أوسيب ماندلشتام
روسيا
(1891 ـ 1938 )

ترجمة واختيار:  برهان شاوي

( 1 )

أوسيب ماندلشتامصوتٌ حذرٌ.. وأصم،
إنها الثمرة الساقطة من الشجرة
وسطَ الألحانِ الصاخبةِ
لهدوءِ الغابةِ العميقة...

( 2 )

من الصالة نصف المعتمة، فجأةً
انسللتِ وعلى كتفيكِ شالٌ خفيف
نحن لم نؤذِ أحدا..
نحن لم نوقظ الخدمَ الراقدين..

( 3 )

مُنحتُ جسداً، ماذا سأفعل به؟
هذا المتوحد، هذا الذي هو مُلكي

من أجل المسرّاتِ الهادئة أتنفّسُ وأعيشُ
فلمن، يا تُرى، أقدّمُ اِمتناني؟

أنا الحدائقيّ.. وأنا الوردة..
وفي عتمةِ العالمِ لستُ وحيداً.

على زجاج الأبدية رقَدتْ
شهقاتي.. ودفئي..
فانطبعتْ نقوشاً وزخارفَ
لم يتعرّف عليها أحد..

فمهما سالتْ الأدرانُ، عن اللحظات
فإن نقوشي الحبيبة لن تُمحى..!

( 4 )

لا ضرورة للحديث عن أي شيء..
فلا شيءَ يفترض التعلم..
فهي حزينةٌ.. ومعافاة
هذه الروحُ الحيوانيّة.. المظلمة.

لا شيء تودّ أن تتعلم
لا ولا يمكنها الحديث عن كل شيء
فهي تسبحُ، دلفيناً فتيّاً..
في لجّةِ هذا العالم الأشيب.

( 5: silentium  )

إنها لم تولد بعدُ..
هي الموسيقى، وهي الكلمة
ولأنها مع جميع الكائنات
متّحدةٌ بشدّة.

بهدوءٍ تتنفسّ صدور البحار..
لكن، مثل أحمقَ، أقبلَ النهارُ..
ومن الوعاءِ العكرِ الزرقةِ..
طفَا زبدٌ ليلكيّ شاحب..

ليتَ فمي يعثر على
هذا الصمت البدائي
الذي مثل صوتِ بلّوري..
وُلِدَ نقيّا..

اِبقَيْ زبداً.. يا افروديت..
ويا أيتها الكلمةُ عودي للموسيقى..
أنتَ يا ذا القلب، اِخجلْ من قلبك
هذا المندمج مع أصلِ الحياة.

( 6 )

غسقٌ خانقٌ يغطّي السرير،
والصدرُ يتنفسّ قلقا
لربما.. أفضل لي
صليبٌ نحيفٌ، ودربٌ خفيّ.

( 7 )

الهواءٌ ثقيلٌ، رطبٌ وعاصف..
وجميلٌ هو المشي في الغابة وآمن..
التنزّه وحيدا، صليبٌ خفيفٌ
طائعا أحملُه مرةً أخرى.

ومرةً أخرى، صراخُ البط البري، المليء عتابا
مناديا الوطن اللامبالي.
أنا هنا حاضرٌ في غبش الحياة
غير أني لستُ مذنبا، كوني وحيدا..

أزّتْ طلقةٌ، وعلى البحيرة الحالمة
تثاقلتْ أجنحةُ البط..
هناك حيث تقفُ جذوعُ الصنوبرِ مفتونةً..
بثنائيّة انعكاسِ الوجود.

السماءُ الباهتةُ تعكس بغرابةٍ
ألماً كونيّا وضبابيّا..
( و ) دعيني أكنْ أيضاً: ضبابيا
واسمحي لي أن لا أحبكِ.

( 8 )

من أين للروح هذا الصفاءُ، وهذه الرخامةُ
ولِمَ قليلةٌ هي الأسماء الحبيبة..
أتُرى بُرهة الإيقاع صدفة عابرة..
وريح شمالية مفاجئة؟

إنه يثير سحابةً من الغبار..
ويثير الصخبَ على صفحاتِ الأوراق..
إنه لن يعودَ ثانية..
وإذا ما عاد.. فهو ليس هو.

أيتها الريح الشاسعة، يا ( أورفيا )
لقد رحلتَ إلى حيث البحار النائية
حيث عالم ( ليليا ) الخفي..
بينما أنا نسيتُ ( أنا ) غير المجدية..

لقد تهتُ في دغلٍ صغيرٍ جداً
فاكتشفت هناك ( غروت ) لازوردية..
أحقاً أنا موجود، وجحقيقي..
ويا تُرى هل سيأتي الموتُ حقا؟
هامش: ليليا: اسم آله الحب عند الروس القدماء
غروت: هذه الكلمة تعني بالروسية مغارة

( 9 )

لربما أنتِ لستِ بحاجتي..
في الليل.. ففي لجة العالم
مثل صَدَفة بلا لؤلؤة..
أُلقِيتُ على ساحلكِ.

بلا مبالاة تثيرين رغوةَ الموج..
وتغنين بمشاكسة..
لكنك ستحبين.. وستقدرين..
هذه الصَدَفة.. المهملة.

سترقدين على الرمل جنبَها..
وستغطينها بثوب قدّاسك..
سترتبطين بها، بلا مفكّة..
وستعزفين على جرسٍ هائلٍ من الأمواج الناعمة..

عند ذاكَ، جدارُ الصدفة الهش..
البيت الذي كقلبٍ مهجور..
ستملأينه برغوةِ الهمس..
وبالضبابِ، بالريح.. وبالأمطار.

( 10 )

أنا أكره ضوء النجوم الرتيبة
أحييك يا هذياني القديم..
يا برجا..
منطلقا كسهم!

كنْ مستديرا أيها الحجر
وعنكبوتيا كن أيها الحجر
السماءُ نهدٌ جاف..
خزْ، إذن، مثلَ أبرةٍ دقيقةٍ..
وسيأتي دوري..
فأحسبني جناحا هائلا..
هكذا.. لكن إلى أين تتجه..
أفكارُ السهمِ الحي؟

ولربما يا دربي وعمري
الذي عشته بنهمٍ.. سأعود
فهناك لم أكن قادرا على الحب..
وهنا.. أخاف أن أحب.

( 11 )

وجهكِ يفيض عذابا، وجهكِ متزعزعُ الملامح..
لا أستطيع لمسَهُ في الضباب..
( يا اِلهي ) صرختُ خطأ..
من حيث لم أعِ ذلك.
اسمُ الربِّ مثل طيرٍ كسيرٍ..
طارَ عالياً من أعماقي..
أمامي الآن يتعالى ضبابٌ كثيفٌ..
وخلفي.. قفصٌ فارغ.

( 12 )

الغسقُ الخريفي، كالحديد الصدئ
يصرُّ، يغني، ينخر الجسدَ...
كلُّ المسرّات وكل خزائن ( قارون )
لا شيءَ أمام شفرةِ حسراتِك أيها الرب

أنا منهكٌ مثل أفعى الحاوي الراقصة..
وأمامها، أهتزّ حسرة، وأنذهل.
أنا لا أريد لروحي أن تتلوّى وتلتفّ
لا أريد العقل، ولا آلهة الشعر

كفى الرفض الماكر..
لفكِّ العقدةِ الملتفّة
لا توجد كلماتٌ تجسّد شكواي واعترافي..
فقدَحِي ثقيلةٌ وغير عميقة.

لِمَ التنفّس؟ فهناك على الحجارة الناتئة
تستلقي أفعى هائلة، مريضة..
تلتفّ على نفسها كظفيرة
تهتزّ.. تشدّ حزامها واقفة.. تنهض شيئا فشيئا..
بغتة... تسقط منهكة.

ثم.. عبثا أتخيّل
وأقف مندهشا، مذهولا، عشيّة الإعدام...
إنني لأصغي، بلا هلعٍ، كسجينٍ..
لقلقلةِ القيودِ، وأنينِ الريحِ المكفهرّة.

( 13 )

لا ليس القمر، وإنما ميناء ساعة مضيئة
يتلألأ لي.. أذنبي إذن..
إذا ما لمست نجوم درب التبانة؟

وكم أساءتني غطرسةُ باتوشكوف
" كم الساعة الآن " سألوه هنا..
فأجابهم بفضول.. " إنها الأبدية "!

( 14 )

أطفئُ شُعَلَ اللهب
وأغسلُ الحياةَ اليابسةَ
فليس للحجرِ أغني الآن..
وإنما للشجرة.

فهي خفيفة وخشنة
ومن قطعة واحدة..
حيث قلوب شجرة البلّوط
وحيث مرح صيّاد السمك.

لتدقّ الأوتادَ بقوّةٍ..
ولترنّ المطارق..
آه يا أقاصي الغابات..
حيث الأشياء شديدةُ الخفّة.

( 15 )

ليلاً، اغتسلت أمام باب الدار..
إذْ اتّقدتْ النجوم الخشنة بشدّة
ضوءُ النجوم مثل ملحٍ على الفأس
والبرميل تجمّد بكامله.

البوّابة أُقفِلَتْ بالمزلاج..
والأرض خشنة وصارمة..
لوحة القماش البيضاء نقيّة وطريّة..
هيهات رؤية خيوطها.

ملحُ النجوم يذوب في البرميل..
والماء البارد يسودّ..
الموت نقيّ.. والمصائب مالحة.
لكن الأرض أكثر حقيقة ورعبا.

( 16 : القرن )

يا زمني، يا وحشي، من يستطيع
أن يحدّق إأى حدقتي عينيك..
ومن يستطيع أن يلصق بدمه
قرنين من الزمان؟
أيها الدم، الأشياء الأرضية تسوط
حنجرةَ البنائين
إذْ تراهم يتعثرون
عند عتبة الأيام الجديدة.

فعلى الخليقة، أن تمدّ ظهرَها للحمل
إلى حيث تسعى الحياة
وحيث الأمواج تداعب العمود
الفقري بخفة.. وخفية..
فليّنْ مثل غضاريف طفلٍ صغير
قرنَ هذه الأرض الفتيّة..
ومثل حمل صغير، قدّم قربانا
لجمجمة الحياة.

فمن أجل إطلاق الحياة من الأسر
ومن أجل بداية جديدة للعالم..
ينبغي عَقْلُ ركبةِ الأيام
إلى أن تتحوّل إلى مزامير
فهذا القرن يدفع بالموجِ
مؤرجحا إياه مع الآلام البشريّة
وهناك على العشب أفعى تتنفّس
على إيقاع القرن الذهبي...

وتنتفخ البراعمُ أيضا
ثم تتنتاثر عنها العساليج
لكن عمودك الفقري قد تحطّم
يا قرني الجميل والمسكين..
وبابتسامة بليدة
تنظر للوراء متقهقرا، قاسيا، وضعيفا...
متأكّدا فيما إذا كانت مخالبك اللينة
قد تركتْ خلفها من أثرٍ.. أيها الوحش

( 17 : الوثن )

في أعماق الجبل يرقد وثنٌ..
في الهدوء الاحتفالي، اللانهائي والسعيد..
من عنقه تتقاطر عقدُ الزيت
حارسة حلم المدّ والجزر..

حينما كان طفلا لاعبه الطاووسُ
وأطعموه قوسَ القزح الهندي..
ثم سقوه حليبا من الطين الوردي..
ولم يبخلوا عليه بالديدان القرمزيّة..

عظامُه الواهنة شُدّتْ بعقدةٍ
وأنسنوا ركبتيه، يديه، والأكتاف..
إنه يبتسم بفمه الصامت
إنه يفكّر بعظامه.. ويشعر بجبينه..
ويسعى جاهدا لاستذكار السمات الإنسانية.

المصدر: أوسيب ماندلشتلم مختارات شعرية ونثرية، منشورات الجمل 1993 ـ ألمانيا