جوراج كونياك

تقديم و ترجمة: بنعيسى بوحمالة

جوراج كونياكهي، حقّا، قصيدة أنزع إلى القصر و الانضغاط منها إلى الطول الانسياب؛ لكنها تبقى بليغة، مؤيقنة بما فيه الكفاية، و طافحة بفائض رؤياوي تخومي دافق.. لكأنّما، لنقل، هي لطخة مباغتة من يد – مخيّلة رسّام نبيه و ممرّس، بالمفردات و المجازات و الترميزات و الإيهامات، شأن كلّ شعر أصيل.. خاطفة و مكتملة في آن معا، تقول، من خلال سهولتها الممتنعة، ما قد لا تسعه المطوّلات الملحمية.. قصيدة تأخذ بيدنا، باقتدار و محبّة، إلى صميم العوالم و الاجتراحات الروحية العميقة التي نلقاها في نصوص شعراء من طينة الروسي بوريس بّاسترناك، النمساوي راينر ماريا ريلكه، و الإيطالية دوناتيلا بيزوتي..

كذا ينبسط الدّنيوي، متمثّلا في ذلك التّماس الرفيع، المعجز، بين السماء و البحر، عبر مشهدية كوسموبّوليتية هائلة و مترامية ينتصب في لبّها ذات القلق الوجودي الإنساني المنغّص.. عين التّوزع المستديم.. أي نفس التّقاطب المأساوي الفادح بين حدّي الفضيلة و الإثم.. الطّهرانية و الاسترذال.. التّصالب و الهشاشة.. الائتلاق و الخبوّ.. الحرية و الانقياد.. بالتالي بين أفق الربّ، المنفتح و اللاّنهائي، و القائم في أيّما مكان، و بين حضيض الشيطان، الخانق و المتضايق، و الماثل في أيّما حيّز كان . و لأن الأنا الشعرية، النّائبة مناب آدميّين مكبّلين بلايقينهم و حيرتهم المزمنين، و في مفرق رؤياوي على هذه الحاسميّة، لهي من محتد الأنوات الشعرية المتطلّبة و المتبصّرة، فلن يستقيم قدّامها، و الحالة هذه، من خيار سوى ما كان من اعتناقها لمواطنتها المستحقّة، و المتسامية تسامي أفق منذور، مثلما تشاء له عناية الربّ، للنّعماء و السّلوى.. لسكينة الروح و طمأنينتها.. لجدارة الكائن الإنساني و تجوهره في حقيقته البدئية التي طمستها اختلاطات المعيش، تعاسات التاريخ، و خمول الذّهنيات و الأخيلة.

و لعلها فكرة بديعة و رائقة تلك التي خطرت لصاحب القصيدة، الشاعر السلوفاكي المعاصر جوراج كونياك، في أن يخوّل لها اكتساب خلقة تعدّدية عبر نقلها من لغتها السلوفاكية الأمّ إلى مجموعة من اللغات الإنسانية توسّطا، طبعا، بلغات عالمية سائرة. و لكونها، أي الفكرة، سديدة و مثمرة، بله عبر – ثقافية بامتياز، فما أن فاتح في الأمر ثلّة من أصدقائه الشعراء و النقاد و الأكاديميين (كنت واحدا منهم إذ تولّيت ترجمتها إلى العربية)، الذين تتوزّعهم أربعة أركان المعمورة، حتى كانت الاستجابة فورية، و النتيجة هي هذا الكتاب الجميل، المتأنّق ( الصادر عن دار Rock Rose السلوفاكية عام 2008 بدعم من الكونغرس العالمي للشعراء، دورة أكابّولكو – المكسيك - التي انعقدت في شهر أكتوبر الماضي) الذي يقدّم، في إضمامة واحدة، جملة التحويلات و الأوجه التي صارت إليها القصيدة و هي تستدرج، راضية، إلى محفل متراكب و باذخ من قواميس و ألسن و نبرات.. من حساسيّات و تمثّلات و متخيّلات.. محفل يتخذ هيئة برج بابل رمزي تتوطّنه قصيدة واحدة لا غير تستضيف في غمار مأدبة حوارية مترجّحة، أو تداري لا فرق، متعدّد هويّاتها الكتابية الطّارئة.. محفل كوني ارتدت معه حلّة كونية قشيبة لم تكن، احتمالا، من انتواءاتها المسبقة. أمّا اللغات التي نقلت إليها فهي الآتية و ذلك بحسب ترتيبها في الكتاب: الهنغارية، الألمانية، الصربية، البولونية، الفيلّندية، السويدية، النرويجية، الدانمركية، الإنجليزية، الفلامانية، الهولاندية، الفرنسية، الإيطالية، القشتالية، البرتغالية، الإسبانية، اليابانية، الصينية، المنغولية، الروسية، العربية، العبرية، اليونانية، المقدونية، الأوكرانية، السلوفينية.

و بخصوص الشاعر، الذي هو ناثر في الوقت نفسه، فقد درس الهندسة الكهربائية في أحد معاهد براغ كما نال ماستر تدبير الأعمال من جامعة نوتينغهام البريطانية و يشتغل حاليا كرجل أعمال و ناشر. و لولعه بالخدمات التطوعية لفائدة معوزي العالم و مرضاه فيا ما شارك في رحلات إغاثة إنسانية ساقته إلى مناطق جبلية و صحراوية و غابوية في العالم سينجو في إحداها من موت محقّق. في مطلع تسعينات القرن الماضي سيطلق مشروع دار Rock Rose للنشر و ينشط في ترويج الكثير من العناوين الإبداعية السلوفاكية و الأجنبية. أصدر ما مجموعه خمسة عشر ديوانا شعريا – تنتمي إلى خانة قصيدة النثر – من أهمّها "امرؤ في مهبّ الريح" (2005) الذي يؤشّر على خبرة شعرية مكينة بإواليات قصيدة النثر و اقتضاءاتها التعبيرية و الأدائية، مستلهما فيه طرائق اتجاه "سبيل الكتّاب" الأوسترالي، و "نزر يسير من رحابة العالم" (2006)، ثم "كوركوردي" (2007).. هذا و قد ظهرت منتقيات من شعره تحت مسمّى دار نشره Rock Rose الاستشرافي عام 2004. علاوة على منجزه الشعري سيحرّر مقالات في قضايا متنوعة، و يؤلف روائية غنائية تعالج موضوع النّمو العاطفي و الفكري للإنسان تحمل عنوان "على علوّ ثلاثة و عشرين عاما من مستوى البحر" (2002)، و رواية أخرى موسومة ب "حجّ إلى كنه الذات" (2003)، و حيث تبرز في فضائها عناصر مستقاة من كتابات رحليّة، مقاليّة، شعرية، و سرد وثائقي، تصوغ هارمونية أصيلة تزخر بالتّوتر الداخلي.

ترجمت أعماله إلى لغات عدّة و حاز على شهادات دكتوراه فخرية من جامعات عالمية مرموقة، و هو عضو في بعض الائتلافات الثقافية العابرة للقارّات كنادي القلم الدولي و الأكاديمية العالمية للفنون و الثقافات.
و قبل أن نضع القارئ في صورة هذه القصيدة نورد، بداية، نصّ الكلمة الإيضاحية التي بسطها الشاعر، بصدد تجربتها المخصوصة، في ديباجة الكتاب:

"لقد تمّ خروج قصيدة "خطّ الأفق" إلى العلن، لأوّل مرة، في مدينة لوس أنجلوس، و ذلك بمناسبة انعقاد الكونغرس العالمي للشعراء (دورة 2005)، مباشرة بعد ذلك سوف تنشر في الولايات المتحدة و في بلدان أخرى. و على الضدّ من فكرة التّشابك البابلي للغات و هجانتها فإن مسعاها إلى لحم ما هو متشظّ، إلى تجميع ما هو منشطر، بغاية العثور على الوحدة من داخل التّنوع. كذا، و توسّلا بسلسلة من الترجمات فهي ستقوى على الأخذ بزمام مغامرتها المحض خائضة في حركيّة و بّوليفونية على قدر من الاغتناء سيزيدهما اغتناء ما كان لفنّانين بصريين، سينخرطون معها، كلّ و رؤيته، في تعالقات من فضل في ابتكار هارمونيات نوعية.

فبصرف النظر عن بداهة الانقسامات داخل الأسرة البشرية تبقى هناك العديد من التّطابقات العميقة، و فيما يعنيني فأنا منحاز إلى ما يوحّد لا إلى ما يسبّب الفرقة. إن الشعر و الفن ليتوجّب عليها الإسهام في رجحان تفاهم شامل أو، بالحريّ، في معاودة انبثاقه التلقائي و لو للحظة بارقة، لذا فأنا مدين بالعرفان لهذه القصيدة لكونها أغدقت عليّ انطباعا عن كيف يوفّق البشر إلى إيجاد السبيل صوب بعضهم البعض، مغالبين أكداس التباينات الحضارية، و ربح رهان الحضور سويّة في جوّ شعوري واحد و في رحاب أرض ثقافية واحدة، و لعل أملي هو أن أكون مؤهّلا لتمرير تجربتها، أي القصيدة، و معها تجربتي أنا، خلال أطوار الكونغرس العالمي للشعراء الذي سيلتئم بمدينة أكابّولكو في المكسيك".

/ القصيدة:

يا لعجبي من هذا المكان و حيث السماء تعانق البحر. خطّ الأفق ذاك.
عاليا تخفق النّوارس، الطّائرات و السّحب. أسفل تزكو مياه.
طافحة بأسماك القرش، بالأخطبوط و قناديل البحر الفتّاكة. لكن يصدق أن يكون العكس:
عاليا تندلق أعاصير، زوابع، عواصف، و رعود صاعقة... أسفل
تختال دلافين، ينبثق المسدّ الهائل، السّاحر، للخليج الأرجواني، و تثوي سكينة القيعان البحرية...

عاليا ليس هناك ما عدا الخير العميم لوحده، أسفل ليس هناك ما عدا الشّر المقيت لوحده. فالربّ لا يكمن سوى في الأعلى
بينما الشيطان يقبع تحت. كلاهما، لا الربّ و لا الشيطان، يوجدان في سائر الأمكنة و في أيّما شيء،
إنهما يخترقان لبّ المادّة الصّماء كيما يبلغا روح الإنسان الذي عليه أن يختار:
إمّا سبيل الربّ أو مطبّ الشيطان. أمّا أنا فيالشغفي بالربّ
لكن لأيّ شيء يصلح الشيطان ؟ هل لإتاحة الفرصة للاختيار الحرّ ؟

ما أوصلني إلى هنا لهو عين الاختيار الحرّ
و ها أنذا أتملّى خطّ الأفق بلهفة تدعوني إلى المزيد.

17-2-2009