شيماماندا نِجوزي أديتشي

ترجمة فاطمة ناعوت

شيماماندا نِجوزي أديتشي هذا فصلٌ من رواية نيجيرية كتبتها بالإنجليزية روائيةٌ نيجيرية شابة هي تشيمامندا نجوزي آديتشي، التي بشّر بها أبو الأدب الأفريقيّ الحديث تشينوا آتشيبي قائلا: "إن هذه الروائية قد ولدت ناضجةً." حصدت الرواية جائزة الأورانج البريطانية الرفيعة عام 2004، وتقع النسخة الإنجليزية في 550 صفحة من القطع المتوسط، وتصدر قريبًا، بالعربية، من ترجمة فاطمة ناعوت، عن سلسلة الجوائز بالهيئة المصرية العامة للكتاب، التي تشرف عليها د. سهير المصادفة. تقع أحداث الرواية قبل وأثناء الحرب الأهلية النيجيرية التي دارت رحاها بين عامي 1967، 1970. وبرغم دموية الأحداث التي واكبت المذابح والانتهاكات التي ارتكبتها قبائل الهاوسا في أهالي قبائل الإيبو، الذين كانوا يطمحون إلى استقلالهم وتكوين دولة بيافرا، ويحمل علمها رمز "نصفُ شمسٍ صفراء"، وهو عنوان الرواية، برغم تلك الدموية في الأحداث، إلا أن الروائية استطاعت ببراعة ألا تُغرقَ القارئَ في تلك الأجواء الكابية، عن طريق سرد الأحداث على لسان طفل صغير هو "آجوو" الذي يعمل خادمًا لدى بروفيسور رياضيات نيجيري مثقف. يتأمل الطفل ما يجري حوله، ويتنصت على سيده أودينيبو، وسيدته أولانا، وأصدقائهما الأكاديميين في غرفة الصالون ثم يحاول أن يفهم معنى الحرب والمجازر والاغتصاب. يكبر الصبيُّ، ويكبر وعيه بالحدث، ويكبر معه وعينا، نحن القراء، بتلك المأساة التي عاشها شعبٌ مضطهد حَلُم بالحرية والاستقلال. هذه راوية آديتشي الثانية بعد روايتها الأولى "الخُبيّزة الأورجوانية" التي صدرت عام 2003، لتبشّر بميلاد روائية واعدة.

الفصل الثاني والثلاثون

في بادئ الأمر، ودَّ آجوو أن يموت. لم يكن ذلك بسبب الوخز الساخن في رأسه، ولا لزوجة الدماء في ظهره ولا الوجع في مؤخرته ولا الطريقة العسيرة التي يلتقط بها الهواء ليتنفس، بل بسبب ظمئه. كان حلقه متشقِّقًا. الرجال الذين كانوا يحملونه كانوا يتكلمون حول كيف أن إنقاذه أعطاهم سببًا للفرار، وكيف أن رصاصاتهم قد نفدت وأرسلوا لطلب الدعم لكن لا شيء جاء بينما كان الهمج يتقدمون. لكن ظمأ آجوو أصمَّ أذنيه ولخبط كلماتهم. كان فوق أكتافهم، مضمَّدًا بقمصانهم، والألم يصرخ في كافة أنحاء جسده فيما يسيرون. كان يتلقف الهواء، ولكنه لم يحصل أبدا على ما يكفيه من أكسجين. أصابه الظمأ بالغثيان.
«ماء، أرجوكم،» قال وهو يعوي. لكنهم لم يعطوه أيَّ ماء؛ لو كان يمتلك بعض الطاقة، لصبَّ عليهم كل ما يعرف من لعنات. لو كان معه بندقية لأطلق عليهم النار جميعهم ثم على نفسه.
الآن، في المستشفى حيث تركوه، لم يعد يرجو الموت، بل بات يخشاه. كانت هناك العديد من الجثث متناثرة حوله، على الحُصْر، والمراتب وعلى الأرض العارية. والكثير من الدماء في كل مكان. يسمع الصرخات الحادة من الرجال حينما يفحصهم الطبيب فيعلم أنه ليس الحالة الأسوأ، حتى وهو يشعر بان الدم ينزف منه غزيرًا، دافئًا في البدء ثم باردًا حول خصريه. أجهدته الدماء تمامًا، كان أكثر إرهاقًا من أن يفعل أي شيء، وحينما أسرعت الممرضات وتجاوزنه تاركات الضمادات دون تغيير لم ينادهن. لم يقل شيئًا، حتى حينما أتين ودفعنه على جانبه وأعطينه حقنًا. في لحظات هياجه كان يرى إيبيرتشي لابسةً تنورتها الضيقة وتشير إليه بما لا يفهم. حاول أن يرسم بخياله صورة للسماء، والرب جالس على عرشه، لكنه لم يقدر. لكن الرؤى المتباينة، حول أن الموت لم يكن إلا صمتًا لا نهائيًّا، بدت غير متشابهة. ثمة جزء منه كان يحلم، ولم يكن يعرف ما إذا كان هذا الجزء سوف يتحول أبدًا إلى سكون لا متناه. الموتُ سوف يكون المعرفةَ التامة، لكن ما كان يخيفه هو ذلك: ألا يعرف سلفًا ما سوف يعرفه.
في المساءات، في الضوء نصف المعتم، كان الناس من كاريتساس يأتون، قسُّ ومساعدان يحملان مصابيح الكيروسين، يقدمون الحليب والسكر إلى الجنود، يسألون عن أسمائهم ومن أين جاءوا.
«نسوكا،» قال آجوو حينما سُئل. خُيّل لآجوو أن صوت القس مألوف على نحو غامض، لكن فيما بعد أصبح كل شيء هنا مألوفًا على نحو غامض: دماء الرجل المجاور له لها رائحة دمائه، الممرضة التي تضع صحنًا من الحساء الخفيف جواره تشبه إيبيرتشي.
«نسوكا؟ ما اسمك؟» سأل القس.
جاهد آجوو لكي يركز في الوجه المستدير، النظارات، العنق البني. كان هو الأب دامين. «أنا آجوو. اعتدت أن أحضر مع سيدتي أولانا إلى كنيسة سانت فينسينت دي بول».
«آه!» عصر الأب دامين يده ففزع آجوو. «إذًا حاربتَ من أجل قضيتنا؟ أين جُرحت. ماذا فعلوا بك»؟
هز آجوو رأسه. أحد جانبي مؤخرته كان به ألمٌ أحمرُ مشتعل، استهلكه الجرح. وضع الأب بعض مسحوق الحليب بالملعقة في فمه ثم وضع جواره كيس سكر وكيس حليب.
«أعلم أن أودينيجو مع القوى العاملة. سوف أرسل لهم خبرًا،» قال الأب دامين. وقبل أن يغادر، دس صليباً خشبيًّا على معصم آجوو.
كان الصليب هناك، باردًا ضاغطًا على جلده، حينما جاء مستر ريتشارد بعد عدة أيام.
«آجوو، أجوو.» من فوقه يسبح الشعر الناعم والعينان غريبتا اللون، ولم يكن آجوو متأكدا مَن يكون.
«هل تقدر أن تسمعني يا آجوو؟ جئتُ لآخذك». كان هو ذات الصوت الذي كان يسأل آجوو أسئلة حول مهرجانات قريته قبل سنوات. عرف آجوو إذًا مَن يكون. حاول مستر ريتشارد مساعدته لينهض فصرخ الألم من جانبه ومؤخرته وصعد إلى رأسه وعينيه. صرخ آجوو، وضغط أسنانه وعض شفتيه وامتصّ دماءه.
«اهدأ الآن، اهدأ الآن،» قال مستر ريتشارد.
الطريق الوعر وهو راقد في المقعد الخلفي للسيارة البيجو 404 والشمس الحارقة التي تسطع من النوافذ جعلت آجوو يتساءل ما إذا كان قد مات وأن هذا هو ما يحدث في الموت: رحلة لا نهاية لها في سيارة. وأخيرًا توقفا عند مستشفى لا تشعُّ منها رائحة الدم بل رائحة المطهرات. فقط بعدما رقد آجوو على سرير حقيقي فكر أنه ربما لن يموت.
«هذا المكان كان قد قُصف تمامًا الأسبوع الماضي، وسوف نغادر بعدما يراك الطبيب. هو في الواقع ليس طبيبًا ـ كان في العام الرابع من الكلية حينما بدأت الحرب ـ لكنه يؤدي العمل على نحو جيد جدًّا،» قال مستر ريتشارد. «أولانا وأودينيجو وبيبي معنا منذ سقطت أومياهيا، وبالطبع هاريسون هناك أيضًا. كاينين تحتاج الى المساعدة في معسكر اللاجئين، لذلك من المفيد أن تتعافى سريعاً.»
شعر آجوو أن مستر ريتشارد يتحدث كثيرًا، من أجل إفاقته، ربما ليجعله يقظًا حتى يأتي الطبيب. لكنه كان ممتنًا لضحكة مستر ريتشارد، أسلوبها العادي، الطريقة التي تعود به للذاكرة فتجعله يستعيد الزمن الذي كتب فيه مستر ريتشارد إجاباته على الغلاف الجلديّ للكتاب.
«صُدمنا جميعاً حين سمعنا أنك حي في مستشفى إيميموكو ـ نوع طيب من الصدمات بالطبع. شكرًا للسماء أن لم يكن هناك مراسمُ دفن رمزي، رغم أنهم أقاموا لك نوعًا من طقس الوداع قبل سقوط أومياهيا».
ارتجفت جفنا آجوو. «قالوا إنني متُّ يا صاح؟»
«أوه، نعم قالوا. يبدو أن كتيبتك ظنت أنك مت أثناء العملية.»
كانت عينا آجوو مغمضتين ولا تمكثان مفتوحتين حين يجبرهما على ذلك. وأخيرًا فتحهما وكان مستر ريتشارد ينظر إليه. «من تكون إيبيرتشي؟»
«صاح؟»
«ظللتَ تقول إيبيرتشي».
«إنها شخصٌ أعرفه يا صاح.»
«في أومياهيا؟»
نعم يا صاح.»
ترقرقت عينا مستر ريتشارد. «وأنت لا تعرف أين تكون الآن؟»
«لا يا صاح.»
«هل تلبس هذه الثياب منذ جُرحت؟»
«نعم يا صاح. جنود المشاة أعطوني البنطال والقميص.»
«تحتاج أن تتحمم».
ابتسم آجوو. «نعم يا صاح.»
«هل كنت خائفًا.» سأل مستر ريتشارد بعد برهة.
تزحزح؛ الألم كان في كل مكان ولم يكن ثمة وضع مريح. «خائف يا صاح؟»
«نعم.»
«أحيانًا يا صاح،» توقف عن الكلام. «وجدت كتابًا في معسكرنا. كنتُ حزينا جدًّا وغاضبًا من الكاتب.»
«ماذا كان الكتاب؟»
«السيرة الذاتية لأميركي أسود اسمه فريدريش دوغلاس.»
كتب مستر ريتشارد شيئًا. «سأستخدم هذه المعلومة في كتابي.»
«تكتب كتابًا.»
«نعم.»
«عمَّ يدور يا صاح؟»
«عن الحرب، وما حدث قبلها، وماذا كان يجب ألا يحدث. سوف يكون عنوانه «العالم كان صامتًا حينما كنا نموت.»
فيما بعد، تمتم آجوو العنوان لنفسه: «العالم كان صامتًا حينما كنا نموت.» اقتنصه العنوان، ملأه بالعار. جعله يفكر في فتاة البار، وجهها اللاسع، والكراهية في عينيها وهي راقدة على ظهرها فوق الأرض القذرة.

لفَّ السيدُ وأولانا أذرعهم حول آجوو، لكن في رقّة، دون ضغط، حتى لا يسببا له ألمًا. كان يشعر بعدم ارتياح تام؛ لم يعانقاه أبدًا من قبل.
«آجوو،» قال السيد وهو يهز رأسه. «آجوو.»
تعلقت بيبي بيده ورفضت أن تتركها فتجمعت كل حياة آجوو فجأة كتلة في حلقه، فكان ينشج فتؤلم الدموع عينيه. كان غاضبًا من نفسه لبكائه، وفيما بعد، وهو يحكي ما حدث له، كان يتكلم في صوت متقطع. كذب بشأن كيف تم تجنيده؛ قال إن القس آمبروز قد توسل إليه لكي يساعده في حمل شقيقته المريضة إلى خبير الأعشاب وكان في طريق عودته للبيت حينما امسكه الجنود. استخدم كلمات من نوع: نار العدو، هجوم القيادة العليا في الجيش، ببرود عَرَضي كأنما ليعوض بكاءه.
«أخبرونا أنكَ لقيتَ حتفك،» قالت أولانا، وهي ترقبه. «ربما أوكيوما حيٌّ أيضًا.»
حدق فيها آجوو.
«قالوا إنه قُتل في عملية،» قالت أولانا. «وتلقيتُ خبرًا أن سوء التغذية قد أودى أخيرا بأدانّا. بيبي لا تعرف ذلك بالطبع.»
نظر آجوو بعيدًا. أخبارها أغضبته. شعر بالغضب منها لأنها قالت ما لم يود أن يسمعه.
«كثير من الناس يموتون.» قال.
«هذا ما يحدث في الحرب، كثير من الناس يموتون،» قالت أولانا. «لكننا سوف ننتصر في هذا الشيء. هل وسادتُك في وضع جيد؟»
«نعم يا ماه.»
لم يكن قادرًا على الجلوس على جزء من مؤخرته، ولذلك في أثناء الأسابيع القليلة الأولى في أورلو، كان يرقد على جانبه. وكانت أولانا الى جواره دائما، ترغمه على الأكل وتحثه على الحياة. وعقله كان دائماً في تساؤل. لم يكن بحاجة إلى صدى الألم في جانبه وفي مؤخرته وفي ظهره ليتذكر انفجار أوبيونيجو الخاصة به، أو ضحكة هاي ـ تيك، ولا كراهية الموت في عيني الفتاة. لم يكن قادراً على تذكر ملامحها، لكن نظرة عينيها ظلّت باقية في داخله، مثلما الجفاف المتوتر بين ساقيها، والطريقة التي فعل بها ما لم يرغب في فعله. في تلك المساحة الرمادية بين الحلم وحلم اليقظة، حينما كان يتحكم في معظم ما يتخيله، كان يرى البار، ويشم الخمر، ويسمع الجنود يقولون: «مُدّمِّر الهدف،» لكنها لم تكن تلك الفتاة الراقدة على ظهرها على الأرض، بل كانت إيبيرتشي. يستيقظ كارها الصورة وكارها نفسه. عليه أن يعطي نفسه الوقت ليعوض ما فعله. ثم يذهب ويبحث عن إيبيرتشي. ربما هي وأسرتها قد ذهبوا إلى بلدتهم في مباسي وربما يكونون هنا في أورلو في مكان ما. كان عليها أن تنتظره، لأن انتظاره كان دليلاً على خلاصه من الخطيئة، وسوف يعطيه هذا الراحة وهو يتعافى. كان مدهشًا له أن جسده كان قادرًا على العودة لما كان عليه فيما قبل وأن عقله استعاد وظائفه بصفاء.
أثناء النهار كان يساعد في معسكر اللاجئين، وفي المساء يكتب. يجلس تحت الشجرة ويكتب في حروف دقيقة صغيرة على جانب صحيفة قديمة، في صفحة ما دونت كاينين حسابات التموين، على ظهر رزنامة قديمة. كتب قصيدة حول رجال أصيبوا برصاصات طائشة في مؤخراتهم بعد التغوط في دلاء مستوردة، لكنها لم تبد غنائية مثل قصيدة أوكيوما فمزقها؛ ثم كتب عن امرأة شابة لها مؤخرة متقنة كانت تقرص عنق شاب ثم مزقها أيضًا. وأخيرًا، شرع في الكتابة حول موت الخالة آريزي على يد مجهول في كانو وعن فقد أولانا استخدام ساقيها، وعن الزي العسكري الأنيق الخاص بأوكيوما وعن اليد المضمدة لبروفيسور إكوينيوجو. كتب عن الأطفال في معسكر اللاجئين، كيف يجتهدون في صيد السحالي، كيف أن أربعة منهم قد صادوا سحلية سريعة فوق شجرة مانجو فتسلق أحدهم الشجرة خلفها فقفزت السحلية من الشجرة وسقطت في يد مبسوطة لأحد الأطفال الآخرين المتحلقين حول الشجرة.
«صارت السحالي أكثر نحافة. تركض الآن أسرع وتتخفى تحت كتل الأسمنت،» أخبر الولدُ الذي تسلق الشجرة آجوو. قاموا بشواء السحلية وتشاركوا فيها، بعدما طردوا الأطفال الآخرين بعيدًا. فيما بعد، عرض الولد على آجوو قطعة ضئيلة من نصيبه من اللحم المتليف. شكره آجوو وهز رأسه واكتشف أنه لن يقدر أبدًا على القبض على الولد في أوراقه، لن يقدر أبدًا أن يصف جيدًا الخوفَ الذي يغيّم عيون الأمهات في معسكر اللاجئين حينما تزخر السماء بالطائرات القاصفة. لن يقدر أبدًا أن يرسم الوحشية الموغلة التي تقصف بشرًا جوعى. لكنه حاول، وكلما كتب أكثر قلَّت أحلامه.
كانت أولانا تعلِّم بعض الأطفال أن يتلوا جدول الضرب في الصباح الذي أسرعت فيه كاينين نحو الشجرة...

الجزءُ الثالث

بداياتُ الستينيات

(19)

جلس آجوو على الدَّرج الذي يؤدي إلى الفناء الخلفيّ. قطراتُ المطر كانت تنزلق على أوراق الشجر، والهواءُ مشبَّعٌ برائحة التربة الرطبة، وكان يتحدث مع هاريسون حول رحلته الوشيكة مع مستر ريتشارد.
"توفيا! لا أعرفُ لماذا يريد سيدي أن يرى مهرجان الشياطين في قريتك،" قال هاريسون. كان جالسًا أسفل بدرجات قليلة. وكان بوسع آجوو أن يشاهد الرقعة الصلعاء في منتصف رأسه.
"ربما يريد مستر ريتشارد أن يكتب عن الشيطان،" قال آجوو. بالطبع لم يكن أوري-أوكبا مهرجانًا شيطانيًّا، لكنه لن يعارض هاريسون. كان يريد أن يكون هاريسون في مزاج جيد حتى يسأله عن غاز الدموع. كانا صامتين لبرهة، يراقبون النسور تحوّم فوق الرؤوس؛ كان الجيران قد ذبحوا دجاجة.
"آه، ثمراتُ الليمون تلك بدأت تنضج." أومأ هاريسون نحو الشجرة. "أستخدمُ هذه الحبّات الطازجة في صناعة كعكة السكر والبيض،" أضاف بالإنجليزية.
"ما هي ميه-رانج؟" سأل آجوو. سوف يروق هذا السؤال لهاريسون.
"ألا تعرف ما هي؟" ضحك هاريسون. "إنها أكلة أمريكية. سوف أصنعها لسيدي ليحضرها هنا حينما تعود سيدتُك من لندن. أعلم أنها ستحبها."
استدار هاريسون ليرمق آجوو. كان قد وضع جريدة قبل الجلوس على الدرجة، فتجعدت وهو يتزحزح. "حتى أنتَ ستحبها."
"نعم،" قال آجوو، رغم أنه قد أقسم أنه لن يأكل طعام هاريسون بعدما مرَّ ببيت مستر ريتشارد وشاهد هاريسون يقلب شرائح قشور برتقال في إناء الصوص. كان سينزعج أقل لو أن هاريسون قد طبخ البرتقالة نفسها، لكن أن يطهو بالقشور فكأنما نطهو جلد النعجة بالفروة بدلا من طهو اللحم.
"أنا أيضًا أستخدم الليمون لصنع الكعك؛ الليمون جيد جدًّا للجسم،" قال هاريسون. "طعام الشعوب البيضاء يجعلك صحيحًا، ليس مثل كل هذا الهراء الذي يأكله أهلنا."
"نعم هذا صحيح." نقَّى صوتَه. يجب أن يسأل هاريسون عن غاز الدموع الآن، لكن بدل ذلك قال، "دعني أُريك غرفتي الجديدة في نُزل الأولاد."
"أوكي." نهض هاريسون.
حينما دخلا غرفة آجوو، أشار إلى السقف، المرسوم بالأبيض والأسود. "صنعتُها بنفسي،" قال. ظلَّ يحملُ شمعةً هناك لساعات، يحرك لهب الشمعة على طول السقف، يتوقف كل حين ليحرك الطاولة التي يقف فوقها.
"أوه ماكا، لطيفة جدًّا." نظر هاريسون إلى السرير الضيق في الركن، وإلى الطاولة والكرسي، والقمصان المعلقة على مسامير مثبتة بالحائط، والحذاء المرتب على الأرض بعناية. "هل هذا الحذاء جديد؟"
"اشترته لي سيدتي من باتا."
مسّ هاريسون كوم الجرائد على المنضدة. "هل تقرأ كل هذا؟" سأل بالإنجليزية.
"نعم،" كان آجوو قد احتفظ بها من سلة المهملات؛ سجلاّت الرياضيات كانت غير قابلة للفهم، لكنه على الأقل قد قرأ، وإن لم يفهم، بعض صفحات من نظرة عامة على المجتمع.
كانت قد بدأت تمطر من جديد. والطقطقة على السطح الزنكيّ عاليةٌ وتزداد علوًّا وهما يقفان تحت المظلة بالخارج يشاهدان قطرات المطر تسقط من السطح في خطوط متوازية.
لوّح آجوو بذراعه— كان يحب هواء المطر البارد، لكنه لا يحب البعوض المحوّم حوله. وأخيرًا سأل السؤال: "هل تعرف كيف أحصلُ على غاز الدموع؟"
"غاز الدموع؟ لماذا تسأل؟"
"قرأت عنه في صحيفة سيدي، وأريد أن أرى كيف يبدو." لن يخبر هاريسون أنه في الحقيقة سمع عن غاز الدموع حينما تكلم السيد مع أعضاء البيت الغربي في السفارة، الذين كانوا يلكمون ويركلون بعضهم بعضًا حتى جاء البوليس ورشَّ الغاز ففقدوا الوعي، إلى أن حملهم خدمُهم إلى سياراتهم. فتن آجوو الغازُ المسيّل للدموع. إذا كان يجعل الناس يفقدون وعيهم، فهو يريد الحصول عليه. يريد أن يستخدمه مع نيسيناتشي حينما يعود إلى بلدته مع مستر ريتشارد من أجل مهرجان أوري-أوكبا. سوف يقودها حتى المنحدر جوار الشلال ويخبرها أن غاز الدموع هو رذاذ سحري سوف يبقيها بصحة جيدة. وسوف تصدقه. وأيضًا سوف يؤثر فيها أن تراه آتيا في سيارة رجل أبيض لدرجة أنها ستصدق أي شيء يقوله.
"صعب جدًّا الحصول على غاز الدموع،" قال هاريسون.
"لماذا؟"
"أنت صغير جدًّا لتعرف لماذا." أومأ هاريسون بغموض. "حينما تغدو رجلاً ناضجًا سوف أخبرك."
حار آجوو في البدء، قبل أن يدرك أن هاريسون لم يكن يعرف ما هو غاز الدموع أيضًا لكنه لم يكن يعترف بذلك أبدًا. خاب أمله. كان يجب أن يسأل جومو.
كان جومو يعرف ما هو غاز الدموع وضحك طويلاً وبقوة حينما أخبره آجوو لماذا كان يريده. أخذ جومو يصفق بيديه وهو يضحك. "أنت خروف، أتورو،" قال جومو أخيرًا. "لماذا تريد أن تستخدم غاز الدموع مع بنت صغيرة؟ انظرْ، اذهب إلى قريتك، وإذا ما كان الوقت مناسبًا والبنت تحبك، سوف تتبعك. أنت لا تحتاج إلى غاز دموع."
أبقى آجوو كلمات جومو في عقله بينما يقود مستر ريتشارد سيارته نحو بلدته في اليوم التالي. ركضت آنيوليكا إلى الطريق لما رأتهما وصافحت مستر ريتشارد بجرأة. احتضنت آجوو وأخبرته وهم سائرون أن أبويها في الحقل، ابنة عمهم ولدت بالأمس، وأن نيسيناتشي سافرت للشمال الأسبوع الماضي—
توقف آجوو وحملق فيها.
"هل حدث شيء؟" سأل مستر ريتشارد. "لم يُلغَ المهرجان، أليس كذلك؟"
تمنى آجوو لو كان قد حدث. "لا يا صاح."
تقدم في الطريق حتى ميدان القرية المزدحم بالرجال والنساء والأطفال، وجلس تحت شجرة أوجي مع مستر ريتشارد. وسرعان ما أحاط بهما الأطفال ينشدون "أوني أوشا، رجل أبيض،" وهم يمدون أياديهم ليلمسوا شعر مستر ريتشارد. قال: "كيدو؟ هاللو، ما اسمك؟ فحملقوا فيه، وهم يقهقهون ويلكزون بعضهم بعضًا. اتكأ آجوو إلى الشجرة وحزن على الوقت الذي قضاه يفكر في نيسيناتشي. الآن قد غادرت وسيفوز تاجر ما في الشمال بجائزته. لم يكد يلحظ مميو: أشخاص ذكور مغطون بالعشب، وجوههم مشبوكة بأقنعة خشبية، سياطهم الطويلة مدلاة من أياديهم. التقط مستر ريتشارد صورًا، وكتب في مفكرته، وسأل أسئلةً، واحدًا إثر واحد-- ماذا يدعى هذا وماذا يقولون ومن هؤلاء الرجال الذين ربطوا مميو بحبل وماذا يعني ذلك— حتى شعر آجوو بالتوتر من الحرارة والأسئلة والصخب والكم الهائل من خيبة الرجاء لعدم رؤيته نيسيناتشي.
كان صامتًا في رحلة العودة، ينظر خارج نافذة السيارة.
"لقد بدأت تشعر بالحنين للوطن، أليس كذلك؟" سأل مستر ريتشارد.
"نعم يا صاح،" قال آجوو. كان يريد أن يسكت مستر ريتشارد. أراد أن يكون وحيدًا. وتمنى أن يكون السيد ما يزال في النادي حتى يأخذ جريدة الرينيسانس من غرفة المعيشة ويتكور على سريره في نُزل الأولاد ويقرأ. أو ربما يشاهد التليفزيون الجديد. لو كان محظوظًا، سيكون هناك فيلم هندي. جمال النساء واسعُ العينين، الغناء، الزهور، الألوان البراقة، والبكاء، هو كل ما يحتاجه الآن.
حينما ترك نفسه يدخل عبر الباب الخلفيّ، صدمه أن يجد والدة السيد جوار الموقد. آمالا كانت واقفة جوار الباب. حتى السيد لم يكن يعلم أنهما آتيتان، وإلا لكان طلب أن تُنظف غرفة الضيوف.
"أوه،" قال. "مرحبًا ماما. مرحبا خالة آمالا." الزيارة الماضية كانت واضحة في ذاكرته: الماما تتحرك بأولانا، تناديها بالساحرة، صياح، والأسوأ هو التهديد باستشارة ديبيا القرية.
"كيف حالك يا آجوو؟" تعدّل الماما عباءتها قبل أن تربت على ظهره. "ابني قال إنك ذهبت لتُري الرجل الأبيض الأرواحَ في قريتك."
"نعم ماما."
كان يسمع صوت السيد العالي من قاعة المعيشة. ربما سيأتي زائر فقرر السيد ألا يذهب إلى النادي.
"بوسعك أن تذهب وتستريح، آي نوجو،" قال الماما. "أنا سأجهز غداء ابني."
آخر ما كان يريده الآن هو أن تستعمر الماما مطبخ أولانا أو أن تستعمل صحنها المفضل في حسائها ذي الرائحة النفاذة. تمنى لو أنها ترحل وحسب. "سوف أبقى حال أن رغبتِ في المساعدة يا ماما،" قال.
هزت كتفيها دون اكتراث وعاودت تفريغ ثمرات الفلفل من قرونها. "هل تطهو أوفي نسالا جيدًا؟"
"لم أطهها أبدًا."
"لماذا؟ ابني يحبها."
"لم تسألني سيدتي أن أطهوها."
"هي ليست سيدتك يا طفلي. إنها مجرد امرأة تعيش مع رجل لم يدفع مال عرسها."
"نعم يا ماما."
ابتسمت، كأنما كانت مسرورة أنه أخيرًا قد فهم شيئًا مهمًّا، وأومأت إلى وعاءين خزفيين في الركن. "أحضرتُ لابني نبيذ نخيل طازجًا. جلبه لي هذا الصباح أفضل الساقين لدينا."
نزعت أوراق الشجر الخضراء المحشورة في عنق أحد الوعاءين فأرغى النبيذُ عاليًا، أبيضَ وطازجًا وله رائحة جميلة. صبّت بعضه في فنجان وأعطته لآجوو.
"تذوقْه."
كان لاذعًا على لسانه، نوع من نبيذ النخيل المركِّز قُطِّر في موسم الجفاف ذاك الذي يجعل رجال قريته يترنحون فورًا. "شكرًا يا ماما، جميل جدًّا."
"هل يصنع أهل قريتك النبيذ جيدًا؟"
"نعم يا ماما."
"لكن ليس مثل أهل قريتنا. في آبا لدينا أفضل الساقين في كل أرض الإيبو. أليس كذلك يا آمالا؟"
"نعم صحيح يا ماما."
"اغسلي لي هذه الطاسة."
"حاضر يا ماما." بدأت آمالا تغسل الطاسة. كتفاها وذراعاها تهتز وهي تجلو. لم يكن آجوو قد نظر إليها والآن لاحظ أن ذراعيها النحيلتين السمراوين كانتا تلمعان بالرطوبة، كأنما قد استحمت في زيت الجوز.
جاء صوت السيد عاليًا وحاسمًا من قاعة المعيشة. "حكومتنا الحمقاء يجب أن تكسر الامتيازات عن بريطانيا أيضًا. يجب أن يكون لنا وقفة! لماذا لا تصنع بريطانيا المزيد في روديسيا؟ أي فرق سوف تصنع عقوبات الاقتصاد المترهل؟"
مشى آجوو ناحية الباب لينصت؛ كان مفتونًا بـ روديسيا، وبما سوف يحدث في جنوب أفريقيا. لم يفهم أن الناس الذين يشبهون مستر ريتشارد يأخذون أشياء الناس الذين يشبهونه هو، دون سبب على الإطلاق.
"أحضرْ لي صينية يا آجوو،" قالت الماما.
أحضرَ آجوو صينية من الخزانة وحاول أن يساعدها في تجهيز طعام السيد، لكنها أبعدته. "أنا هنا ولذا بوسعك أن ترتاح قليلا يا ولدي المسكين. سوف تجهدك المرأةُ بالعمل من جديد بعدما تعود من الخارج، كأنما لستَ أنت ألا طفلا وحسب." فضّت كيسًا صغيرًا يشع بشيء ما ووضعته في طاسة الحساء. واشتعل الشكُّ في عقل آجوو؛ تذكّر القطة السوداء التي ظهرت في الفناء الخلفي بعد زيارتها الأخيرة. والكيس كان أسود أيضًا، مثل القطة.
"ما هذا يا ماما؟ الشيء الذي وضعته في حساء سيدي؟" سأل.
"هذه توابل من خصوصيات أهل آبا." استدارت لتبتسم باقتضاب. "هي جيدة جدًّا."
"نعم يا ماما." ربما كان مخطئا ليفكر أنها تضع دواء من ديبيا في طعام السيد. ربما أولانا كانت محقّة وأن القطة لا تعني شيئا سوى أنها قطة الجيران، رغم أنه لا يعرف أي جار له قطة مثل تلك، بعينين تشعان بالأحمر والأصفر.
لم يفكر آجوو ثانية في التوابل الغريبة ولا في القطة لأنه، وبينما كان السيد يتناول غداءه، اختلس كأسًا من وعاء نبيذ النخيل ثم كأسًا آخر، لأنه كان شهيًّا جدًّا، وبعدها شعر كأنما تجويف رأسه مغلّفٌ بصوف ناعم. كان بالكاد يمشي. ومن غرفة المعيشة، سمع السيد يقول بصوت غير منتظم: "نخب مستقبل أفريقيا العظيمة! نخب أخوتنا المستقلين في جامبيا نخب أشقائنا في زامبيا الذين غادروا روديسيا!" تبع ذلك انفجارات ضحك متوحشة. نبيذ النخيل كان قد فعل فعله بالسيد أيضًا. ضحك آجوو بدوره، رغم أنه كان وحيدًا بالمطبخ ولم يعرف ما هو الشيء المضحك. وفي الأخير سقط نائمًا على المقعد القصير، رأسه على المائدة التي تفوح برائحة السمك المقدد.
صحا بمفاصله متخشبة. فمه ممرور، رأسه يؤلمه، وتمنى لو لم تكن الشمس ساطعة مبهرة هكذا، ولو أن السيد لا يتكلم عاليًا عن الجريدة على الفطور. كيف يمكن للمزيد من السياسيين أن يتحولوا إلى غير معارضين أكثر منهم منتخبين؟ هراء تام! تلك تجهيزات لأسوأ نظام! كل حرف ارتجّ داخل دماغ آجوو.
بعدما غادر السيد إلى عمله، قالت الماما: "ألن تذهب إلى المدرسة، جبو، آجوو؟"
"نحن في أجازة ماما."
"أوه." بدت محبطة.
فيما بعد، رآها تدهن شيئًا في ظهر آمالا، كلتاهما كانتا واقفتين أمام الحمّام. عادت شكوكه. ثمة شيء خطأ في طريقة دوران يد الماما في حركات دائرية، ببطء، كأنما مطابقٌ لشعيرة ما، وكذا في طريقة وقوف آمالا ساكنةً، بظهرها منتصب وعباءتها مسدلة إلى خصرها وحدود ثدييها ظاهرة من جانبيها. ربما كانت الماما تدهن آمالا بدواء ما. لكن هذا لا يعني شيئًا لأن الماما لو كانت ذهبت إلى ديبيا، فإن الدواء لابد أن يكون لأولانا وليس لآمالا. لكن ربما هذا الدواء يعمل على النساء والماما كانت تريد أن تحمي نفسها وآمالا لكي تستوثق أن أولانا وحدها التي سوف تموت أو تصبح عاقرًا أو تصاب بالجنون. ربما الماما تجري الآن الوقاية الأولية لأن أولانا كانت في لندن وسوف تدفن الدواء في الفناء لكي تحافظ على قوته حتى تعود أولانا.
ارتجف آجوو. وحوّمت الظلال فوق البيت. أقلقه ابتهاج الماما، وتمتماتها الخافتة، إصرارها أن تجهز كل وجبات السيد، كلماتها المبهمة لآمالا. كان يراقبها جيدًا كلما خرجت إلى الخارج، ليرى ما إذا كانت ستدفن أيَّ شيء، لكي يُخرجه بمجرد دخولها. لكنها لم تدفن شيئًا. وحينما أخبر جومو أنه يشك أن الماما ذهبت إلى ديبيا لتجد وسيلة لقتل أولانا، قال جومو: "المرأة العجوز ببساطة سعيدة لأنها تنفرد بابنها وحدها، ولهذا تطهو وتغني طوال اليوم. هل تدري كم تكون أمي سعيدة حينما أذهب لزيارتها دون زوجتي؟"
"لكنني شاهدت قطة سوداء بعد زيارتها الماضية،" قال آجوو.
"خادمة بروفيسور أوزومبا في نهاية الشارع ساحرة. إنها تطير إلى قمة شجرة المانجو في الليل لكي تلتقي برفقائها السحرة، لأنني دائمًا أرى أوراق الشجر التي يسقطونها. إنها هي من كانت تبحث عنها القطةُ السوداء."
حاول آجوو أن يصدق جومو، في أنه كان يقرأ ما لا داعي له في أفعال الماما، حتى خطا داخل المطبخ في المساء التالي، بعدما نقَّى حديقة الأعشاب، ثم رأى الذبابات في كتلة الرغوة جوار الحوض. النافذة كانت شبه مفتوحة. لم ير كم كثافة الذباب، أكثر من مائة ذبابة خضراء سمينة، استطاعت أن تدخل عبر هذا الشق النحيل لكي تطنَّ معًا في غيمة كثيفة هائجة. هذه إشارة لشيء فظيع. أسرع آجوو لغرفة المكتب لينادي السيد.
"غريب جدًّا،" قال السيد؛ خلع نظارته ثم وضعها ثانية. "أنا واثق أن بروفيسور إيزيكا لديه تفسير، هو لون من سلوك الهجرة. لا تغلق النافذة لكي لا تحبسها."
"لكن يا صاح،" قال آجوو بمجرد أن دخلت والدة السيد المطبخ.
"الذباب يفعل ذلك أحيانًا،" قالت. "هذا طبيعي. "سوف يمضي لحاله بنفس الطريقة التي دخل بها." كانت متكئة إلى الباب وبصوتها نبرة نصر واضحة.
"نعم، نعم." استدار السيد ليعود إلى مكتبه. "شاي، يا رجلي الطيب."
"حاضر يا صاح." لم يفهم آجوو كيف استطاع السيد أن يكون رابط الجأش هكذا، كيف لم ير الذباب شيئًا غير طبيعي إطلاقًا. قال وهو يدخل غرفة المكتب حاملاً صينية الشاي: "صاح، تلك الذبابات تخبرنا عن شيء."
أومأ السيد للمائدة. "لا تصب. اتركه هناك."
"تلك الذبابات في المطبخ يا صاح، هي علامة على دواء شرير من ديبيا. أحدهم صنع دواء شريرًا." أراد آجوو أن يضيف أنه يعرف من هو، لكنه لم يكن واثقًا كيف سيتقبل السيدُ الكلام.
"ماذا؟" ضاقت عينا السيد وراء النظارة.
"الذباب يا صاح. يعني أن أحدهم صنع دواء سيئًا للبيت."
"أغلقْ الباب واتركني أؤدي بعض العمل يا رجلي الطيب."
"حاضر يا صاح."
حينما عاد آجوو للمطبخ، كان الذباب قد مضى. النافذة كانت كما هي، مفتوحة قليلاً جدًّا، وضوء الشمس الشاحب كان يضيء نصل سكين التخريط على المائدة. كان مترددًا من مس أي شيء؛ الأساطير من حوله كانت قد طلت الأواني والطاسات. لوهلة كان مسرورًا أنه ترك الماما تطهو، لكنه لم يأكل وجبة والسمك المقلي الذي طهته للغداء، لم يأخذ كثيرًا سوى رشفة من نبيذ النخيل الذي تبقى مما قدمه للسيد وضيوفه، ولم ينم جيدًا تلك الليلة. ظل يقظًا مرتجفًا بعينين ملتهبتين دامعتين، متمنيًا أن يتحدث إلى أي شخص بوسعه أن يفهم: جومو، عمته، آنيوليكا. وأخيرُا نهض ودخل المنزل الرئيسي لينفض الغبار عن الأثاث، ليفعل شيئًا خفيفًا بلا تفكير يجعله مشغولاً. اللون ملأ لون الفجر الأرجواني الرمادي المطبخَ بالظلال. أضاء النور بخوف، متوقعًا أن يجد شيئًا. عقارب ربما؛ مثل تلك التي أرسلها أحدهم مرة لكوخ عمه، ليظل عمه يصحو كل يوم لأسابيع فيجد عقارب سوداء غاضبة تزحف نحو التوأم الصغير حديث الولادة. أحد الطفلين قد لُدغ وكاد يموت.
نظف آجوو رفوف الكتب أولاً. أزال الأوراق من على طاولة المنتصف وكان ينحني لينفض عنها التراب حينما فُتح باب غرفة نوم السيد. ألقى نظرة على الممر، مندهشًا من أن السيد قد صحا مبكرًا هكذا. لكنها كانت آمالا التي خرجت من الغرفة. كان الممر معتمًا والتقت عيناها الفزعتان بعيني آجوو الأكثر فزعًا فتوقفت للحظة قبل أن تسرع نحو غرفة الضيوف. كانت عباءتها محلولة على صدرها. لملمتها بيد واندفعت داخلة باب غرفة الضيوف تدفعه كأنما نسيت كيف يُفتح. آمالا، آمالا الهادئة العادية الشائعة، نامت في غرفة السيد! وقف آجوو ساكنًا محاوِلاً أن يسترد عقله الذي يدور بعنف حتى يقدر أن يفكر. دواء الماما قد فعل هذا، كان واثقًا، لكن قلقه لم يكن حول ماذا حدث بين السيد وبين آمالا. قلقه كان حول ماذا سيحدث إذا ما اكتشفت أولانا ذلك.

(20)

جلست أولانا مقابل أمها في غرفة المعيشة بالدور العلوي. تسميها أمُّها قاعة السيدات، لأنها حيث تتسلي صديقاتها، حيث يضحكن وتنادي كل منهن الأخرى بلقبها— فن! ذهب! يوجوديا!—ويتكلمن عن التي ابنها يثير مشاكل مع النساء في لندن بينما رفقاؤه يبنون بيوتًا في وطن آبائهم، وعن مَن اشترت دانتيلا محلية وحاولت أن تمررها بوصفها آخر صيحة في أوروبا، وعمن حاولت أن تخطف زوج فلانة، وعمن استوردت أثاثًا فاخرًا من ميلانو. والآن، رغم كل هذا، كانت الغرفة بكماء. حملت أمها كأس ماء تونيك بيد ومنديلا بالأخرى. كانت تبكي. كانت تحكي لأولانا عن عشيقة أبيها.
"لقد اشتري لها منزلا في إيكيجا،" قال أمها. "صديقتي تسكن في نفس الشارع."
لاحظت أولانا الحركة الرقيقة ليد أمها وهي تجفف عينيها. كان مثل الحرير، المنديل؛ ربما لا يمكن أن يمتص الدمع جيدًا.
"هل تكلمتِ معه؟" سألت أولانا.
"ماذا أقول له؟ جوا يا جيني؟" وضعت أمها الكأس. لم ترشف منه منذ أن جلبته لها إحدى الخادمات في صينية من الفضة. "ليس هناك ما أقوله له. فقط أريدك أن تعرفي ماذا يحدث حتى لا يقولوا إنني لم أخبر أحدًا."
"سوف أتكلم معه،" قالت أولانا. هذا ما كانت تريده أمها. كانت قد عادت من لندن منذ يوم، وكان البريق المحتمل بعدما رأت طبيب النساء من كينجستون قد خمد بالفعل. بالفعل لم تستطع أن تتذكر الأمر الذي ملأها بعد قال إنه لا شيء بها وأن عليها فقط— كان يغمزها— أن تعمل بجد. بالفعل كانت قد تمنت أن تعود إلى نسوكا.
"أسوأ ما في الأمر هو أن المرأة من الرعاع الدهماء،" قال أمها، وهي تلوي المنديل. "نعجة من يوروبا من منطقة الغابات لها طفلان من رجلين مختلفين. سمعت أنها عجوز ودميمة."
نهضت أولانا. كأنما شكل المرأة يهم. كأنما "عجوز" و"دميم" لا يصفان أباها أيضًا. ما أزعج أمها ليس العشيقة في ذاتها، كانت تعلم، لكن المغزى من وراء ما فعل أبوها: شراء منزل للعشيقة في مجاورة سكنية حيث يسكن صفوة لاجوس.
"ربما علينا أن ننتظر زيارة كاينين حتى تتكلم مع أبيك بدلا منكِ، نني؟" قالت أمها، وهي تجفف عينيها ثانيةً.
"قلتُ سأكلمه يا ماما،" قالت أولانا.
لكن في ذلك المساء، وهي تدخل غرفة أبيها، اكتشفت أن أمها كانت على حق. كاينين كانت أفضل مَن يفعل ذلك. تعرف كاينين بالضبط ماذا تقول ولن تشعر بالحمق الغريب الذي تشعر به الآن، أما كاينين بزواياها الحادة ولسانها اللاذع وثقتها المهولة بالنفس.
"بابا،" قالت وهي تغلق الباب وراءها. كان على مكتبه، جالسًا بظهر مستقيم على مقعده المصنوع من الخشب الأسود. لم تقدر أن تسأله ما إذا كان الكلام صحيحًا، لأنه يعلم أن أمها تعلم أنها حقيقة وبالتالي فهي تعلم. تساءلت، للحظة، عن تلك المرأة الأخرى، كيف تبدو، فيم تتكلم هي وأبوها.
"بابا،" قالت من جديد. سوف تتكلم بالإنجليزية غالبًا. من الأسهل بالإنجليزية أن تكون رسمية وباردة. "أتمنى أن تبدي بعض الاحترام لأمي." لم يكن هذا ما نويتْ أن تقوله. أمي، بدلا من ماما، بدا هذا كأنما كانت قد قررت أن تُقصيه، كأنما أصبح غريبًا يمكن أيضًا مناداته على النحو نفسه: أبي.
انحني في مقعده إلى الخلف.
"ليس من الاحترام أن يكون لك علاقة مع هذه المرأة وأنك قد ابتعت لها منزلاً حيث تسكن صديقات أمي،" قالت أولانا. "تذهب إلى هناك من عملك وسائقك يصف السيارة بالخارج وأنت لا تعبأ بهؤلاء اللواتي يرونك. هذه صفعةٌ على وجه أمي."
كانت عينا والدها مسدلتين الآن، عينا رجل يلملم شتات عقله.
"لن أخبرك عما تفعل إزاء ذلك، لكنك يجب أن تفعل شيئًا. أمي ليست سعيدة." ركزت أولانا على "يجب"، وأكسبتها نبرة توكيد مبالغًا فيها. لم تتكلم مع أبيها هكذا من قبل، هي نادرًا ما تتكلم معه على كل حال. وقفت هناك تحملق فيه، ويحملق فيها، وكان الصمت بينهما خاويًا.
"آنيوجو م، لقد استمعتُ إليكِ،" قال. لهجته الإيبو كانت منخفضة، متآمرةً، كأنما قد سألته أن يستمر في خداع أمها لكن أن يفعل ذلك ببعض مراعاة الشعور. أغضبها هذا. ربما كان هذا، بالفعل، ما سألته أن يفعله لكنها مع ذلك ظلت منزعجة. نظرت في أرجاء غرفته وفكرت كم يبدو سريره العريض غير مألوف؛ لم تكن قد رأت من قبل ظلال بريق الذهب ذاك في ملاءة سرير أو لاحظت كم تعقيد التواءات المقابض المعدنية في دولاب أدراجه. هو ذاته بدا غريبًا عنها، رجل بدين لم تكن تعرفه.
"هل هذا هو كل ما يجب أن تقوله، أنكَ قد سمعتني؟" سألت أولانا رافعةً صوتها.
"ماذا تريدينني أن أقول؟"
شعرت أولانا فجأة بالشفقة عليه، وعلى أمها، وعلى نفسها وعلى كاينين. ودت أن تسأله لماذا كانوا جميعهم غرباء يتشاركون اسم اللقب ذاته.
"سوف أفعل شيئًا حيالَ ذلك،" أضاف. نهض ومشى نحوها. "شكرا أوللا م،" قال.
لم تدرِ ماذا تفعل بشكره لها، ولا بندائه إياها بـ يا ذهبي ، الشيء الذي لم يفعله منذ كانت طفلة والذي بدت به الآن قداسة مفتعلة. استدارات وغادرت الغرفة.

حينما سمعت أولانا صوت أمها العالي في الصباح التالي—"لا يصلح لشيء! رجل غبي!"—أسرعت تنزل الدرج. تخيلتهما يتشاجران، أمها تقبض على مقدمة قميص أبيها في قبضة محكمة كما تفعل النساء عادة للأزواج الخائنين. كانت الأصوات قادمة من المطبخ. وقفت أولانا عند الباب كان رجل يركع أمام أمها ويداه مرفوعتان لأعلى، راحتا كفيه لأعلى في ضراعة.
"مدام، من فضلك يا سيدتي من فضلك."
استدارت أمها للخادم ماكسويل الذي كان واقفًا ينظر. "آي فوجو؟ هل يظن أننا استخدمناه لكي يسرقنا يا ماكسويل؟"
"لا يا ماه،" قال ماكسويل.
استدارت الأمُّ مجددًا إلى الرجل الراكع على الأرض. "وإذًا هذا ما كنت تفعله منذ جئت هنا، أيها الرجل عديم الفائدة؟ أجئت هنا لتسرقني؟"
"سيدتي من فضلك؛ مدام، رجاء. أستعين بالله لأتوسل إليكِ."
"ماما، ما هذا؟" سألت أولانا.
استدارت أمها. "أوه، نني، لم أكن أعرف أنكِ استيقظت."
"ما هذا؟"
"إنه هذا الحيوان المتوحش. لقد استخدمناه الشهر الماضي فقط، ويريد أن يسرق كل شيء في بيتي." استدارت مجددًا للرجل الراكع. "هكذا ترد الجميل للناس الذين منحوك وظيفة؟ رجل غبي!"
"ماذا فعل؟" سألت أولانا.
"تعالي وانظري." قادتها أمها للخارج إلى الفناء الخلفي حيث دراجة متكئة إلى شجرة المانجو. وجوال قماشيّ ساقطٌ من المقعد الخلفي، والأرز منسكب على الأرض.
"سرق أرزي وكان على وشك الذهاب إلى بيته. برحمة الله فقط سقط الجوال. من يدري ماذا سرق مني أيضًا في الماضي؟ لا عجب أنني كنت أبحث عن بعض عقودي." كانت أمها تتنفس بسرعة.
حملقت أولانا في حبوب الأرز على الأرض وتساءلت كيف أجهدت أمها نفسها هكذا من أجل بعض الأرز كأنما بالفعل صدقت أمها نفسها بأنها اِنتُهكت.
"يا خالة، أرجوكِ توسلي لسيدتي. إنه الشيطان هو الذي جعلني أفعل ذلك." كانت يدا السائق الضارعتان في مواجهة أولانا الآن. "أرجوكِ اشفعي لي عند السيدة."
أشاحت أولانا عن وجه الرجل ذي العينين الصفراوين؛ كان أكبر سنًّا مما ظنت من قبل، قطعًا فوق الستين. "انهضْ،" قالت.
بدا غير مصدق وهو يسترق النظر إلى الأم.
"قلتُ انهض!" لم تنوِ أولانا أن ترفع صوتها، لكن صوتها خرج حادًّا. وقف الرجل على نحو أخرق، وعيناه مسدلتان.
"ماما، إذا كنت ستصرفينه من الخدمة، فاصرفيه ودعيه يمضي فورًا،" قالت أولانا.
راح الرجل يلهث، كأنما غير متوقع أن تقول ذلك. بدت الأم مندهشة أيضًا ونظرت إلى أولانا، ثم إلى الرجل، ثم إلى ماكسويل، قبل أن تُنزل يدها الموضوعة على مؤخرتها. "سأعطيك فرصة أخرى، لكن إياك أن تلمس أي شيء آخر في هذا البيت إلا إذا سُمح لك. هل تسمعني؟"
"نعم يا مدام شكرًا لكِ يا سيدتي. بارك الله فيك يا مدام."
كان الرجل ما يزال ينشد تشكراته حينما تناولت أولانا ثمرة موز من على الطاولة وغادرت المطبخ.
حكت لأودينيجو القصة في الهاتف، وكيف أحبطها أن ترى رجلا عجوزًا يهين نفسه هكذا، وكيف أنها واثقة أن أمها سوف تطرده لكن فقط بعد ساعة من استمتاعها بزحفه وبتشفيها الذي تراه مشروعًا. "لم تكن أكثر من أربعة فناجين من الأرز،" قالت.
"لكنها تظل سرقة يا نكيم."
"أبي وأصدقاؤه السياسيون يسرقون المال في عقودهم، لكن لا أحد يجعلهم يركعون للتوسل من أجل المغفرة. ويبتنون المنازل بأموالهم المسروقة ويؤجرونها للناس من أمثال هذا الرجل ويتقاضون أجورًا باهظة ما يجعل من المستحيل أن يشتروا الطعام."
"لا تستطيعين أن تبرري السرقة بالسرقة." بدا أودينيجو مكتئبًا على نحو غريب؛ كانت تتوقع أن ينفجر لهذا الظلم.
"هل عدم التكافؤ يعني انعدام الكرامة؟" سألت.
"غالبًا يعني ذلك."
"هل أنت بخير؟"
"أمي هنا. لم يكن لدي فكرة بمجيئها."
لا عجب أن يبدو هكذا. "هل ستغادر قبل الثلاثاء؟"
"لا أعرف. كنت أتمنى أن تكوني هنا."
"أنا سعيدة أنني لست هناك. هل تكلمتما بشأن كسر تعويذة الساحرة المثقفة."
"سوف أخبرها قبل أن تقول أي شيء أنه ليس هناك ما يُناقش."
"ربما تهدئها لو أخبرتها أننا نحاول أن ننجب طفلاً. أمْ سوف تفزعُ هي من فكرة أن أنجب لكَ طفلاً؟ بعض جينات السحر قد تنتقل إلى حفيدها على كل حال."
تمنت أن يضحك أودينيجو، لكنه لم يفعل. "لا أستطيع أن أنتظر إلى الثلاثاء،" قال بعد برهة.
"لا أستطيع أن أنتظر أيضًا،" قالت. "اخبرْ آجوو أن يهوِّي سجادة غرفة النوم."
تلك الليلة، حينما دخلت أمها غرفتها، استنشقت أولانا عطر زهرة كلوي، شذا طيب، لكنها لم تفهم أن على المرء أن يضع عطرًا وهو ذاهب إلى الفراش. لدى أمها العديد من قوارير العطور؛ مصطفةً على تسريحتها مثل رف محل: قوارير ملفتة للنظر، متناقضة، قوارير مستديرة. تضعها حتى وهي ذاهبة للنوم كل ليلة، لا تقدر أمها على استهلاكها في خمسين سنة.
"شكرًا لك يا نني،" قالت. "أبوك يحاول الآن أن يصنع ترضيات."
"حسنًا." لم تشأ أولانا أن تعرف ماذا فعل أبوها لكي يقدم ترضيات لكنها شعرت بإحساس شاذ بأنه إنجازٌ أن تتحدث إلى والدها مثل كاينين، أن تجعله يفعل شيئًا، أن تكون مفيدةً.
"مسز نويزو سوف تتوقف عن مهاتفتي لتخبرني أنها رأته هناك،" قالت أمها. "قالت أشياء خبيثة ذلك اليوم عن الناس الذين رفضت بناتهم الزواج. أظنها كانت تقذفني بالكلام لترى ما إذا كنت سأرد إليها كلماتها. ابنتها تزوجت العام الماضي ولم يقدروا أن يتحملوا الأعباء المادية لاستيراد أي شيء لزفافها. حتى فستان العرس صُنع هنا في لاجوس!" جلست الأم. "بالمناسبة، هناك من يريد لقاءكِ. تعرفين عائلة إيجوي أونوتشي؟ ابنهم مهندس. أظن أنه رآك في مكان ما، وهو مهتم جدًّا."
تثاءبت أولانا ومالت للوراء لتستمع إلى أمها.

عادت إلى نسوكا في منتصف ما بعد الظهر، في تلك الساعة الساكنة حيث الشمس لم تَلِن بعد والنحلات تحطُّ في هدوء بعد طول إجهاد. سيارة أودينيجو كانت في الجراج. فتح آجوو الباب قبل أن تطرقه، قميصه غير مزرر، وبقعُ عرق تحت ذراعيه. "مرحبًا يا ماه،" قال.
"آجوو."افتقدتْ ابتسامةَ وجهه الوفيّ. "أنو آنوكوا أوفيوما؟ هل أنت بخير؟"
"نعم يا ماه،" قال، وخرج لإحضار حقائبها من التاكسي.
دخلت أولانا. افتقدت رائحة المنظف الخفيفة التي تشع من غرفة المعيشة بعدما ينظف آجوو النوافذ.
لأنها كانت قد تخيلت أن والدة أودينيجو بالفعل قد غادرت، أحبطت حين رأتها على الأريكة، مرتدية ثيابها، تجاهد مع حقيبة. في حين تقف آمالا قريبة تحمل صندوقًا معدنيًّا صغيرًا.
"نكيم!" قال أدوينيجو مسرعًا نحوها. "جميل أن عدتِ! جميل جدًّا!"
حينما تعانقا، لم يرتخ جسده الملتصق بجسدها والضغطة المقتضبة من شفتيه على شفتيها كانت هشة. "ماما وآمالا كانتا على وشك الرحيل. سوف أوصلهما إلى موقف السيارات." قال.
"مساء الخير ماما،" قالت أولانا، لكنها لم تأت أية محاولة أن تتقدم.
"أولانا، كيدو؟" قالت الماما. كانت الماما من بادرت بالعناق؛ كانت الماما من ابتسمت بدفء. ارتبكت أولانا لكن شعرت بالسرور. ربما تكلم معها أودينيجو حول كم أن علاقتهما جادة، وعن تخطيطهما أن ينجبا طفلاً وهو ما جعلهما أخيرًا يكسبان الماما في صفهما.
"آمالا، كيف حالك؟" قالت أولانا. "لم أكن أعرف أنك أتيت أيضًا."
"مرحبًا خالة،" تمتمت آمالا وهي مُطرقة.
"هل أحضرت كل شيء؟" سأل أودينيجو أمه.
"هيا نمضي. هيا."
"هل أكلتِ يا ماما." سألت أولانا.
"مازالت وجبة الصباح ثقيلة في معدتي،" قالت الماما. كانت لها نظرة متأملة مبتهجة في وجهها.
"يجب أن نذهب الآن،" قال أودينيجو. لدي مباراة في جدول يومي فيما بعد.
"وماذا عنكِ يا آمالا؟" سألت أولانا. وجه الماما المبتسم جعلها فجأة تريدهما أن تمكثا أكثر. "أرجو أن تكوني قد أكلتِ شيئًا."
"نعم يا خالة شكرًا لك،" قالت آمالا، وعيناها مركزتان على الأرض.
"اعطِ آمالا المفتاح لتضع الأشياء في السيارة،" قالت الماما لأودينيجو.
تحرك أودينيجو نحو آمالا، لكن وقف بعيدًا قليلا حتى أنه اضطر لمد يده ويطيل ذراعه ليعطيها المفتاح. أخذت المفتاح من بين أصابعه بعناية؛ لم يلمس أحدهما الآخر. كانت لحظة موجزة، مارقةً وهاربة، لكن أولانا لاحظت مقدار حرصهما في تجنب أي تماس، أي اتصال بشْرة، كأنما كانا متوحدين بمعرفةٍ مشتركة أبدية حتى أنهما قرّرا ألا يتحدا بأي شيء آخر.
"كونا بخير،" قالت. شاهدت السيارة وهي تخطو خارج المجاورة السكنية وتقف هناك، وراحت تقول لنفسها إنها أخطأت؛ لم يكن هناك ما يقلق في تلك الإيماءة. لكنها أزعجتها. شعرت بشيء مماثل لما كانت قد شعرت به وهي تنتظر أخصائي النساء والتوليد؛ مقتنعة أن شيئًا ما خطأ بجسمها لكنها تود أن يخبرها أن كل شيء على ما يرام.
"ماه، هل ستأكلين؟ هل أدفئ الأرز؟" سأل آجوو.
"ليس الآن." للحظة ودت أن تسأل آجوو إذا كان أيضًا قد لاحظ الحركة، إن كان قد لاحظ أي شيء.
"اذهبْ وانظرْ إذا كان الأفوكادو قد نضج."
"حاضر يا ماه." تردد آجوو قليلاً قبل أن يذهب.
وقفت على الباب الأمامي حتى عاد أودينيجو. لم تكن واثقة ما الذي يعنيه هذا الطحنُ في معدتها، والتسارع في صدرها. فتحت الباب وراحت تفتش في وجهه.
"هل حدث أي شيء؟" سألت.
"ماذا تعنين؟ كان يحمل بعض الجرائد في يده. "أحد تلاميذي فاته الامتحان الأخير، ، فجاءني هذا الصباح وعرض على بعض المال لكي أجعله ينجح، الجاهل."
"لم أكن أعلم أن آمالا جاءت. مع الماما،" قالت.
"نعم،" بدأ يرتب الجرائد، متجنبًا عينيها. وببطء جثمت الصدمة على أولانا.. لقد عرفت. عرفت من الحركات الصاخبة التي صنعها، من الفزع في وجهه، من طريقته المتلهفة أن يبدو طبيعيًّا من جديد، عرفت أن شيئًا لم يكن يجب أن يحدث قد حدث.
"لقد لمستَ آمالا،" قالت أولانا. لم يكن سؤالاً، على أنها انتظرته أن يجيب كأنما كان سؤالاً؛ كانت تريده أن يقول "لا" ويُحبَط منها لأنها فكرت هكذا. لكن أودينيجو لم يقل شيئًا. جلس على مقعده ذي المتكئين ونظر إليها.
"أنتَ لمستَ أولانا،" كررت أولانا. سوف تتذكر دائمًا تعبيره، وهو ينظر إليها كأنما لم يكن يتخيل مطلقًا هذا المشهد ومن ثم لا يعرف كيف يفكر في التفكير في ماذا يقول أو ماذا يفعل.
استدارات نحو المطبخ وكادت تسقط جوار طاولة الغداء لأن الثقل في صدرها كان عظيمًا، لا يناسب حجمها.
"أولانا،" قال.
تجاهلته. لم يكن ليذهب وراءها لأنه كان مرتعبًا. ممتلئا بالخوف والشعور بالذنب. لم يركب سيارتها فورًا وتذهب إلى شقتها. بدلا من ذلك، خرجت وجلست على درجات الفناء الخلفي وراحت تراقب دجاجة جوار شجرة الليمون، ترعى ستة كتاكيت، تلكزهم نحو فتات على الأرض. كان آجوو يقطف الأفوكادو من الشجرة التي جوار مأوى الأولاد. لم تكن واثقة كم مضت من الوقت جالسةً هناك قبل أن بدأت الدجاجة تصيح عاليًا وتبسط جناحيها لكي تحمي صغارها، لكن الكتاكيت لم تهرب نحو الحظيرة بسرعة كافية. انقضّت حداءةٌ واختطفت واحدًا منها، كتكوتًا أبيض في بُني. كانت سريعة للغاية، هبوط الحداءة ثم انزلاقها بعيدًا بالكتكوت المقبوض عليه بين مخالبها المعقوفة، حتى أن أولانا فكرت أنها ربما تخيلت المشهد. لكن لا يمكنها أن تكون قد تخيلت الأمر، لأن الدجاجة ظلت تجري في دوائر، وهي تصيح، وتثير عواصف من التراب. وبدت الكتاكيت الأخرى مذهولة. نظرت إليهم أولانا وتساءلت ما إذا كانت الكتاكيت تفهم رقصة أمهم الجنائزية. ثم، أخيرًا، بدأت في البكاء.

راحت الأيام المشوشة تزحف داخل بعضها. أولانا سجينةُ الأفكار والمهام. حينما زارها أودينيجو في شقتها لم تعرف هل تدعه يدخل أم لا. لكنه طرق الباب وطرق ثم قال: "نكيم، من فضلك افتحي، بيكو، أرجوك افتحي،" حتى فتحت. جلست ترشف بعض الماء وهو يحكي لها أنه كان ثملاً، حينما أقحمت آمالا نفسها عليه، وأنها لم تكن سوى رغبة طائشة عابرة. بعد ذلك سألته أن يخرج. كان مُزعجًا أن يظل واثقًا من نفسه بما يكفي ليسمي ما فعله رغبة طائشة عابرة. كرهت هذا التعبير وكرهت صلابة نبرة صوته في المرة التالية حين جاء ليقول لها: "هذا لا يعني شيئًا نكيم، لا شيء." الذي يهمها ليس ما يعنيه الحدث بل الذي حدث: نومه مع خادمة أمه القروية بعد ثلاثة أسابيع فقط بعيدًا عنها. بدا الأمر سهلاً جدًّا، الطريقة التي كسر بها ثقتها فيه. قررت أن تذهب إلى كانو لأنها، إذا ما كان هناك مكان تقدر أن تفكر فيه بهدوء، سيكون المكان هو كانو.
رحلتها توقفت في لاجوس أولا، وبينما تجلس تنتظر في صالون المطار أسرعت للداخل امرأة نحيلة طويلة. نهضت وكادت تنادي كاينين! ثم اكتشفت أنها لا يمكن أن تكون هي. كانت كاينين أغمق بشرة من هذه المرأة ولا يمكن أن ترتدي قميصًا أخضر مع بلوزة حمراء. تمنت جدًّا أن تكون كاينين. كانتا ستجلسان جوار بعضهما وتحكي لها أولانا عن أودينيجو وكاينين سوف تقول شيئًا ذكيًّا وساخرًا ومريحًا في آن.
في كانو كانت آريزي غاضبة مهتاجة.
"حيوان متوحش من آبا. قضيبه المتعفن سوف يقع قريبًا. أليس يعلم أن عليه أن يستيقظ كل صباح ليركع ويشكر الرب أنكِ أصلاً نظرتِ إليه؟" قالت، وهي تعرض على أولانا رسومات لعباءات عرس. تقدم نناكوانزي أخيرًا لطلب الزواج. نظرت أولانا إلى الرسومات. وفكرت أن جميعها قبيحة ومعقدة التصميم، لكنها كانت مسرورة جدًّا بالغضب الذي اشتعل بالنيابة عنها حتى أنها أشارت إلى أحد التصميمات وتمتمت: "أوو مالا. هذا جميل."
لم تقل الخالة إيفيكا شيئًا عن أودينيجو حتى مرت بضعة أيام. كانت أولانا جالسة معها في الفيراندا؛ الشمس قاسية والمظلة الزنك تطقطق كأنما تعترض. لكن الجو كان ألطف هنا عنه في المطبخ الممتلئ دخانًا، حيث كانت ثلاث جارات يطبخن في الوقت نفسه. كانت أولانا تهوي على نفسها بورقة شجرة منبسطة. وامرأتان واقفتان جوار البوابة، واحدة تصرخ بالإيبو—"قلتُ اعطيني نقودي اليوم! تاتا! اليوم، وليس غدًا! لقد سمعتني أقول ذلك لأنني لا أتكلم وفي فمي ماء!"— بينما الأخرى تومئ إيماءات دفاع بيديها وتنظر صوب السماء.
"كيف حالك؟" سألت الخالةُ إيفيكا. كانت تعجن في هاون خليطًا من الطحين والماء مع مسحوق الفول.
"أنا بخير يا خالة. أنا أفضل لأنني هنا."
مدت الخالة إيفيكا يدها لتلتقط من العجين حشرة سوداء. حركت أولانا مروحتها أسرع. صمت الخالة جعلها تريد أن تقول المزيد.
"أظن أنني سأؤجل برنامجي في نسوكا وأبقى هنا في كانو،" قالت. "بوسعي أن أدرّس لبعض الوقت في المعهد."
"لا." وضعت الخالة إيفيكا العجين جانبًا. "مبا. سوف تعودين إلى نسوكا. أليس لديك هناك شقتك الخاصة ووظيفتك الخاصة؟ لقد فعل أودينيجو ما يفعله كل الرجال فأدخل قضيبه في أول ثقب وجده حينما كنتِ بعيدة. هل هذا يعني أن شخصًا ما قد مات؟"
أوقفت أولانا المروحة وشعرت ببلل العرق على فروة رأسها.
"حينما تزوجني خالك، كنت قلقة لأنني ظننت أن أولئك النسوة بالخارج سوف يأتون ويأخذون مكاني بالبيت. الآن أعرف أن لا شيء يفعله سوف يغير حياتي. حياتي ستتبدل فقط إذا ما أردت أنا أن أبدلها."
"ماذا تقولين يا خالة؟"
"هو الآن حريصٌ جدًّا، حينما أدرك أنني لم أعد خائفة. لقد أخبرته أنه إذا جلب الخزي لي على أي نحو، سوف أقطع ذلك الثعبان بين فخذيه."
عاودت الخالة إيفيكا تقليبها، وبدأت صورة زواجهما في عقل أولانا تتشظى.
"يجب أبدًا ألا تسلكي كأن حياتك تنتمي إلى رجل. هل تسمعينني؟" قالت الخالة إيفيكا. "حياتك تنتمي إليكِ إليك وحدك، سوسو جي. سوف تعودين يوم السبت. دعيني أسرع وأعد لك بعض آباشا لتأخذيها معك."
تذوقت قليلاً من العجين ثم بصقته.

غادرت أولانا يوم السبت. الرجل الجالس جوارها في الطائرة، عبر الممشى، كان له أكثر البشرات الأبنوسية سطوعًا وسوادًا مما رأته في حياتها. كانت قد لحظته مبكرًا في بذلته الصوفية ذات القطع الثلاث ، ينظر إليها وهم ينتظرون في قاعة المطار. عرض أن يساعدها في حمل الحقيبة، وفيما بعد سأل المضيفة إذا كان بوسعه أن يأخذ المقعد المجاور لها بما أنه كان شاغرًا. والآن قدم لها جريدة "النيجيري الجديد" وسألها: "هل تودين قراءتها؟" كان يضع خاتمًا ضخما من الأوبال في إصبعه الوسطى.
"نعم، شكرًا لك." أخذت أولانا الجريدة. مرت على الصفحات وهي مدركة أنه يراقبها وأن جريدته كانت طريقته لبدء الحديث. وفجأة تمنت لو أنها قد انجذبت إليه، لو أن شيئًا مجنونًا وسحريًّا يحدث لكليهما، وحينما تهبط الطائرة، تمشي ويدها في يده، على جسر جديد من الحياة.
"أخيرا أزالوا نائب رئيس الجامعة الإيبو من جامعة لاجوس." قال.
"أوه."
"الخبر مكتوب في الصفحة الأخيرة."
قلبت أولانا الجريدة. "نعم."
"لماذا يجب أن يكون رجل من الإيبو نائبًا لرئيس الجامعة في لاجوس؟" سأل، وفيما أولانا لم تقل شيئًا، فقط نصف ابتسامة لتظهر أنها تنصت، أضاف: "المشكلة مع الإيبو هي أنهم يريدون أن يسيطروا على كل شيء في هذه البلد. كل شيء. لماذا لا يمكثون في شرقهم؟ إنهم يمتلكون كل المحال؛ يسيطرون على الخدمات المدنية، حتى البوليس. إذا تم القبض عليك لأية جريمة، طالما تقدرين أن تقولي كيدا سوف يطلقون سراحك."
"نحن نقول كيدو، وليس كيدا،" قالت أولانا بهدوء. "وهي تعني: كيف حالك؟"
حدّق الرجلُ فيها وهي حدّقت فيه وراحت تفكر كيف سيكون جميلاً لو أنه كان امرأة، بتلك البشرة اللامعة السوداء المتقنة.
"هل أنتِ إيبو؟" سألها.
"نعم."
"لكن لك وجه شعب فلواني." بدا كأنه يتهمها.
هزت أولانا رأسها. "إيبو."
تمتم الرجل بشيء يشبه آسف قبل أن يستدير بعيدًا لينظر في حقيبة أوراقه. حينما ناولته الجريدة، بدا مترددًا في أخذها، وبالرغم من أنها كانت ترمقه بنظرة بين الحين والآخر، إلا أن عينيه لم تلتقيا بعينيها بعد ذلك حتى هبطا في لاجوس. لو أنه فقط يعرف أن تحيّزه قد ملأها بالاحتمالات. ليس عليها أن تكون امرأة مجروحة نام رجلُها مع فتاة قروية. كان بوسعها أن تكون امرأة من فلواني في طائرة تستهزئ بالإيبو مع غريب حسن المظهر. كان بوسعها أن تكون امرأة تدير شؤون حياتها الخاصة. بوسعها أن تكون أي شيء.
بينما يسيرون ليغادروا، نظرت إليه وابتسمت لكن منعت نفسها من أن تقول شكرًا لك لأنها أرادت أن تتركه وهو محتفظ بدهشته وندمه البكر.

استأجرت أولانا شاحنةً صغيرة وسائقًا وذهبت إلى منزل أودينيجو. تبعها آجوو وهي تجمع الكتب وتشير إلى أشياء لكي يأخذها السائق إلى الشاحنة.
"إن السيد يبدو مثل شخص ظل يبكي نهارًا كاملاً يا ماه،" قال آجوو بالإنجليزية.
"ضع خلاطي في صندوق،" قالت. بدت كلمة "خلاطي" غريبة؛ كان دائمًا يدعى "الخلاط"، غير معرّف بملكيتها له.
"حاضر يا ماه." ذهب آجوو إلى المطبخ وعاد بكرتونة صغيرة. أمسكها في تردد. "ماه، أرجوكي سامحي السيد."
نظرت إليه أولانا. كان يعلم؛ لقد رأى تلك المرأة تشارك سيده الفراش؛ هو أيضًا خانها. "أوزيزو! ضع خلاطي في السيارة!"
"حاضر يا ماه." استدار آجوو للباب.
"هل مازال الضيوف يأتون في الأمسيات؟" سألت أولانا.
"ليس مثل فيما مضى حينما كنتِ هنا يا ماه."
"لكنهم مازالوا يأتون."
"نعم."
"وسيدك مازال يلعب التنس ويذهب إلى نادي هيئة التدريس؟"
"نعم."
"جيد." لم تكن تعني ذلك. كانت تود أن تسمع أن أودينيجو لم يقدر أن يعيش الحياة التي كانت لهما معًا.
حينما زارها حاولت ألا تشعر بخيبة الرجاء لأنه كان يبدو عاديًّا. وقفت عند الباب وأعطت إجابات مبهمة ممتعضة على طلاقة لسانه السهلة، حول كيف قال عرضًا: "تعرفين أنني لن أحب أبدًا امرأة أخرى يا نكيم،" كأنما كان واثقًا أنه، مع الوقت، سيعود كل شيء كما كان. امتعضت أيضًا من الاهتمام الرومانتيكي من الرجال الآخرين. الرجال العُزّاب الذين يتوقفون ببابها، والمتزوجون الذين يصطدمون بها وهي خارج شقتها. تحرشهم بها كان يحبطها لأنهم يفترضون أن علاقتها بأودينيجو قد انتهت نهائيًّا. "لستُ مهتمة،" كانت تقول لهم، وحتى حين تقولها، كانت ترجو ألا يصل الأمر لأودينيجو لأنها لم ترد أن يظن أنها تتوق. وهي لا تتوق: لقد أضافت مواد جديدة لمحاضراتها، طبخت وجبات معقدة، قرأت كتبًا جديدة، اشترت اسطوانات جديدة. أصبحت سكرتيرة لرابطة القديس فينسينت باول، وبعدما تبرعوا بالطعام للقرية كتبت اجتماعاتهم في كراستها. زرعت نبات الزنيا في فنائها الأمامي، وأخيرًا، زرعت صداقة مع جارتها الأمريكية السوداء، إيدنا وولر.
كان لإيدنا ضحكة هادئة. تُدرّس الموسيقى وتلعب الجاز قليلاً وتطهو رقائق لحم الخنزير وتتكلم كثيرًا عن الرجل الذي تركها قبل أسبوع من زفافهما في مونتجمري وعن خالها الذي أُعدم دون محاكمة وهي طفلة. "هل تعرفين ما الذي يدهشني دائمًا؟" كانت تسأل أولانا، كأنما لم تكن أخبرت أولانا قبل ذلك بيوم. "هؤلاء المتحضرون البيض الأنيقون ذوو القبعات الذين تجمعوا ليشاهدوا رجلاً أبيض يشنق رجلاً أسود على شجرة."
ثم تضحك ضحكتها الهادئة وتمسح على شعرها، ذي البريق الدُّهني اللامع. أول الأمر لم تتكلما عن أودينيجو. كان منعشًا لأولانا أن تكون مع شخص ما بعيد كل البعد عن دائرة الأصدقاء الذين تشاركت فيهم مع أودينيجو. ثم، مرةً، وبينما إيدنا تغني أغنية بيلي هوليداي "رجلي،" سألت: "لماذا تحبينه؟"
نظرت أولانا إلى أعلى. عقلها كان لوحًا فارغًا. "لماذا أحبه؟"
رفعت إيدنا حاجبيها، وفتحت فمها لكن ليس لتغني كلمات بيلي هولدياي.
"لا أظن أن الحب له سبب،" قالت أولانا.
"بالطبع له سبب."
"أظن أن الحب يأتي أولا ثم تأتي الأسباب. حينما أكون معه، أشعر أنني لا أحتاج أي شيء آخر." أدهشتها كلمات أولانا، لكن الحقيقة المفزعة جلبت الرغبة في البكاء.
كانت إيدنا تراقبها. "لا يمكن أن تظلي تكذبين على نفسك أنكِ بخير."
"أنا لا أكذب على نفسي،" قالت أولانا. صوت بيلي هولدياي الخادش بدأ يزعجها. لم تكن تعلم مدى شفافيتها. ظنت أن ضحكتها المتكررة بدت حقيقية وأن إيدنا لا تعلم أنها تبكي حينما تكون وحيدة في شقتها.
"أنا لست أفضل من يتكلم عن الرجال، لكنك تحتاجين أن تتكلمي حول ذلك مع شخص ما،" قالت إيدنا. "ربما القس، كمقابل لكل الرحلات الخيرية التي تؤدينها لكنيسة القديس فينسينت باول؟"
ضحكت إيدنا وضحكت أيضًا أولانا، لكنها بالفعل كانت تفكر أنها ربما تحتاج أن تتكلم مع شخص ما، شخص ما طبيعي يساعدها أن تعود إلى صوابها، تتعامل مع الغريبة التي أصبحتها. قررت أن تذهب إلى القديس بيتر عدة مرات في الأيام القليلة التالية لكنها كانت تتوقف وتغير رأيها. وأخيرًا، في أصيل يوم اثنين، ذهبت، وهي تقود سيارتها بسرعة، متجاهلة مطبات السرعة، حتى لا تعطي نفسها أية فرصة للتوقف. جلست على مقعد خشبي في مكتب الأب ديمين سيئة التهوية وظلت عيناها، وهي تتكلم عن أودينيجو، مركزتين على خزانة الملفات المكتوب عليه "جمهور المؤمنين".
"لا أذهب إلى نادي الهيئة لأنني لا أريد أن أراه. فقدت اهتمامي بالتنس. لقد خانني وجرحني، لكن يبدو كأنه يدير حياتي."
شد الأب دامين ياقته، وعدّل نظارته، وحكّ أنفه، وتساءلت إن كان يفكر في شيء ما، أي شيء، يفعله بما أنه ليس لديه إجابة لها.
"لم أرك في الكنيسة الأحد الماضي،" قال أخيرًا.
خاب أمل أولانا، لكنه كان قسًّا في النهاية وهذه كانت حلوله: البحث عن الله. كانت تريده أن يجعلها تشعر بأنها أُنصفت، أن يقوّي حقها في الشعور بالأسف على النفس، أن يشجعها أن تحتل قدرًا أكبر من أرض الأخلاق العليا. أرادت أن يدين أودينيجو.
"هل تعتقد أنني يجب أن أذهب للكنيسة أكثر؟" سألت.
"نعم."
أومأت أولانا واحتضنت حقيبتها، استعدادًا لتنهض وتغادر. لم يكن عليها أن تأتي. لم يكن عليها أن تتوقع من متطوع مَخْصي بوجه مستدير في روب أبيض أن يكون في وضع يمكنه من فهم شعورها. كان ينظر إليها، عيناه واسعتان وراء عدستي النظارة.
"أظن أيضًا أنك يجب أن تسامحي أودينيجو،" قال، قم جذب ياقته كأنما كانت تزعجه. لوهلة شعرت أولانا بازدرائه. ما يقوله كان سهلاً جدًّا، ومعروف مسبقًا. لم تكن تحتاج أن تجيء لكي تسمعه.
"أوكي." نهضت. "شكرًا لك."
"ليس من أجله، تعرفين، بل من أجلك أنت."
"ماذا؟" كان ما يزال جالسًا، لذلك نظرت إلى الأسفل كي تلتقي عيناها بعينيه.
"لا تنظري إلى هذا كغفران له. بل انظري إليه كتمكينك أنتِ من أن تكوني سعيدة. ماذا ستفعلين مع التعاسة التي اخترتها؟ هل ستأكلين التعاسة؟"
نظرت أولانا إلى الصليب فوق النافذة، إلى وجه المسيح الساكن في الوجع، ولم تقل شيئًا.

وصل أودينيجو مبكرًا جدًّا، قبل أن تتناول فطورها. كانت تعلم أن ثمة مشكلة ما حتى قبل أن تفتح الباب وترى وجهه المكتئب.
"ماذا هناك؟" سألت، وشعرت برعب حادٍّ من لأمل الذي تسرب داخل عقلها: أنه أمه قد ماتت.
"آمالا حامل،" قال. كانت نبرة صوته ذاتية وقاسية، مثل شخص ينقل أنباء سيئة لأناس آخرين لكنه باق قويًّا بالنيابة عنهم.
قبضت أولانا على مقبض الباب. "ماذا؟"
"جاءت ماما الآن لتخبرني أن آمالا حامل بطفلي."
بدأت أولانا تضحك. ضحكت وضحكت وضحكت لأن المشهد الحاضر، الأسابيع الماضية، بدت فجأة خيالية.
"دعيني أدخل،" قال أودينيجو. "أرجوكِ."
تحركت للوراء. "ادخل."
جلس على حافة المقعد، وشعرت كأنها كانت تلصق من جديد قطعة الخزف الصيني المشظاة فقط لكي تشظيها من جديد؛ الألم لم يكن في التشظي الثاني لكن في إدراك أن محاولة وضع القطع المكسورة معًا كان دون طائل منذ البداية.
"نكيم أرجوك، دعينا نعالج الأمر معًا،" قال. "سوف نفعل ما تريدينه. أرجوكِ دعينا نفعله سويًّا."
ذهبت أولانا إلى المطبخ لكي تُطفئ الموقد عن براد الشاي. عادت وجلست قبالته. "قلتَ أنه حدث مرة واحدة. مرة واحدة وغدتْ حبلى؟ مرةً واحدة؟" تمنت لو لم ترفع صوتها. لكنه كان قويًّا، مهدِّدًا، أن ينام مرة واحدة مع امرأة وهو مخمور ويجعلها حاملاً.
"كانت مرة واحدة،" قال. "مرة واحدة فقط."
"أتفهّم." لكنها لم تكن متفهمة أبدًا. داهمتها الرغبة في صفعه على وجهه، بسبب تلك الذاتية التي شدّد بها كلمة "مرة واحدة" التي جعلت الأمر يبدو حتميًّا، كأنما القضية كم مرة حدث هذا بدلاً من أنه لم يكن يجب أن يحدث أبدًا.
"أخبرتُ ماما أنني سأرسل آمالا إلى د. أوكنكوا في إينجو، وقالت إن هذا سيتم فوق جثتها. قالت إن آمالا سوف تنجب الطفل وإنها ستربيه بنفسها. هناك شابٌّ يعمل حطابًا في أوندو سوف تتزوجه آمالا." وقف اودينيجو. "ماما كانت تخطط ذلك من البداية. فهمت الآن أنها تأكدت من أنني كنت مغرقَ الثمل قبل أن ترسل آمالا لي. أشعر أنني كنت أقع في شيء لم أفهمه أبدًا."
نظرت إليه أولانا، من قمة رأسه إلى أخمص قدميه في الصندل الجلدي، وهي مرتعبة من أنها قدرت أن تشعر بكل انفجار الكراهية هذا لشخص أحبته. "لم يوقعك أحد في أي شيء." قالت.
حاول أن يمسكها لكنها أزاحته بعيدًا وطلبت إليه أن يغادر. وفيما بعد، في الحمام، وقفت أمام المرآة وعصرت بوحشية بطنها بكلتا يديها. الألم يذكرها بكم هي عديمة النفع؛ يذكرها بأن جنينها الآن اتخذ له عُشًا في بطن غريبة بدلاً من بطنها.

طرقت إيدنا طويلاً حتى اضطرت أولانا أن تنهض وتفتح الباب.
"ماذا حدث؟" سألت إيدنا.
"اعتاد جدي أن يقول إن الناس عادة يطلقون الريح لكن إطلاق الريح لديه يطلق البراز دائمًا." قالت أولانا. ودت أن تكون ظريفة، لكن صوتها كان خشنا، مثقلاً بالدمع.
"ماذا حدث؟"
"الفتاةُ التي نام معها حُبلى."
"ماذا دهاكِ؟"
نظرت أولانا بطرف عينها؛ ماذا دهاها؟
"انتبهي لحالك!" قالت إيدنا. "تظنين أنه يقضي اليوم يبكي مثلك؟ حينما تركني ذلك الوغدُ في مونتجمري، حاولتُ قتل نفسي وتعرفين ماذا كان يفعل؟ كان يعزفُ مع فرقة في لويزيانا!" مسحت إيدنا على شعرها بعصبية. "انظري إلى نفسك. أنت أطيب إنسان قابلته. انظري كم جميلة أنت. لماذا تحتاجين ما هو خارج ذاتك؟ لماذا ليس كافيًا ما هو أنت بالفعل؟ أنت ضعيفة للغاية!"
عادت أولانا للوراء؛ الزحف المضطرب للألم والأفكار والغضب الذي كان يضرب بها جعل الكلمات تخرج من فمها بدقة عالية. "ليس ذنبي أن رَجُلك تخلى عنك يا إيدنا."
بدت إدينا مندهشة أول الأمر، ثم مشمئزة، قبل أن تستدير وتغادر الشقة. راقبتها أولانا وهي تمضي، وهي نادمة على قول ما قالت. لكنها مع هذا لن تعتذر. سوف تعطي إيدنا يومًا أو اثنين. شعرت فجأة بالجوع، الجوع القارس؛ كان داخلها قد أُفرِغ من فرط البكاء. لم تترك ما تبقى من أرز جولوف يتدفأ جيدًا بل أكلته كلَّه من الوعاء، ثم شربت زجاجتين بيرة باردتين، ومع هذا لم تشعر بالشبع. أكلت البسكويت في الخزانة وبعض برتقالات من الثلاجة، ثم قررت الذهاب إلى المحل الشرقي لجلب بعض النبيذ.
ابتسمت الامرأتان الواقفتان على مدخل المحل، الهندية في كلية العلوم والمرأة الكليبرية التي تدرس الأنثروبولوجي، وقالتا مساء الخير، فتساءلت ما إذا كانت نظرتاهما الخفيتان تخفيان الشفقة، وإذا ما كانتا تفكران أنها تتساقط مفككة وضعيفة.
كانت تختبر قناني النبيذ حينما جاء ريتشارد إليها.
"ظننتُ أنها أنت،" قال.
"أهلا ريتشارد." لمحت سلَّته. "لم أكن أعرف أنك تتسوق بنفسك."
"ذهب هاريسون إلى بلدته لأيام قليلة،" قال. "كيف حالك؟ هل أنتِ بخير؟"
كرهت الشفقة في عينيه. "أنا بخير جدًّا. لا أقدر أن أقرر أي هاتين أشتري." أومأت إلى قنينتي النبيذ. "لماذا لا أشتري الاثنين وإذا ما شاركتني فيهما نستطيع أن نحدد أيهما أفضل. هل لديك ساعة فراغ؟ أم عليك أن تجري سريعًا لكتابتك؟"
بدا ريتشارد مأخوذًا بتشجيعها. "لا أحب أن أفرض نفسي في الحقيقة."
"بالطبع لن تكون فارضًا نفسك. إضافةً إلى أنك لم تزرني من قبل"— توقفت— "في شقتي."
سوف تستعيد لطفها كالعادة وسوف يحتسيان النبيذ ويتحدثان عن كتابه وعن نباتاتها الزينيا وفن إيبو-أوكوا وإخفاقات الانتخابات المنطقة الغربية. وهو سوف يعود ويخبر أودينيجو أنها كانت بخير. هي كانت بخير.
حينما وصلا شقتها، جلس ريتشارد معتدلاً على الأريكة، وتمنت أن يجلس مسترخيًا، نصف ممدد كما كان يفعل في بيت أودينيجو؛ حتى طريقته في حمل كأس النبيذ كانت متخشبة. جلست على السجادة. شربا نخب استقلال كينيا.
"بالفعل يجب أن تكتب عن الفظائع التي ارتكبها الإنجليز في كينيا،" قالت أولانا. "ألم يقطعوا خصيات الرجال."
تمتم ريتشارد بشيء ونظر بعيدًا، كأنما كلمة "خصيات" أخجلته. ابتسمت أولانا ونظرت إليه.
"ألم يفعلوا؟"
"نعم."
"إذن يجب أن تكتب عن هذا." شربت كأسها الثاني ببطء، رافعةً رأسها لكي تستمتع بالسائل البارد وهو ينزل في حلقها. "هل لديك عنوان للكتاب؟"
"سلةٌ من الأيادي."
"سلةٌ من الأيادي." أمالت أولانا كأسها ثم أنهت شرابها. "يبدو مرعبًا."
"إنه عن العمل. الأشياء الجيدة التي أُنجزت-- خطوط السكك الحديدية، على سبيل المثال-- ولكن أيضًا عن كيف تم استغلال العمال بينما مشاريع المستعمر تمضي قُدمًا."
"أوه." نهضت أولانا وفتحت القنينة الثانية. انحنت لتملأ كأسها أولاً. شعرت بنفسها خفيفة، كأنما من السهل جدًّا حمل ثقلها الخاص، لكنها كانت صافية الذهن؛ كانت تعلم ما تود أن تفعله وماذا كانت تفعله. رائحة ريتشارد شبه الرطبة ملأت أنفها وهي تقف أمامه بالقنينة.
"كأسي ليس فارغًا تمامًا،" قال.
"لا، ليس فارغًا." وضعت القنينة على الأرض وجلست جواره ولمست الشعر الساقط على بشرته وفكرت كم ناعمًا وجميلاً هو، ليس خشنًا وأجعد مثل شعر أودينيجو، لا شيء مثل أودينيجو على الإطلاق. كان ينظر إليها وتساءلتْ إذا ما كانت عيناه قد تحولتا إلى الرمادي أم أنها تتخيل هذا. لمست وجهه، وتركت يدها تستريح على وجنته.
"تعال اجلسْ على الأرض معي،" قالت أخيرًا.
جلسا جنبًا إلى جنب، ظهراهما مستندان إلى الأريكة. قال ريتشارد في دمدمة: "لابد أن أمضي،" أو شيئًا يشبه هذا. لكنها كانت تعلم أنه لن يغادر وأنها لما تمددت على السجادة الخشنة سوف يتمدد جوارها. قبّلت شفتيه. جذبها قويًّا تجاهه، وبعد ذلك، وبنفس السرعة، تركها وأشاح بوجهه بعيدًا. كان بوسعها أن تسمع تنفسه المتسارع. فكت بنطاله وتحركت للوراء لتجذبه للأسفل وضحكت لأن البنطال كان معلّقًا في الحذاء. خلعت فستانها. كان فوقها والسجادة الخشنة تخز ظهرها العاري وشعرت بفمه يمس حلمتها برقة. لا يشبه هذا عض أودينيجو ومصه، ليس مثل تلك الصدمات من المتعة. ريتشارد لا يلعق جسدها بلسانه بتلك الطريقة المشتعلة التي تجعلها تنسى كل شيء؛ سيما حينما يقبل بطنها، كانت واعية أنه يقبل بطنها.
كل شيء تبدل حينما دخلها. رفعت مؤخرتها، وتحركت معه، متناغمة مع دفعاته، وكأنما كانت تدفع عن معصميها الأصفاد، ترفع دبابيس عن جسدها، تحرر نفسها بصرخات عالية، عالية كانت تنفجر من فمها. وفيما بعد، ملأها شعور بأنها أفضل، شعور بشيء قريب من العفو.

المستقبل - الاحد 25 تشرين الأول 2009