحدة
جرذ سنجابي في تنورة قصيرة
لا أعرف إن كان يستحق
لكنني اليوم أحس بعينيك
تمضي بسرعة، تعكس
المحيط، السد
لأن كل شيء قد حدث
وسنكون نحن عندما نهرم
تهدهدنا موجات قصيرة جدا
أصداء أود لو أحرقها
حبة حبة، في ملحك
الأبيض، المكشوط
(الكتفان،الوجه،الصدر؟
يتوقف علي كيف تمضي مع الشمس و البحر......)
ففي اللعبة جلدك
وجرذ سنجابي حقيقي
أعرف أنني لم أره أبدا
لكني أعرف أنه يبيت بياتا شتويا
وعندما يصحو كل موسم
وإذ يختار الحافة
وطريقه الأفضل، يواكب
غريزته في العودة
ينظر بهدوء هل العالم
ما يزال بالخارج، واقف.

قصيدة غير منشورة 2001

***

أنطونيللا أنيدٌا

إقامة شتوية

قبل العشاء، قبل أن تدفئ المصابيح الفراش وأوراق الشجر الخضراء تصطبغ بالدكنة، والليل المهجور في وقت الغروب القصير تمر فصول كاملة دون أن يعرفها أحد. عندئذ تمتلئ السماء بالغيوم، وبتيارات ترفع الجذوع وثمار التوت الشوكي. والريح الهوجاء الغامضة تضرب زجاج النافذة. الماء يقلب الزروع والحيوانات تترنح فوق الأوراق المبتلة. تضرب ظلال الصنوبر فوق الأرض. الماء يتجمد في الغابة. يتوقف الزمن، ينقشع. وفجأة، في صمت الشوارع المهيب، وفي فراغ النوافير، وفي الأروقة المضاءة طوال الليل تكتسب المستشفي بريق إقامة شتوية في بطرسبرج.

سيكون هناك كابوس أسوأ
يطل من بين أوراق النهار
لم يصفق أي باب
والمسامير
التي دقوها في مبدأ الحياة
تكاد تنثني..
سيكون هناك قاتل ممدد في الرواق
الوجه بين الملاءات، السلاح موضوع في الجانب
ببطء ينفتح المطبخ
دون أزيز للزجاج المكسور، في صمت الظهيرة
الشتوية.
لن تكون هناك لا الضغينة ولا الحقد، فقط
وللحظة تتضخم أواني المطبخ على ضوء بحري.
عندئذ سيكون من اللازم الاقتراب، ربما الصعود
هناك حيث يضيق المستقبل
نحو رف يعج بالزهريات
نحو الهواء المقلوب في الفناء
نحو تحليق الإوزة البرية بلا رحابة
مع كآبة المتزلج الليلي الذي يعرف
فجأة
اتجاه الجسم واتجاه الثلج
فيستدير بالكاد
وهو يمضي.

من ديوان (اقامات شتوية) 1992

***

بييترو برونو

البيت الذي عشت فيه

البيت الذي عشت فيه
علي بابه أختام.
في ظلمة النوافذ
المغلقة
لم تعد القطرة تضرب
الدلو بعد
والصمت يرسم نسيج العنكبوت
على الجدران العارية،
ذات مساء
وأنا أقلب علي الطريق خطواتي
وجدته مسكونا.
و بالداخل كنت أنا
سعيدا حتى أني بدا لي
حراما أن أزعجه.
وعدت أدراجي.
في الليل.
من ديوان (الشمس تغرب في الشرق) 9851

***

دوناتيللا بيزوتي

ايروس

خائفا تختبئ في حجر امرأة عجوز
وتفضل الكتب علي كتاب الجسد الذي لا ينضب
علي تصفح طبقات الجلد
حتى العري البنفسجي لايروس، المسلوخ.
كانت لي قبعة من جلد ذئب
وفي عينيك كان الضوء ضحكة
لا تتوقف عن القرقرة في الحلقوم
ومنذ ذلك الوقت بدا لي غير مرة أني أرى
أوضح جدا
ولكنني غالبا ما كنت أعمي مهجورا
في ميدان خاو.

وحيدة

حملت حياتي بعيدا
قل لي أين
ليست معك ­ لم تكن معك يا عزيزتي
وليست معي ­ فليس لي حلق ولا أنف
قل لي أين أودعتها، وحيدة عارية.
ما تزال ترتعش
من أجلك، المستنكرة.

الكتاب

إلى الدو بالالتسيسكي

من عمق الزمن ينهض
الوجه الأسود الذي يشير
بالتهمة ويقيس العقاب.
ماذا كانت التهمة؟
ضاعت من الذكري
والوجه الأسود لا يعرف
حارس الكتاب هو فقط الذي يعرف
الكتاب ذو الختم الأسود
في الكتاب مكتوب والماضي
لم يمح أبدا
آه لو استطعت أن أتصفح هذا الكتاب
أن أتركه
في مكانه
بياض دون مستقبل.
آه لو لم أولد
أنا، غير المحبوبة.

***

روبرتو كاريفي

الجمال المرتعش

دقيقة هي الكلمة
التي تأتي إلينا من الخير،
التي تقبض كيد القدر
فتحني الركبتين
ويهجرنا الواحد للأخرى.
لو بقي ظل، أيها الحب
فلن يكون ظل الخطيئة
وإنما ذلك الذي يحمي من النور الأقصى
الذي يحمي نظرة من يحب.
أحيانا يتبدل وجهك،
رعشة هشة تقبل شفتيك:
الخير وحده هو الذي يتجلى هكذا،
في ثنية الجلد الصغيرة،
في خفقة النظرة الناعمة.
الشر لا تصيبه حمرة الخجل،
لا شئ يجعله يشحب
وهو يختبئ.
في هذا الليل العاري من الكلمات
كملاك تمسح ألمي
في الجمال المرتعش لنظرتك
حتى لو أنا هذا المنفي سوف ينتمي إليٌ إلى الأبد
عزوبتك روح
ومضة مشتعلة في المصير،
مداعبة مودعة في قلبي
أقوي من الريح المنعزلة
التي تنفث بداخلكم.
أعرف أن ظلا يفرق بيننا،
وأن هذا النور هش
مثل بعض الأنوار التي تهز
نسيم الخريف اللطيف،
لكن ابتسامتك ربما كتبها الرب
علي جبيني.
الآن أتحدث إليك، غائبة، كأنك هنا
في النور الذي يلثم هذه الورقة،
ملاك لا تحملين اسما،
ربما كنت أخمنه في بعض فصول الربيع،
كنت أحس به من قبل في أعماق قلبي
عندما كان الرب يهدهدني في الليل،
أنت التي لم أكن أعرفها، كنت أعلم بوجودها
من تلك اليد الغامضة
التي عرضت الفرحة الأكبر
المحروسة في الألم، أنت التي تهدهدنيني بابتسامة هشة
الدوار
الذي لا يعطي الجمال والخير
يكفي أن تسمي بالحب
ببساطة، هكذا، مثل ذلك الذي يصلي
ينادي الرب بالحب
ويحبه أكثر لأنه غائب.
من يبكي، جرس، بدقاته البطيئة،
السماء تغرب علي أجراسك،
الحمرة حمرة دم
أم هكذا يتلون الحب المحتضر؟
أنت وحدك أيها الجرس تعرف النشيد المؤلم
الذي يترنم به الملاك
عندما يهجر من يحب في المساء
في عناق اللاشيء،
ولكن قل لي إذا لمّ كان الملاك يبكي
في الدقات البطيئة
أم أنه قلبي فقط
الذي ببطء ينطفئ.
أرجوك أيها الناقوس لا تقل لي ساعات
هجراني الوحيد
عندما يستحيل الشتاء إلى
شمس مضيئة بالموت.
لا تقل لي عن الملاك الوجه المفقود في زمن وجه آخر،
الآن حيث تود شمس أن تزهر
و تتبدل تنطفئ الحياة في الشعاع الأخير.
مررت و الشمس في قبضتك،
قلت: (لا أعرف، أعرف قليلا جدا عن الحب.
بالأسفل توجد هوة أعرفها جيدا).
أخذتني من سترتي، نصف وجهي كان قد أصبح ظلا.
عدونا، و طرنا أحيانا.
توجد أوراق جافة بالتأكيد
داسها بعضهم،
يصرخون في أعماق القلب.
الغرفة بالتأكيد مستطيل من الجزع
والظلام يستكمل عمله.
بين الحين و الحين أغرق في معطفي،
أسرع الخطي كأنني منتظر.
في الغالب الأغلب يسبقني صوت. أنا متأخر،
أفكر، لقد نادوا اسمي بالفعل!
عندئذ أود لو أتعلق بأهداب
من يسحبني بعيدا، حيث يوجد النور.

من ديوان (حب خريفي) ميلانو 1998

***

ماريو باودينو

بطاقة الصعود

لم يعد أحد يري السماء من السماء
الجميع فوق السحاب ينظرون
الى شيء آخر، أحيانا بطاقة مطبوعة أو صورا
مثبتة في اللوحات الإرشادية، مماثلة تقريبا
ربما تقول، لتلك المسحوبة عند نقطة الوزن، والمستعادة
على سير الحقائب، عندما
ينتهي كل شئ في موعده: لا أحد
يتلصص عليك من خيوط السحاب
ليس إلا أثرا لشعلة أو انكسارا لضوء
تشرح هذا لتوأمك الجار
المرتبط بك في الحياة وفي الموت
حتى ولو أن الطائرة ستهبط بالتأكيد
وسوف تستقل سيارة أجرة
لم يعد أحد يري السماء من السماء
مثل الساحر الطيب العاشق
في برجه الهوائي، وروح الهواء
أو القزم القائم علي خزائن الأرض، برطوبة
متكثفة ينتظر بصير مختبئا
بين تلك المروج وتلك البحار، تلك
القلاع العجيبة من الضباب،
يراك تمر من بعيد وأحيانا تعود
وتبعث إليك بإشارات خفيفة من اليد ثم ترفع الكتفين
فتبتسم لك، وربما تلهو معك بمزحة
وأنت تأكل وتشرب، وأنت لا تدري،
عفريت صغير، جن
لا توجد روح في زجاجة، ولكن الخارج معتم
كل شيء قد بدأ، كل شيء
ينزلق لكي يتموضع في مأمن
يجري المقعد محرقا
الساحر العجوز صغير الجسم، لم أتعرف عليك.

قلة الطموح

انتبه، الكلمات التي قلتها في الماضي
تحاول الآن اصطيادك
الكلمات التي قلتها في الماضي
ما تزال تسأل عنك
الكلمات التي قلتها في الماضي
لا تستطيع أن تنفصل عنها
وحتى تلك التي قرأت وربما
تلك التي سمعتها، كلها مثل
موجة كثيفة على كتفيك
تنتظر اللحظة لأنها ماكرة
رغم أنها متذمرة، وفي النهاية عيبها الوحيد
قلة الطموح
هكذا يمكن أن يحدث أن تندفع واثبة ليس عليك
وإنما علي شخص ما يمر قريبا وربما
امرأة حيوان شيء
ذات مرة رأيت شجرة كانت شجرة دردار
أو غرغار بدأت تدافع عن نفسها وتصارع
بطريقة فيها طاقة عظيمة ورغبة في الوضوح
كانت تريد أن يفهم ولكنها علي العكس جنت
رأيتها، أتعرف، تتعقد ثم تتفتح
وتضرب الأجنحة وتبدو كأنها تطير.

من ديوان ( أشعار جوية ) الذي لم ينشر بعد.

جوديتا

لو تمسكين لا بعيدة ولا قريبة
لا تبتعدن عن المرآة قليلا
وتبتسمين وتؤمنين في داخلك بأنها ليست كل شيء
تلك الملاحقة التي تطحننا
عتبة الساعات، الانتظار الساحر
ونعيب (الانسر ماشين) المتردد
غنج الحب المائع الآهات هزات الجماع، الجذر
الأعمق للحالة، المراوغات اليومية
غير الملموسة، الصيد المريب
الذي يحلق قليلا وقليلا يستلقي
يطاردني وجهك بزوبعة مفاجئة
تمطر نظرة، يفاجئني في النهاية
التمركز الساخر للغاية للأنف

من ديوان (حوار مع عدو قديم) ميلانو 1999

***

بيادجو اريكسي

أفق

أيها الأفق المضيء يا من تخلط الأفكار. هل هناك بر أو بحر
خلف هذا الخيط الذي ينفي الواقع
عن العين؟
مشاعر من الخيال علي ارتفاع
أبواب السماء تجذبني.
قوالب ملائكية معلقة في الهواء
تنادي بأناشيد شجية
كيما توقظ الإرادات الناعسة
وأشعة لاسعة تغرز في الشمس،
كرة من الذهب الملتهب تقتنص
خيالاتي وتشعها علي الفور،
وفضلا عن المشاعر تضاعفت عندي
رعشات غير مؤلمة هي عادات سعيدة
أنكروها عن الرجال الذي لا يعرفون
عقوبتي الجميلة

لو أنني ولدت أعمي
وظللت، لكانت نظرتي التقطت
صورتك.
في عماي كنت أيضا سوف
اختارك.
هو القلب من كان
سوف يريني، هو الشاهد
المقدس، القادر علي
تلوين الحلم لي
من يجذبني بصوت
الصوت، بقوة اليدين اللتين
ضمتا وجهي لتلغي
هذا العمي المزعوم.

اختطاف

منذ زمن كنت أغرق في النعاس
قلق فوق جبل أولمب
بنيته لذاتي، حيث خلعت
آلهة وآلهات.
ولكن حقيقة ناصعة كانت محتضنة داخلي:
البحث عن إله أحبه، إذ أعرف
في ضميري أن من الصعب الحياة
دون جذوة ووصلت أنت،
قويا بسلطانك، لتأخذني، بل
لتخطفني، مثل ساق للآلهة.

الغرفة

كانت الغرفة الأبهى
في المنزل و الأضواء كانت أصدافا
تتلألأ مضاءة دائما تلعق الفراش
المضطرب فوضي دون أن تفقده الرونق
أنت الشاب الجاهل كنت ترقد.
بجانبي كبطل فقد كل حماسة، بلا خيلاء،
لين و حالم، تلمس في الضوء
الداهم جسمك الجميل
العاري تماما.
برهان قاسي يقهرني
إذ يجعل الأصوات أكثر فضية،
سقوطي محتوما..

القدر

عندما بدأت كانت مجرد لعبة.
السهم الذي رميت به عمدا
أصابني. قلت أنا:(أبدا).
ولكنني أصبحت حليما. وديعا مثل الحيوان الأليف للغاية كنت استسلم للثقل الخفيف الذي أحمله غير مهيأ له.
استمرت اللعبة في السنوات التي وهبت للمغامرة. وحتى اليوم
تستمر­ شريكة للقدر­ الرغبة النهمة
في الاستمتاع. بينما بالنسبة لنا
سوف يخمد الموت المتلهف وحسب.

الآلهة

يحيا الآلهة! حتى لو أجهل
الاولمب المصون حيث تقيم.
لكنني اهتف بالإرادة الالهية المجهولة
التي خلقتك والتي أهدتني
المعرفة بروحك
التي لا تروض، مع انعدام اليقين في الظروف
التي تجعل من الوقاحة عملا مدهشا.
ويهز حياتي هذيان وحشي
أكثر من العاصفة، لو أن البرق
كل لحظة يضرب عينيك المائيتين
فمتى تنظر، وهي تضرم بومضاتها
أوجاعي التي تدمع الى الابتهال طلب لعون
الآلهة.
واحد من أشهر الشعراء الإيطاليين في القرن العشرين


أقرأ أيضاً: