(1959-1971)

اسكندر حبش
(لبنان)

عن منشورات «جوزيه كورتي» في العاصمة الفرنسية، صدر حديثا كتاب «يوميات 1959 – 1971»

لأليخاندرا بيزارنيك للشاعرة الأرجنتينية الراحلة أليخاندرا بيزارنيك، وقامت بنقله إلى الفرنسية آن بيكار ومن تقديم الشاعرة سيلفيا بارون سوبرفييل. هنا كلمة معدة من عدد من المصادر الصحافية التي تناولت الكتاب.
منذ خمس سنوات مضت، قامت منشورات «أكت – سود» الفرنسية بترجمة «الأعمال الشعرية» للكاتبة الأرجنتينية أليخاندرا بيزارنيك. ومع هذه الترجمة، التي حققتها شاعرة أرجنتينية أخرى تعيش في فرنسا من سنين طويلة، هي سيلفيا بارون سوبرفييل، اكتشف القارئ أهمية هذه الشاعرة الآتية من أميركا اللاتينية والتي لم تحي سوى ست وثلاثين سنة، عاشت منها أربع سنوات في باريس (بين عامي 1960 – 1964)، وقد تعرفت خلالها إلى عدد من الشعراء لتقيم علاقات صداقة مع كل من إيف يونفوا وهنري ميشو وأوكتافيو باث وخوليو كورتاثار وأندريه بيير دو مانديارغ.

في الخامس والعشرين من شهر أيلول عام 1972، نجحت بيزارنيك في إتمام «العمل» الذي تحدثت عنه مطولا في يومياتها والتي حاولت القيام به – سدى – قبل عامين من هذا التاريخ: نجحت أخيرا في الانتحار، لتضع بذلك حدّا لهذا
العذاب» الذي كان يؤرقها والذي لم «تتوقف شعلته يوما» عن إحراقها. من هنا، لا نجد في هذه اليوميات، أو لنقل في هذه «الملاحظات الحميمية» التي تكتبها سوى مناخي الشعر والموت اللذين يلفان صفحات الكتاب وكلماته.

بعد ترجمة القصائد إذا، تعود سوبرفييل لتختار مقاطع هذه اليوميات التي تقف على قدر كبير من الأهمية، لتقدمها بالفرنسية، ما يتيح لنا أن نقرأ بمتعة هذه التأملات الأليمة، لكنها وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن لها أن تشكل بديلا عن شعرها الكبير، مع العلم أنها تسمح لنا بإدراك ثقافة الشاعرة، ونفاذ بصيرتها وتشدد هذه المرأة الشغوفة والقاسية، التي كانت تشك بأن ثمة «جنونا يسكنها»، لذلك حاولت البحث عنه بدون انقطاع. أمام هذه الفكرة الداخلية، اقتنعت في نهاية المطاف بأن الموت الطوعي هو الحل الوحيد، مع العلم أنها لم تكن شخصا عديم الحيوية، بل على العكس من ذلك. يكفي أن نقرأ أسماء «المنارات» التي كانت تحرك دواخلها لنكتشف ذلك: فيرجينيا وولف، دوستويفسكي، جيمس جويس، بورخيس، الشقيقتان أوكامبو...

شغف الانتحار

أول ما تضعنا أمامه قراءة هذه اليوميات التي كتبتها على مئات الأوراق المهملة والمبعثرة، عملية البحث عن مفتاح هذا «الشغف الانتحاري». «ليس الشعور بالوحدة والإهمال سوى مرض»، هذا ما تكتبه وهي في الرابعة عشرة من عمرها، بعد أن قرأت كتاب «الليالي البيضاء» («ليالي السهد») لدوستويفسكي، الذي – إذا تذكرتم ذلك – نجد فيه أن «بطلته» حاولت أن تقتل نفسها مع بداية القصة. من هذه القصة يولد السؤال: «متى ظهرت (فكرة الانتحار)؟ لِمَ لَم تكن لديها والدة (والدة شخصية الكتاب) لتمنعها من القيام بذلك؟ وانتهى بها الأمر، بعد أن عايشت الفكرة بأن فرض الانتحار نفسه عليها وبقوة.

تبدو الكلمات التي تحيا معها والتي تصارعها على مرّ الكتاب، وكأنها نوع من «بحث عن استقلالية ذاتية»، تماما على طريقة ناتالي ساروت، التي حاولت أن «تثقب كثافتها لتصل إلى ألغازها». حاولت أليخاندرا بيزارنيك القيام بذلك طيلة حياتها، لكنها لم تنجح في ذلك.من هنا نجد أن شعورها بالفشل تحول إلى شعور باليأس: «يجب أن أكتب عن نفسي، عليّ أن أحاول لأجد الكلمات كي أشرح الأمر. بيد أني أشعر بالخوف». تخيلت حكاية فانتازية حيث كانت بطلتها ضحية سحر ما: كان لبعض الكلمات التي تتفوه بها القدرة في أن تتحقق: «بالتأكيد، جاءت الكلمة الأخيرة لتظهر الموت».

مثلها مثل كبار الشعراء «الصوفيين» (إذا جاز القول، ونفهم بذلك السبب الذي دفع بسيلفيا بارون سوبرفييل إلى الغوص في أعمال هذه الشاعرة الباحثة عن التجريد المطلق) كانت أليخاندرا بيزارنيك تتطلع إلى «توتر الصمت العالي». بيد أنها كانت تسمي قلقها الميتافيزيقي بالقلق «العلماني». عديدة هي الصور في شعرها التي نجد فيها هذا التقاطع ما بين الظل والصمت في هذا الانشداه إلى الليل المقدس: «ربما هذه الليلة ليست ليلا/ بل شمس مرعبة أو / شيئا آخر، أو أي شيء.../ ماذا أعرف! تنقصني الكلمات/ تنقصني البراءة، الشعر/ حين يبكي الدم ويبكي!» (على قولها في كتاب «المغامرات الضائعة» (1958)، الذي تقيم فيه حوارا مع رويزبروك إذ يبدو كما يوحنا الصليب، هما الشخصان الوحيدان اللذان تعرف مخاطبتهما لكي تسميهما في النهاية بـ«صورتيّ الغياب».

ثمة حرية روح كبيرة تعطي لهذه الصفحات حيوية مدهشة، بعيدا عن سماتها المرعبة والمدمرة في أغلب الأحيان. وبخاصة حين تتكلم عن «جنسانية» ما إذ تقول بأنها «المكان الوحيد حيث يسمح بكل شيء»، إنها «نوع من منطقة مغلقة في داخل دائرة».

استحالة الشعر

ثمة أيضا «تشريح» و«تقطيع» في هذه اليوميات، التي تبدو في أغلب الأحيان وكأنها سلسلة من الحركات الطبية التي تقوم بها «ببرودة» كلية وإن لم تسمح لها هذه الطريقة بالإجابة عن الأسئلة التي تطرحها عليها «استحالة الشعر بعينه». هذا التفكير بالعملية الشعرية غير المتكاملة موجودة أيضا في صلب الكتاب، إذ تثور في العديد من المقاطع على نفسها لتتهم ذاتها بأنها «بعثرت» هذا «الكتاب الوحيد والمتفرد»، «المثالي».
يوميات أليخاندرا بيزارنيك تتركنا أمام صورة امرأة، هي في الوقت عينه، غير متصالحة مع نفسها، كما أمام امرأة واثقة جدا من «هذا الدرب المنير» الذي سارت عليه في ليلها البهيم. في إحدى القصائد الأخيرة التي كتبتها في حياتها (والتي نشرت بعد موتها) تقول الشاعرة: «كنت نبع التنافر، خليلة التفاوت، حفيدة الطِباق الشرس. كنت أنفتح وأنغلق في إيقاع حيواني طاهر جدا».
نشرت أليخاندرا بيزارنيك العام 1962 كتاب «شجرة ديانا»، يحاول أوكتافيو باث في مقدمته أن يشرح العنوان. في هذه الشجرة «المخنثة» والشفافة، كانت الالهة تسن قوسها لتغرف من صفاتها الذكورية. «كانت تقف مقابل الشمس، تشد شجرة ديانا أشعتها لتعود وتجمعها في بيت مركزي يسمى القصيدة» لم يكن بيتا مرئيا، لكنه كان يسمح لها بأن ترى «الفيما – وراء». جملة باث قد تلخص كل هذه السيرة والكتابة. هي كتابة تقف على قلق كبير لتبحث عن «الما وراء».

السفير
9 يوليو 2010