ترنسترومر
(السويد)

ترنسترومرـ المحطة

ها قد بلغَ المحطةَ قطارٌ. هنا تتراصفُ العرباتُ واحدةً تلو أخرى،
لكن دون أن تُفتحَ الأبوابُ، لا أحد ينزلُ أو يصعد. تُرى، هل ثمة أبوابٌ؟
في الداخل أناسٌ تتزاحمُ جيئةً وذهاباً.
ترنو إلى الخارجِ عبر نوافذَ راسخةٍ.
خارجاً بمحاذاةِ القطارِ رجلٌ يمضي بيدهِ مطرقةٌ يضربُ العجلات بها، فترنُّ بوهنٍ.
هنا تحديداً! هنا يتعالى الرنين بغموضِِ:
وقعُ صاعقةٍ، رنين ناقوس كاتدرائيةٍ، رنينٌ يطوق العالم رافعاً القطار برمته وأحجارَ المكانِ الرطبة.
كلُ شيءِ يصدحُ. ينبغي أن نتذكر هذا
تابع الرحلة.

* * *

حلم بالاكيريف 1905

هذا البيانو الأسود، هذا العنكبوتُ المتلألئُ
وقف مرتعداً في شبكة موسيقاه.

في قاعةِ الحفلِ الموسيقي عُزفَ وطنٌ
حيث لم تكن الأحجارُ أثقلَ من الندى.

غير أن بالاكيريف غفا أثناءَ الموسيقى
وحلمَ حلماً عن دروسكا القيصر.

التي دارت عجلاتُها على أحجارِ الطريق
في العتمةِ والنعيقِ.

جلسَ في العربةِ وحيداً يرنو
لكنه مع ذلك كان يركضُ بجوارها على الطريق.

كان يعلمُ أنَّ الرحلةَ قد دامت طويلاً
وأنَّ ساعته أشارت إلى سنين، لا دقائق.

كان ثمة حقلٌ فيه محراثٌ
ولم يكن المحراثُ سوى طائرٍ قد هوى.

كان ثمة خليجٌ بقي فيه المركب
متجمداً، خامداً، على متنهِ أناسٌ.

انزلقت الدروسكا وانحرفت فوق الجليد
وغزلت، غزلتِ العجلاتُ بصوتٍ حريريٍّ.

بارجةٌ حربيةٌ صغيرة "سفاستوبول".
كان على متنها، حينما أقبل طاقم المركبِ.

"ستنجو إن استطعت العزف".
أظهروا له آلةً غريبة.

كانت أشبهَ ببوقٍ نحاسيٍّ، أو فونوغراف،
أو جزءٍ من آلةٍ مجهولةٍ.

هلِعاً وعاجزاً عن فعل شيءٍ أدركَ: إنها
الآلةُ التي تُسيّرُ بها البواخرُ.

التفت إلى أقرب بحارٍ،
مُشيراً له بيدهِ متوسلاً عبثاً:

"اصنع إشارة صليبٍ مثلي، اصنع إشارة صليبٍ!"
حملق البحارُ بأسىً ككفيفٍ،

بسط ذراعيهِ، انخفض رأسهُ -
تدلى كأنه مثًّبتٌ في الهواءِ.

قُرعت الطبولُ. قُرعت الطبول. تصفيق!
أفاق بالاكيريف من حلمهِ.

أجنحةُ التصفيقِ أمطرت في القاعةِ.
شاهدَ الرجلَ ينهضُ عن البيانو.

كانت الشوارع مظلمةً خارجاً بسبب الإضراب.
سريعاً مضت الدروسكاتُ في الظلمةِ.

* * *

القبطان المنسي

لدينا ظلالٌ كثيرةٌ. كنتُ في طريقي إلى البيتِ، في ليلةٍ من أيلول
عندما خرجَ إيف
من قبرهِ بعد أربعينَ عاماً،
ورافقني.

كان في بادئِ الأمرِ فارغاً، اسماً وحسب
غيرَ أنّ أفكاره.. سالت أسرع من الوقت
ولحقت بنا.

وضعتُ عينيهِ موضعَ عينيَّ
فشاهدتُ بحرَ الحربِ
آخرَ السفنِ التي كان يقودُها
أخذتْ تنمو تحتَ أقدامنا

أمامنا وخلفنا زحفت قافلةُ سفنِ الأطلسي
التي نجا فيها البعضُ
ومُنحَ البعضُ الآخرَ علامةَ لا مرئيٍ.

بينما حلّتِ الأيامُ والليالي الخاليةُ من النومِ محلَّ بعضها
ظَلَّ هناك لا ينوبُ عنه أحدٌـ
سترةُ النجاةِ كانت تحت المعطفِ الواقي
لم يرجع أبداً إلى البيتِ.

كان نزيفهُ
في أحد مشافي كارديف بكاءً داخلياً.
استطاعَ في نهايةِ المطافِ أن يستلقي على الأرضِ
ويتحولَ إلى أفق.

وداعاً يا قافلةَ السفنِ ذواتِ الإحدى عشرةَ عُقدة! وداعاً يا 1940!
هنا ينتهي تاريخُ العالمِ.
لو بقيَت القاذفاتُ معلقةً.
لو أزهرتْ شُجيرةُ الخلنجِ

صورةٌ التُقطت في بدايةِ القرنِ الحالي على شاطئٍ
يظهرُ فيها ستة فتيةٍ واقفين بكاملِ زيّهم المدرسي.
حاملينَ بين أحضانهم سفناً شراعيةً.
يا لها من وجوهٍ عابسة!

السفنُ التي أضحتْ للبعضِ حياةً أو موتاً
والكتابةُ عن الموتى هي بحد ذاتها لهوٌ،
مُثْقلٌ بما سيأتي.

خربشات نارية

في الشهورِ الكالحةِ تلك
توشحتْ حياتي بالنور
فقط عندما مارستُ الحبَّ معكِ
اليراعةُ تتقدُ حيناً وتنطفئُ
تتقدُ وتنطفئ
بوسعِ المرء تقفي أثرها بين النظرة والأخرى
في دجى الليلِ بين أشجارِ الزيتون.

خلالَ الشهورِ الحالكةِ تلك بقيتْ الروحُ منكمشةً ميتةً
غيرَ أنَّ الجسدَ عاد أدراجَهُ إليكِ.
وخار ليلُ السماءِ.
أحتلبنا خلسةً المجرَّة لنبقى على قيد الحياة.

ـ فنان في الشمال

أنا ادوارد غريغ تنقلتُ رجلاً حراً
بينَ الناسِ.
كثيرُ المزاحِ،
قرأتُ الصحفَ، سافرتُ وارتحلتُ.
قدتُ الأوركسترا.
اهتزتِ القاعةُ بأضوائها منتشيةً بالنصرِ
كسفينةٍ غازيةٍ ترسو.

لقد جررتُ نفسي إلى هنا كي أنطحَ الصمت.
مقرُّ عمليْ صغيرٌ،
حيثُ البيانو محصورٌ، كسنونو
تحتَ قرميدِ السقف.

غالباً ما تصمتُ تلك المنحدراتُ الحادة، الخلابة.
ليس ثمة ممرٌ
بل منفذٌ ينفتحُ أحياناً
فيتدفقُ ضوء ٌلافتٌ للانتباه من الترول (*).

تراجع!
ضرباتُ المطرقةِ من الجبلِ.جاءت
جاءت
جاءت
جاءت في ليلةٍ ربيعيةٍ لغرفتنا
متقمصةً ضرباتِ القلبِ.

سوف أرسلُ في العامِ الذي يسبقُ موتي
أربعَ تراتيل مقتفياً أثر الله.
بيد أنه ستبدأ أغنيةٌ من هنا
عمّا قريب.

فينا ساحةُ قتالٍ.

حيث نحن عظامَ الموتى
نتقارعُ كي نغدو أحياءً.

كيريه

أحياناً كانت حياتي تفتَح عينيها في عَتمةٍ.
شعورٌ كما أن حشوداً من الناس جابت الشوارع
في عماءٍ وقلقٍ في الطريق نحو معجزةٍ،
بينما أبقى واقفاً غيرَ مرئي ٍ.

كالطفلِ الذي يغفو في هلعٍ
منصتاً إلى خطى القلبِ الثقيلة
طويلاً، طويلاً حتى يُدخل الصباح الأشعة في الأقفال .

السفير
14 - اكتوبر 2011