(عادل السـيوي يترجم الأعمال الكاملة لأونغاريتي)

إبراهيم فرغلي
(مصر)

إختراق ساطع لعالم متخم بأسرار الشعر واللغة والحياةمثلما يفعل النحات الذي يكشف في مادته الخام ما لا نراه للوهلة الأولى، تكشف قصائد الشاعر الإيطالي جوزيبي أونغاريتي (1888 - 1970) عن روح شعرية كامنة في أعماق الفنان عادل السيوي، تتجلى في صياغاته الخلاّقة لهذه القصائد التي استغرق انجازها منه خمسة عشر عاما، الى أن صدرت أخيرا في مجلد من 645 صفحة عن "دار ميريت" في القاهرة. كما تتجلى الروح الشعرية لعادل السيوي أيضا في المقدمة أو الدراسة العميقة والمكثفة التي تصدرت الترجمة وظهر فيها، ليس تأثر المترجم بأونغاريتي واستفزاز طاقته الشعرية الكامنة فحسب، إنما أيضا، فهمه العميق لأفكار الشاعر الايطالي، وطبيعة تجربته الشعرية الممتدة منذ أول دواوينه عام 1916 حتى آخر ما كتبه قبيل وفاته عام 1970.

يتضمن الكتاب، بالإضافة الى دواوين أونغاريتي المنشورة بالإيطالية، كل ما نشر من قصائد متفرقة، إلى نصين نثريين يروي فيهما أونغاريتي سيرته (البدايات)، وتطور خبراته الشعرية (أسباب الشعر). ويُتبع المترجم ذلك كله بسيرة حياة هي، تقريبا، بيبليوغرافيا بمحطات حياة أونغاريتي وخبراته، منذ مولده في الإسكندرية عام 1888، ووفاة والده بعد عامين، وتولي الأم مسؤولية رعاية صغارها في الفرن الذي استأجرته في حي محرم بك. وتروي السيرة فترة الدراسة لدى أونغاريتي وانخراطه في أوساط المثقفين الإيطاليين في الاسكندرية، ومشاركته مع إنريكو بيا في مغامرة ثورية عرفت باسم "الثكنة الحمراء"، وتقديمه الى المحاكمة بتهمة تهريب متهمين إيطاليين، ثم وقف الحكم، فسفره إلى فرنسا في الرابعة والعشرين من عمره (1912) وتعرفه الى صديقه المصري الشاب محمد شهاب الذي كتب عنه قصيدة بعد انتحاره، وعلاقته بالفنانين الفرنسيين، ثم سفره إلى إيطاليا للمرة الأولى (1914) للحصول على شهادة جامعية، ثم الإنخراط في الجيش، ونشر أول دواوينه "الميناء المدفون" عام 1916. وهكذا، حتى آخر محطات حياته المديدة التي شهدت تنقلات عدة بين فرنسا والبرازيل واليابان وغيرها، وعودته الى مصر مرة أخرى حيث كتب "الدفتر المصري"، ثم أهم دواوينه والجوائز التي حصل عليها حتى وفاته عام 1970.

يعرّف السيوي فعل الترجمة باعتباره فعل اختراق لعالم كامل متخم بالحياة لا يمكن الوصول إليه إلا بعد كسر جدار اللغة المنقول عنها، ثم رحلة العودة من ذلك العالم إلى لغة المترجم. وهي رحلة كان سبق لعادل السيوي أن قام بها وصولاً إلى روح عظيمة هي روح ليوناردو دافنشي، إذ ترجم له "نظرية التصوير"، وكذلك الى روح بول كلي في كتابه "نظرية التشكيل".
ستكشف القراءة المتأملة والمتأنية لهذا الكتاب، وفي الجوهر منها قصائد أونغاريتي، أنها تجربة لا يمكن أن توصف إلا بكونها رحلة شاعر يبحث في قلب الصمت عن الصوت الكامن في كهوفه ومغاراته السرية. وهو يفعل ذلك بدأب، من دون أن يعبأ بما سبقه، مرتضياً الإحساس المستمر بالغربة، لأن فرديته تلك هي ما يساوي ذاته فقط، كما أراد دائما.
كان أونغاريتي، على ما يقول السيوي، يبتعد مندهشا عن كل تجربة سابقة كما لو كان يقيم شعره ويصنعه داخل كرة شفافة، يتصاعد ناظرا من بعيد الى المشهد في كليته، ويرتاب بكل المواقف التي ترسخت واكتسبت ملامحها قبل حضوره داخلها
.
لعل ذلك يرتبط في الأساس بمفهوم أونغاريتي للفعل الشعري باعتباره فعلاً تحريريا، وباقتناعه الكامل بأنه "في الحرية وحدها يحيا الشعر". لذلك رفض أونغاريتي البحور والتفعيلة والنظم التقليدية كقيود سابقة على التجربة، كما رفض اللغة الأدبية وأعراف النحو والصرف المتفق عليها، ساعياً وراء شعري فريد ورائق. ذلك ان تجربته مع الكلمة، على قول السيوي، "تبدو كأنها محاولة لتخليصها من بداهتها وحيادها وحشدها بالذاكرة السرية للروح وتنظيفها من تراب التقاليد".
من البديهي، إذاً، أن يكون أونغاريتي مؤسسا لتيار الشعر المغلق أو "الهرمسي" في إيطاليا، وهو تيار اشترك في تشييده معه كل من كوازيمودو ومونتال وغيرهما، وهم جميعا آمنوا بأن ذلك السر الروحي، أو الإبهام، تفرضه نوعية الخطاب الشعري نفسه.
تكشف الكثير من قصائد أونغاريتي توحّده بالطبيعة وتأثره بها، وكان سراب الصحراء الممتدة في الإسكندرية من المحفزات الشعرية التي ظهرت في قصائد عدة، وكان للاختلاف بين مشهد الصحراء الساطعة ومشهد الضباب في فرنسا وقع مؤثر في روح الشاعر التي أخذت منحى ثالثا من مفارقة أخرى عايشها في إيطاليا: "عندما سافرت إلى إيطاليا للمرة الأولى، كانت المفاجأة الكبرى التي هزّتني وشعرت بقوتها، هي الجبال. عندما رأيت الجبال، اختفى المشهد الصحراوي الاسكندري من عيني، المشهد الخفيف الذي كان قريبا إلى قلبي، الصحراء ثم البحر، الذي كنت أتعامل معه كأنه امتداد للصحراء، أو إحدى ضواحيها (...) نعم اختفى ذلك المشهد وبرزت في مكانه الجبال، الحضور الواثق أمام الزمن يقاومه ويتحداه".
كما كانت أنهار النيل والسين والإيزونسو محورا لقصيدته الشهيرة "الأنهار" التي عبّر فيها عن تأثره بالاختلافات الطبيعية في المدن الثلاث التي عاش فيها: "هذا الصباح/ مددت جسدي/ في تابوت من ماء/ وكرفات/ بقيت/ نهر الإيزونسو/ صقلني/ كحجر من أحجاره/ وهو يجري/ جمعت عظامي الأربع/ وذهبت/ كبهلوان/ يمشي فوق الماء".

بالرغم من اجتنابه كل ما له علاقة بالغناء والتفعيلة، فإن تأثير التراث البدوي الماثل في مخيلة صباه وشبابه في الإسكندرية كان قويا الى درجة الذروة، كما هي الحال في قصيدة "غناء بدوي": "إمرأة تنهض وتغني/ تتبعها الريح وتغويها/ تطرحها أرضا/ الحلم الحق ينالها/ هذه الأرض عارية/ هذه المرأة عاشقة/ هذه الريح عفية/ هذا الحلم موت".

إلا أنه في مرحلة من المراحل، وبسبب حبه الجارف لوطنه الذي لم يعرفه إلا في وقت متأخر، تتبع أونغاريتي الشعر الغنائي الإيطالي، وحاول أن يستلهمه في تحدٍّ عنيف لقصيدة النثر التي كان الجدال حولها في ذروته آنذاك: "لم أبحث عن البحور، أي عن البناء المعتمد على إحدى عشرة نبرة عند هذا، أو النظم التساعي عند ذاك، وإنما كنت أبحث عن الغناء الإيطالي، وأفتش عن العناصر الثابتة في هذا الغناء عبر القرون". وهو ما تسبب بحملة شرسة ضد شعر أونغاريتي آنذاك، لكنها سرعان ما انقلبت لصالحه وخصوصاً بعد ديوانه "الإحساس بالزمن"، واعتبرت قصيدته منذ ذلك الوقت خروجا على البلاغة السائدة وتثويرا للغة الإيطالية.
تعكس قصيدة "غناء بدوي" أيضا نوعاً من حسية الشرق، معبّراً عنها بنوع من الإلهام الذي يستبدل المرأة بالأرض أحيانا، لكنها تختلف عن الحسية في قصائد أخرى عبّر بها عن تجاربه العاطفية في مرحلته الأوروبية: "مدوّر فخذك/ بذلك القدر الكافي لتعذيبي/ وهو ينفصل عن الفخذ الآخر/ ليوسع هياجك الشرس/ هذه الليلة القاسية".

بالإضافة الى الشعرية التي تفيض بها قصائد أونغاريتي، وهي كثيرة في كل حال، بسبب امتداد تجربته الثرية؛ هناك بعض الأسئلة التي يطرحها السيوي من دون أن يجد إجابات شافية، مثل مدى معرفة أونغاريتي باللغة العربية، بدليل استلهامه الغناء البدوي، واستخدامه واحدة من الأغاني الشعبية المصرية في إحدى قصائده (تعالي لي يا بطة. وأنا مالي هه) التي كررها كتيمة ثابتة في القصيدة. كما يطرح تساؤلا آخر عن معاداة بعض المثقفين له واتهامه بالتحيز للفاشية، وهو ما لا يتسق مع شواهد أخرى يعددها السيوي في كتابه، من دون يقين قاطع. يقول السيوي: "واجه أونغاريتي اتهامات قاسية، وتصاعدت ضده حملات شرسة لإبعاده عن الجامعة لتعاونه مع الفاشية، ولكن الاتهامات لم تكن مستندة إلى أي دلائل مادية مقنعة، رغم أن البعض يرى أن جائزة نوبل حجبت عنه لتعاونه في فترة من حياته مع الفاشية، ويستدلون على ذلك من تقديم موسوليني لإحدى طبعات "الميناء المدفون" (يورد السيوي نص التقديم) ولي قراءة خاصة لهذا الأمر، ربما تلمس شيئا من الحقيقة، فأنا أعتقد أن السنوات التي أمضاها أونغاريتي في مصر بعيدا عن إيطاليا، وسفره من مصر إلى فرنسا وتأملاته لذلك الابتعاد كشيء معذب، قد دفعته عند الرجوع إليها للتناغم مع ملامحها (...) كان يريد أن يكون إيطاليا، في نهاية الأمر، كالآخرين تماما، ولكنه مع ذلك لم يكن فاشيا البتة، بل إن كل شعره في النهاية رفض لأي سلطة، حتى سلطة الكلمات نفسها".

لكن، بعيدا من كل تلك المناطق الجدلية، فإن أونغاريتي تكفيه قصائده التي يمكننا بلا جهد كبير أن نتبين تأثيرها العميق في مسيرة الشعر الحداثي المعاصر في أرجاء أوروبا على اختلاف تجاربه، ومدى عمق التجربة الشعرية وثراء الخبرة الحياتية التي ينقلها ألينا الفنان والمترجم القدير عادل السيوي على جسر من روحه.