أيها الموت ماذا سيكون شعوري من دونك؟

كلاريبل أليغريا

ترجمة وتقديم فوزي محيدلي

منذ عمر مبكر تعلقت أليغريا بقراءة الشعر، ليلاً، وكلما تيسر لها الأمر، كانت تقرأ "قصيدة على الأقل قبل الخلود الى النوم". ولا عجب والحال هذه أن تقول إن التوراة ترك تأثيراً كبيراً فيها. وقد أدركت أن الشعر رسالتها بعد أن وقع بين يديها "رسائل الى شاعر شاب" لريكله. وهي تنقل عن شيللي أن الشعر "أشبه بنهر كبير تتدفق فيه آلاف الروافد. في الجوهر كل الشعراء يساهمون في كتابة القصيدة العظيمة التي لا نهاية لها".

تعجب أليغريا بالموسيقى في الشعر نتيجة إعجابها بقصائد الشاعر النيكاراغوي الكبير روبن داريو. لكنها تستدرك: "الكلمات لها رونق حسي. إنها تغوينا وتقدح مخيلتنا، الى جانب تعبيرها عن الذكاء والمنطق في تشييد أبراج من المثل والثقافة". تضيف أن التوراة يقول "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان مع الله...". الكلمة سيفنا، قوتنا، القوة السحرية المعطاة للأشياء من أجل إطلاق الأسماء عليها.

تعتبر أليغريا أن الشعر يحتفي بالجنس البشري، بالكون وبخالق الكون. من المستحيل للشخص أن يبقى غير مبال بالاضطراب الذي يعانيه كوكبنا وسكانه والمتمثل في الحروب والجوع والزلازل والبؤس والعنصرية والتصحر الناتج عن قطع الأشجار، والإيدز، وكرب الطفولة. وأبعد من ذلك تعتبر أليغريا أن شعوب أميركا الوسطى يحبون الشعر ويتخذونه أحياناً ترياقاً ضد ما يعانونه. ولذا على الشاعر ألا يسكن البرج العاجي.
من جهتها، تحب أليغريا اختراع الكلمات واستحضارها، "مراقبتها وهي تطير، واستمرارها في الطيران، وتعرّضها في العديد من المرات الى السقوط والنهوض ثانية مرضوضة ومجرحة. ثمة كلمات تكشف وأخرى تخفي وثالثة تسرق منّا النوم. الكلمات غالباً ما تكون خاوية، ولا ندري ما نفعل بها، تجعلنا نرغب برميها الى الأرض والدوس عليها لنرى ما قد يطلع من ذلك".

ولدت كلاريبل أليغريا في إستيلي بنيكاراغوا، لكنها أمضت معظم شبابها في منطقة سانتا آنا بغرب السلفادور بسبب النفي السياسي لوالدها. لم تعد الى بلادها حتى عام 1979 مع تسلّم الحركة الساندينية السلطة. قبلاً كانت قد درست الفلسفة في جامعة جورج واشنطن بالولايات المتحدة.

من بينها دواوينها "حلقة الصمت"، "اكواريوم"، "ضيف زماني"، "بقائي على قيد الحياة"، "إمرأة النهر"، "أسى"، "نبذ". نالت جائزة كوبية رفيعة للأدب، جائزة الناشر الأميركي المستقل، للكتاب الشعري، الى جائزة "نوستاد" العالمية الشهيرة التي تمنها جامعة أوكلاهوما الأميركية (2006).

السالفادور

مجلببة في كوكبة من الألوان
لا تنثني صورة سمائك،
وتعاريج أرضك المتماوجة،
ونور مناظرك المورقة عن مرافقتي أنّى توجهت.

* * *

محيّاكِ خريطة جذابة لسرّ سحيق
تغشاه النسائم، وأغوار الأنهر،
والسحب المضيئة الشاردة،
والبراكين الخضراء المنزرعة بين الزهور.

* * *

أواه، يالأرض حيث ينهض نوار
كالصوت النابع من أديم الحنجرة!
إذا حدث واستوطن الجمال ذات يوم في داخلي
ذلك لأنه كان صديقي وسط سندس أوراقك
خبيئاً داخل مآقيّ، سيبقى منظركِ الطبيعي
أبداً واحة شعرية.
الوحدة
الوحدة
تعيش في داخلي
أسمع هسيسها
جعلتني رزينة، رائعة
جعلتني جهورية، طنانة.
القفزة السريعة
منذ لحظة ولادتي
حملتك معي أيها الموت أقرب من حبل الوريد.
بفضل الشعر
تعلمت ألا أخشاك
أن أكون صديقتك.
أنفاسك تتراقص
بين خصلات شعري
أسمع صوتك الهادئ
معتلياً الريح العابرة
ما سيكون شعوري من دونك؟
ليس ثمة موت حيث أنا ذاهبة
تلك القفزة الأخيرة،
متحررة من الجسد،
وعليّ القيام بها وحيدة.
مناجاة غايا
ولدت في طرفة عين
النور،
المطر كان مرافقي
وانفجرت البراكين من عظيم الفوضى
أشجار
أنهار،
وأنهار انسابت
وماجت البحيرات
والبحار
أما أنا فرقصت عارية
بين الأمواج
ريح
ريح شمالية
غشيتني
ملكتني تلك الريح
قمت بتوليد عمالقة
لها مئة يد
وكذلك المردة ذوات العين الواحدة
والإلهية
أنا حارس الحياة
والموت
كل أبنائي
يؤوبون إليّ
أناديهم
أسحرهم
أخبئهم داخل صدري
أغتذي من عظامهم
ولا يلبثون أن يعودوا الى الحياة
أنا الأرض الأم
الأرض الأم المظلمة
لم أزل أمتلك البراءة
التي عرفتها يوم مولدي
ودأبيّ النظر الى الكون
بذهول
أُصغي الى الكون
ليل نهار أصغي
ويولد حبي،
أحبه في ومضة البرق
في الشمس
في المجرات
في كل حصاة خرساء
في كل شيء يطير.
أوديب ملكاً
أركض يا ابنتي
أركض بعيداً عن هنا.
منذ ذاك اليوم المشؤوم
عندما غرزت دبوس البروش
الذي أخذته من رداء جوكاستا
داخل عينيّ
وصرتُ عمياء للأبد
كنت الى جانبي
منذ تلك اللحظة التي
صرتِ فيها مرشدتي
ليس عدلاً أن تبقي
تتجولين أكثر من ذلك هائمة
إني تعبة جداً
وأدرك أن آلهة الانتقام
ستنهي حياتي.
هربت من منزل أهلي
(لم أدر أني متبنّاة)
بسبب الكلمات التي قالتها
العرّافة لي
"إذهبي الى البعيد"، قالت لي
"ستقتلين والدك
وستتزوجين
من والدتك".
مذعورة من ذلك، ركضت
قتلت والدي
على الدرب
وأقمت طقوس الزواج
من أمي.
إذهبي، يا أنتيغون،
إذهبي
ثمة بضع مصائر مظلمة
كما مصيري
في عماي يمكنني رؤية
أفق ضبابي
إرحلي، يا ابنتي،
يا ابنتي وشقيقتي
إذهبي واقتفي آثار مصيرك
لا أريدك هنا
حين تصل آلهة الانتقام
لا أريد أحداً بقربي
أريد أن أكون وحيدة حين
تأتي ساعتي
الساعة غير الشفوقة
التي تقترب، تدنو
والتي خُلقت لي وحدي.
عين الغراب
أنا عين الغراب
العين المثابرة
أتفرّس
في اللحظات الهاربة لزمني.
أسيطر على المغازات
بجناحيّ
أسيطر على الزمن
الذي منحني وتر القوس القصير
حت بتّ مشدودة
بين الولادة
والموت.
الماضي هو زماني
أنا السهم الذي أطلقه الماضي
عليّ استرجاعه
والهرولة عبر الذكريات
بمقلتيّ...

* * *

أصفق جناحيّ
وأطير الى البعيد
أطير الى البعيد.

* * *

نشيج الشاعر يبلغني
صوته الذي لا يخطئه أحد:
"يا إسبانيا، إرفعي هذه الكأس عن شفتي"
وأنا في غيرنيكا
في بيلباو
مدريد
أطير فوق خرائب غيرنيكا
الأمهات تطلقن الصراخ
الغبار يرتفع من الخرائب
غبار كما الرماد...

* * *

حقبة التقدم
ولدت في هيروشيما
مع القنبلة الذرية في هيروشيما
مع الفطر البرتقالي
يزهر في واحد على ألف من
الثانية
تاركاً خيالات ضحاياه
محفورة في الحيطان المتبقية.
آلاف الموتى
في هيروشيما...
أشعة أمل
هاربة
أشعة حب
شجاعة
أشعة معدية
لم تتوقف عن
الشرقطة
رغم المطر:
ثورة القرنفل
في لشبونة
الطلاب في كوبا
في باريس
نيكاراغوا
الصيني الوحيد
مع محفظة الأوراق
مواجهاً طابور الدبابات
في بكين
البيتلز
أغانيهم
جون لينون واعظاً
"مارسوا الحب
لا الحرب"....

* * *

أبدأ رحلة العودة
لم يتغيّر شيء:
لا شيء:
فرق الموت
القصف
البؤس...
"أين ذهبت كل تلك الأزاهير؟".

المستقبل
الاحد 13 كانون الثاني 2008