تقديم وترجمة: عبداللّطيف الوراري

هيلدا حياريغطّي بودلير ورامبو ومالارمي بوصْفهم الشُّعراء الحديثين الذّائعي الصّيت الّذي رجّوا شجرة نسب الشّعر ليْس في فرنسا وحدها فحسب،بلْ في أرجاء المعمور علي مُنْجز كثيرٍ من مُواطني بلدهم ولا يزالون ،فيما أظنّ،حتّي اليوم.ربّما الّذين خبروا نِداءَ القصيدة ممّن جاروهُمْ في نزعة التّجديد ومُغامرة الكشف والتّجاوز من قلائل الجيل التّالي ضمنوا لنفْسهم مكاناُ معلوماً وخاصّاً في درْس التّاريخ من أمثال سان جون بيرس وروني شار وهنري ميشو وإيف بونيفوا تحديداً.لكنّ شعراءً كُثْراً في فرنسا،في زخم الحركة الثّقافية الأكثر تقلُّباً وعمي الألوان حتّي،لم يأخذوا حقّهم من التّداول كما يجب،بلْ إنّ منهم قلّ أنْ تسمع باسْمِه حتّي وإنْ كان منجزهم الشّعري جديراً بالاعتبار،أمّا الّذين تحسّسوا بوطْء أقْدامهم،بلْه أقلامهم ألْغام الأرض،وآثروا السّلامة فإنّهم انْصرفوا إلي أجْناس أخري من الكتابة،وأراضيَ ما تفْتأُ بكْراً. تلك فاتورةُ التّاريخ الّتي يُبهظُها الأوّلون ويؤدّي ثمنها ممّن تأخّر بهم وقْت الهِبات بلا حساب,ولنا في تاريخنا الشّعري الحديث درْسٌ من ذلك،ربّما يسطع أكثر في البِلاد ذات التّقليد الشّعري العريق.ولهذا نفْهم كيْف أنّ شعراء العراق ولبنان وسوريا ومصر وتونس والمغرب،بالتّرتيب وتمثيلاً لا حصْراً،يشْكون منْ الْحُجُب الشّفيفة أوالسّميكة لروّاد الحداثة،بحقّ ودُونه.
ومهما كان من أمر، فإن في فرنْسا حركة ثقافيّة (احتفاليّات، تظاهرات،أنطولوجيّات.. )تعيد الاعتبار لأولئك المتأخّرين ممّن لم يجيدوا التّرويج لأنفسهم،وأغلبهم من ذوي الإيقاع الخفيض الّذي يميل ،في العمق، إلي شعر يعيد إنتاج غنائية جديدة عبر كتابة لا تعتمد علي اللّعب اللغوي،بل هي،بالأحري،تكشف المعاني المتحدّرة من أعماق الأنا،والموحية بالنبرة الغائبة التي تكتنفها الأسرار الملغزة للوجود.ولكم كانت الغنائية غائبة عن الشعر الفرنسي حتّي ظنّ النّاس زوالها فعادتْ أقْوي وأصفي من غير ما فجاجة رومنطيقيّة مع هؤلاء الشعراء المعاصرين منذ نهاية القرن المنصرم: شارل جوليي، ألبان جيلي،مارك آلين، أندري فلتير،كلود استيبان،أنيز كولتز،جون ميشال بولبوا، و ليونيل راي، و برنار نويل وليْس آخرهم الشّاعر برنارد مازوBernard mazo.
تعبّر تجربة برنار مازو الشّعرية عن غناها وفرادتها الّتي تأتّت له من أسلوبه المائز واللّافت في الكتابة الّتي تحتفي في صوْغ مفردات كوْنِها الشّعري بالمكثَّف،والمقتضب،والموحي، والمحتمل المفتوح علي الدلالات حيْث تشرق جملها الشعرية بكثافتها الّتي تضيء بإشراقاتِها العابرة والمتقشّفة فضاء القصيدة،سُرعان ما تضعف وتنطفئ كأنّ الشّاعر عثر علي الكلمة الأخيرة المطلقة الّتي توحي بالشّاسع وما فوق الوصف.يكتب برنار دائماً القصيدة نفْسها علي نحْوٍ تامّ،دقيق وموجز؛وفي كتابتِه تلك يبحث الطّرف الأقصي من الصّمت،وتخوم المكان القصيّ منذوراً للفراغ والخطر الّذي يتودّد إليه قبل أنْ يقتحمه تالياً.ما نعنيه أنّه يكتب الشّعر المرصوص،والمختزل والأبيض بقليلٍ من الكلمات وحبرها.يكتب بالسنتيمتر مربّع. ولهذا نفهم ما يقول عنه آلان بوسكيه بأنّه المُوجِز في الكلِم، الّذي يبلغ الكثافة المضيئة الّتي يحسده عليها شعراءٌ ذائعو الصّيت ،وعندما يحيّيه باتريس دلبورغ باعتباره يمثّل الشّعر المؤثّر في أساسه الزّائل ،والّذي يترنّح في نشوة الصّمت ؛ومازو نفسه عبّر عن هذا ميتانصّياً: في ثنايا القصيدة /السرية/حيث يرقد/المعتم/يترنّح/الصوت فجأة/ويصمت .
وتُفْصح مجاميعه الشعرية عن هذا النّزوع الّذي لا يكلّ.من أواسط الستّينيات حتّي اليوم لا يكلّ في قوْل ما لا ينْقال،وهو ما يجعلها في نظر بول شاوول تعبّر عن غني تجربته التي لم تنأسر لا باتجاه معين، ولا بمدرسة. خارج كل الأطر الجاهزة .ولعلّ أشهرها مجموعته اللمّاحة الحياة المصعوقة (1999) الّتي قال مونيك بيتيون بصددها هو ذا الشّعر العجيب حيْث يعبر الصّفاء المضيء،والتوّتر المستمرّ بيْن الكلام والصّمْت ،ثمّ مجموعته الأشهر هذا الغياب اللانهائي في قلب الاشياء (2003) الّتي تتجذّر في زمن الشّاعر،وتتعلّق بالوتر الحسّاس نفسه :الليل،الغياب،المرارة،الانتظار،اللّغز بلا نهاية،اللّغة المجهولة،التصدّع،رماد الكلمات.ويحدّد ذلك الفضاء الشّعري ،ولا سيّما إذا أضفْنا ـ مثلما تكشف القراءة المنتبهة لماوراء المعني ـ أنّ بعض الكلمات المُعادة تبنين المجموع كما لو كانت تقيم تناظُراً بين بيْن بنية اللّاوعي وبنية القصيدة،بقدرما تشرطها كتابيّاً أعماق الكينونة الّتي تتحدّر منها.من هنا،يمسُّنا الشّاعر في الصّميم،بل يُؤْذينا بسببٍ من نزعة قصيدته الميتافزيقيّة حيْث يصير كلّ مقطع فيها ضرْباً من المفتاح المجهول الّذي يشرع باب الكارثة المكتنفة بالأسرار.في أحد المقاطع نسمعه خافتاً يقول: هُناك/حيث لا شيء/يتحرك/سوي الليل/وعدوانيته الصماء،وفي ثانيها: رُبّما وحْدهُ/راوي/الجُمْلة/من أجْل أن ينحّي جانباً/أشْداق/الموت ،مثلما في: العصافير التي تمضي فوق سطح البحر/تحلم بالشـواطئ البعيدة حيث يأخذها الموت .في هذا المناخ تفجّر القصيدة،أدائيّاً،المعاني اللّامُتناهية وهي توحي دفْعةً واحدةب:النُّقصان،الفقدان،الصّمت،الموت،الضّياع،المطلق،العزلة،الجمال واليأْس1).
في كتابته الشّعرية آثارٌ مُتصادية وشفيفة من نصوص الرومانسيّة الألمانيّة وبودلير وروني شار بسبب من هذه النّزعة،والقدرة علي الوفاء بأكثر الأشياء هشاشة داخل غنائيّته الخاصّة ذات الشّفافيّة والتكثيف النقيّ المتحرّر من رطانات الكلام،وممّا سار إليه السورياليّون.ينظر إلي الشعر ك ثورة وخلاص في مواجهة العمل التدميري الذي تضطلع به تكنولوجيا الاتصال الحديث ،وتقوم وظيفة هذا الشّعر لديْه علي التّعبير عن معضلة الوجود الإنساني؛عن انبهارالإنسان، وقلقه في العالم؛عن هذا الوجود الهش،والعابر؛ والذي يملك الشعراء الكلمات للإفصاح عنه 2).إنّه،في نهاية المطاف،شاعرٌ يخصُّنا تحديداً،لا يتورّع عن أن يرجّ عصْـبنا الدّاخليّ،ويعلّمنا أنّ الشّعر لمّا يكتب بالحواسّ، وبالصّمت المتيقّظ والحيّ، وبالشّفافيّة اللّافتة،وبالتّكثيف الضوئيّ،وبالفراغ المحدق،وبالموهبة من غير تكلُّف،وباليأس الّذي ينظِّف من الأمل الساذج فإنّه يؤذينا،ويجعلنا في محبّة الآخر والطّبيعة،مع ذلك.
ثلاث قصائد:

السّيْف والمزْمــــار

إلي محمود درويش

عَبَر من الْجِهة الِأُخْري لِلْجِدار
مِنْ غيْر أنْ ينتبِه لهُ فِعْلاً
هُنا كلّ شيْءٍ رماديٌّ
تحْت سَماءٍ واطِئة

هُنا وَسَط هذا الْحَقْل من الْخَراب
حيْثُ مزْمارُ الأَسْلاف لا يعْزف
ولَا الرّيحُ الْخَرْساء تخْترقُ أشْجار الزّيْتون
يفْتقِر الْأَمَل إِلي الدّم

هُنا الْأَطْفالُ يقْبَعون
تحْت الْأَنْقاض
هُنا في غزّة
لا أَحَد يتَملْملُ
لا أَحَد يَتنفّس

مِن الصّحْراء ريحٌ جافّة
ولِلْمَوْت هذه الرّائِحة الثّقيلة.

كما لوْ أنّنا لنْ نَموت أبدا...

**

علي هذه الأرْض المنْذُورة لِلْفاجِعة
نتمسّك، نُقاوم
ونَثْبُت
في وجْه الرّياح والْمَدّ والْجَزْر
مُتحدّين شمْس الأَسْلحة
وسُطوعِها الْقاتِـل.

لِأَنّـه يجِبُ أنْ نَسْتمِرّ،أنْ نَسْتمِرّ بِلا حـــدّ
في شَظَف الأيّام
كما لوْ أنّنا لنْ نَموت أبدا...

في هذه الْقَصيدة لسْتُ أنا منْ يَتكلّم إليْكُمْ
ولَا صوْتي الذي تسْمعُونَه في تِلْك الْقَصيدة
لكِنّهُ مَنْ يَعْبُرني ويَرْعـــــاني:
الظِلّ الْيَائِس لِلْجَمال
ذلِك الْأَمَل اللّانِهائيّ في قلْب النّاس

لِأنّ بِأيْديــنا الّتي ترْتَجِف
بصيصاً مِن الْأمَل
هُو مِصْباحٌ يسْهَرُ واهِــناً
في جُنْح اللّيْل الضّاري...

غيْر المُؤمَّل

أنْت، غيْر المؤمَّل
تشْغل المَكان
المَكانَ كلَّه
في حَياتي المُسْتعادة من جديد
لاز
ولَوْ أنّي أغنّي اليوْمَ
فإنّ بِالعالَم جَمالاً مُمزَّقاً
ذاكَ الّذي يتزوّج حرْفاً بحرْف
ختْمَ وجْـــهي
المُرصَّع علي لحْمي.

لكنّ وجْهَك
البساطةَ الموجِعة
لوجْهِك
عذوبتَه المحْفوظة
أنّي لي بوصْف هذه المُعجِزة؟

لكنّ وجْهَك بيْن يديّ
وهُما ترْتجِفان
ثُمّ بِهذه اللّمْسة البسيطة
تَنْبعِث حُميّا العالم كلُّهــا
ووَجْهُك كَما النّوْرس علي البحر
كيْف لَنا أنْ نصِفَ ذلك؟

الكلمات الّتي تجب

**

لِتَكُنْ لنا دائماُ الكلمات الّتي يجب
من أجْل أن نَّقول انْبِهارَنا
أنْ نكون هُناكَ معاً
في قلْب الشّموس أجْمعَها
مُسْتقبلاً..

  1. أنظر ترجمة بعض نصوص الدّيوان أعدّها الشاعر بول شاوول في جريدة المستقبل - الثلاثاء 17 كانون الثاني 2006 - العدد 2154 - ثقافة و فنون - صفحة 18
  2. من حوار أجراه معه خالد النجار: القصيدة لا تصف العالم إنما تقوله في موقع جهة الشعر ،علي الرابط: www.jehat.com/Jehaat/ar/Ghareeb/barar.htm

القدس العربي- 30/06/2008