حوار مع الشاعرة
كورا - روميكو

.. حداثة اليابان الشعرية، ما هي، كيف هي، ثم هل لديهم في بلاد الشمس المشرقة شعر حديث بالمعنى الذي يفهمه القارئ العربي، أي شعر خارج قوانين "الهايكو" وشعر "التانكا" خارج قواعد العروض الشعري.. هذه الأسئلة وغيرها كانت تؤرقني وقد مضى على وجودي بطوكيو عدة أشهر.. بدأت السؤال عن الشعر، عن أهم شاعر أو شاعرة، عمن يفتح بوابة الشعر الياباني الحديث أمامي..إذ من غير المعقول أن بودلير وت.س.إليوت لم يصلا إلى هناك.. إلى اليابان حيث جميع الحداثات وصلت إلى أقصاها.. وكان اللقاء الأول مع الشاعرة كورا - روميكوا التي قامت، وعلى مدى ثلاثة أعوام تقريباً بمهمة فتح ملف الشعر الياباني الحديث أمامي بكثير من الموضوعية والشمولية وقدمتني إلى أكثر من شاعر وشاعرة وإلى أكثر من أمسية شعرية للكلام حول الشعر العربي الحديث وحول أعلامه وأزماته.
..كورا - روميكوا، ليست شاعرة وحسب، بل هي ناقدة أدبية من الطراز الأوّل. تهتم بآداب أسيا وإفريقية منذ زمن طويل. وقد نقلت إلى اليابانية مختارات من الشعر العربي الحديث. لذلك تتحدث بثقة عن نازك الملائكة والسيّاب وصلاح عبد الصبور وأدونيس ومحمود درويش وغيرهم من شعراء الحداثة العربية. ولعلّها الوحيدة في ذلك بين أقرانها من الشعراء اليابانيين.. فالشاعر الياباني مأخوذ هو الآخر - كالشاعر العربي - بحداثة أوروبا الشعرية وقلّما يلتفت إلى نتاجات الشرق الأوسط الأدبية. "الشاعر الياباني لا يعرف عن العرب غير النفط" هكذا تقول الشاعرة كورا - روميكوا وهي تبتسم متأسفة.. وهذا ما لمستهُ فعلاً أثناء لقاءاتي بالعديد من شعراء اليابان.. لكن والشاعر العربي المعاصر ماذا يعرف عن شعراء يابان اليوم أو عن يابان اليوم؟!
.. الشاعرة كورا رميكو من مواليد 1932.
فازت بالعديد من الجوائز الأدبية داخل اليابان وخارجها أهم أعمالها الشعرية: "المكان، فوق أرض لا تُرى، "صوت القناع، أحبّاء"..
على الشاعرة كورا روميكو وعلى خمسة شعراء آخرين طرحت أسئلة متشابهة حول أهم مشكلات الشعر الياباني المعاصر، حول هويته. حول تأثره بالخارج وحول ميزاته وخصائصه، حول ما يمكن أن يضيفه إلى الحداثة الشعرية العالمية إن جاز لنا هذا التعبير.. طرحت أسئلة تكون مدخلاً إلى الاقتراب من الحساسية الشعرية اليابانية المعاصر كما تظهر في هذه المختارات المرافقة للحوار.
س: كيف تنظرين إلى هوية الشعر الياباني الحديث؟
ج: الشعر الياباني الحديث حرٌّ تماماً من ضرورات الشكل ويتسم بصفة اللا موسيقية الأقرب إلى النثر. يقوم بعض الشعراء بتجربة إلقاء مموسقة، ولكن سرعان ما نلاحظ أن شعرنا ليس إيقاعياً كثيراً بسبب كثرة الألفاظ المتشابهة النطق في اللغة اليابانية، ربّما في هذا هوية ما. لكن أعتقد أن الصفة التي تميز الشعر الياباني بخاصة غير موجودة. نستطيع القول أن شعرنا بعد الحرب العالمية الثانية صار أقلّ إيقاعية وغنائية من ذي قبل، صار ذهنياً جداً.
س: ما هم أهم مشكلات هذا الشعر؟
ج: هذه قضية صعبة.. شعرنا الحديث وُلد بشكل فعلي بعد الحرب وكانت هناك حركات شعرية متعددة مثل تجمع "آرتشي" (الأرض الخراب) الذي تأثّر جداً بقصيدة ت.س.إليوت "الأرض الخراب". أضف إلى تزايد عدد الشاعرات. المشكلة أنه بعد هذه الأجيال لا يولد جيل شعري آخر، جيل شعري جدّي.
ولعل السبب هو أن النّاس في غالبيتهم ينصرفون عن هذا الشعر، لأن المجتمع الياباني اليوم يطارد المصلحة الاقتصادية بالدرجة الأولى ولا يتيح لهؤلاء النَّاس فرص القراءة.
هكذا أرى الشعر يتجه إلى الانهيار. اليابان اليوم أصبحت قوة اقتصادية كبرى وثرية جداً بحيث نكاد نتوهم انعدام التناقضات ما دمنا ننظر إلى ما حولنا فقط، لذلك فقد الشعر كثيراً من التوتر الضروري له. من هنا جاء النقاش مؤخراً حول تجديد النظر إلى الشعر ذي الشكل. وهكذا وصلنا إلى مرحلة يجب علينا فيها التفكير جذرياً بمشكلات الشعر.
س: لماذا تأثر شعراء ما بعد الحرب، ب. ت.س.إليوت على وجه التحديد؟
ج: ينطبق هذا على تجمع "آرتشي" أكثر من أي تجمع آخر. والواقع أن كثيراً من الشعراء كانوا قد قرأوا شعر إليوت أو "جبل العجائب" لتوماس - مان وكانوا ينظرون إلى الحضارة بنوع من اليأس. وأثناء الحرب عاشوا الخراب والتدمير فنشأ لديهم اعتقاد أن لا مستقبل ولا أفق للشباب ولا سيما الذين ذهبوا وشاركوا في الحرب وكانوا لا يزالون طلاباً. إلى هذا كلّه، اهتم الشعراء عموماً بانكلترا وأمريكا أكثر من جميع البلدان الأخرى، ولهذا كان تأثرهم بالشعر المكتوب بالإنكليزية قوياً وربما لهذا أيضاً لم تتطور حركة "آرتشي" وهي الحركة التي لعبت دوراً كبيراً في توجيه الحساسية الشعرية السائدة.
س: يقال إن الشعر الياباني بعد الحرب تخلى عن البلاغة لصالح استخدام مبهم للاستعارة والكناية، ما سبب ذلك؟
ج: لا أدري إلى أي حد تبدو هذه الملاحظة صحيحة. لكن أستطيع القول أن تجربة الحرب والخراب المباشرة قادت غالبية الشعراء إلى حركة تعبيرية وصفية ازداد فهيا استخدام المجاز واختفت اللعبة اللغوية البلاغية أو بتعبير اصح اختفى الشعر الذي يعتمد فقط على الجو الجمالي والعاطفي. أثناء الحرب انتشر المجاز الفارغ المرتبط بالفاشية العسكرية وكان على شعراء ما بعد الحرب أن يحطموه. هكذا مثلاً حلّت عبارة "مخروط ضخم من الحديد المؤكسد" محلّ "الجبل المقدس" للإشارة إلى جبل "فوجي" الذي قدسه اليابونيون وقتاً طويلاً. كما انتهت البلاغة الجميلة التي نجدها لدى شاعر كبير مثل "شيمازاكي توسون"، وسبب ذلك هو تغير الواقع الياباني، أي الانتقال من الحياة القروية إلى الحياة الآلية والنثرية.
س: لكن بقي الشعر الياباني بعيداً عن الميتافيزيقيا بالمعنى الغربي - وهو الأعم - للكلمة. كيف يمكن أن نفهم هذا؟
ج: من المؤكد أن الشعر الياباني حسّي جداً. حسيته حادة جداً وقد لا توجد فيه ميتافيزيقيا ما، لكن الرمزية معلم من معالمه. أعتقد أن ذلك له علاقة بالدين وبالثقافة السائدة. هناك بوذيون لديهم نوع من الميتافيزيقيا المنظمة، ولكنها على مستوى شفهي وليس على مستوى ثقافة ككل، مثلما نجد ذلك في الإسلام. ربّما هناك بوذيون ميتافيزيقيون، ولكن إذا فكرت بما حولي وبنفسي فقد أجد رؤية إلى ما فوق الواقع ولكنها ليست منظومة. لعلّ هناك في جنة البوذي أو المستقبل ميتافيزيقيا أو شيئاً ما لا نعيه جيداً. أعتقد أن غالبيتنا تهتم بالمنفعة العملية. يكثر لدينا الشعر الذي يتناول الحياة اليومية بعاديتها، ونسميه بـ"مذكرة ما حولنا"..
س: مع أن الموت من أهم موضوعات الشعر الياباني، والموت موضوعة ذريعة للكلام الميتافيزيقي؟
ج: هذا صحيح. لكن ما يحدث عندنا أن الشعراء يكتبون عن الموت بصفته انقطاع الحياة اليومية ونهاية الاستمرار. إنهم لا يعتبرون الموت كقضية ولا يفكرون في دلالته الماورائية. يقتصرون على الحديث الذي يثيره موت قريب أو صديق أو عزيز.
س: وظاهرة انتحار الأدباء كيف يمكن تفسيرها بالنسبة إلى ميشيما وكاوا باتا، وهما من أكبر الأسماء الأدبية وقد وصلا إلى قمة النجاح والشهرة؟
ج: أعتقد أن وراء هذه الظاهرة، إذا أمكن أن نسميها ظاهرة باليابان، تكمن ثقافة "بوشي دو" ثقافة الفروسية التي تعتبر الموت حالة إيجابية. في الأدب الحديث كثيرون الأدباء الذين انتحروا بتأثير هذه الثقافة. [بوشي: يعني طبقة سامرائية. دو: يعني طريقة. والطريقة المعروفة للانتحار في هذه الثقافة هي "هاراكيري" حيث يبقر الشخص بطنه بشكل أفقي ثم يطلب إلى صديق عزيز أن يضرب عنقه من الخلف ليموت بسرعة. هكذا انتحر الروائي المعروف ميشيما] هناك ثقافة يكون فيها الموت شهادة للذات: بالموت يشهد المرء على صفائه، أو يريد أن يؤكد نقاءه. مثل هذه الثقافة لا أفهمها، لأنها تؤثر النفي على الإيجاب وتلجأ إلى الموت لا إلى منطق شمولي أعم. لكنّ لعلّ فيها ميتافيزيقيا ما للموت. في هذه الثقافة يعبر المرء عن نفسه بالفعل لا بالقول واللغة، يموت لكي يؤكد نفسه.
س: "التانكا"، هذا الشكل الشعري التقليدي عاد بقوة في الثمانينات إلى الساحة الأدبية على يد شاعرة شابة آنذاك اسمها تاوارا - ماتشي، كيف تفسرين نجاحها؟
ج: أي إنسان يستطيع كتابة قصائد تانكا مماثلة لقصائد تاوارا ومن دون مبالغة، أستطيع الآن أن أكتب ديواناً كاملاً من هذا النوع. من حيث المضمون لا أقدّر أعمال هذه الشاعرة. أما نجاحها التجاري، فأظن أنه يرجع إلى الانسجام الذي حققته أعمالها بين الشكل القديم والحياة المعاصرة التي لا شكل لها. ولعل الناس قد وجدوا لذّة في هذا الانسجام، ولعل القارئ الياباني متعلق بالتقاليد. الحياة المعاصرة فقدت الشكل، أو لم تجد شكلها حتى الآن، إنّها حياة تجريبية بامتياز وهذا ما يدفع اليابانيين إلى البحث عن شكل ناجز يسكبون فيه مشاعرهم. لذلك تنتشر اليوم كتابة التانكا والهايكو بكثرة، لأن كتابتهما سهلة ولا تأخذ وقتاً مثل كتابة الشعر الحديث الذي يحتاج إلى وقت ودقّة. أعتقد أن ذلك انعكس على شعرنا المعاصر وظهرت حركات تحاول تجديد النظرة إلى الشعر ذي الشكل التقليدي، لكن تظل هذه الحركات نوعاً من الحنين إلى الماضي الذي لن يعود.
س: الشعر!! هل تعتقدين بقدرته على.. ما الذي يدفعك إلى الكتابة؟
ج: قدرة الشعر على الحياة، على التغيير، على تقديم الجمال.. الخ، نعم إيماني كبير بهذه القدرة. إنه يستطيع التعبير عن شيء ما في أعماق تجارب النّاس، وتجسيد ذلك الشيء. لغة الشعر تصل إلى مكان أعمق من الحياة اليومية، تصل إلى قاع الواقع. هناك بمقدور الشعر أن يغير. وإن لم تصل لغة الشعر إلى ذلك المكان العميق، إلى تناقضات تخفيها قشور الواقع، فهي بالنسبة إليّ وفي نظري بلا أية قيمة. على الشاعر أن يخرج الكلام من تناقضات الواقع. وما يدفعه إلى الإبداع هو شعوره بتناقض الحياة الحاضرة. من يرضى بحياة الواقع كما هي قد لا يحتاج إلى الشعر، والشعر هو الباحث الدائم عمّا لا يوجد في الواقع، يغزُّ جذوره في هذا الواقع للبحث عن واقع آخر غير موجود وغير معروف لحد الآن. وأعتقد أنني أمارس الكتابة لأنني من هذا النوع.
إن تمزقي بين الواقع والطموح، بين الآن والمستقبل، ووجودي الدائم في تناقضات لا حلّ لها هو الذي يدفعني إلى الإبداع.. تناقضات لا تنتهي، ويستحيل أن يكون هناك مجتمع مثالي كالذي تحدّث عنه أفلاطون. هناك تناقضات تحلُّ مع مرور الزمن، وهناك تناقضات لا حل لها أبداً، وأنا أقصد هذه الأخيرة لأنها هي الموجودة داخل كل شاعر حقيقي. وأعتقد أن الشعر لا يأتي نتيجة تناقضات تحلُّ غداً أو بعد غدٍ، بل من تناقضات عميقة جداً وغير مرئية بالنسبة إلى النّاس العاديين. على الشاعر أن يضع نفسه وبجرأةٍ لا مثيل لها على مستوى التناقضات الظاهرة والخفية وأن يدلف إلى أعماقها جميعاً إذا أراد أن يكون لشعره معنى. لكن للأسف الشديد أن النّاس يبتعدون عن هذا النوع من الشعر ولا سيما باليابان.
لهذا أقول: أن تكون شاعراً باليابان، يعني أنك فعل مجاني إلى حد كبير.
س: والحداثة؟ كيف تنظرين إليها في الشعر الياباني المعاصر؟
ج: الحداثة بالنسبة إلى شعرنا المعاصر تعني تغيير الشكل واهتماماً أكثر بالصورة ووداعاً للوجدانية التقليدية التي يمثلها شعر التانكا وللحساسية الجافة (مقارنة بالحساسية الرطبة أو الطازجة)، كما تعني نقد الواقع وإدخال روح السخرية. أثناء الحرب العالمية الثانية تعرضت حركة الحداثة إلى حالة انهيار شبه تامة، وذلك بسبب تعاونها مع الفاشية الامبراطورية. لكن حالة الانهيار هذه لم تدم طويلاً، فبعد الحرب صارت الحداثة تتبلور أكثر في أشعار الطليعة، أشعار جيل الثلاثينات.. إن الحداثة بالنسبة إليّ تعني، أيضاً، الطموح إلى الحرية وإلى تحقيق العدالة بين جميع الناس.
وهذا ما قادني إلى نقد "العصر الحديث" والاهتمام بالحركة النسوية والعالم غير الأوروبي.
س: هل توجد علاقة بين الشعر من جهة وبين السياسة والدين من جهة أخرى؟
ج: أحياناً تظهر أعمال الشاعر غير سياسية، ولكن في أعماقها لا بدَّ أن ترتبط بالسياسة، لأن وسيلتها، أي اللغة، وجود تاريخي واجتماعي. وتبدو هذه الصلة أعمق بين الشعر والدين من خلل التعزية، يبتعد عن الدين قصداً ليأخذ اتجاهاً آخر. وقد يجيء عصر يرتبطان فيه من جديد ولكن بشكل مختلف على ما أظن.
س: وماذا عن جيل الشعراء اليوم، الشعراء الجدد؟
ج: ألاحظ أنه لا توجد حركة شعرية جديدة، للأسف الشديد، وذلك مقارنة بنتاج شعراء العشرينات والثلاثينات الذين كانوا قد أنشأوا جيلاً شعرياً متيناً. أظن أنه يجب على جيل الشعراء الجدد أن يفكّر في نفسه جيداً وأن يعيش الخيارات الصعبة بلا تردد.

حوار مع الشاعر
غوزو - يوشيماس

.. عندما التقيته اعتقدت وللوهلة الأولى أنه سيقع على الأرض. نحيف. على هيئة ظل أو أقل. غائر العينين يمشي ويخاف أن يوقظ الدرب.. هكذا يريد ألا يكون له خطى. عندما يتحدث عن نقطة ما تظن أنه سوف يذوب في ما يقول. يريد الذهاب إلى أقصى الكلام.. يريد الإحاطة بكل ما قد تعنيه الكلمات.. من مواليد 1939.. حصل على أهم جوائز اليابان الأدبية. عالمه الشعري يمتاز بالغرابة.
لغته الشعرية معقدة وصعبة، لكنها في غاية البراعة الإبداعية كما يقول عنه النقاد.. ولهذا السبب هو معروف جداً في دوائر الشعراء.. فمعه يبدو أن اللغة اليابانية تتخذ سمات جديدة.. شيطانه الشعري - كما يقال بالعربية - الأصوات غير المفهومة، الهدير، الضوضاء، واللغات التي لا كتابة لها. يهتم بالشعوب التي لا حروف ولا كتابة للغاتهم.. من أهم أعماله الشعرية: "سفينة الموت، أوزيرس إله الحجر".
س: كيف يمكن أن تقدم هذه المختارات للقارئ العربي؟
ج: عندما تقرأ هذه المختارات، أرجو أن تنتبه إلى أن اللغة اليابانية تمتلك صوتها، إيقاعها، نبرتها وملامحها. لعلَّ القصائد الجيدة حقاً تستطيع أن تنقل جميع هذه الأشياء للقارئ حتى وإن كانت مطبوعة. ولكن في الحقيقة، أريد أو أتمنى أن يتذوق القارئ العربي الشعر الياباني بالسماع لكي يتاح له إدراك ما لدى هذا الشعر.. فالإصغاء إلى هذا الشعر يُلقى بلغته الأم يُقدّم متعة جديدة، متعة أخرى. وهكذا أريد أن أتذوق أحياناً الشعر العربي بالطريقة نفسها. على أية حال، هذه المختارات خطوة أولى، لكنها مهمة، لتحقيق مثل هذه الأمنية.
س: هل تعتبر نفسك شاعراً يابانياً وبأي معنى؟
ج: خطر لي السؤال نفسه عندما حضرت أمسيتك الشعرية وأصغيت جيداً إلى إلقائك [أحييت أمسيّة شعرية بطوكيو في تاريخ 7/12/1990 وقد حضرها خمسة عشر شاعراً يابانياً. ألقيت فيها بعض نصوصي ونصوصاً شعرية أخرى لأدونيس].
صحيح أن اليابان موجودة كدولة لها حدودها ولغتها، لكن نجد في اللغة اليابانية عناصر كثيرة لم تكن فيها أساساً مثل الحروف الصينية وكلمات غربية دخلت إليها بعد انفتاح اليابان على العالم منذ عصر ميجي، أضف إلى ذلك تأثير الثقافة الأمريكية عليها بعد الحرب الكونية الثانية. إن جميع هذه العناصر والعوامل تداخلت وتشابكت في نسيج اللغة اليابانية الأصلية فكانت اللغة اليابانية التي نستخدمها اليوم.
إنّ ما أحاول التعبير عنه وقوله يتجاوز أو يريد أن يتجاوز بوعي أو بغير وعي لغة البلاد الواحدة فينتشر ويتعمق. من الطبيعي أن أعتبر شاعراً يابانياً، لكن في الحقيقة، شخصياً وداخلياً وبشكل جدّي أتمنى الانفلات من هذا التصنيف ومن هذه المرحلة.
س: بعبارة أخرى هل تعتبر اللغة هوية الشعر؟
ج: القصيدة مستعدّة دوماً للترجمة والانتقال إلى أية لغة أخرى لأن شعريتها تظل - أو يجب أن تظل - ترافقها مهما تغيرّت ملامحها وأياً كان جواز سفرها. لكن طالما أن القصيدة تنمو، أساساً، من خلال لغة واحدة، أي تنبت من هذه اللغة، فلا بدّ لجذورها أن تمتد في اللغة الأم بعمق. هذه.. العلاقة بين اللغة والقصيدة تشبه العلاقة بين اللغة والوليد، أي، إن اللغة التي يتعلمها الوليد تصبح هوية تبينّ مكان ولادته، إلاّ أنه سيكبر رويداً رويداً بشكل مستمر في جهة ما، وهكذا القصيدة. لذا، لا أريد أن أرى اللغة شيئاً ثابتاً.
س: ما هي أهم مشكلات الشعر الياباني الحديث؟
ج: هناك مشكلة خارجية تتمثل في قلّة عدد القراء.
لا أريد التطرف في الرأي، ولكن أستطيع القول إن الشعر الياباني الحديث ينزع إلى أن يكون ذهنياً وبالتالي صعب الفهم جداً. لقد ابتعد عن القصائد التي يستطيع الناس حفظها وغناءها. صحيح أنه لدينا قصائد طريفة، تجريبية وعميقة المعاني، غير أنها تنفصل تماماً عن الجماهير.
لعلَّ هذه هي أهم مشكلة يعاني منها الشعر الياباني الحديث. وهناك نقاش كبير حول ضرورة رؤية هذه المشكلة على أنَّها خارجية وحسب والاكتفاء بتسميتها "الانفصال عن المجتمع الشعبي".
أعي هذه المشكلة، ولكي أتجاوزها أميل إلى التعمق أكثر في الأشياء الأصعب والأقصر. ولهذا لا أكتب قصائد سهلة مثل الأغاني الشعبية.
س: لكن هذه مشكلة ليست خاصة بالشعر الياباني؟
ج: أعتقد أنها مشتركة لدى الكثير من شعراء العالم اليوم، ولكن موجودة بشكل مبالغ فيه عندنا باليابان. والحقيقة، هناك احتراس جماهيري عفوي من أن يقف الشعر موقفاً طليعياً راكالياً فنياً وسياسياً. والنخبة الشعرية - الثقافية هي التي تثير هذا الحذر والاحتراس بين النّاس في "عصر الجماهير" أي هذا العصر الذي صارت فيه الجماهير تتصل بكل شيء ويصلها كلُّ. صارت عبارة "صعب الفهم" صفة ملازمة للشعر الحديث، والشعراء يتحملون مسوؤلية ذلك. وعلى الرغم أنني في طليعة من يذمّهم النّاس لصعوبة وغموض قصائدي، فإنّ الحلَّ الوسط لا يرضيني ولا أكتفي به. وهذا هو سبب انزعاج الآخرين مني.
س: يقال أن الشعر الياباني بعيد عن الميتافيزيقيا بالمعنى الغربي فما رأيك؟
ج: يقودني خيالي إلى عالم جمالي وميتافيزيقي، لكن ليس فيه نظام فلسفي، بل يشبه العالم الذي يحلم به راهب الزن Zen أو العالم الذي تدركه شامانة( ) العجوز أو العالم الذي يستوعبه شعب الآينو Ainou الذي لا حروف للغة التي يتكلمها. إذن، الميتافيزيقيا التي أميل إليها تختلف عن الفلسفة أو عن مفهوم الميتافيزيقيا العام، إنها أكثر خيالية ورومانسية وأقرب إلى ما يوجد عند "وليم بليك". بهذا المعنى قد تبدو متطرّفة.
س: لا تزال موضوعتا الموت والطبيعة تسيطران على مشهد الشعر الياباني الحديث وشعر الهايكو والتانكا، كيف تفسر ذلك؟
ج: ملاحظاتك صحيحة رغم أنني أحتار في تسمية ما تشير إليه بكلمة "الطبيعة". إنّ لهاتين الموضوعتين مكاناً كبيراً في الشعر الياباني لأنهما عنصران أساسيان في تقاليد اليابان الفنية - الأدبية والثقافية. يقول باشو مثلاً: "كن صديقاً لفصول العام وحسّاساً لمرور الزمن والمح فيه بريقاً". إنّ ما يقصده باشو هنا يجب أن يُفهم فهماً ميتافيزيقياً. وأعتقد أن هذا القول يشير إلى وجود الإحساس الرهيف والرفيع بأشياء مثل النور والزمان في تقاليد اليابان منذ القرون الوسطى، وهذا ما جعلنا حسّاسين بالنسبة للطبيعة والموت إلى حدّ مرضي أحياناً..
س: إلى حدّ الانتحار؟ بالمناسبة كيف تفسَّر ظاهرة انتحار الأدباء باليابان؟
ج: قلت سابقاً إن الموت والطبيعة عنصران أساسيان في التقاليد اليابانية عموماً وبودّي أن أربط ظاهرة الانتحار بذلك.
إن موتاً مثل موت ميشيما وموت ماواباتا - وأكوتاغاوا له أسىً خاص ومن الممكن أن يكون هذا الأسى مرتبطاً بالفكرة البوذية. فما يبحث عنه الشعب الياباني في الفن يتلخص في الحزن على حياة هشة وعابرة والشوق إليها في الوقت نفسه.
لموت ميشيما بعض الإشكالات الخاصة والمعقّدة. أمّا كاواباتا فقد حاز على جائزة نوبل الأدبية وانتحر مدخلاً أنبوب غاز في فمه عندما تجاوز عمره السبعين، فكان موته صدمة كبيرة بالنسبة إلينا. وارى أن شيئاً من الحزن على الحياة الهشّة والعابرة والشوق إليها قد بقي في باله لم يفارقه. وفي هذا أجد طريقة للتقرب من "الموت بلا مفرّ"، لكن لا أعرف إذا كانت هذه الطريقة خاصة باليابانيين أو لا. وسوف أحدّثك عن شاعرين ماتا بشكل مدهش واقتربا من الموت كما يريدان.
الأول هو سائيكيو: من أهم شعراء الشكل الشعري القديم المعروف بـ"الواكا Waka" في القرون الوسطى. سائيكيو هو المحبوب الأكثر بين اليابانيين.
الثاني هو سانتوكا: شاعر هايكو معروف عاش متشرّداً وهو الآخر أصبح محبوباً جداً ولا سيما في هذه السنوات خصوصاً بين عمال وموظفي الشركات. أعتقد أن حديثهما في نهاية حياتهما وموتهما يستأثران باهتمام النّاس عامة.
كان سائيكيو راهباً يعيش حياة الزهد في الجبال وفي الوقت نفسه كان شاعراً كبيراً من شعراء الـ"واكا" يقول:
ارغب الموت في الربيع
تحت أزهار الكرز
في منتصف شهر نيسان
وحقاً توفي ذلك الفصل. لم يكن موته مجرد واقعة بسيطة عابرة، بل لقد آثار مشاعر الناس جميعاً آنذاك. قديماً، مات الكثير من النّاس في الجبال وهم يسندون ظهورهم إلى جذوع شجر الكرز المتفتح الأزهار. مثل هؤلاء النّاس، مات سائيكيو في جو مزهر ومثير للشفقة، وعلاوة على ذلك كان قد عبّر عن هذا الجوّ بلغته الخاصة. لذلك ظلّ قادراً على تحريك المشاعر عبر قرون طويلة والى يومنا هذا.
أعتقد أن موت سائيكيو كان موتاً هادئاً ومرغوباً فيه من قبل الجميع. أمّا الانتحار فأشعر بالقساوة تجاهه. سانتوكا هو الآخر اقترب من الموت كما أراد. كان شاعر هايكو وتانكا ومثقفاً كبيراً. توفي سنة 1940. أصبح في هذه السنوات الأخيرة محبوباً جداً. لقد شاهد في صغره أمه وهي تلقي بنفسها في بئر لتموت. كان هذا الحادث صدمة كبيرة بالنسبة إليه. كان سانتوكا سكيراً غير معقول، يتجول على شكل درويش طالباً الصدقة من النّاس. والتانكا التي يكتبها هذا الراهب، راهب زن Zen، المتشرّد ليست على إيقاع (5/7/5) وإنّما خرج على قاعدة شعر التانكا وصار يكتبه بشكل حرّ. كان دائماً يقول: "أريد أن أموت على غفلة". وهذا ما حدث، ففي اجتماع مع شعراء تانكا آخرين بمنطقة "تسوياما" مات سكراناً بالغرفة المجاورة دون أن ينتبه أحد إلى موته. لعلّه مات غفلةً أثناء النوم.. يوميات هذا الشاعر ممتعة جداً. يشرب بكثرة، يوقف القطار خطأ، يتبول على فراشه. كان في داخله أشياء عجيبة. أفكّر في الكتابة عنه. في زمنه كان الكثير من باعة البضائع يسافرون وينزلون في خانات تجارية وأعتقد أن أحداً منهم قال: "أفضّل موت الغفلة".. أظن أن مثال سانتوكا يفسّر إلى حدّ فكرة الياباني عن الموت.
س: هل تخاف من الموت؟ وهل هو نهاية؟
ج: ليس فهم الموت سهلاً لكن إذا فكرنا بالموت بمعنى شعري لا بمعنى ديني، فإني أرى أن جانب الحياة الأساسي يتوهج بقدر ما نقترب من الموت. وعندما أقترب من الموت أو من حالة الضعف إلى حد أقصى، تصبح روحي أكثر نشاطاً للعمل الإبداعي. وفي حالة الحياة في الموت، أحاول أن أجعل من الحياة المحدودة انتفاخاً أكثر غرابة من الخط المستقيم. هذه هي فلسفتي. نعم، أخاف الموت، غير أن هذا الخوف هو في الوقت نفسه خوف من نشاط الحياة المرعب. وهذه قاعدة الإبداع الأهم.
س: المجتمع الياباني هادئ اليوم أكثر من غيره بكثير، والشعر يحتاج إلى مثير خارجي بشكل أو بآخر، فما الذي يدفع الشاعر الياباني إلى الكتابة؟
ج: عندما يصير المجتمع شعبياً ومكثفاً لدرجة مجتمع اليابان اليوم يتّسع مجال التخصص، أي يصبح الفرد يهتم بمجال معين دون سواه ولا يكترث إطلاقاً بأي مجال آخر. هكذا يتجزأ المجتمع، وهذا التجزؤ يجعل اتصال بعضنا ببعض عسيراً جداً ولدرجة مرضية. هذه مشكلة تتحمل الصحافة جزءاً منها وربّما تعكس حالتنا المجرّدة من الثروة الحقيقية. إننا في عصر يتجاوز فيه الشيء نطاق المرض، تماماً مثل غشاء الكبت الذي يتمدد إلى عمق الحياة ليحجبها. ونحن الشعراء نستجيب للأشياء بردود فعل مرهفة مستخدمين اللغة بعناية فائقة. قد نحسّ، وبقوة، بهذه الظاهرة الجديدة علينا. فتوافر البضائع والمنتجات بكثيرة يسبب لنا صعوبة تنفس عميقة. هذه هي مشكلة المجتمع الاستهلاكي، التجاري المجزأ.
ومع أنني أعاني من هذه المشكلة بجدية، فإني لا أستطيع الوقوع في الحنين والاتجاه مثلاً إلى الصحراء العربية أو التأمل بطريقة هندية لأنني أنا بالذات مصاب بالمرض. من هنا تبدأ المشكلة وعليّ أن أواجهها. وهي مرتبطة بمشكلة العلاقة بين الشعر والدين، بين الشعر والسياسة.
س: هل توجد علاقة بين الشعر والسياسة؟
ج: نعم، وأعتقد أنها موجودة بشكل جذري. غير أنها لا تظهر إلاّ بشكل معقّد جداً وحسب حالات المجتمع والصحافة. إنني من الشعراء غير السياسيين، ولم أعلّق حتى الآن أي تعليق سياسي إلا في مرات قليلة جداً وموقفي هذا يجعلني اتجه إلى الطرف المعاكس، الطرف الأكثر سياسية وخطراً، لأكتب الشعر.
إن العلاقة بين الشعر والسياسة ليست بسيطة إنهما مرتبطان أساساً بشكل عميق. لذلك أرى أن هذا الموضوع يحتاج إلى حذرٍ كبير.
س: والعلاقة بين الشعر والدين؟
ج: سيكون جوابي على هذا الجواب مثله على السؤال السابق.
ولكن ثمة اختلاف ضئيل هو أن العلاقة بين الشعر والدين تشبه علاقة توأمين يقفان ظهراً لظهر ويربط بينهما الألمِ من ناحية الجذور. هذا الموضوع يحتاج هو الآخر إلى حذرٍ كبير. ولعل مستقبل الشعر يتمركز كاملاً في هذه النقطة، كما أن مستقبل ما سميناه بالدين قديماً قد يعتمد على ذلك الألم الذي يربطه بالشعر ظهراً لظهر.
س: ماذا تعني بالنسبة إليك العبارة السحرية "حداثة، حداثة، الشعر" التي لم توفر بلداً إلاّ ومرّت عليه؟
ج: من الصعب أن تحدد معنى كلمة "حداثة" حتى في سياق اللغة اليابانية. يقول بعض الشعراء أن الحداثة هي قضية المجتمع، أو هي قضية اجتماعية. لكنني شخصياً لا أستطيع العيش إلاّ باستخراج رؤية جديدة من أعماق خيالي الذاتي الداخلي. أبحث دوماً عن الحداثة الجذرية الخاصة بي.
س: هل يُتّهم شعراء الحداثة بالخروج على التراث الشعري الياباني وبأن ما يكتبون مستورد لا علاقة له بالثقافة الوطنية؟
ج: هذه التهمة موجودة، وبالتأكيد موجودة رغم أنها لا تظهر بشكل واضح. الشعر الحديث مسلّح بنظرية أقوى من نظرية المدرسة التقليدية ويصعب على هذه المدرسة أن تتغلب في الجدال والنتائج. لكن لها قاعدة شعبية وتاريخ أطول. وليس غريباً أن يتهم النّاس الشعر الحديث بتخريب التقاليد والتراث. والغريب أن هذه التهمة توجد في دواخلنا نحن شعراء الحداثة، لذلك نكتب في حالة قلق شديد ونندفع إلى العمل الإبداعي أكثر.
س: يقال أن الشعر الياباني الحديث يميل إلى التقاط تفاصيل الحياة اليومية، ما رأيك؟
ج: نعم، إلى حدّ ما. هناك مثلاً الشاعر شوئتسي يكتب قصائده عن تفاصيل المخزن الذي يديره. وهناك شاعرة اسمها ايتو هيرومي تصف تجربة ولادتها وصفاً دقيقاً. وعندما كتبت أن "الولادة نوع من الإفراز" أثارت جدلاً كبيراً بين النّاس. أن يثير الشاعر جدلاً أو أن يصدم المجتمع الهادئ بكتابة تفاصيل الحياة اليومية راديكالياً فهذا ما يشكل تياراً شعرياً نلاحظه بوضوح في شعرنا الحديث منذ الستينات. وأعتقد أن ذلك يعود إلى صلة الشعر الحديث بالرواية وبالنقد. وأعتقد أيضاً أن الكتابة الراديكالية حول الحياة اليومية ضرورية للطليعة الفنية والأدبية.
وهذه الناحية تشارك فيها مجلات "الكرتون" وتلعب دوراً كبيراً في أحدث مرحلة ثقافية متغيرة.
س: كيف لك أن تصف شعرك؟
ج: بالبساطة الخائفة. يقرأ فيه الجنون. وُلدت سنة 1939 وبعد ولادتي بسنتين خاضت اليابان المعركة الأطلسية. هكذا تطابقت طفولتي مع تجربة الحرب وعندما كنت في الصف الأول من المدرسة الابتدائية، شُنّت الغارة الجوية الكبرى على طوكيو 6/3/1945 وهربت داخل المدينة ضائعاً وهذا المشهد مطبوع في ذاكرتي مثل فلم.
حقّاً، كبرت رفقة الزمن الصعب. ولأنني جبان بقي شعور الخوف الغريزي قابعاً في جذور شعري. أمّا الشعب الياباني فيميل، بشكل عام، إلى نسيان مثل هذه الذكريات. لكن بالنسبة إليّ، عليّ أن أعيش.. وعندما أحاول أن أعبر تعبيراً قوياً تظهر رائحة أو لون الخوف. وهذا الخوف يتجلى أيضاً في الهايكو والتانكا ولكن في إطارهما العروضي التقليدي المحدود. وإذا كان هناك تعاطف مع قصائدي فذلك لأنها تحتوي على هذا "الخوف بلا مفرّ".
س: على ذكر التانكا، هذا اللون الشعري التقليدي القديم جداً، كيف تفسّر عودته في الثمانينات 1980 بقوة إلى الساحة الأدبية اليابانية على يدّ شاعرة شابة آنذاك اسمها تاوارا ماتشي وفي ديوانها "عيد ميلاد السّلطة"؟
ج: أولاً، أنا متأكد من وجود إيقاع (7/7/5/7/5) داخل كلّ ياباني. وحتى شعارات رجال الشرطة الموجودة على قبعاتهم وفوق أذرعهم منظومة هي الأخرى على هذا الوزن. لدى سماع هذا الإيقاع يشعر الياباني بالراحة. بالإضافة إلى ذلك، أخذت تاوارا ماتشي بالثقافة الشعبية آنذاك واستخدمتها في بالديوان بالوقت المناسب وبطريقة جديدة لكن ليست راديكالية. أحببت ديوانها نسبياً وقرأته، ربما منذ سنوات، وجدت فيه أشياء كثيرة مأخوذة من الثقافة الشعبية السائدة وبعضها لم يعد جديداً مثل Can chuhai (عبارة عن خليط من خمر ياباني وعصير الصودا، معلّباً كان يباع بكثرة في المحلات العامة وفي صناديق التوزيع الآلي المتواجدة بكثرة في الشوارع اليابانية).
أو مثل أغنية "فندق كاليفورنيا". لكن الديوان تطابق مع الثقافة الشعرية السائدة في تلك الفترة، أي منتصف الثمانينات، وكان وقت نشره مناسباً جداً لنجاحه العجيب.
ثانياً، أعتبر أن تاوارا ماتشي منافسة لشاعر آخر له نفس الصفة الشعبية وهو تاكوبوكو إيشيكاوا (توفي سنة 1912). فلدى كليهما حزن غامض وغناء للحب المفقود والياباني يتعلّق بذلك جيداً.
س: هل تضع القارئ في ذهنك عندما تكتب قصيدة؟
ج: كنت في شبابي أكتب الشعر بنوع من الإلهام، لذلك كنت 99% شاعراً وكاتباً. ولكن تجاوزت الخمسين الآن ومنذ 35 سنة وأنا أكتب الشعر لذلك صرت 90% قراءً ونقاداً.
إذن، من الصعب أن أضع القارئ جانباً ثم أكتب. والحقيقة أريد تخفيف عدد القراء في داخلي، لكن ذلك يبدو صعباً.
س: وماذا عن الحركة الشعرية بعد جيلك، هل هناك شعراء، يتابعون، يغيرون؟
ج: هناك جيلان من الشعراء بعد جيلي. كل عشر سنوات يولد جيل جديد، وأعتقد أن الأمر كذلك في كل مكان. زمنياً أنتمي إلى جيل الستينات. والستينات كانت فترة راديكالية اشتدّت فيها الحركة السياسية والفنية ولم يكن عدد الشاعرات كثيراً. أمّا في السبعينات والثمانينات فقد ارتفع عدد النساء في مجال التعبير. وهذا فرق واضح بين جيلي والأجيال التالية.
س: كيف تظهر صورة المرأة في الشعر الياباني الحديث؟
ج: أظن أنّ الجواب على هذا السؤال يختلف حسب الشخص ولا تحضرني الآن صورة نموذجية للمرأة في هذا الشعر. لكن ألاحظ أن القوة العجيبة وغير المتوقعة بدأت تبرز فيه جيداً وربما يمكن أن نسمي هذه القوة بالأمومة أو القساوة الغريزية التي تملكها المرأة. مثلاً للشاعرة إيتو هيرومي التي ذكرتها سابقاً صفة مشتركة مع الهنود الحمر فهي تخترق الثقافة والفن وتحتل مباشرةً مكاناً عجيباً في الحياة.
وطريقة التعبير هذه ألاحظها كثيراً وأدهش بمثل هذه الأنوثة.
س: هل أنت متزوج؟
ج: نعم تزوجت في الولايات المتحدة سنة 1971.
س: ماذا تمثل المرأة بالنسبة إليك؟
ج: الوجود الأعجب والأكثر غموضاً، لا سيما أني أعيش مع امرأة. أحسّ أنّ العيش معها شبه معجزة. أتأثّر بها دونما وعي، ويعلم واحدنا الآخر. ليس لنا أولاد ولغتنا الأم مختلفة. نشعر أننا مثل مشوّهين يربيان صداقة بينهما.
س: أقصد المرأة بشكل عام؟
ج: ذهني البليد لا يستطيع أن يعمم المرأة.
س: هل تشرب؟
ج: نعم، أشرب بكثرة، فأنا سكّير أكثر من كوني شاعراً.
س: هل تكتب أثناء السكر؟
ج: لا أستطيع. وأعتقد أن الكثيرين مثلي. هناك حدّ كلمح البصر بين الوعي وعدم الوعي أو بين الصحو والحلم. إنه حالة يتطور فيها السكر بشكل خفيف. والمجتمع المعاصر يجعل من هذا الحد تجارة. وتجد الإشارة إلى أن هذا الحدّ يشغل حيزاً أساسياً وحسّاساً في الموسيقا والفن، إنه التنفس الحقيقي بالنسبة إليهما. هكذا نجد حالة الجد وحالة السكر والحدّ بينهما مفقود.
س: ماذا تعمل الآن وكيف تعيش؟
ج: عملت ككاتب حرّ لمدة طويلة ولا سيما في طوكيو حيث وسائل الإعلام متوفرة بكثرة كتبت في النقد، شاركت في مجلات الإعلانات وفعلت كثيراً من الأشياء، هكذا عشت في صعوبات مستمرة. مرضت كثيراً وتعبت من الحياة.
وفي النهاية، أي منذ حوالي ثماني سنوات، بدأت التدريس في الجامعة. يبدو أن الوقت قد حان كي يدرّس شخص مثلي في معهد ثقافي بعدما وصلنا إلى "عصر الجماهير".. أدفع أجرة البيت وتكاليف الطعام من راتب تدريس مادة الأدب في الجامعة مرتين في الأسبوع.. تغيرت حياتي جداً.. لم أكن أتصور حياتي بهذا الشكل قبل عشرين سنة.

حوار مع الشاعر
تانيكاوا - شونتارو

.. تشعر أن شيئاً يتدفق من ملامح وجهه وهو يتحدث. يتكلم بعفوية حتى لتظن أنه لا يفكر بما يقول.. يعشقه الشباب وينادونه بـ"المعلم".. معلم الشعر طبعاً.. يهتم بالشعر الشعبي الياباني القديم ويولي أهمية خاصة للشاعرات الشابات لاعتقاده أن المرأة اليابانية صارت تجسد الشفافية اليابانية أكثر من الرجل الياباني المأخوذ بآلة الاقتصاد.. من أهم أعماله الشعرية - وهو غزير الإنتاج - التي يتناولها النقاد عملان: "سونيتات" و"دروس في الكوكاكولا". شارك في الكثير من اللقاءات الشعرية العالمية التي عقدت خارج اليابان. إنه علمٌ بارز جداً من أعلام اشعر الياباني المعاصر.
س: هل تعتبر نفسك شاعراً يابانياً وبأي معنى؟
ج: نعم، بمعنى أنني أكتب باللغة اليابانية فقط.
س: يعني تعتبر اللغة هوية للنص؟
ج: نعم، أظن أن اللغة هوية النص إلى حدّ كبير ولكن ليس مائة بالمئة.
س: ما هي خصوصيات الشعر الياباني الحديث بالنسبة إلى اليابان من جهة وبالنسبة إلى الشعر العالمي من جهة أخرى؟
ج: لم اقرأ كثيراً من الشعر الأجنبي كي أتمكن من المقارنة. لكنني اشتركت في مهرجانات شعرية كثيرة أقيمت خارج وداخل اليابان وأصغيت كثيراً إلى إلقاء القصائد بلغاتها الأم. واكتشفت من خلال هذه التجربة المتواضعة أن مشكلة الشعر الياباني الحديث مشابهة لمشكلات الشعر في الدول الغربية المتقدمة. ولكن عندما سمعت إلقاء قصائد شعراء من أندونيسيا أو البرازيل، اكتشفت فيها نبرة ليست عندنا، نبرة نمت من بيئة الشعراء المحلية. فطريقة الإلقاء فيها حيوية وطاقة مليئة بالنشاط. وهذا ما نفتقر إليه. في الاتحاد السوفيتي تباع عشرة آلاف نسخة من الديوان في اليوم الواحد وكذلك الأمر في كوريا وفي دول كثيرة لم يصلها الاستهلاك بعد. أمّا في الولايات المتحدة وفرنسة واليابان فإن مبيعات الشعر تقل يوماً بعد يوم. على كلّ حال، إن أهم خصوصيات الشعر الياباني الحديث هي، برأي، الانقطاع عن ممارسة الأشكال الشعرية التقليدية - تانكا، هايكو، كانشي (الشعر الصيني). وهذه ليست مشكلة الشعر فحسب، بل مشكلة اللغة اليابانية بكاملها، علماً بأنها تغيرت تغيراً كبيراً منذ مائة وعشرين سنة، وهي كذلك مشكلة تتعلق بتغير الوضع الاجتماعي بعد انفتاح اليابان على العالم واستيرادها السريع للثقافة الغربية.
س: كيف تفهم الحداثة في الشعر وكيف تتجلّى هذه الحداثة في الشعر الياباني؟
ج: لقد بقي الشعر الياباني يبحث عن الحداثة خلال المائة سنة الماضية وكنا نكتب معتقدين أن الشعر يجب أن يكون حديثاً، لأن التانكا والهايكو شكلان تعبيريان قديمان وكان لا بد من إيجاد شكل تعبيري أكثر حداثة وحرية. لذلك كانت الحداثة ولا تزال، بالنسبة إلى الشعر، والى المجالات الفنية والاجتماعية الأخرى، تتجلّى في نيّة إبداع ما لم يكن موجوداً في السابق. بهذا المعنى أستطيع القول أن علاقتنا بالتقاليد هي علاقة خصومة ومعاداة، علاقة تجاوز ونسيان. لكن الآن، بدأ بعض الشعراء يشك فيما يسمى بالحداثة والمعاصرة ويفكر بضرورةٍ الارتباط من جديد بتقاليدنا الشعرية القديمة، لأن الحداثة ليست كلّ شيء. وطبعاً، لقد تأثرت حداثتنا في الشعر، كما في الموسيقى والرسم ومجالات أخرى، بالثقافة الغربية وذلك منذ بداية عصر "ميجي" وقاطعت تماماً أشكال الشعر الياباني التقليدي كما غاب عنها الاهتمام بالشعر العربي والآسيوي.
س: هل يتعرض الشعر الحديث لهجوم شعراء التانكا والهايكو؟
ج: نادراً. لأن شعراء التانكا والهايكو الشباب أخذوا بالتقرب من الشعر الحديث ويحاولون الخروج من الإطار التقليدي للتانكا والهايكو عبر تقويضٍ الشكل أو الوزن المحدود. وبالرغم من أنهم لا يقصدون الاندماج كلياً بحركة الشعر الحديث، غير أنهم يعتبرون التقرب من هذا الشعر والكتابة بأسلوب قريب منه شيئاً جديداً ومثيراً للإعجاب.
أمّا شعراء التانكا والهايكو التقليديون، فإنهم لا يكترثون بالشعر الحديث ويتبرّأون منه تماماً.
س: يلاحظ أن الشعر الياباني بعيد عن الميتافيزيقياً فكيف تعلّق على هذا الموضوع؟
ج: أعتقد أنها موجودة في شعرنا الحديث، وهذا سبب من أسباب ابتعاد القراء العاديين عن هذا الشعر ويُرجعون صعوبة فهمه إلى المجازية المبالغ فيها. أمّا التانكا والهايكو، فلا وجود للميتافيزيقيا فيهما.
س: يرى بعض النقاد أن الشعر الياباني المعاصر، وشعرك بالتحديد هو تعبير عن عودة اليابان إلى الإيمان بالطبيعة من جديد بعد أن فقده شعراء ما بعيد الحرب؟
ج: أنا شخصياً لا أقصد ذلك. لكن صحيح أن شعراء ما بعيد الحرب لم يتعاملوا مع الطبيعة كموضوع رئيس مثلما كان يفعل شعراء ما قبل وأثناء الحرب، بل فضلوا موضوعات: السياسة، المجتمع، الإنسانية عموماً. ونقطة انطلاقي تختلف عنهم تماماً، فهم يعتبرون أن موقفي أقرب إلى موقف حركة "الفصول الأربعة" قبل الحرب.
على الصعيد الشخصي، لا أعتقد أنني جعلت الطبيعة موضوعاً رئيسياً، بل انطلقت من الكون الذي هو أكبر وأشمل من الطبيعة، رغم أن هذه الأخيرة تحتل مكاناً بارزاً في نتاجي الشعري.
إن العلاقة بين الطبيعة والهايكو أو التانكا كانت ولا تزال قوية. أعرف أن نزعتي إلى اكتشاف الشعرية في علاقتي بالطبيعة هي أيضاً قوية، ومهما حاولت كبتها فلا بدّ أن تنبثق الطبيعة بشكل أو بآخر في شعري. ولا بدّ أن أشير هنا إلى أن والدتي درست في مدرسة مسيحية ونشأت تحت تأثيرها في جو مسيحي، لذلك، في شبابي، كنت أشعر بوجود الآلهة في جميع مظاهر الطبيعة مثل الأعشاب والأشجار والأنهار..الخ.
س: شعراء ما بعد الحرب رفضوا البلاغة التقليدية ولجأوا إلى استخدام غامض للاستعارة والمجاز؟
ج: لا افهم ماذا تقصد بكلمة "بلاغة" هنا. ولكن هذا القول صحيح بشكل عام فاستخدام الاستعارة تكاثر بعد الحرب، ولا سيما عند الذين يتابعون "موضة" الشعر المعاصر، أي شعراء الحداثة. وهناك عدد كبير من الشعراء لا يستخدمونها بكثرة ويفضلون القصائد السهلة الواضحة مثل شعراء ما قبل الحرب. وإذا كنت تقصد بالبلاغة التعابير الفارغة الفضفاضة المبالغ فيها وفي جماليتها، فلا أظن أن شعراء ما قبل الحرب قد استخدموها لأن الياباني في الأساس يحترس من المبالغة ويجد الجمال في السهل والساذج البسيط. شعراء التانكا والهايكو هم الذين يعتمدون على البلاغة التقليدية دون أن يهمهم الموضوع أكان اجتماعياً، سياسياً، أم فلسفياً.
س: إذاً هل تعتبر الانتقال من الحالة البلاغية للتانكا والهايكو إلى البساطة الشعرية دخولاً إلى الحداثة في الشعر؟
ج: المشكلة لا تفسّر بهذه البساطة، لكن ما أستطيع قوله هو أن الشعر الياباني قد انتقل من مرحلة البلاغة في إطار الشكل المحدود إلى مرحلة الاهتمام بالموضوع. غير أني عندما أقرأ قصائد الشعراء الشباب ألاحظ عودة إلى البلاغة من جديد بعد أن كان اهتمام شعراء ما بعد الحرب ينصب على الموضوع والالتزام بالمجتمع. ما يهم الشباب، على ما يبدو، هو الجمال اللغوي فقط، دون أن يتوضح ما يريدون من القصيدة.
س: هذه واحدة من معاناة الشعر الياباني الحديث، فمِمَ يعاني أيضاً؟
ج: من الضعف وعدم النشاط، وعدم الانسجام مع الناس العاديين فلا أحد يهتم به ما عدا قلّة. شخصياً، أحتاج إلى القراء باستمرار، وأكتب برغبة أن يقرأوا قصائدي. أتمنى أن يقرأني حتى من لا يبالي بالشعر.
أما التيار العام للشعر الحديث فيعترف بالعجز والاقتناع الذاتي، لذلك يميل إلى الإنطوائية؟
س: إذن، هل تتعمد السهولة في الشعر؟
ج: أكتب وقناعتي أن الشعر لا معنى له من دون قرّاء. هناك شعراء يكتبون فقط من أجل زملائهم منكرين وجود قرّاء آخرين.
س: ألا تشعر بأي تناقض بين ما يعرف بـ"فنية القصيدة" وبين "عادية القراء"؟
ج: كلا. والأمور تختلف وفقاً لصورة القرّاء. لا أتعمد مثلاً كتابة القصائد السهلة من أجل الذين يقرأوا مجلات، "الكرتون" (الرسوم المتحركة) باستمرار. (ملاحظة: تصدر مجلات الرسوم المتحركة بالمئات في اليابان ويستهلكها الشعب الياباني كما يستهلك مادة الرز).
س: ما هي صورة القراء التي تضعها في ذهنك عندما تكتب؟
ج: ليسوا قراء، هم آخرون وأريد الارتباط بهم عن طريق اللغة. أنا لست موظفاً في شركة ولا اصنع شيئاً. لي دور في المجتمع الياباني والإنساني عموماً، وأريد أن العب هذا الدور عن طريق الكتابة الشعرية. وعندما اكتب في مجلات أو جرائد تُباع بالملايين، لا بدّ أن أتأثر وأفكر بوجود القراء العاديين، لكي يفكروا هم بقصائدي ويفهموها. لكن عندما أكتب في مجلات متخصصة بالشعر، لا أكترث بوجود القارئ وأميل إلى التجريبية اللغوية الجديدة، أو إلى اختيار مادة تحرج الشعراء.
على هذا الصعيد، أشعر بنوع من التناقض الداخلي. من قصائد النوع الأول أجمع ديواناً، ومن قصائد النوع الثاني أجمع ديواناً آخر، وأنشر كل واحد مها في دار نشر مختلفة.
س: ما علاقتك باللغة، هل تعتبرها وسيلة أم غاية، بإيجاز كيف تنظر إليها؟
ج: اللغة تعني كل شيء بالنسبة لي، وهي عندي أكبر من الوسيلة والغاية. طبعاً، لا أرفض التعامل مع الآخرين من دون لغة ولكن أعتقد بأنني لا أستطيع أن أتحمل أية مسؤولية اجتماعية إلاّ عبر اللغة عموماً واللغة الشعرية تحديداً. لذلك من الصعب أن أجعل اللغة موضوعاً.
س: كيف تنظر إلى العلاقة بين الشعر والسياسة؟
ج: لا بد أن هناك علاقة بينهما، رغم الفرق الظاهر وأحياناً التناقض بين الخطابين: الشعري والسياسي. اللغة هي هي. لكن شخصية المتكلم تختلف وكذلك كيفية استخدام الكلام. لغة السياسة ولا سيما عندنا باليابان لا تبوح بالحقيقية، بينما تحاول لغة الشعر أن تكون صادقة، قريبة من الحقيقية قدر الإمكان. وعلى هذا المستوى، العلاقة بينهما علاقة تناقض وتضاد.
س: هل يمكن أن تكتب شعراً دون أن يكون له علاقة بالسياسة لا سيما في هذا الزمن، زمن السياسة بامتياز؟
ج: نعم. بشكل مقصود يمكنني أن أكتب شعراً لا علاقة له بالسياسة. ولكن إذا كان الشعر نتاج الواقع اليومي فقط، فقد يكون ضحية الخطاب السياسي. الشعر الياباني المعاصر، كما يلاحظ أصدقائي الأمريكيون، لا يبالي بالحركة الاجتماعية أكثر من اللازم، ويُتّهم بالبعد التام عن السياسة وعدم الاحتكاك بها. لكنني لست مقتنعاً بهذه الظاهرة وأريد أن أكتب شعراً أكثر تعلقاً بواقع اليابان السياسي والاجتماعي.
غير أن ذلك لا يزال صعباً. وسبب ابتعاد الشعب الياباني المعاصر عن السياسة هو تاريخ اليابان. فأثناء الحرب العالمية الثانية، مثلاً، كتب بعض الشعراء شعراً يحرَّض على الحرب، وبعد الحرب كُتِبَتَ قصائد ملتزمة بالمجتمع، وقصائد ضد القنبلة الذرية، وقصائد ملتزمة بالفكر الشيوعي، ولكن جميع هذه القصائد لم يكن لها أي قيمة شعرية عالية لذلك صرنا نحترس من كتابة الشعر السياسي المباشر لأنه يميل إلى الدعاية والتحريض. في تقاليد الشعر الياباني، عموماً، توجد نزعة قوية إلى اعتبار أن شعر الدعاية والتحريض ليس شعراً. وربّما على هذا المستوى وفي هذه النقطة تحديداً يختلف عن الشعر الغربي.
لقد دعت مجلة "أيتها الحمامة!" أثناء حرب الخليج، شعراء العالم إلى كتابة قصائد حول هذه الحرب وأثارت هذه الدعوة جدلاً شديداً بين الشعراء في اليابان، وقد استجاب بعضهم للدعوة، لكن الغالبية رفضت وهاجمت الذين استجابوا.
س: لا شك أن كتابة الشعر تحتاج في كثير من الأحيان إلى مثير خارجي، إلى توتر خارجي، والمجتمع الياباني اليوم يعيش حالة هدوء واستقرار وتقريباً دون مشكلات تؤرق الإنسان بصفته إنساناً يميل إلى الأمن والطمأنينة؟
ج: نعم، كتابة الشعر تحتاج إلى توتر ولكن التوتر بالنسبة لي هو حالة التساؤل الدائم، التساؤل حول ذاتي وحول قصائدي السابقة وأشعر بالتوتر الحقيقي عندما أحاول أن استخرج من أعماقي وبشكل كلي وعياً مغموراً يصعب التعبير عنه. مثلاً، قبل ثلاث أو أربع سنوات كتبت قصيدة "عُري" وهي عن الأطفال: لم اقصد الطفل الموجود الذي يلعب أمامي، إنما حاولت التعبير عن الطفل المحبوس في داخلي. وأنتابني توتر شديد وأنا أحاول استخراج ذلك الطفل باللغة لأن الشرح والتفسير لا يكفيان وكان لا بدّ لي من استحضار جميع طبقات المعاني. إذن، التوتر هو أولاً داخلي. أما اليابان فلا تخلو من المشكلات رغم أني أعتبرها من أفضل دول العالم: هناك مشكلة تلوث البيئة والطبيعة، واقتصاد اليابان لا نعرف متى يتوقف تطوره.
وأعتقد أن مثل هذه المشكلات تمارس ضغطها عليِّ بوعي ودون وعي لكن مشكلاتي الداخلية الذاتية تتفوق عليها، مع أني لا أستطيع الفصل بين هذه وتلك.
س: قلت إنك نشأت في جو مسيحي وإن ذلك أثر على نتاجك الشعري، كيف تنظر إلى العلاقة بين الشعر والدين؟
ج: هذه مشكلة تخص الشعور الديني عند اليابانيين. يقال أن عائلتي بوذية بالوراثة، أما أنا فلا أعتبر نفسي بوذياً ولا أعتنق ديناً توحيدياً مثل المسيحية أو اليهودية. لكن شعوراً دينياً مبهماً يوجد في داخلي منذ الصغر وأظن أن شعري يعكسه. أعتقد أن غالبية اليابانيين مثلي: عندهم شعور ديني غامض لا ينتمي إلى دين أو مذهب معين. لدينا في الشعر الياباني "ميازاوا كانجي" كمثال على الاقتراب من الروح البوذية والدينية عموماً. أما في الشعر الحديث فلا أجد من له علاقة قوية بالنص الديني، لكن ربما يقترب شاعر مثل "غوزو - يوشيما س" من الفكرة الشينتوية.
س: هل تعتقد أن الشعر هو أقصى اللغة، هو نهايتها وأن النثر لا يستطيع أن يصل إلى هناك؟
ج: لا أعتقد أن الشعر هو النهاية. أعتقد أن العالم الإنساني مكوّن من عنصري الشعر والنثر: يتناقضان ويتنافسان وفي النهاية يشكلان ليس العالم الأدبي وحسب وبل والعالم الإنساني كله. لذلك قد يؤدي الإصرار على الشعر وحده إلى اتجاه خاطئ ولا أظن أن شيئاً ما يوجد فيما وراء الشعر. أعتقد أن هناك شيئاً ما يختلف عن الشعر وعن النثر، وهو الاثنان معاً في الوقت نفسه، سيولد عندما يصل الشعر والنثر إلى الانسجام.
س: هل كتبت القصيدة التي تريدها أو تبحث عنها حتى الآن؟
ج: صحيح أن بعض قصائدي يعجبني، لكن الغالبية ليست نتاج إرادتي، بل هي نتاج لا وعي. هناك قصائد أريد أن أكتبها لكن لا أستطيع: عندما استمع إلى موسيقى "موزار" ينتابني شعور عجيب أتمنى التعبير عنه باللغة ولكن حتى الآن لا أتمكن من ذلك.
س: كيف تنظر إلى الأجيال الشعرية بعدك ولا سيما جيل الشباب؟
ج: لا أفهم معظمهم، لا أفهم ماذا يقصدون في الشعر، عندما نتناقش في أسلوب الكتابة أشعر بخلاف شديد معهم، اختلاف بيني وبينهم. فمثلاً أحد الشعراء الشباب قال أن الحياة اليومية بالنسبة إليه غير واقعية وأن الشعر الذي يكتبه هو الواقع. أحياناً أشعر بنوع من الواقعية في شعري وأفكر أن اللغة تصنع الواقع، هذا صحيح، لكن أعتقد أن الحياة اليومية هي الواقع الذي لا بدّ من التعامل معه بشكل أو بآخر. بإيجاز أشعر بفجوة بيني وبين الشباب. غير أنني أجد أعمال بعض الشاعرات الشابات أكثر إمتاعاً. والحقيقة، أهتم بشعر النساء المعاصر أكثر من شعر الرجال. وكثير من اليابانيين يقولون الشيء نفسه.
س: هذا يقود للحديث حول شاعرة شابة هي تاوارا ماتشي استطاعت أن تعيد لشعر التانكا التقليدي مكانته في الوسط الأدبي وعند غالبية اليابانيين، فكيف تفسر هذه العودة بهذه القوة؟
ج: هذا يدلّ على وجود إيقاع التانكا عند اليابانيين بشكل عميق. كما أن شعراء ما بعد الحرب عجزوا عن إلغاء الشكل الشعري التقليدي رغم توهمهم إمكانية ذلك. ليس للشعر المعاصر الحديث أي شكل محدد أمّا التانكا والهايكو فقد صمدا بسبب إيقاعهما الوزني. لذلك يدعو بعض الشعراء إلى إيجاد شكل محدّد للشعر المعاصر، غير أن ذلك من قبيل المستحيل. كان إيقاع 5/7/5 يعتبر بعد الحرب إيقاع العبيد. والسبب هو أن عدداً كبيراً من الشعراء قد كتبوا التانكا والهايكو تمجيداً للحرب، وكذلك فعل بعض شعراء الحداثة الذين كتبوا على إيقاع 7/5 [بالعربية يمكن أن يقال شعر التفعيلة] تمجيداً للحرب أيضاً. أمّا شعراء ما بعد الحرب فقد احترسوا من الشكل المحدود خوف أن يُسكر إيقاعه الناس من دون مضمون أو معنى.. قبل الحرب، كنّا نترجم كثيراً من الشعر الأوروبي والأمريكي وأخذنا بكتابة شعر يختلف في إيقاعه عن التانكا والهايكو. كان إيقاعه هو: 7/5 [شعر تفعيلة]، وبعد فترة، ربما بعد الحرب، لاحظنا أن هذا الشكل هو الآخر قيد، فاتجهنا إلى الشعر المتحرر من جميع القيود. وبفضل هذا التوجه تجددت تعابيرنا ولغتنا. ولكن في الوقت نفسه فقد الشعر الياباني الإيقاعية، فأصبح الحد بين الشعر والنثر مبهماً.
حاولنا، ولا نزال، إبداع شيء جديد لا يستطيعه الشكل المحدود غير أن النّاس العاديين يميلون إلى الإيقاعية، أي إلى المتعة الغنائية والسماعية. لذلك لا يموت شكل التانكا وشكل الهايكو، بل يزدهران وينتشران أكثر فأكثر، والفرق كبير جداً بين عدد شعراء هذين الشكلين وبين عدد شعراء الحداثة. أعتقد أن هذه واحدة من خصوصيات الشعر الياباني: كتابة الشعر باليابان ليست مهنة خاصة بفئة معينة، وكثيرون هم الذين يكتبون الشعر إذا أخذنا بالاعتبار كتابة التانكا والهايكو.
س: ماذا تمثّل المرأة بالنسبة إليك؟
ج: كنت أعبدها في شبابي، ولكن الآن اعتقد أن تلك العبادة كانت عقدة الأم. كنت أظن أن المرأة تختلف عن الرجل وتبقى على الأرض، أي تمثل صورة الأرض كالأم. أعتقد أن المرأة شيء عظيم يختلف عني تماماً. لكن اكتشفت أن هذا التفكير يعني عدم اعتبار المرأة إنساناً، وما أن كبرت بعض الشيء حتى أخذت اعتبرها إنساناً مثلي ولكنها تملك ما لا يملكه الرجل. لا اصدق كثيراً ما يسميه المجتمع الياباني اليوم بالأنوثة والرجولة، مع ذلك، أعتقد أن الفرق موجود بين المرأة والرجل، وهو فرق مهم جداً بكل بساطة. الرجل يبحث عن التجريد، عن الفكر - التصور والتقدّم، والمرأة تستطيع السخرية من كل هذا. يريد الرجل أن يقول كلّ شيء باللغة وأن يجعل من هذا الشيء شيئاً تكنولوجياً وأن ينظمه ضمن فكرة ومفهوم، لكن للمرأة نوعاً مختلفاً من الواقعية ولا تحتاج إلى مثل هذه العملية.
س: متى تزوجت؟
ج: تزوجت ثلاث مرات، الزواج الأول استمر نصف سنة، والزواج الثاني 25 سنة، والزواج الثالث كان في أيار سنة 1990.
س: كيف كانت طفولتك؟
ج: أنا ابن وحيد نشأت تحت رعاية والدتي. لم تكن عائلتي تعاني من أية مشكلة اقتصادية لذلك كانت طفولتي سعيدة جداً. لكن الفترة العسيرة والصعبة بدأت وأنا في المدرسة الابتدائية حيث اشتدّت الحرب ثم انهزمت اليابان وارتبك المجتمع الياباني. هذه الفترة لم تكن سهلة.
س: إذن، عندك ذكريات حول الحرب؟
ج: طبعاً، اذكر أن القوات الأمريكية أغارت على طوكيو غارة جوية هائلة وأحرقت القنابل كل شيء حتى بالقرب من حارتي. وفي اليوم الثاني خرجت مع صديقي لكي نشاهد رماد الموتى، ولا يزال ذلك المشهد ماثلاً في ذاكرتي حتى اللحظة. في البداية، تمتعت كثيراً بمشهد الطائرات واندلاع النار في كلّ مكان: كان مشهداً جميلاً أكثر مما هو مخيف. لكنَّ مشهد الجثث المحترقة أخافني كثيراً ولا أزال أرتعد منه إلى اليوم.
س: هل تعتبر الموت نهاية نهائية ولا شيء بعده؟
ج: عندي فضول كبير لمعرفة ما يوجد بعد الموت، وأظن أن شيئاً ما يوجد فيما وراءه، رغم أنني لست متأكداً من ذلك. في طفولتي كنت أشعر بأنني أستطيع، بعد الموت، مشاهدة الذين سبقوني إلى الموت. لكن الإنسان لا يستطيع أن يتصوّر حالة العدم هذه ما دام حيّاً. لذلك أعتقد أنه بعد الموت قد يوجد شيء ممتع يفوق تصورات الإنسان التافهة، غير أن اعتقادي هذا لا يرتكز على صورة واضحة أو على الإيمان بأفكار التناسخ والجنة والنار.
س: كيف تفسر ظاهرة انتحار الأدباء باليابان؟
ج: لا أعتقد أن الانتحار ظاهرة منتشرة. الشعراء لا ينتحرون وإنّما الروائيون. على أية حال أجد ذلك أمراً عجيباً ولا علاقة للشعراء اليابانيين بذلك، وأسباب انتحار الروائيين متعددة ومختلفة. مرة أخرى أعيد: لا أظن أن انتحار كاتب أو كاتبين يشكل ظاهرة.

حوار مع الشاعر
تايجيرو - اماساوا

تايجيرو - اماساوا، واحد من الأسماء الشعرية المعروفة جيداً في الوسط الشعري الياباني المعني بالحداثة. وهو معروف أيضاً لدى القراء اليابانيين بشكل جيد. شاعر ومثقف، حصل على أهم الجوائز الشعرية اليابانية. له أكثر من عشرين عملاً شعرياً. إضافة إلى أعمال الترجمة والتأليف التي تفوق هذا العدد. من بين أعماله الشعرية التي تذكر عادة بصفتها الأهم والأكثر تميزاً مجموعتان: "في بلاد الجحيم، اللا مرئيون". وهو عضو في لجنة تحكم جائزة "هاكيوارا - ساكتارو" الشعرية السنوية. يتسم حديثه حول الشعر الياباني بكثير من الحذر والتردد، ولا يريد أن يرى في هذا الشعر ما قد يراه مراقب خارجي، مثلي أنا كاتب هذه السطور، على أنه شعر متأثر بالشعر الأوروبي والأمريكي إلى حدّ بعيد. ولا سيما مع الأجيال الجديدة التي تعرف غالبيتها لغة أجنبية أو لغتين. مع الحرص الشديد على إبقاء الطبيعة ومظاهرها موضوعة أساسية من موضوعاته، هذا إذا أمكن الحديث حول موضوعة واضحة ومحددة في هذا الشعر. لأن معظم شعرائه يحدثونك عن ضرورة تجاوز الموضوعات، ولا سيما التي عولجت وعولجت إلى درجة الملل لدى شعراء قدامى يابانيين وغير يابانيين.
مع بداية الألفية الثالثة، يكون الشعر الياباني الحديث قد أكمل مائة سنة تماماً. لأنه وبحسب اتفاق الجميع، رأى النور في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، يعني أعمر من شعرنا العربي الحديث بخمسين عاماً. وحول هذه المائة سنة من الحداثة الشعرية في اليابان، أردت أن يكون هذا الحوار مع شاعر شاهدٍ على نفسه وعلى الآخرين. إنه الشاعر تايجيرو - أماساوا الذي ولد في طوكيو بتاريخ 31/7/1938.
أجري الحوار بتاريخ 27/12/1999
س: لنعد إلى بدايات الشعر الياباني الحديث أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كيف توضحت تلك البدايات وهل لها علاقة بالغرب وبالثقافة الغربية؟
ج: كانت لدينا قبل وأثناء عصر "ميجي" 1870 صيغة أدبية واحدة لكتابة الشعر ولكتابة غيره، وهي الارتكاز على بنية بلاغية بيانية تقليدية، يعني صيغة اللغة كما هي متوارثة بقواعدها منذ مئات السنين. والى جانب ذلك كانت توجد اللغة المحكية، اللغة اليومية التي كانت الأغاني الشعبية التعبير الغني عنها. باختصار، كان هناك لغة "البلاط الأدبي" ولغة الناس العاديين. ومع الانفتاح على العالم، أخذ عدد من الشعراء "المثقفين" بكتابة قصائد باللغة المحكية، لكن أحداً لم يكن يعترف بقيمتها الفنية، ولم تُصَنَّف داخل الدائرة الأدبية. ثم جاءت خلال العقد الأول من القرن العشرين 1900 - 1910 نصوص الشعراء ميازاوا - كانجي، هاكيوارا - ساكتارو، يامامورا - بوشو، لتشهد على ولادة تقنية جديدة في الكتابة الشعرية أساسها اللّغة المحكية. لقد استطاع هؤلاء الشعراء أن يطوروا، وانطلاقاً من أسلوب الأغاني الشعبية، لغة تختلف في أدواتها وميزاتها عن اللغة اليابانية التقليدية ذات الجذور المعقدة والمحصورة في طبقة معينة. طبعاً، كان هناك وقبل هؤلاء الشعراء، آخرون أنتجوا نصوصاً انطلاقاً من الأغاني الشعبية واللغة المحكية، لكنهم لم يتوصلوا إلى تقنية واضحة ومحددة.
س: تريد القول أن الشعر الياباني الحديث ولد من اللغة اليابانية المحكية؟
ج: نعم. هو ذا وباكورة شعرنا الحديث هو الشاعر كيتاهارا - هاكشو. لقد كتب باللغة الأدبية التقليدية وباللغة المحكية، لكنه لم يتوصل إلى أسلوب يقف على قدميه إزاء اللغة الأدبية السائدة. وتبقى أهميته في كونه حاول الكتابة باللغة المحكية، أو باللغة الحديثة كما نسميها اليوم.
س: لكن ألم يكن للغرب وللإحتكاك بحضارة أخرى حقاً مختلفة دور في ولادة الحداثة الشعرية اليابانية، كما هو الحال بالنسبة إلى جوانب ومجالات أخرى متعددة؟
ج: ينبغي التمييز بين تاريخ الأدب وتاريخ اللغة. فللأدب تاريخه وسيرورته، وللغة تاريخها وسيرورتها. وليس ضرورياً أن يسيرا بشكل متوازٍ دوماً. التاريخ الأدبي، أو اللغة الأدبية تتأخر دوماً في التطور عن التاريخ اللغوي، أو عن اللغة التي تشهد يومياً حركة، إضافة، شيئاً ما ينضاف إليها، ينحذف منها، والشعر الجديد في جوهره ينطلق باستمرار من هذه اللغة. صحيح أننا ترجمنا بودلير في نهاية القرن التاسع عشر، لكن هذه الترجمة لن يكون لها صدى وفاعلية وتأثير إلاّ بعد عدة عقود وتحديداً بعد الحرب الكونية الثانية. وصحيح أيضاً أن بودلير يعني الحداثة الشعرية، لكن "هذه الحداثة" لم تتوضح في شعرنا بسرعة؛ لم نستطع فهم بودلير بهذه السرعة التي تتصور. أضف إلى أن الترجمة جاءت بلغة يابانية غير حديثة نهائياً، أي جاءت بتلك اللغة الأدبية التقليدية، لغة البلاط الأدبي. والترجمة، أية ترجمة، لا تأتي ثمارها في سنة النشر، كما قلت، بل بعد سنوات أو بعد عقود، تلك هي آلية فعل الترجمة.
س: يبدو أنك تعيد الحداثة الشعرية اليابانية إلى اللغة المحكية وإعادة صياغة هذه اللغة بأسلوب يختلف عن اللغة اليابانية التقليدية وينافسها ليحلّّ محلها.. هل تبحثون، أنتم شعراء الحداثة اليابانية، عن جذور لشعركم داخل تراثكم الأدبي أيضاً؟
ج: (صمتٌ ثمَّ همهمةٌ ثمَّ هزُّ رأس).. بالنسبة إليّ، بدأتُ الكتابة الشعرية، بعد الحرب الكونية الثانية. وتبدو لي الآن بداية القرن العشرين بعيدة وأبعد منها عصر ميجي ونهاية القرن التاسع عشر. لكن ما أريد قوله هو أن شعرنا الحديث بدا في العقد الأول من القرن العشرين ومع الشعراء الذين ذكرتهم سابقاً. وقد تأثرتُ أنا بهؤلاء.
س: هل تعتبر حقاً أن ميازاوا - كانجي شاعر حديث؟
ج: نعم.
س: ماذا كان يوجد قبله؟
ج: الأشياء التقليدية فقط. ومعه بدأ شيء جديد تماماً، شيء مختلف حقاً.
س: هل كتب الشعر بالصيغة التقليدية، هايكو أوتانكا؟
ج: نعم، لكن بطريقة جديدة. صحيح أن قصائده تعتمد الشكل التقليدي، لكنها ليست تقليدية بالمعنى الكامل للكلمة. كان يحب الطبيعة وكان يذهب إلى الجبل ليقضي أياماً عديدة، يعني كان يعتمد على تجربته الذاتية كمنبع أساسي لكتابته.
س: هل كان يوجد آنذاك تقليديون يحاربون هذا التجديد داخل الأدب الياباني، وما هي التهم التي كانوا يوجهونها؟
ج: طبعاً، طبعاً. كان هناك تيار نقدي قاده ياسودا - يوجيرو - هذا الإيديولوجي الوطني المعروف - فهو يهاجم حركة الشعر الحديث بلا تردد وبوضوح، ويتهم ميازاوا - كانجي، بأنه ليس شاعراً ولا علاقة لما يكتب بالأدب الياباني، باستثناء الإيقاع، أي ما هو جزء من التقاليد. ويصف الشعر الحديث بأنه بلا شكل ولا مضمون، ولا معنى ولا إيديولوجية، وليست له أية جذور في التقاليد الشعرية اليابانية القديمة. يريد هذا الناقد إحياء الماضي البعيد إحياءً لا لبس فيه ولا غموض.
س: هل ترك تلامذة يتابعون خطاه؟
ج: نعم، ترك كثيراً، أذكر على سبيل المثال لا الحصر، صديقنا الشاعر أووكا - ماكوتو الذي تأثر بمقولاته جيداً أيام الشباب. لقد قرأه وعمل على مقولاته بجدية، مع أن أووكا - ماكوتو واحد من شعرائنا الحديثين المرموقين والذين يدافعون عن الحداثة الشعرية وينظرون لها. أذكر أيضاً الروائي المعروف ميشيما، فهو الآخر قد تأثر كثيراً بمقولات يا سودا - يوجيرو النقدية. ومن الجدير بالذكر أن يا سودا - يوجيرو منظّر إيديولوجي هام جداً على الصعيد الياباني.
س: عندما تقول إيديولوجي، ماذا تعني؟
ج: أعني أنه وطني متطرف. وفي الأربعينات، أي في سنوات الحرب الكونية الثانية، لعب دور المحرّض على الحرب. كان يُجيِّش التقليديين ويثيرهم ضد جميع من ليس في جهته. أراد من الأدب دوراً سياسياً صارخاً، وكان مع الحرب ضد الأمريكان بشكل واضح. وحتى بعد الهزيمة، لم يتوقف عن النقد والهجوم. وعاش حتى منتصف الخمسينات.
س: لنعد إلى الشعر الياباني الحديث. بأي معنى هو حديث، وماذا غيرّ داخل نسيج الحساسية الجمالية اليابانية، كي يخاف إلى هذا الحد التقليديون، وهل الكتابة باللغة المحكية بدل اللغة الأدبية التقليدية يعني الانتقال إلى الحداثة؟
ج: لا أفكر بهذه الطريقة. لكن دعني أقول لك شيئاً: إن شعرنا الحديث حرر تماماً فضاء الكتابة الشعرية، وحرر الشعر التقليدي تحريراً واضحاً ولا عودة إلى الوراء قطعاً، حرره من ضرورات كثيرة..
س: من أي شيء مثلاً، من بنية قديمة، من إيقاع، من مفردات؟
ج: أولاً من الإيقاع والوزن، مع أن الشعراء الأوائل، أو الرواد، استمروا في استغلال مزايا الإيقاع بشكل أو بآخر، ومع الأجيال التالية انتهى الموضوع، ولم يعد هناك لا وزن ولا غيره من القديم.
س: يعني على صعيد الشكل، صار الشعر حديثاً، لكن ماذا تغير على أصعدة أخرى مختلفة. لأنك تعرف هذا الترابط بين الشكل والمضمون، فالشكل وحده لا يولد حديثاً. هل يمكن القول إن الشعر الياباني الحديث حرر قديمه من هذا الموقف الحيادي تجاه الحياة الاجتماعية والحياة الفردية - حالة الهايكو والتانكا - فصار سياسياً واجتماعياً، أي صارت له علاقة بحياة البشر وليس فقط بحياة الظواهر الطبيعية..
ج: حقاً، لا أعرف!! وأتساءل، هل شعرنا الحديث هكذا فقط، لأن فيه - إضافة إلى ما تقول - جوانب أخرى متعددة. شعرنا الحديث، إذا جاز القول، مشهدي، ذو نزعة رواقية، ذو نزعة ملازمة للعصر، ذو نزعة إيديولوجية.. إلخ، هناك ظواهر أخرى عُتِّم عليها.
س: ما هي مثلاً؟
ج: مثلاً، على صعيد الحياة اليومية، هناك أشياء يومية تتموضع فوق "اليومية". هذا الجانب، تم إخفاؤه بسبب تأثير السياسي وطغيانه. وهناك أيضاً التأثر بالسوريالية. لقد حررت هذه الأخيرة شعرنا من سطحية الوعي. قبل السوريالية، لم نكن نعرف كيف نستغل لا وعينا، لكن بفضل تأثيرها، استطعنا الوصول إلى هامش كبير من الحرية. هناك شعراء تأثروا مباشرة بالسوريالية، أي احتكوا مباشرة بأعمالها ونتاجاتها، وقد تأثر بهؤلاء الشعراء جيل آخر، والواقع لا نستطيع أن نقول إننا سورياليون تماماً..
س: هذا ما يدور في ذهني الآن، هل يمكن لليابني أن يكون سوريالياً، وكيف وبأي معنى، بعبارة أخرى هل يمكن أن يكون ميتافيزيقياً وهو المعروف بحسيته المفرطة وارتباطه المفرط بالواقع وبالأشياء المحيطة به..؟!
ج: لذلك أقول لسنا سورياليين تماماً. يمكن وصف هذا الشاعر أو ذاك من بين "السورياليين" اليابانيين، بأنه فوق - طبيعي، أي سورناتيوريل، وليس "سوريالياً"، أي فوق - واقعي. لم نفهم السوريالية بكامل أبعادها. وغالبية شعرائنا "السورياليين" هم داخل إطار الحساسية اليابانية التقليدية.
س: ماذا تعني بالحساسية اليابانية التقليدية، وما هي الحساسية اليابانية الحديثة أو غير التقليدية؟
ج: يتعلق الأمر بنوع من المطابقة بين الشاعر الياباني والطبيعة، وليست الحالة كذلك بالنسبة إلى شاعر غربي حيث نجد إنسانية ما تدخل في العلاقة مع الطبيعة، ليست هناك أية مطابقة حقيقية على طريقة الياباني. في الشعر الغربي، عموماً، لا نجد طبيعة بالمعنى الياباني للكلمة، بل نجد إنسانية وعلاقات إنسانية مع الطبيعة..
س: لكن الشاعر الياباني الحديث، وعلى الرّغم من التقدم التكنولوجي الحاصل في اليابان، لا يزال يحافظ على علاقة طيبة جداً مع الطبيعة، ويتجلى ذلك من خلال مفرداته وقاموسه اللغوي داخل نتاجه الشعري. على هذا الصعيد لا تزال الحساسية التقليدية هي السائدة والغالبة، ويبدو لي أن ما تغير فقط هو التخلي عن الإيقاع والإيجاز لصالح قصيدة غير موقعة وطويلة..؟!
ج: صحيح أن الإيجاز هو الغالب في تراثنا، لكن لدينا قصائد طويلة أيضاً، وموقعه تُدعى "تشوكا"، أي "نشيد طويل". مورست فترة من الزمن، ثم توقفنا عن كتابتها منذ القرن الحادي عشر. واكتفينا بعد ذلك بصيغة الهايكو وصيغة التانكا، إلى أن بدأنا الشعر الحديث. وأستغرب لماذا توقفنا عن كتابة ذلك النوع التقليدي كلّ هذه الفترة ولحد الآن مع أنه هو اصل الهايكو والتانكا، أي منه تمَّ اجتزاء هاتين الصيغتين. و"التانكا" تعني "نشيد قصير"، و"الهايكو" يعني "قصيدة مطلعية" وهو أقصر من التانكا. أعتقد أن الحساسية اليابانية تميل إلى الإيجاز أكثر، هكذا هجرنا "النشيد الطويل" إلى "نشيد قصير"، إلى "نشيد مطلع" وأقصر..
س: ما هي طبيعة هذه "الأناشيد الطويلة"، وما هي موضوعاتها الأساسية؟
ج: قصائد غنائية في غالبيتها، تتناول موضوعات مختلفة، تروي قصصاً غرامية، فراق الديار والأحبة..الخ.
س: للياباني، ولا سيما الشعراء، ولع شديد بالخمرة الوطنية تحديداً، أي بالساكي، خمرة الرز، هل لديكم شعر خمريات كما لدينا نحن العرب؟
ج: تقصد على طريقة عمر الخيام؟
س: مثلاً.
ج: كلا. لا أعرف شاعراً كرّس إنتاجه أو جزءاً من إنتاجه للخمرة، علماً أن هذا التقليد موجود داخل الشعر الصيني الذي تأثرنا به كثيراً، ولا أعرف تفسيراً لانعدام الأمر.
س: ما هي الموضوعات أو المسائل الأكثر تناولاً داخل الشعر الياباني الحديث؟
ج: هذا سؤال شائك. وأميل إلى أن شعرنا الحديث تحرر من ضغط الموضوعات أو ما يُسمى بـ"التيمات". في بداياته انشغل كثيراً بهذه القضية وأكثر من اللازم. لذلك كانت تسهل دراسة الأعمال الشعرية على أساس تقسيم موضوعاتي. لكن اليوم، لم يعد الشاعر الحديث سجين الموضوعة. ولا بدّ من تجاوز الموضوعات بشكل أو بآخر. صحيح أن الأدب عموماً، وليس الشعر فقط، ينشغل بالموضوعات، لكن أعتقد أننا في شعرنا الحديث تجاوزنا الكثير من الموضوعات التي عولجت سابقاً، ولذلك يصعب عليَّ تقديم إجابة واضحة عن سؤالك. شعري مثلاً، لم يعد خادماً للموضوعة، أو مرتكزاً عليها، أو عابراً فوقها. ولا أعتقد أن هذه هي حالة الكثير من الشعراء اليابانيين. وهناك من لا يتفقون معي حول هذه النقطة..
س: أليس لهذا علاقة مع ما نراه في الشارع الياباني حيث نجد التخلي عن المعنى، أو حيث اللا معنى، اللا موضوع هو جوهر الحياة اليومية اليابانية؟
ج: نعم. ربّما. لكن القراء العاديين للشعر في اليابان، غالباً ما يقولون إن الشعر الحديث صعب جداً. ولا أفهم ماذا يقصدون. ربما يرغبون بإيجاد موضوعات داخل هذا الشعر، وليس هناك من موضوعات..
س: لعلّي أعيد هذه الصعوبة إلى تأثر شعركم الحديث بالثقافة الغربية الميتافيزيقية. ويبدو لي أن الياباني لا يستطيع استيعاب ت.س.إليوت، مثلاً، أو الاقتراب منه كشاعر محمّل بالأفكار التوحيدية المجرّدة.
ج: يصعب أن أوافق على ملاحظتك الآن. ربّما تصحُّ على شعراء ما بعد الحرب مباشرة، لكنها لا تصح على شعراء العقود الأخيرة للنصف الثاني من القرن العشرين. فالتأثيرات لم تعد ملموسة أو مرئية كما في السابق.
س: سابقاً، كانت التأثيرات من خلال الترجمات أو المعرفة المباشرة باللغة، لكن يبدو أنها غيرت الدرب قليلاً اليوم لتكون من خلال وسائل الإعلام المتطورة جداً بحيث لا نراها وهي تدخل وتستقر..
ج: ربّما. لكن لا أرى هذا تماماً. لا أستطيع النفي الكلي، ولا أستطيع الموافقة كلياً. حتى في بداية القرن، لم يكن التأثير واضحاً جداً. ثم إذا كان الشعراء اليوم لا يقرأ بعضهم بعضاً، فكيف تريدهم أن يقرأوا الآخرين ويتأثروا بهم!!
س: ها أنتم تعودون مع الشعر الحديث إلى النشيد الطويل غير الموقَّع هذه المرة والى جانبه صيغتا الهايكو والتانكا التقليديتان. أولاً، لماذا برأيك لم تقترب هاتان الصيغتان من السياسة إطلاقاً؛ ثانياً، في اليابان اليوم عدد هائل من شعرائهما، كيف تنظرون، أنتم شعراء الحداثة، إلى هؤلاء؟
ج: إن تناول الموضوعات السياسية أو ما شابه، يحتاج إلى أشكال فنية طويلة نسبياً. ولذلك فإن شكلي الهايكو والتانكا، وبسبب قصرهما، لا يناسبان. ربما هذا هو السبب. أما عن الشق الثاني من السؤال فإنني أقول لك: أنا نفسي مارست كتابة الهايكو والتانكا أيام الشباب مثل أي شاعر ياباني آخر. ولا أزال أذكر المعاناة التي لا بدّ منها بسبب التفكير (الدائم) بالإيقاع. عالم هذين الشكلين ضيق جداً ويحتاج إلى تركيز فائق والى صراحة، وكنت أشعر أنني سجين إيقاع لا غير..
س: هل تعتبر شعراء الهايكو والتانكا اليوم، شعراء حقاً؟
ج: بصراحة، لا أعتبرهم شعراء. بل هم عبارة عن متخصصين بنظم الهايكو والتانكا. إنهم سجناء هذا العالم الضيق، عالم الإيقاع. لست ضدهم، ولكن ببساطة لا أعتبرهم شعراء. لا أقول إن الهايكو أو التانكا ليس شعراً، ولكن الذين يمارسونهما اليوم ليسوا شعراء. حتى أنا، يحدث لي أحياناً أن أنظم قصائد هايكو تلبية لحنين ما في الداخل. لكن كتَّاب الهايكو المتخصصين سوف لن يعتبروها قصائد هايكو حقيقية.
س: والحالة هذه، كيف تنظر إلى معلمي الهايكو القدامى: باشو، إيسَّا، بوزون وغيرهم؟
ج: هؤلاء شعراء بلا جدال، وشعراء كبار.
س: إذن، القضية هي أن الشكل القديم لا يتماشى والحداثة..
ج: (صمتٌ ثمَّ همهمةٌ ثمَّ هزُّ رأس)..ومع ذلك، هناك اليوم بين هؤلاء المتخصصين بنظم الهايكو من ينجح أحياناً، ويقدِّم شعراً لا يمكن أن يكون إلاّ هايكو. وذلك بعد كفاح مرير مع الشكل والإيقاع. نعم، هناك عدد من كتّاب الهايكو الذين أنتجوا فعلاً قصيدة هايكو حديثة..

حوار مع الشاعر
آكيا - يوتاكا

يُعدُّ الشاعر آكيا - بوتاكا من أقطاب الحركة الشعرية الحديثة في يابان ما بعد الحرب، ويمثل بكتابته الشعرية حول موضوعة الجبال واحداً من رموز الحساسية اليابانية المعروفة بالبساطة والحديث عما يدور أمام الحواس الخمس.. التقيتُه في مناسبات عديدة وتزايدت لقاءاتنا وأحاديثنا حول الشعر الياباني وحول الشعر العربي.. هو يريد أن يعرف عن شعرنا العربي وأنا الآخر أريد أن أفهم بعض مشكلات الشعر الياباني الحديث.. له سيرة ذاتية مطولة مع الحرب ومع أبناء جيله من الشعراء، ذلك الجيل الذي يأتي بعد جيل الرواد في الشعر الياباني الحديث.. من مواليد 2/11/1922.. له أعمال شعرية كثيرة آخرها "طريق الحرير".. رئيس جمعية "الأرض" الشعرية التي تعني تحديداً بنصوص الشعر الحديث، بنصوص الشعراء الجدد.. لا يعتقد بوجود قمم شعرية في الوقت الحاضر، بل يرى أن الجميع من سوية واحدة.. واضح في حديثه ومتواضع جداً. وفي الطريق إلى بيته بضواحي طوكيو، كان الضباب يلفُّ كلَّ شيء، حتى القطارات ومحطاتها، وكنت أعدُّ الأسئلة.. أسئلة هذا الحوار قبل أن أقرع جرس بابه في صبيحة أحدٍ من آحاد كانون الأول سنة 1997.
س: هل أنت شاعر ياباني وبأي معنى؟
ج: نعم. أنا شاعر ياباني.. وبأي معنى؟ هذا هو السؤال الصعب. بالتأكيد ولدت في اليابان، لذلك أشعر أنني ياباني، لا سيما أنني أسافر كثيراً إلى الخارج. في العمق لا أؤمن باختلاف الشعوب. فالجنس البشري واحد في جميع الأصقاع..
س: هل لأنك تكتب باللغة اليابانية تشعر أنك ياباني، هل اللغة هوية؟
ج: هذا بالتأكيد. عرقياً أنا ياباني. وشاعر ياباني لأنني من اليابان وأكتب باللغة اليابانية. والآن يزداد الاحتكاك مع البلدان الأجنبية، وتُستخدم لغات متعددة، من بينها اللغة اليابانية التي تمتاز بتاريخها الطويل، وتفكيري ينصب على الاستفادة منها في هذا العصر. بهذا المعنى أيضاً أنا ياباني.
س: أنت شاعر حديث (شِي - جين) [تطلق هذه التسمية على الشعراء الذين يمارسون كتابة الشعر الحديث فقط دون الهايكو أو التانكا] فهل مارست كتابة الهايكو أو التانكا التقليدية؟
ج: نعم، أيام الصبا والمراهقة، أي أيام المدرسة المتوسطة والثانوية حيث يدرّب التلاميذ على كتابة الشعر التقليدي.
س: كيف انتقلت، أو بالأحرى كيف بدأت كتابة الشعر الحديث؟
ج: حسن. في الواقع كنت أمارس كتابة الشعر بأنواعه منذ البداية.. هايكو، تانكا، شعر حديث.. وكنت أرسل ما أكتب إلى مجلة خاصة بأدب الشباب الناشئ.. وجدت في تلك المرحلة أن الشعر الحديث يناسبني أكثر. وكان لي مدرِّس يحب الأدب فقال لي: يا آكيا، أنت جيد في الشعر الحديث. هكذا بدأت التفكير جدياً بالموضوع..
س: ألم تتردد آنذاك بين الشكل التقليدي والشكل الحديث؟
ج: نعم. ترددت. روح الشعر الحديث لا تكاد تختلف عن روح الهايكو والتانكا. ولكنه جذبني لما يتيحه من حرية في الروح والشكل وأنا في غمرة الصبا.
س: يعني كنت تشعر بضيق الهايكو واتانكا؟
ج: نعم، ولا زال. لم يكن هناك عدد كبير من التلاميذ يكتبون الشعر الحديث، وذلك لأنه لا يتيح الغنائية التي يتيحها شكل الهايكو أو التانكا، ولا سيما حول موضوعات يومية وخاصة. غنائية لا يتيحها للجميع. لا يستطيع كتابته أي كان، إذ لا يوجد له شكل محدد وإيقاعات محدودة ومحصورة مثل الهايكو والتانكا. ولا تزال هذه القضية قائمة لحد اليوم.
س: ألم تهاجَم لأنك تكتب شعراً لا جذور يابانية له، ألم يتهمك الزملاء آنذاك بأنك تكتب شيئاً لا علاقة له بالشعر الذي يعتبر تقليدياً هو الشعر الحقيقي، أي الهايكو والتانكا؟
ج: كان الجميع ينظرون - ولا يزالون - إلى الشعر الحديث بعين غريبة على أساس أنَّ كتابته صعبة للغاية وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الهايكو والتانكا. وعلى الرّغم من هذه الرؤية الغرائبية آنذاك، كانت هناك صفحات ثقافية كثيرة تنشر نصوصاً من الشعر الحديث. وقد نجحت أكثر من مرّة في نشر نصوصي الأولية إلى أن تمَّ اختيار أحدهما لموضوع جائزة بسيطة. وهذا ما شجعني مرّة أخرى للمتابعة في ممارسة الشعر الحر. ولم يخطر لي وقتها أنني سوف أعيش في المستقبل من وراء هذا الموضوع. [للشاعر اليوم مجلة شهرية اسمها "الأرض"، ويرأس تجمعاً كبيراً وواسع الانتشار في اليابان.. له دار نشر تقريباً خاصة بالشعر الحديث]. فقط كنت أحبَّ الشعر الحديث وليس أكثر من ذلك.. والحقيقة لم أقرأ لشعراء الهايكو والتانكا المعاصرين والقدامى شيئاً يذكر، بل بدأت مطالعاتي الشعرية برواد الشعر الحديث الياباني مثل "هاكي - وارا - ساكتارو" و"مورؤو - سايسيه" و"هوري - تاتسو" الذي كان يكتب الشعر والرواية الجميلين المتأثرين بالأدب الفرنسي. ثم أخذت بقراءة كلِّ ما هو مترجم من الشعر عن اللّغات الأجنبية.
س: ولكن لِمَ يقولون إن الشعر الحديث صعب على الفهم؟
ج: لعلَّ الناس يعتبرونه شيئاً عادياً في البلدان الأخرى. أمَّا في اليابان فالأمر يختلف، لأن الجميع يقرؤون الهايكو والتانكا اللذين سيطرا على المفهوم العام للشعر ويفهمون، وعندما يقرؤون الشعر الحديث لا يفهمون بسهولة. لكن شيئاً فشيئاً صار هذا الأخير ينتشر بعد الحرب. صحيح أننا أدخلنا في مناهج التعليم نصوصاً شعرية حديثة، لكن المدرسين يشكون من صعوبة تدريسها. وتحاول الصحافة تعميم هذه الصورة فلا تقرِّب هذا الشعر للنّاس وتجري في الابتعاد عنه. ولحد الآن لا تزال الرواية والنثر يسيطران على نموذج الأدب. أما الشعر الحديث، فلا يزال منظوراً إليه كأنه أقلية لا علاقة لها بالأدب، على الرّغم من العدد الكبير لشعراء الحداثة.
س: لماذا هو صعب، هل هو حقاً هكذا؟
ج: جاءنا من أوروبا، وكانت بداياته صعبة الفهم حقاً بسبب السوريالية والنزعة الحداثوية التي رافقته على صعيدي الروح والشكل. فالشعراء السورياليون اليابانيون كانت تصعب قراءة نصوصهم وفهمها. وهناك سبب آخر يقوم في اعتماد الشعر الحديث على الصورة، والنّاس قد اعتادوا شكل وإيقاع الشعر القديم. فهذا الأخير كان ولا يزال يدخل آذانهم من خلال هذين الأمرين ومن خلال أشياء أخرى لا علاقة لها بالصورة. لذا هناك ميل اليوم إلى التخفيف من هذا الموضوع واللجوء إلى التعبيرية بعض الشيء. لأن الصورة سيطرت بقوة منذ سنة 1870 إلى سنة 1988.
س: والحالة هذه، ما هي خصوصية الشعر الياباني لأنني أراك، فيما تقول هذا، تتحدث حول مشكلة تكاد تلامس الشعر العربي الحديث؟
ج: هذا العصر هو عصر تواصلات متبادلة، دخول شعر وخروج آخر، تأثرات متبادلة. ولذا أعتقد أنه يصعب الكلام على خصوصية واضحة ومحددة للشعر الياباني الحديث. ولعلَّ هذا الأمر لصالح الشعر وتقدّماً له. هكذا يصل إلى الحالة الشمولية، إلى النزعة الإنسانية التي لا تعرف هوية أو خصوصية داخل هذه اللغة أو تلك. هكذا يصير هوية ذاته لا غير بالغاً أعماق روح الإنسان. هو ذا فهمي لمعنى الخصوصية اليوم. عندما تُترجم قصائدي، فأنا لا أعرف أين مكمن يابانيتها، وأين جواز سفرها الياباني. صغرت الاختلافات بسبب انتشار المعلومات. أستطيع معرفة ما يحدث في العالم، كلِّ العالم، وأنا جالس، أو أسافر إلى مناطق نائية مجهولة لا يصلها سائح أو مصوّر. ومن هناك، حيث يوجد شعراء بالتأكيد، أغرف ما أريد من الموضوعات التي قد تكون مشتركة بيني وبين شعراء تلك المناطق. ماذا يبقى..؟ يبقى شيء خاص جداً لا نكاد نتبينه ولا نكاد نراه. بهذا المعنى أقول إن عالمية الشعر تبدو أنها تطغى على كلِّ خصوصية.
س: من المؤكد أن الشعر الياباني الحديث يختلف بالشكل والإيقاع عن الهايكو والتانكا، لكنَّ تظلّ الحساسية في التعامل مع الأشياء والعالم حساسية يابانية دون غيرها، فكيف يمكن فهم هذه النقطة؟
ج: نعم. بالتأكيد هناك حساسية مشتركة بين الشعر القديم والحديث.
س: ما هي، أين هي، كيف نراها ونلمسها؟
ج: ربَّما هي داخل اللغة اليابانية لا أكثر، حيث يجد كلُّ شاعر صوته الخاص. ولا أظن أنها خارج اللغة اليابانية…
س: الطبيعة هذا العنصر الحاضر جداً في الهايكو والتانكا، هل هي حاضرة أيضاً وبالطريقة نفسها في الشعر الحديث؟
ج: أعتقد أننا فقدنا هذا العنصر داخل شعرنا الحديث. صارت الحضارة والقضايا الاجتماعية الطارئة أكثر أهمية. قد يكون ذلك خطأ فالطبيعة تدمّر الآن. هناك شعراء يهتمون بها كظاهرة اجتماعية لا غير. وهناك فوضى على هذا الصعيد. نشتاق إلى الطبيعة ونفقدها. هذا هو الواقع. هكذا نعيش صراعاً بين الحضارة والطبيعة، لا سيما وأن اليابان بلد صغير جغرافياً.
س: أنتم في اليابان، ولا سيما لدى الشنتوية وهي الدين المحلي الغالب، تقدسون الطبيعة تقديساً يلامس كل مظاهر الحياة، فهل تعتقد أن الأمر انتهى فيما يخص هذا التجلي في الشعر؟
ج: لا يزال الأمر موجوداً. عندنا "عبادة" الجبل. ونعتبر الجبل إلهاً. وهذا موجود في البوذية والشنتوية. نقول باحترام الطبيعة أو بوجود الله في الطبيعة مبثوثاً داخل كلّ شيء وبشكل طبيعي. وهذا ليس ديناً فقط، بل أكثر وأوسع من الدّين وعليه يتم الاعتماد الروحي. هذه هي الطبيعة. عشنا آلاف السنين، ولم نزل، تحت رحمتها ولذلك يستحيل نفي هذا الأمر. وأظن أن الأمر هكذا في جميع البلدان. ما رأيك؟
س: جميع الشعوب تحب الطبيعة، ولكن تقديسها خاص باليابان فقط، فوجود الله وتجليه في الطبيعة ومظاهرها هو جوهر الشنتوية، وكلُّ ياباني شنتوي في العمق، أي يقدِّس الطبيعة..
ج: نعم. الشنتوية قبل البوذية في اليابان. ربّما لم يكن لها شكل واضح المعالم في البداية، لكنها حجر الأساس في تاريخ اليابان. فهي واليابان من عمر واحد. ثم بعد قرون دخلت البوذية وغيرها. عبادة الطبيعة طقس قوي جداً عندنا. ويرتبط ارتباطاً قوياً وأساسياً بالمتع اليومية، بأوقات التسلية. نذهب إلى الجبل كي نتمتع به وكي نقدّسه في الوقت نفسه. جمعنا بين الممارسة اليومية وبين طقس العبادة. نشكل مجموعات للسفر وفي الوقت نفسه للعبادة. ليس هناك فصل بين ممارسة العبادة وممارسة المتعة. لا نعبد الجبل لذاته وبذاته. نعبده لأننا نتمتع به ونتمتع به لأننا نعبده. هكذا أدخلنا تقديس الطبيعة في الحياة والممارسات اليومية بانسجامٍِ ونجاح.
س: والحالة هذه، كيف تنظر إلى العلاقة بين الدين والشعر؟
ج: هناك ارتباط. ولكن ليس بالمعنى الدّيني الضيق للدّين، بل بالمعنى الواسع الذي تحدثت عنه، أي تقديس الطبيعة تقديساً أوسع من التقديس الديني المتعارف عليه. عندما أسافر من خلال طريق الحرير مثلاً، ألتقي بشعراء متنقلين، من مكان إلى آخر، بقصائدهم وأشعارهم الشفوية. هؤلاء في نظري هم حجّاج أمكنة. ألتقيهم بين مجموعات دينية وبين أخرى تجارية. يسافرون هكذا ولا عمل لهم سوى الغناء والشعر. وهذا ما أقوله في إحدى قصائدي "طريق الأدب هو أيضاً طريق الحج". وأعتقد أن لديكم، أنتم العرب، هذا النوع من الحجاج. قد لا يوافق بعض الشعراء على هذا الكلام، لكنها رؤيتي. طريقة الحياة هكذا ممكنة دينياً، وهذا ما يمنح الذات ثقة وقوة. والشاعر قادر على حياة مماثلة. إنه موضوع مهم جداً بالنسبة إلي.
س: ما دور الشاعر في هذا الترابط، هل تعتقد أنه نبي؟
ج: نعم. هو رسول يوصل كلمات "الله" إلى النّاس العاديين، هو "ميكو" أي الفتاة العازبة التي تنقل كلام الآلهة إلى النّاس.
س: يعني على الشاعر أن يحدد للنّاس ما هو الجميل، ما هو المهم؟
ج: نعم. أعتقد أن الشعر جمال. نشعر به، نرسله. والوجود البشري مليء بأنواع الجمال مهما بدا العالم قبيحاً بسبب ما يحدث من حروب وكوارث. دورنا كشعراء إيصال هذا الجمال، وهذا إبداع في الوقت نفسه: أن نصنع الجمال ونرسله. لا أعرف إذا كان الشعراء اليابانيون قد وصلوا إلى هذا المستوى أم لا. لكن على شعراء العالم أن يلعبوا هذا الدّور.
س: يهتم الشعر الياباني عموماً بالحياة اليومية، فهل أنت كذلك؟
ج: نعم. أنا الآخر أهتم بالحياة اليومية. لكن أحاول رؤية ما وراء زجاج الحياة اليومية. لا أكتب قصيدة حياة يومية وأتوقف، بل أريد رؤية عالم آخر، واقع آخر خلف الحياة اليومية. هذا هو عالم الشعر في نظري. وليس الزجاج نفسه. بشكل عام، هناك شعراء كثيرون يكتبون الحياة اليومية، لكن أنا، أريد رؤية ما يكبِّره زجاج الحياة اليومية.
س: هذا نوع من الميتافيزيقيا، والشعر الياباني، كما أعرف، بعيد عن هذا الموضوع، ولا سيما بالمعنى الغربي للميتافيزيقيا..
ج: بعد الحرب، كانوا يتكلمون في اليابان على الميتافيزيقيا قائلين بالدّاخل الرّوحي. وأعتقد أنه ليس بإمكاننا الفصل بين الدّاخل والخارج، أو بين القفا والوجه.للكأس الواحد، للفخارة الواحدة، عالم آخر لا نستطيع رؤيته إلا بالخيال، خيال الشعر.
س: ويقال إن الشعر الياباني بعيد أيضاً عن السياسة؟
ج: هذا سؤال صعب أيضاً. لا أتخذ من السياسة موضوعاً مباشراً لقصيدتي، ولكن يستحيل نكران السياسة. فهي قوة تحرك الدولة والمجتمع. ولذا أهتم بما تنتجه اجتماعياً وزمنياً. طبعاً هناك شعراء يحتفلون مباشرة بالسياسة. فالمجلات والصحف والمنابر الشيوعية مليئة بالأمثلة وتقدِّم السياسة على رأس القائمة. ويعتبرون أن الشعر جزء من السياسة. لا أوافق على هذا إطلاقاً. وموقفي واضح جداً. لا علاقة لي بالسياسة مباشرة، لكن أهتم من بعيد بما تفرزه.
س: أنا موافق، الشيوعيون يربطون الأدب بالسياسة في كل مكان، ولكن هل نجحوا!!.. وهل نجحوا في اليابان؟
ج: أبداً. لا أعتقد. وحتى في الصين لم ينجحوا ولن ينجحوا. صحيح أنها دولة اشتراكية، ولكن ما يحدث هناك من مظاهر قمع للديمقراطية يؤكد سلبية الأشياء بلا حدود. وفي اليابان لم ينجحوا ولن ينجحوا. إذا سمعوا ما أقوله الآن سوف يأخذون بالنيل منّي. سنة 1960 وأثناء توقيع اتفاقية الأمن مع الولايات المتحدة، انشق المجتمع الياباني إلى ضد ومع. وحدث الشيء نفسه سنة 1970. لكن الشعراء تأثروا أكثر واشترك الكثير منهم في المظاهرات. أما أنا فلم أشترك. فقيل لي من لا يشترك في المظاهرات ليس شاعراً. لكن الشاعر في نظري هو من يسير في طريقه الخاص طريق ما يؤمن به داخلياً.
وليس ضرورياً أن يتحرك مع رأي العامة، وأن يتغير حسب الرأي العام. في هذه الحالة ينعدم الشاعر بالنسبة إلي. أقبل ما يفعله الآخرون ولي حق نقدهم، وإذا نقدوا لي حق الرد. فنحن في عصر حرية الكلام، حرية التعبير. وهذا أهم شيء. وما دمنا نحتفظ بهذه الحرية فلا وجود لمشكلة. أما الشيوعيون فيريدون إلغاء الحريات.. السياسة مهمة، ولكن الشعر والفن والأدب، يجب ألا تكون أدوات في يد السياسة. هناك شعراء هتّافون، أدوات سياسية لا غير.
س: أثناء الحرب، كان هناك شعراء يحرضون على الحرب، ولا سيما شعراء قصيدة التانكا، فكيف كان موقف شعراء الحداثة عموماً؟
ج: كان هناك أيضاً شعراء حداثة غنّوا الحرب وحرّضوا عليها. شعراء الهايكو، وبسبب طبيعة الهايكو، لم ينزلقوا هذا المنزلق. أما التانكا بإيقاعها وألحانها، تستطيع الإثارة والتأثير النفسي، لذلك كتب شعراؤها كثيراً. والشعر الحديث، بما فيه من حرية، قادر على الأمر أيضاً. لذلك كتب كثير من الشعراء قبل جيلي في مدح الحرب والنظام الإمبراطور. هناك ميل يتيح سهولة الدخول في النظام. والشيء نفسه ينطبق على الرواية: كتبت روايات كثيرة لصالح الحرب والإمبراطوري. ولحد الآن لا ينتهي النقاش حول هذه النقطة، ولا نزال في حالة جدالية رغم جميع النقاشات السابقة. هناك صعوبة في توضيح ما ينبغي أن يعبر عنه الشاعر ويهتم به. هناك شعراء احتفلوا بالحرب وصفقوا لها، ثمَّ ندموا بعدها. فكتبوا حول الموضوع كثيراً، لكن هل هذا تعويض أم ندم.. لا نعرف..
س: كم كان عمرك عندما انتهى الحرب؟
ج: نسيت، لكن ربما ثلاثة وعشرون أو أقل بقليل أو أكثر.
س: هل تتذكر الرقابة على الكتابة والنشر قبل وأثناء الحرب؟
ج: ليست لي خبرة مع الرقابة قبل وأثناء الحرب. فقط لي خبرة أثناء وجودي في الجيش حيث كنت أيضاً أكتب. وكان رئيسنا يطلب مني قائلاً: أنت شاعر أرني ما تكتب، يجب أن أقرأ كلَّ شيء حتى الرسائل. وهذا نوع واضح من الرقابة. وبعد الحرب كانت الرقابة أمريكية: لقد راقبوا جيداً قصائدنا. للجيل الذي قبلي خبرة مع الرقابة العسكرية اليابانية أو ما كنّا نسميه المخابرات الثقافية فكرياً، راقبوا الجميع، وقمعوا كثيراً من الشعراء، أمّا جيلنا فلم يعرف هذه الحالة.
س: هل ذهبت إلى ميدان المعارك؟
ج: نعم. ذهبت إلى الفليبين وبقيت في ضواحي مانيلا مدة قصيرة ثمَّ عدت إلى اليابان ولا خبرة لي في المعارك مباشرة.
س: لكن حملت البندقية؟
ج: نعم. لكن لم أشارك فعلياً في القتال.
س: كم سنة بقيت في الجيش؟
ج: حوالي سنتين.
س: هل أثرتا على شعرك؟
ج: نعم. صحيح لم أشارك مباشرة في القتال، ولكن وجودي في مناطق المعارك أثّر عليَّ جداً ولا يزال حتى اللّحظة. إن موضوعات الحرب تظهر في قصائدي كثيراً ومباشرة وهذه تجربة يحملها جيلي مدى الحياة ولحد الموت. هناك من اشترك ولسنوات طويلة من شعراء جيلي، في المعارك مباشرة. هكذا لا تنتهي الحرب بالنسبة إليهم ولا تزال مستمرة. في داخلي شعور أن الحرب لم تنتهِ بعد. ولكي لا يعود ذلك العصر من جديد نعيش بجدية ونكتب بجدية. هذا شعور مشترك لدى جميع اليابانيين الذين لهم روح أو ضمير. لا يعبر الياباني مباشرة وبشكل واضح عن كره الحرب أو حبّ السلام، ولكن يستحيل إلغاء الخبرة الدّاخلية الكامنة في أعماقه حول هذا الموضوع.
س: آنذاك كيف كنت تنظر إلى الجندي الأمريكي، إلى الجيش الأمريكي؟
ج: (همهمةُ، همهمةٌ، وهزَّ رأس دون جواب).
س: يعني هل كنت تكرههم مثلاً؟
ج: كلا. ليس كرهاً. بالطبع، كان لدي شعور أنهم أعداء. لكن كنّا نعتقد أيضاً أن الشاعر الأمريكي الشاب هو الآخر، يخدم في الجيش مثلنا وجندي مجبر على الحرب مثلنا. وهذا ما عرفناه، بعد الحرب، عن شعراء الرومانسية الجديدة البريطانيين. كانوا مثلنا يكتبون القصائد في ميدان القتال بإفريقيا والهند وأوروبا. وعندما سمعت بهذا تأثرت كثيراً. صحيح أنهم كانوا أعداء، لكن لم يكن لدينا شعور كراهية تجاههم.
س: وكيف كنت تشعر خلال أربع سنوات من الاحتلال الأمريكي الكامل لليابان؟

حوار مع الشاعر
ريوسيه - هاسيغاوا

.. فكر بالانتحار مرّتين: مرّة عندما فقد كل شيء أثناء الحرب الكونية الثانية التي دمّرت بيته ومكتبته في مدينة أوساكا، ومرّة ثانية عندما خاف من أن يفشل كشاعر وأن يفقد ثقته بنفسه كمبدع حقيقي.. يصغي إليك فتحسبه يصغي إلى شيء متعلق بالحرب.. شاردٌ باندهاش.. مصغٍ باستغراب.. ضخم الحجم.
قلّما تجده في بيته. بقيتُ أكثر من شهرين أبحث عنه في طوكيو: وفي كلّ مرة كانت الزوجة تقول: خرج ولا أعرف متى يعود.. يهرب من حياة البيت.. لعلّه يجرّب أو يعيش حياة النمور.. ومن المحطة إلى التي خفت فعلاً أن يهرب مني فتضيع فرصة الحوار معه.. كان أبوه قد بدّد ثروته الطائلة على النساء.. وجاءت الحرب لتبدّد ثروته هو الآخر.. اقتنع بهذا القدر فصار يكتب عموماً حول "الطاقة": الطاقة في الأشياء، في التربة، في الأشجار، في الحيوان..الخ. إنه الشاعر الباحث عن طاقة ما.. من مواليد 1928. أهم أعماله الشعرية: "النمر، مختارات شعرية".
س: هل تعتبر نفسك شاعراً يابانياً وبأي معنى؟
ج: لا أكاد أعي أنني شاعر ياباني. بالطبع، أحمل الجنسية اليابانية، وأكتب باللغة اليابانية، ولكن المكان الذي استمد منه موضوع قصيدتي بعيد عن اليابان. لقد سافرت متجوّلاً في بلدان أجنبية كثيرة ولهذا تظهر في شعري مدن عالمية متعددة بناسها وضجيجها، ولكنه ليس شعر سياحة. لأنني عندما أسافر إلى بلدٍ ما أكتب وكأنني جزء منه مشاركاً الناس أحاسيسهم. لذلك رغم أنني من العرق الياباني فإنكم عندما تقرأون شعري المترجم إلى اللغات الأخرى فسوف لن تصنفوني شاعراً يابانياً ولن تتعرفوا في شعري على يابانية ما. إنني غريب، وحتى بالنسبة إلى اليابانيين.
س: إذن، لا تعتبر اللغة هوية الشعر؟
ج: كلا، مع أنني لا أكتب الشعر إلاّ باللغة اليابانية. وأعتقد أن قراء شعري الحقيقيين قلة في اليابان. وحدهم الذين يهتمون بالبلدان الأجنبية أو بالعالم يهتمون بشعري. وهذا ما حدث عندما كتبت نصوصاً شعرية حول اليابانيين - الأمريكيين. كلا، اللغة ليست هوية بالنسبة إلي.
وعندما تقرأ شعري لا تجد فيه بلاغة لغوية إلا قليلاً، لأني أكتب بلغة عادية، ولكن ما يكتب بهذه اللغة العادية بعيد جداً عن "اليابانية" وهنا صعوبة شعري.
س: ما هي أهم مشكلات الشعر الياباني الحديث؟
ج: في شعرنا الياباني الحديث تياران: الأول يعلق أهمية كبرى على الفنية والبلاغة، ثمّ يسكب فيهما المعاني حسب الموضوعات التي يفكر بها. هكذا تتحول أعمال هذا التيار وبالتدريج إلى أعمال فارغة كالطبل. والتيار الثاني يحمّل اللغة اليومية معاني تدور حول أشياء يومية بسيطة، فتأتي أعماله وضاحة بريئة كنصوص المرحلة الابتدائية أو الإعدادية. ومشكلة الشعر الياباني سواء بالنسبة إلى التيار الأول أو بالنسبة إلى التيار الثاني هي عدم وجود فلسفة للحياة في أساسه باستثناء أفكار سطحية وهذه إحدى خصائص اليابانيين. مثلاً يوجد لدى الهنود ووراء ثقافتهم الروحية شيء غامض ملغز يشبه الوهم. الصينيون يزخرفون الجُمل والأمور، ولكنهم لا يزخرفون شيئاً عبثاً، بل يمتلكون وعياً واقعياً إلى حدّ كبير يتحكم بتزيينهم للأشياء. هذه هي العقلية الصينية.
أمّا العقلية اليابانية فتُختصر بكلمة "كُو. أوشيبورو" أي أن اليابانيين يركّزون اهتمامهم على موضوع موجود ومطروح أمام أعينهم لذا يفقدون النظرة الشاملة.
س: هل هذه مشكلة قديمة أم جديدة؟
ج: هذه المشكلة موجودة منذ زمن بعيد ولا تزال حتى الآن. لطالما تأثرنا نحن اليابانيين بالهند والصين. كان علينا أن نمتلك الوهم "التزيين" وتركيز جميع هذه الصفات معاً في موضوع حاضر. ولكن في الحقيقة والواقع، ليس لدى الشعراء اليابانيين ذلك "الوهم"، أي ذلك الشيء الغامض الديني الفلسفي كما عند الهنود، مع أنهم يجيدون الزخرفة والتزيين إلى حدّ ما بسبب استخدامهم الحروف الصينية.
س: الشعر الياباني بعيد عن الميتافيزيقيا إذن، وبالمعنى الغربي للفظه، كيف تنظر إلى هذه المسألة؟
ج: على الصعيد الشخصي أعتبر نفسي شاعراً ميتافيزيقياً جداً. ولكن مهما درسنا ودرّسنا الاتجاهات الغربية الميتافيزيقية، يظلّ إبداع العالم الميتافيزيقي باللغة اليابانية صعباً للغاية. في مثل هذا المجتمع حيث يكثر النّاس غير الميتافيزيقيين - أي النّاس الفيزيقيون بامتياز الذين لا يفكرون إلا بالتركيز على موضوع حاضر كما قلت قبل قليل. إذا عاش الفرد مختلفاً عن هؤلاء أرى أنه يعيش عيشة ميتافيزيقية ويكتب بالإحالة إلى العالم الميتافيزيقي أساساً مهما كانت لغته، بهذا المعنى أعتبر نفسي شاعراً ميتافيزيقياً.
س: لكن الشعر الياباني الحديث يتهّم بالصعوبة أيضاً، ويقال إن سبب ذلك يعود إلى تسرّب خيوط ميتافيزيقية إليه؟
ج: الشعر الحديث صعب وغير مفهوم بالنسبة إلى غالبية اليابانيين وسبب ذلك يعود إلى عدم تدريس الفكري الميتافيزيقي في المؤسسة التعليمية اليابانية من المدارس إلى الجامعات.
إنّهم يدرسون المعارف العملية فقط ولذلك لا يفهمون الشعر الحديث. سأقول ذلك بطريقة أخرى: مثلاً عندما تحدثت عن الملاّحين في العالم الإسلامي بدأتَ الكلام على البحر الأبيض المتوسط. صحيح أن هذا الأخير هو مهد الملاحين في العالم الإسلامي، ومنه اتجهوا إلى المحيط الهندي والى البحار الآسيوية، لكن مثل هذا التفكير غير موجود لدى اليابانيين. فهم يربطون البحر المتوسط بأوروبا على الدوام. أمّا أنا فأستطيع فهم هذه العلاقة بسهولة: حالما أذكر البحر المتوسط يخطر بذهني على الفور المحيط الهندي وهذا أيضاً تفكير ميتافيزيقي.
س: لا تزال الموضوعتان التقليديتان، أي الموت والطبيعة تسيطران على مشهد الشعر الياباني الحديث، كيف نفسر ذلك.
ج: نعم. أعتقد أن معظم الشعر الياباني من الهايكو والواكا والى الشعر المعاصر يدور حول موضوعتي الموت والطبيعية.
أمّا لماذا يتناولون هاتين الموضوعتين في اليابان بشكل غير عميق وبإفراط في الوقت نفسه، فربّما يعود ذلك إلى وجود علاقة خاصة بين الياباني وبينهما، أو ربّما لأن الدين بمفهومه الغربي غير موجود عندنا. يبدو أننا نؤمن بالبوذية أو بغيرها ولكن ليس بالمعنى العميق والغيبي، أي ليس عندنا إله يكون معيار وقاعدة الحياة الإنسانية. فنحن مشركون إذا صحّ هذا التعبير ونجعل من كل شيء إلهاً ورباً. وهذا هو سبب تناولنا للطبيعة بشكل خفيف غير عميق.
إن المهم في الشعر بالنسبة لي هو التجاوز أو العبور. في شعري لا تظهر الطبيعة كثيراً إنني شاعر "لا طبيعي". وتوجد في شعرنا الحديث أصوات تتناول مسألة الموت لكن تتجاوزها مبدعة عالماً "واقعياً" آخر غير هذا العالم.
س: يبدو أنك تؤمن بوجود علاقة بين الشعر والدين؟
ج: نعم. لأن أكبر وأقصى موضوع في الشعر هو الحب، الحب وخلاص الإنسان. الشاعر يخلّص ذاته والآخرين. والفكرة نفسها. فكرة الحب والخلاص، موجودة في جميع الأديان.
س: يعني تربط الشاعر بالنبي إلى حدّ ما؟
ج: الشاعر أقرب إلى النبي منه إلى العرّاف.
س: ولكنه نبي من دون إله؟
ج: أنت تقول كذلك لأن لك إلهاً محدداً، أنا لا أنكر وجود إله ما، بل أشعر به دائماً وحتى ولو بشكل مبهم وأتلقى منه الإشارات باستمرار. ومع ذلك فإيماني هذا واهٍ وغير مؤكد فلا أستطيع إدعاء النبوة. يمكنني أن أتوقع ولكن لا يمكنني أن "أتنبأ". لديّ مثل هذا الإيمان المتواضع لأنني لا أؤمن بإله محدد.
س: وهل توجد علاقة بين الشعر والسياسة؟
ج: نعم. صحيح أن الشعراء اليابانيين يهتمون بالموت والطبيعة لذلك يبدو أنهم بعيدون عن السياسة اليومية بالمعنى السياسي والعميق. ولكن تجنب السياسة هو بالتحديد موقف سياسي. وهذا ما تقصد إليه السلطة. أي أن بروز اللا مباليين بالسياسة سيكون لصالح الطبقة العليا في السلطة. وبالمقابل عندما نوضح علاقتنا بالسياسة ونقترب منها نستطيع اختراقها وتجاوزها. على هذا المنوال أقترب شعرياً من السياسة.
س: الحداثة بالنسبة إليك، ماذا تعني وكيف تفهمها في الشعر الياباني؟
ج: تٌفهم الحداثة عموماً على مستوى الموضة. ولكنها بالنسبة إليّ تعني النظر العميق إلى المستقل الأكثر بعداً. أُدرك أن الحداثة التي تسبق الجمهور بخطوة أو نصف خطوة - وهي هنا الموضة والزي - تكتسب الإعجاب أكثر، لكن اعتبرها مبتذلة وسوقية، وأعتقد أن الحداثة هي فن التفكير في المستقبل الأبعد والأبعد..
س: هل يمكن أن تكون قصيدة الهايكو والتانكا شعراً حديثاً؟
ج: الهايكو والتانكا لا يمكنهما أن يصلا إلى الحداثة التي أعنيها. فالهايكو يدور حول الحاضر ويكتب عنه وإلاّ لا يعتبر عملاً ناجحاً. يقول معلم الهايكو: "أكتب عن الحاضر". هذا أساس الهايكو وقانونه، أما قصيدة التانكا فتلتفت إلى الوراء وتدور عموماً حول ماضِ قريب أو بعيد قليلاً. لكن الشعر ليست له قيود: يمكن أن يدور حول الحاضر وحول الماضي وحول المستقبل القريب أو البعيد معاً.
إنه حرٌّ. قلّما يدور الهايكو حول المستقبل الذي يعنيني بالدرجة الأولى وبصفتي شاعراً.
س: إذن، تعتبر الانتقال من شكل الهايكو والتانكا إلى شكل الشعر الحديث، أي الكتابة الحرّة، حداثةً؟
ج: نعم. إن كثيراً من شعراء الهايكو والتانكا وثبوا خارج الشكل المقيد لكي يكتبوا بحرية. لكن لا بدّ من الانتباه إلى أنه يوجد شعراء كبار كتبوا أعمالهم الرائعة ضمن قيود تحمّلوها. وهناك أيضاً من لم ينجحوا في مجال الهايكو والتانكا فهمّوا بالانتقال إلى مجال الشعر الحديث تخلّصاً من القيود وبحثاً عن كتابة أعمال جديدة.
لكن هل نجحوا.
هذه هي النقطة التي لا بدّ من الانتباه إليها. وفي النهاية من لم ينجح في إطار وميدان الهايكو والتانكا لم ينجح أيضاً في مجال الشعر الحديث.
س: هل أتُهم شعراء الحداثة بالخروج على التراث الشعري الياباني وبالتالي يقال أنّهم يخرّبون هذا التراث وهذه التقاليد؟
ج: كلا. عموماً لا يُتّهمون بهذا الشكل، بل بالعكس أولئك الذين يتعصبّون للقومية اليابانية يُتّهمون بالتقليدية وبأن عقلهم عتيق ولا يزالون يحملون العسكرية على ظهورهم. اليابانيون شعب عجيب! تصور أنهم يتّهمون ويدينون من يتشبث بالقومية اليابانية!
س: هل وُلد هذا الجو بعد الحرب الكونية الثانية أم أنه كان موجوداً قبل ذلك؟
ج: كان موجوداً قبل ذلك في عصر "ميجي" وأيضاً في عصر "إيدو". لأن الكونفوشيوسية كانت تنتشر في اليابان.
لذلك كانت أصابع الاتهام تُوجه إلى المتشبثين بالقومية اليابانية النابضة بالحياة آنذاك. والشيء نفسه يقال عن العصور القديمة حيث كانت اليابان قد تأثّرت جداً بالصين وأخذت عنها التشريع والنظام البيروقراطي أو الاجتماعي.
وعلى الرغم من أن القومية اليابانية نمط كخط واحد بلا انقطاع، غير أن كل شيء في اليابان مستورد من الخارج أصلاً: كان الشعر الياباني القديم الذي توجد نماذجه في كتاب "مانيوشو" يتخذ شكلاً يعرف بـ"تشوكا"، أي الأغنية الطويلة. وهذا النوع من الشعر يكرر أساساً إيقاع 5/7 / 5/7 / 5/7.. وفي النهاية يُضاف شكل الـ"هانكا" ذات الإيقاع 5/7 / 5/7/7/.
وفيما بعد استقل شكل الهانكا عن التشوكا وارتقى مستواه الفني في عصر "هَيان" حتى أخذ شكل التانكا المعروف. وبما أن شعر التانكا كان فناً أرستقراطياً جداً، أخذ النّاس يتسلّون بشكل شعري آخر معروف باسم "الرينكا": نوع من اللعب النظمي حيث يبدأ شخص بإيقاع 5/7/5 ثم يتابعه شخص ثاني بـ 7/7، ثم يأتي ثالث ويتابع ب 5/7/5/، وهكذا. أجد أن جميع هذه الإيقاعات تلتزم بروح الأدب الصيني، أي أعتقد أنها نشأت ونمت وفق الثقافة الصينية. المقطع الأول ذو الإيقاع 5/7/5 من شكل "الرينكا" ولا سيما الهزلي هو الذي تحوّل فيما بعد إلى ما يعرف باسم الهايكو.
لكن بعد أن اتهم هذا الأخير بأن طابعه الهزلي يتعارض مع الفنية، اتجه إلى تنقيح الأسلوب وتصفيته ثم شهد مرحلة ازدهار ومرحلة انحدار إلى أن وُلد في بداية عصر "ميجي" شكل الـ"شينتايشي"، أي الشعر بأسلوب جديد. هكذا نجد أن الذين أخذوا الثقافة الصينية بدؤا كتابة الشعر ذي الإيقاع الطويل.
ثم جاءنا الشعر الأوروبي والأمريكي وأخذ يمارس تأثيره على الشعر الياباني من حيث المضمون، ولكن بقي هذا الأخير محافظاً على الإيقاع الخاص باليابان. إن إيقاع 5/7 هو خصوصية من خصوصيات الشعر الياباني. وقد ينقسم إيقاع 5 إلى 2/3 أو 3/2 وإيقاع 7 إلى 4/3 أو ¾ أو 5/2 أو 2/5. على أية حال أعتقد أن شيئاً خاصاً بالشعر الياباني هو هذا الإيقاع فقط، أما المضمون فقد تأثّر إلى حدّ كبير بالصين ومنذ عصر ميجي بأوروبا وأمريكا.
س: كم عمر كلمة "شي" التي تعني عندكم باليابانية الشعر الحرّ والحديث تحديداً؟
ج: لا أعرف بالضبط، لكن أعتقد أنها جديدة. وربّما كانوا يسمون الشعر قديماً بـ"أوتا" أي أغنية. وجاءت كلمة "شي" على الأرجح من الكلمة الصينية "مانشي" أي الشعر الصيني.
س: كيف تميز بين الشعر والنثر؟
ج: لكي يصل النثر من نقطة "أ" إلى نقطة "ب" يسير طولياً وبشكل مستمر، أمّا الشعر فيقفز. هذا ما يميز الواحد عن الآخر عموماً. الشعر يقفز هنا وهناك وفي النهاية يصل إلى "ب" ولكن بالتأكيد لا يسير بشكل طولي. وهنا تكمن لذّته.
س: تعني أنهما يصلان إلى النقطة نفسها؟
ج: أعتقد ذلك. حتى النثر صار ينحاز عن الطريق أحياناً قبل أن يصل إلى "ب" وذلك بسبب تأثّره بالسينما. خلف اللغة يوجد عالم لا يمكن التعبير عنه باللغة العادية: الشعر هو الذي يحيل هذا الأمر ممكناً فيجعل ما لا يُرى مرئياً.
س: اللغة إذن! كيف تتعامل معها، كغاية، كوسيلة، أم ماذا؟
ج: عندما بدأت كتابة الشعر كانت اللغة هي الغاية.
ولكن مع التقدم في السن وفي الخبرة صرت أجد فيها وسيلة أو دوراً للوسيلة. وبالتدريج كبر هذا الدور لحدّ اعتقادي بأن الغاية تفوق اللغة، ما وراء اللغة. ربّما هناك غاية تتجاوز اللغة.
والحقيقة هي أن وجودي يساوي استخدام اللغة، فهي - أي اللغة - تأسرني وتقيّدني سادة الطريق أمامي. لذلك أشعر بنشوة الإبداع في عملية إيجاد كلمة جديدة أو كلمة تفوق الكلمة.
س: إذن، فنية القصيدة أو النص هي الأساس بالنسبة إليك، والقارئ أليس له مكان في ذهنك أثناء الكتابة؟
ج: أطالب بقارئ يتفوق عليَّ. قد يبدو هذا غريباً. ولكن أريد أن يقرأ شعري من يعرف الأشياء أكثر مني، أريد قارئاً أذكى مني. إنني من الشعراء الذين يكتبون النصوص ذات المدى الواسع ويميلون إلى الطيش الكتابي أو النصّي. هناك شعراء يكتبون النصوص المرتبة الضيقة المدى، وهؤلاء اسميهم الشعراء "الأذكياء"، أي يعرفون قواعد الشعر ويفكرون بالنتيجة.
نعم. عندما أكتب أفكر أولاً بفنية القصيدة وقبل كلّ شيء. أكثر من ذلك، أخذ بتعديلها كي أزيل صراحتها وبراءتها، أي كي أنزع عنها صفة النصوص الابتدائية. لذلك يحدث لقارئي ألاّ يفهم لأول مرة فيترك شعري جانباً، لكن بعد فترة من الزمن وعندما يتسع عالمه الروحي ويتعمق يتواصل مع شعري أكثر. إن شعري كالنبيذ لا يُشرب إلا معتقاً.
س: هناك شيء يبدو لي مفارقة إلى حدّ ما، وهو عودة شكل الشعر القديم مُمثلاً بالتانكا إلى الساحة الأدبية بقوة على يد الشاعرة تاوارا ماتشي، وهي شابة بالنسبة إلى جيلك. كيف تفهم ذلك في زمن يعيش فيه المجتمع الياباني الحداثة على جميع مستوياتها أو يعيش الحاضر بكامل أبعاده؟
ج: إنه الحنين إلى الماضي فبعد أن انقطعت صلاتنا بتقاليد اليابان القديمة وتغربنا تماماً عن أنفسنا، عاد تيار كبير يحن إلى اليابانية في الفن والشعر وحتى على صعيد الأكل بالنسبة للشباب الحالي الذي كان يفضل الطعام الأمريكي والأوروبي على الياباني.
مثلاً محلات "ماكدونالد" الأمريكية التي تبيع سندويش "هامبرغار" صارت تبيع اليوم وجبات يابانية تقليدية لأن الجيل الجديد أو الأجيال الجديدة أخذت تحن فيما يبدو إلى الطعام الياباني التقليدي والأكثر من تقليدي لحد أنني أستغرب هذه العودة وهذا الإقبال.
والياباني يحتاج - كي يأكل سندويشة الهامبرغار - إلى شيء ياباني في داخله، إلى خليط من الخبز ومن وجبة يابانية تقليدية. وهكذا أعمال الشاعرة تاوارا ماتشي.
فهي خليط من الحساسية المعاصرة والعقلية القديمة، خليط اتخذ شكل الشعر التقليدي وجاء سهلاً على الفهم والإدراك لحد أنه يبدو نوعاً من الشعار، الأمر الذي ساهم في ترويجه وجعله قريباً من الحياة اليومية. صحيح أن ديوانها "عيد ميلاد السلطة" بيع بكثرة، لكن هذا لا يعني بالنسبة إليّ وإلى جميع الذين يفهمون التانكا بشكل عميق أنه شعر. وفي النهاية يبدو أن الأدب الياباني اليوم ولكي يحوز على إعجاب الجماهير ويشد القراء إليه يحتاج إلى بوق وترويج، يحتاج إلى جهد دعائي. وهذا ما تقوم به دور النشر ومحررو الصحف فليس المهم نوعية الإنتاج بل المهم هو الترويج والدعاية هذا ما يصنع الأدب اليوم. يصعب العيش في مجتمع كهذا على كاتب ذي ضمير إبداعي.
س: من أي جيل شعري أنت.
ج: من جيل الخمسينات، أي من جيل الحركة الشعرية الأولى التي عرفتها اليابان بعيد الحرب مباشرة.
س: يعني عشت الحرب وعندك ذكريات..؟
ج: نعم، نعم، تعذّبت كثيراً. كنت أسكن مدينة أوساكا: حُرق بيتي وحُرقت مكتبتي وأصبح كل شيء رماداً، وأصبت بفقر دم لقلة التغذية ثم أُصبت بالتدرن. ولذلك فكرت بالانتحار بسبب فقري المادي وسوء معاملة الناس لي فاعتقدت أن وجودي لا قيمة له ولا معنى..
س: بصفتك كاتباً، كيف تفسّر ظاهرة الانتحار عند الأدباء عموماً وعند أدباء اليابان بشكل خاص؟
ج: ليس ظاهرة خاصة بالأدباء، بل تتعلق بجميع النّاس الذين لا يستطيعون أن يجدوا لوجودهم معنى. ومثلما فكرت أول مرة بالانتحار بسبب الفقر، كذلك فكرت بالانتحار مرة ثانية عندما شعرت أن المسافة بين ما أكتب وبين الواقع صارت تتسع وصار شعري نوعاً من الفراغ والعبث رغم أنني أعيش في الواقع ومبرر وجود كتابتي قائم في هذا الواقع. كما فكرت مرة ثالثة بالانتحار عندما أحسست أن النّاس لا يقدّرون أعمالي الشعرية ولا تجد هذه الأخيرة الصدى الذي أريده. أعني من هذا أن أسباب الانتحار تتعدد وتختلف من كاتب إلى آخر ولكن غالبها يتعلق بالمسألة الإبداعية ومدى استمراريتها. مثل الروائي "آكوتاغوا - ريونوزوكي" كان فناناً بارعاً في أقَلَمة أو تحويل النصوص المأخوذة من الأساطير القديمة والقصص الموروثة إلى أدبٍ جديدٍ. وبهذه البراعة وصل إلى قمة الكتابة. غير أنه في البداية وصل إلى حالة مسدودة وأيقن أنه لم يعد يستطيع الكتابة فانتحر. كانت حالته النفسية قبيل الانتحار عجيبة وغير طبيعية. لعلّه لم يحاول توسيع رؤيته عندما مضى في عالم ضيق يؤقلم النصوص القديمة ويحولها إلى نص جديد. هكذا اصطدم بالجدار. مثال آخر هو "ميشيما يوكيو"، الكاتب الروائي المعروف بروعة الرؤية في السرد والذهنية. مع مرور الوقت صارت روايته تفقد ارتباطها بالواقع. والوضع السياسي كان يتقاسمه تياران: اليميني القومي الذي يجد بلورته في الإمبراطورية، واليساري المتأثر بالاتحاد السوفيتي وأوروبا. كان ميشيما يعيش موزّعاً بين هذين التيارين، ولكنه في النهاية صار يميل إلى تيار الإمبراطورية القومية لكي يسدَّ الشقوق بين مثاليته والواقع. غير أن القومية اليابانية ذاتها كانت قد بدأت بالانحدار أمام النزعة العامة إلى الدولية: هكذا وقع ميشيما في حالة نفسية غريبة قادته إلى الانتحار، إلى التضحية بنفسه من أجل تمجيد القومية اليابانية.
س: هل تعتقد أن بعد الموت شيئاً آخر؟
ج: الموت هو النهاية وبعده لا يوجد شيء آخر. لكن مثل هذا الاعتقاد غير مثير وغير ممتع. لذلك أتخيل أن عالماً آخر يمتد بعد الموت وهناك أصبح مادة. وبما أن المادة لا تفنى ولا تنقص حجماً في الفضاء، فإن شظايا جسدي ستكون مادة في مكان وسوف تتجمّع تلك الشظايا في شظية واحدة وانبعث من جديد ولو بعد مائة مليون أو بليون سنة.. لديّ مثل هذه الصورة عن الانبعاث.
س: كيف تنظر إلى حركة الشباب الشعرية بعد جيلك؟
ج: طالما أنهم يعيشون عصراً مشبعاً ولم يجربوا الحرب ولا يتعلمون فكراً يحتضن الخطر، خطر الدمار، فإني أرى فيهم النضارة والصراحة. وهم يكتبون في أمانٍ نسبي. يبدو لي أن ظواهر الثقافة الشعبية اليومية تجرف شعرهم إلى حدّ كبير. أشبّه إنتاجهم بالساعة الرقمية حيث لا يظهر إلاَ الزمن الحاضر فقط، أي الساعة البدون عقارب، أمّا شعري فأشبه ما يكون بالساعة العقربية، حيث يوجد الزمن الحاضر والماضي وأيضاً المستقبل، أي في عالمي الشعري توجد زوايا الوقت. عندما تنظر إلى الساعة العقربية تعرف الوقت الحالي وتعرف مرور الزمن، سواء نحو المستقبل أو الماضي، من حركة العقربين الطويل والقصير اللذين يشكلان الزاوية.
أجد عند الشعراء الشباب صفة "مطاردة الطرب". لا أشعر بحاجة إلى نفي هذه السمة، ولكن نحن الشعراء الذين عشنا جرح الحرب الكبير لا نستطيع ذلك بسهولة.
س: المرأة، ماذا تمثّل بالنسبة إليك؟
ج: لا أفهمها، حقّاً لا أفهم المرأة. فقدت والدتي وعمري ستة أو سبعة أعوام. لذلك أعتبر المرأة شيئاً مقدساً لا يمكن الاعتداء عليه. ومع ذلك، كلما كبرت وتقدمت في السن أكتشف جزءاً كريهاً في المرأة. هكذا بدأت تتسع المسافة بين صورة والدتي وصورة المرأة العامة.
وفي النهاية صرت أحنّ إلى أمي المقدّسة باستمرار. لا أستطيع أن أتصرف بصراحة مع المرأة. أخاف منها بمعنى من المعاني ولا أشعر براحة معها. ولهذا يبدو لي أن العيش مع زوجتي في البيت هو أكبر عبء يُثقل كاهلي. لذلك أخرج من البيت وأتجول، أمشي وأمشي وفي ذهني أن أجد امرأة مثل والدتي. والحقيقة أخرج كي أعمل، ولكن في ذهني - فيما يتعلق بالمرأة - البحث الدائم عن تلك التي تشبه أمي.
لقد تُوفيت في سن مبكر المسكينة وتألمت كثيراً في الحياة. كان بودّي الاعتناء بها كثيراً لو بقيت حتى الآن، أو لو عاشت حتى سن نضوجي.
س: ماذا تعمل الآن؟
ج: أنا شاعر ميتافيزيقي، ولكن في عالم الشعر الياباني لا نقدّر كثيراً الأعمال الشعرية الميتافيزيقة. لذلك قلّما كسبت نقوداً من كتابة الشعر، مع أن وضعي أفضل بكثير من شعراء آخرين.
لكن في هذا العالم الدنيوي المحضّ توجد أعمال تحتاج إلى الميتافيزيقيا: مثلاً عندما تباشر إحدى الشركات بخطة لإنجاز مشروع كبير تطلب من شاعر أن يكتب حول هذا المشروع والشركة لا تنتظر كلمة وصفية يومية، لذلك تتوجه بالطلب إلى شاعر ميتافيزيقي مثلي قادرٍ على التجريد في الرؤية.
من هذه الأعمال أستطيع العيش ولكن بشكل متواضع جداً: أعطيك مثالاً، في سنة 2000 سيتم إنشاء خط حديدي جديد بين طوكيو وأوساكا وذلك لاختصار الفترة الزمنية بين المدينتين إلى ساعتين بدلاً من ثلاث ساعات الآن. والشركة التي سوف تنفذ هذا المشروع تفكر بكيف سيكون شعور الركاب في مثل هذا القطار السريع جداً. ولكنها لا تستطيع إيجاد التعبير المناسب عن هذا الشعور.
هكذا تبحث عمن يستطيع توقع وفهم شعور الركاب في هذا القطار، لذلك طلبت مني أن أكتب شيئاً حول ذلك.

- أجريت هذه الحوارات الأربعة في طوكيو سنة 1990
- 1991.

******

حوار مع الشاعر
آكيا - يوتاكا

يُعدُّ الشاعر آكيا - بوتاكا من أقطاب الحركة الشعرية الحديثة في يابان ما بعد الحرب، ويمثل بكتابته الشعرية حول موضوعة الجبال واحداً من رموز الحساسية اليابانية المعروفة بالبساطة والحديث عما يدور أمام الحواس الخمس.. التقيتُه في مناسبات عديدة وتزايدت لقاءاتنا وأحاديثنا حول الشعر الياباني وحول الشعر العربي.. هو يريد أن يعرف عن شعرنا العربي وأنا الآخر أريد أن أفهم بعض مشكلات الشعر الياباني الحديث.. له سيرة ذاتية مطولة مع الحرب ومع أبناء جيله من الشعراء، ذلك الجيل الذي يأتي بعد جيل الرواد في الشعر الياباني الحديث.. من مواليد 2/11/1922.. له أعمال شعرية كثيرة آخرها "طريق الحرير".. رئيس جمعية "الأرض" الشعرية التي تعني تحديداً بنصوص الشعر الحديث، بنصوص الشعراء الجدد.. لا يعتقد بوجود قمم شعرية في الوقت الحاضر، بل يرى أن الجميع من سوية واحدة.. واضح في حديثه ومتواضع جداً. وفي الطريق إلى بيته بضواحي طوكيو، كان الضباب يلفُّ كلَّ شيء، حتى القطارات ومحطاتها، وكنت أعدُّ الأسئلة.. أسئلة هذا الحوار قبل أن أقرع جرس بابه في صبيحة أحدٍ من آحاد كانون الأول سنة 1997.
س: هل أنت شاعر ياباني وبأي معنى؟
ج: نعم. أنا شاعر ياباني.. وبأي معنى؟ هذا هو السؤال الصعب. بالتأكيد ولدت في اليابان، لذلك أشعر أنني ياباني، لا سيما أنني أسافر كثيراً إلى الخارج. في العمق لا أؤمن باختلاف الشعوب. فالجنس البشري واحد في جميع الأصقاع..
س: هل لأنك تكتب باللغة اليابانية تشعر أنك ياباني، هل اللغة هوية؟
ج: هذا بالتأكيد. عرقياً أنا ياباني. وشاعر ياباني لأنني من اليابان وأكتب باللغة اليابانية. والآن يزداد الاحتكاك مع البلدان الأجنبية، وتُستخدم لغات متعددة، من بينها اللغة اليابانية التي تمتاز بتاريخها الطويل، وتفكيري ينصب على الاستفادة منها في هذا العصر. بهذا المعنى أيضاً أنا ياباني.
س: أنت شاعر حديث (شِي - جين) [تطلق هذه التسمية على الشعراء الذين يمارسون كتابة الشعر الحديث فقط دون الهايكو أو التانكا] فهل مارست كتابة الهايكو أو التانكا التقليدية؟
ج: نعم، أيام الصبا والمراهقة، أي أيام المدرسة المتوسطة والثانوية حيث يدرّب التلاميذ على كتابة الشعر التقليدي.
س: كيف انتقلت، أو بالأحرى كيف بدأت كتابة الشعر الحديث؟
ج: حسن. في الواقع كنت أمارس كتابة الشعر بأنواعه منذ البداية.. هايكو، تانكا، شعر حديث.. وكنت أرسل ما أكتب إلى مجلة خاصة بأدب الشباب الناشئ.. وجدت في تلك المرحلة أن الشعر الحديث يناسبني أكثر. وكان لي مدرِّس يحب الأدب فقال لي: يا آكيا، أنت جيد في الشعر الحديث. هكذا بدأت التفكير جدياً بالموضوع..
س: ألم تتردد آنذاك بين الشكل التقليدي والشكل الحديث؟
ج: نعم. ترددت. روح الشعر الحديث لا تكاد تختلف عن روح الهايكو والتانكا. ولكنه جذبني لما يتيحه من حرية في الروح والشكل وأنا في غمرة الصبا.
س: يعني كنت تشعر بضيق الهايكو واتانكا؟
ج: نعم، ولا زال. لم يكن هناك عدد كبير من التلاميذ يكتبون الشعر الحديث، وذلك لأنه لا يتيح الغنائية التي يتيحها شكل الهايكو أو التانكا، ولا سيما حول موضوعات يومية وخاصة. غنائية لا يتيحها للجميع. لا يستطيع كتابته أي كان، إذ لا يوجد له شكل محدد وإيقاعات محدودة ومحصورة مثل الهايكو والتانكا. ولا تزال هذه القضية قائمة لحد اليوم.
س: ألم تهاجَم لأنك تكتب شعراً لا جذور يابانية له، ألم يتهمك الزملاء آنذاك بأنك تكتب شيئاً لا علاقة له بالشعر الذي يعتبر تقليدياً هو الشعر الحقيقي، أي الهايكو والتانكا؟
ج: كان الجميع ينظرون - ولا يزالون - إلى الشعر الحديث بعين غريبة على أساس أنَّ كتابته صعبة للغاية وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الهايكو والتانكا. وعلى الرّغم من هذه الرؤية الغرائبية آنذاك، كانت هناك صفحات ثقافية كثيرة تنشر نصوصاً من الشعر الحديث. وقد نجحت أكثر من مرّة في نشر نصوصي الأولية إلى أن تمَّ اختيار أحدهما لموضوع جائزة بسيطة. وهذا ما شجعني مرّة أخرى للمتابعة في ممارسة الشعر الحر. ولم يخطر لي وقتها أنني سوف أعيش في المستقبل من وراء هذا الموضوع. [للشاعر اليوم مجلة شهرية اسمها "الأرض"، ويرأس تجمعاً كبيراً وواسع الانتشار في اليابان.. له دار نشر تقريباً خاصة بالشعر الحديث]. فقط كنت أحبَّ الشعر الحديث وليس أكثر من ذلك.. والحقيقة لم أقرأ لشعراء الهايكو والتانكا المعاصرين والقدامى شيئاً يذكر، بل بدأت مطالعاتي الشعرية برواد الشعر الحديث الياباني مثل "هاكي - وارا - ساكتارو" و"مورؤو - سايسيه" و"هوري - تاتسو" الذي كان يكتب الشعر والرواية الجميلين المتأثرين بالأدب الفرنسي. ثم أخذت بقراءة كلِّ ما هو مترجم من الشعر عن اللّغات الأجنبية.
س: ولكن لِمَ يقولون إن الشعر الحديث صعب على الفهم؟
ج: لعلَّ الناس يعتبرونه شيئاً عادياً في البلدان الأخرى. أمَّا في اليابان فالأمر يختلف، لأن الجميع يقرؤون الهايكو والتانكا اللذين سيطرا على المفهوم العام للشعر ويفهمون، وعندما يقرؤون الشعر الحديث لا يفهمون بسهولة. لكن شيئاً فشيئاً صار هذا الأخير ينتشر بعد الحرب. صحيح أننا أدخلنا في مناهج التعليم نصوصاً شعرية حديثة، لكن المدرسين يشكون من صعوبة تدريسها. وتحاول الصحافة تعميم هذه الصورة فلا تقرِّب هذا الشعر للنّاس وتجري في الابتعاد عنه. ولحد الآن لا تزال الرواية والنثر يسيطران على نموذج الأدب. أما الشعر الحديث، فلا يزال منظوراً إليه كأنه أقلية لا علاقة لها بالأدب، على الرّغم من العدد الكبير لشعراء الحداثة.
س: لماذا هو صعب، هل هو حقاً هكذا؟
ج: جاءنا من أوروبا، وكانت بداياته صعبة الفهم حقاً بسبب السوريالية والنزعة الحداثوية التي رافقته على صعيدي الروح والشكل. فالشعراء السورياليون اليابانيون كانت تصعب قراءة نصوصهم وفهمها. وهناك سبب آخر يقوم في اعتماد الشعر الحديث على الصورة، والنّاس قد اعتادوا شكل وإيقاع الشعر القديم. فهذا الأخير كان ولا يزال يدخل آذانهم من خلال هذين الأمرين ومن خلال أشياء أخرى لا علاقة لها بالصورة. لذا هناك ميل اليوم إلى التخفيف من هذا الموضوع واللجوء إلى التعبيرية بعض الشيء. لأن الصورة سيطرت بقوة منذ سنة 1870 إلى سنة 1988.
س: والحالة هذه، ما هي خصوصية الشعر الياباني لأنني أراك، فيما تقول هذا، تتحدث حول مشكلة تكاد تلامس الشعر العربي الحديث؟
ج: هذا العصر هو عصر تواصلات متبادلة، دخول شعر وخروج آخر، تأثرات متبادلة. ولذا أعتقد أنه يصعب الكلام على خصوصية واضحة ومحددة للشعر الياباني الحديث. ولعلَّ هذا الأمر لصالح الشعر وتقدّماً له. هكذا يصل إلى الحالة الشمولية، إلى النزعة الإنسانية التي لا تعرف هوية أو خصوصية داخل هذه اللغة أو تلك. هكذا يصير هوية ذاته لا غير بالغاً أعماق روح الإنسان. هو ذا فهمي لمعنى الخصوصية اليوم. عندما تُترجم قصائدي، فأنا لا أعرف أين مكمن يابانيتها، وأين جواز سفرها الياباني. صغرت الاختلافات بسبب انتشار المعلومات. أستطيع معرفة ما يحدث في العالم، كلِّ العالم، وأنا جالس، أو أسافر إلى مناطق نائية مجهولة لا يصلها سائح أو مصوّر. ومن هناك، حيث يوجد شعراء بالتأكيد، أغرف ما أريد من الموضوعات التي قد تكون مشتركة بيني وبين شعراء تلك المناطق. ماذا يبقى..؟ يبقى شيء خاص جداً لا نكاد نتبينه ولا نكاد نراه. بهذا المعنى أقول إن عالمية الشعر تبدو أنها تطغى على كلِّ خصوصية.
س: من المؤكد أن الشعر الياباني الحديث يختلف بالشكل والإيقاع عن الهايكو والتانكا، لكنَّ تظلّ الحساسية في التعامل مع الأشياء والعالم حساسية يابانية دون غيرها، فكيف يمكن فهم هذه النقطة؟
ج: نعم. بالتأكيد هناك حساسية مشتركة بين الشعر القديم والحديث.
س: ما هي، أين هي، كيف نراها ونلمسها؟
ج: ربَّما هي داخل اللغة اليابانية لا أكثر، حيث يجد كلُّ شاعر صوته الخاص. ولا أظن أنها خارج اللغة اليابانية…
س: الطبيعة هذا العنصر الحاضر جداً في الهايكو والتانكا، هل هي حاضرة أيضاً وبالطريقة نفسها في الشعر الحديث؟
ج: أعتقد أننا فقدنا هذا العنصر داخل شعرنا الحديث. صارت الحضارة والقضايا الاجتماعية الطارئة أكثر أهمية. قد يكون ذلك خطأ فالطبيعة تدمّر الآن. هناك شعراء يهتمون بها كظاهرة اجتماعية لا غير. وهناك فوضى على هذا الصعيد. نشتاق إلى الطبيعة ونفقدها. هذا هو الواقع. هكذا نعيش صراعاً بين الحضارة والطبيعة، لا سيما وأن اليابان بلد صغير جغرافياً.
س: أنتم في اليابان، ولا سيما لدى الشنتوية وهي الدين المحلي الغالب، تقدسون الطبيعة تقديساً يلامس كل مظاهر الحياة، فهل تعتقد أن الأمر انتهى فيما يخص هذا التجلي في الشعر؟
ج: لا يزال الأمر موجوداً. عندنا "عبادة" الجبل. ونعتبر الجبل إلهاً. وهذا موجود في البوذية والشنتوية. نقول باحترام الطبيعة أو بوجود الله في الطبيعة مبثوثاً داخل كلّ شيء وبشكل طبيعي. وهذا ليس ديناً فقط، بل أكثر وأوسع من الدّين وعليه يتم الاعتماد الروحي. هذه هي الطبيعة. عشنا آلاف السنين، ولم نزل، تحت رحمتها ولذلك يستحيل نفي هذا الأمر. وأظن أن الأمر هكذا في جميع البلدان. ما رأيك؟
س: جميع الشعوب تحب الطبيعة، ولكن تقديسها خاص باليابان فقط، فوجود الله وتجليه في الطبيعة ومظاهرها هو جوهر الشنتوية، وكلُّ ياباني شنتوي في العمق، أي يقدِّس الطبيعة..
ج: نعم. الشنتوية قبل البوذية في اليابان. ربّما لم يكن لها شكل واضح المعالم في البداية، لكنها حجر الأساس في تاريخ اليابان. فهي واليابان من عمر واحد. ثم بعد قرون دخلت البوذية وغيرها. عبادة الطبيعة طقس قوي جداً عندنا. ويرتبط ارتباطاً قوياً وأساسياً بالمتع اليومية، بأوقات التسلية. نذهب إلى الجبل كي نتمتع به وكي نقدّسه في الوقت نفسه. جمعنا بين الممارسة اليومية وبين طقس العبادة. نشكل مجموعات للسفر وفي الوقت نفسه للعبادة. ليس هناك فصل بين ممارسة العبادة وممارسة المتعة. لا نعبد الجبل لذاته وبذاته. نعبده لأننا نتمتع به ونتمتع به لأننا نعبده. هكذا أدخلنا تقديس الطبيعة في الحياة والممارسات اليومية بانسجامٍِ ونجاح.
س: والحالة هذه، كيف تنظر إلى العلاقة بين الدين والشعر؟
ج: هناك ارتباط. ولكن ليس بالمعنى الدّيني الضيق للدّين، بل بالمعنى الواسع الذي تحدثت عنه، أي تقديس الطبيعة تقديساً أوسع من التقديس الديني المتعارف عليه. عندما أسافر من خلال طريق الحرير مثلاً، ألتقي بشعراء متنقلين، من مكان إلى آخر، بقصائدهم وأشعارهم الشفوية. هؤلاء في نظري هم حجّاج أمكنة. ألتقيهم بين مجموعات دينية وبين أخرى تجارية. يسافرون هكذا ولا عمل لهم سوى الغناء والشعر. وهذا ما أقوله في إحدى قصائدي "طريق الأدب هو أيضاً طريق الحج". وأعتقد أن لديكم، أنتم العرب، هذا النوع من الحجاج. قد لا يوافق بعض الشعراء على هذا الكلام، لكنها رؤيتي. طريقة الحياة هكذا ممكنة دينياً، وهذا ما يمنح الذات ثقة وقوة. والشاعر قادر على حياة مماثلة. إنه موضوع مهم جداً بالنسبة إلي.
س: ما دور الشاعر في هذا الترابط، هل تعتقد أنه نبي؟
ج: نعم. هو رسول يوصل كلمات "الله" إلى النّاس العاديين، هو "ميكو" أي الفتاة العازبة التي تنقل كلام الآلهة إلى النّاس.
س: يعني على الشاعر أن يحدد للنّاس ما هو الجميل، ما هو المهم؟
ج: نعم. أعتقد أن الشعر جمال. نشعر به، نرسله. والوجود البشري مليء بأنواع الجمال مهما بدا العالم قبيحاً بسبب ما يحدث من حروب وكوارث. دورنا كشعراء إيصال هذا الجمال، وهذا إبداع في الوقت نفسه: أن نصنع الجمال ونرسله. لا أعرف إذا كان الشعراء اليابانيون قد وصلوا إلى هذا المستوى أم لا. لكن على شعراء العالم أن يلعبوا هذا الدّور.
س: يهتم الشعر الياباني عموماً بالحياة اليومية، فهل أنت كذلك؟
ج: نعم. أنا الآخر أهتم بالحياة اليومية. لكن أحاول رؤية ما وراء زجاج الحياة اليومية. لا أكتب قصيدة حياة يومية وأتوقف، بل أريد رؤية عالم آخر، واقع آخر خلف الحياة اليومية. هذا هو عالم الشعر في نظري. وليس الزجاج نفسه. بشكل عام، هناك شعراء كثيرون يكتبون الحياة اليومية، لكن أنا، أريد رؤية ما يكبِّره زجاج الحياة اليومية.
س: هذا نوع من الميتافيزيقيا، والشعر الياباني، كما أعرف، بعيد عن هذا الموضوع، ولا سيما بالمعنى الغربي للميتافيزيقيا..
ج: بعد الحرب، كانوا يتكلمون في اليابان على الميتافيزيقيا قائلين بالدّاخل الرّوحي. وأعتقد أنه ليس بإمكاننا الفصل بين الدّاخل والخارج، أو بين القفا والوجه.للكأس الواحد، للفخارة الواحدة، عالم آخر لا نستطيع رؤيته إلا بالخيال، خيال الشعر.
س: ويقال إن الشعر الياباني بعيد أيضاً عن السياسة؟
ج: هذا سؤال صعب أيضاً. لا أتخذ من السياسة موضوعاً مباشراً لقصيدتي، ولكن يستحيل نكران السياسة. فهي قوة تحرك الدولة والمجتمع. ولذا أهتم بما تنتجه اجتماعياً وزمنياً. طبعاً هناك شعراء يحتفلون مباشرة بالسياسة. فالمجلات والصحف والمنابر الشيوعية مليئة بالأمثلة وتقدِّم السياسة على رأس القائمة. ويعتبرون أن الشعر جزء من السياسة. لا أوافق على هذا إطلاقاً. وموقفي واضح جداً. لا علاقة لي بالسياسة مباشرة، لكن أهتم من بعيد بما تفرزه.
س: أنا موافق، الشيوعيون يربطون الأدب بالسياسة في كل مكان، ولكن هل نجحوا!!.. وهل نجحوا في اليابان؟
ج: أبداً. لا أعتقد. وحتى في الصين لم ينجحوا ولن ينجحوا. صحيح أنها دولة اشتراكية، ولكن ما يحدث هناك من مظاهر قمع للديمقراطية يؤكد سلبية الأشياء بلا حدود. وفي اليابان لم ينجحوا ولن ينجحوا. إذا سمعوا ما أقوله الآن سوف يأخذون بالنيل منّي. سنة 1960 وأثناء توقيع اتفاقية الأمن مع الولايات المتحدة، انشق المجتمع الياباني إلى ضد ومع. وحدث الشيء نفسه سنة 1970. لكن الشعراء تأثروا أكثر واشترك الكثير منهم في المظاهرات. أما أنا فلم أشترك. فقيل لي من لا يشترك في المظاهرات ليس شاعراً. لكن الشاعر في نظري هو من يسير في طريقه الخاص طريق ما يؤمن به داخلياً.
وليس ضرورياً أن يتحرك مع رأي العامة، وأن يتغير حسب الرأي العام. في هذه الحالة ينعدم الشاعر بالنسبة إلي. أقبل ما يفعله الآخرون ولي حق نقدهم، وإذا نقدوا لي حق الرد. فنحن في عصر حرية الكلام، حرية التعبير. وهذا أهم شيء. وما دمنا نحتفظ بهذه الحرية فلا وجود لمشكلة. أما الشيوعيون فيريدون إلغاء الحريات.. السياسة مهمة، ولكن الشعر والفن والأدب، يجب ألا تكون أدوات في يد السياسة. هناك شعراء هتّافون، أدوات سياسية لا غير.
س: أثناء الحرب، كان هناك شعراء يحرضون على الحرب، ولا سيما شعراء قصيدة التانكا، فكيف كان موقف شعراء الحداثة عموماً؟
ج: كان هناك أيضاً شعراء حداثة غنّوا الحرب وحرّضوا عليها. شعراء الهايكو، وبسبب طبيعة الهايكو، لم ينزلقوا هذا المنزلق. أما التانكا بإيقاعها وألحانها، تستطيع الإثارة والتأثير النفسي، لذلك كتب شعراؤها كثيراً. والشعر الحديث، بما فيه من حرية، قادر على الأمر أيضاً. لذلك كتب كثير من الشعراء قبل جيلي في مدح الحرب والنظام الإمبراطور. هناك ميل يتيح سهولة الدخول في النظام. والشيء نفسه ينطبق على الرواية: كتبت روايات كثيرة لصالح الحرب والإمبراطوري. ولحد الآن لا ينتهي النقاش حول هذه النقطة، ولا نزال في حالة جدالية رغم جميع النقاشات السابقة. هناك صعوبة في توضيح ما ينبغي أن يعبر عنه الشاعر ويهتم به. هناك شعراء احتفلوا بالحرب وصفقوا لها، ثمَّ ندموا بعدها. فكتبوا حول الموضوع كثيراً، لكن هل هذا تعويض أم ندم.. لا نعرف..
س: كم كان عمرك عندما انتهى الحرب؟
ج: نسيت، لكن ربما ثلاثة وعشرون أو أقل بقليل أو أكثر.
س: هل تتذكر الرقابة على الكتابة والنشر قبل وأثناء الحرب؟
ج: ليست لي خبرة مع الرقابة قبل وأثناء الحرب. فقط لي خبرة أثناء وجودي في الجيش حيث كنت أيضاً أكتب. وكان رئيسنا يطلب مني قائلاً: أنت شاعر أرني ما تكتب، يجب أن أقرأ كلَّ شيء حتى الرسائل. وهذا نوع واضح من الرقابة. وبعد الحرب كانت الرقابة أمريكية: لقد راقبوا جيداً قصائدنا. للجيل الذي قبلي خبرة مع الرقابة العسكرية اليابانية أو ما كنّا نسميه المخابرات الثقافية فكرياً، راقبوا الجميع، وقمعوا كثيراً من الشعراء، أمّا جيلنا فلم يعرف هذه الحالة.
س: هل ذهبت إلى ميدان المعارك؟
ج: نعم. ذهبت إلى الفليبين وبقيت في ضواحي مانيلا مدة قصيرة ثمَّ عدت إلى اليابان ولا خبرة لي في المعارك مباشرة.
س: لكن حملت البندقية؟
ج: نعم. لكن لم أشارك فعلياً في القتال.
س: كم سنة بقيت في الجيش؟
ج: حوالي سنتين.
س: هل أثرتا على شعرك؟
ج: نعم. صحيح لم أشارك مباشرة في القتال، ولكن وجودي في مناطق المعارك أثّر عليَّ جداً ولا يزال حتى اللّحظة. إن موضوعات الحرب تظهر في قصائدي كثيراً ومباشرة وهذه تجربة يحملها جيلي مدى الحياة ولحد الموت. هناك من اشترك ولسنوات طويلة من شعراء جيلي، في المعارك مباشرة. هكذا لا تنتهي الحرب بالنسبة إليهم ولا تزال مستمرة. في داخلي شعور أن الحرب لم تنتهِ بعد. ولكي لا يعود ذلك العصر من جديد نعيش بجدية ونكتب بجدية. هذا شعور مشترك لدى جميع اليابانيين الذين لهم روح أو ضمير. لا يعبر الياباني مباشرة وبشكل واضح عن كره الحرب أو حبّ السلام، ولكن يستحيل إلغاء الخبرة الدّاخلية الكامنة في أعماقه حول هذا الموضوع.
س: آنذاك كيف كنت تنظر إلى الجندي الأمريكي، إلى الجيش الأمريكي؟
ج: (همهمةُ، همهمةٌ، وهزَّ رأس دون جواب).
س: يعني هل كنت تكرههم مثلاً؟
ج: كلا. ليس كرهاً. بالطبع، كان لدي شعور أنهم أعداء. لكن كنّا نعتقد أيضاً أن الشاعر الأمريكي الشاب هو الآخر، يخدم في الجيش مثلنا وجندي مجبر على الحرب مثلنا. وهذا ما عرفناه، بعد الحرب، عن شعراء الرومانسية الجديدة البريطانيين. كانوا مثلنا يكتبون القصائد في ميدان القتال بإفريقيا والهند وأوروبا. وعندما سمعت بهذا تأثرت كثيراً. صحيح أنهم كانوا أعداء، لكن لم يكن لدينا شعور كراهية تجاههم.
س: وكيف كنت تشعر خلال أربع سنوات من الاحتلال الأمريكي الكامل لليابان؟