محمد سمير عبد السلام
(مصر)

محمد سمير عبد السلامتتجاوز الممارسات الإبداعية المعاصرة حدود الخصوصية الثقافية للعمل، مثلما تعيد تشكيل الوعي بالشاعرية، في اتجاه تداخل اليومي، والمواد الجاهزة، بالتمثيل الفني ضمن تكوينها المنحرف عن المراقبة الانسانية الواعية للمدلول المؤجل، وبفعل إغواء التداخل المفتوح بين التأويل، والشاعرية التمثيلية الكامنة في الموضوع الفوتوغرافي خارجا عن خطاب الراصد، ومن ثم فان الشعر المؤول للصورة يتحول عن أدبية الأدب، حال تفاعله الديناميكي مع الصورة، مثلما تدمر الصورة خطاب الرصد المركزي للفاعل / المصور ضمن احتمالات الإكمال التمثيلي الكامنة في وجودها الفريد الذي يقع في قلب الواقع ليسائل واقعيته، ويفسح فضاءه لمساحة من البياض المخيل، والمطلوب للامتلاء بما يناهض إرادة الخطاب.
لقد انتقل الأداء من الفاعلية، والانسياق للأدبية إلى التفاعل اللا نهائي بين الصورة والشعر والواقع والتراث الثقافي، فضلا عن إمكانات التأويل الجاهزة في حرفية الصورة التي تخرج لنا الواقع بريئا كتأويل معلق ينتظر الإكمال الشعري، ومسافة جديدة من الفراغ يولدها ألم النهايات المؤقتة للأثر المكتوب، وتتحداها الممارسة بتكرار التأويل الشعري وفق كتابة مختلفة، تكمن في سياق الصورة الحرفي المتجاوز لذاته بالكشف عن الآخر السردي بداخلها، فالسياق الفوتوغرافي يدمر هويته وفق أخيلة شاعرية يكشف عنها فضاء التأويل.
يمكننا قراءة ديوان (شجن) لعلاء عبد الهادي (مركز الحضارة العربية / مصر 2004) من خلال الإكمال الشعري، لصورة تسعي بحد ذاتها للخروج من الموضوع، والرصد معا، من خلال الصياغة التفاعلية مع التأويل، ومن ثم خلق إمكانات ارتباط جديدة بين العلامات تؤكد خروجها الذاتي من سياقها الخاص.
يؤول الشاعر صورة قردة تحمل وليدها، فيقول حتى جارتنا ذات السمعة السيئة تبدو ملاكا هذا الصباح ثم يكرر الجملة في تأويله لصورة فتاة في حالة شبق، وتأمل يحمل طاقة لا واعية، تنفصل عن فعل المراقبة، وكأن الفتـــــاة كانت كامنة ضمن السياق التمثــــــيلي لصورة القردة / الأم، ضمن تحلل الصورة الأولي في التأويل الذي منحها قداسة الملائـــــكة، أو الإلهة الأم في الثقافات القديمة، وتداعياتها في فراغ دلالي يقع بين الطــوطمية الحيوانية المقدسة، والعـلامات الجنسية اللا واعية كطاقة متجددة محتملة، تقاوم انعزال الموضوع / القرد ضمن حدوده وتفجر أخيلة التفاعل؛ لتعود بالصورة إلى أحلام العظمة، والضخامة الأنثوية الأولي المجسدة في اللوحة التي اختارها علاء عبد الهادي ليصدر ديوانه بها للفنان الفرنسي رينيه ماغريت، المعنونة بـ les jours gigantesques أو الأيام العظيمة ، وفيها تبدو الذكورة فرعا من الضخامة الأنثوية، تتعلق بها، وتنخلع عنها في آن بما يسمح بالانفصال والتبادل الجذاب للفضاء الضخم غير المحدد، هل تطارد الأنثى تلك الضخامة بالامتلاك المجازي للحضور؟ أم أنها تؤول بواسطة الأثر الغائب لطاقة الآخر الذكر، فتهدد طاقتها بالانحسار في عدمية الفضاء؟
انها لحظة التحول الأولي كمقدمة للعب الكوني بالصور والكائنات المتداخلة لدي ماغريت، وقد تحولت عند علاء عبد الهادي نقطة يتبلور من خلالها الواقع في صفاء، يختلط دوما ببقع التحول الجذري للكينونة المرصودة في الصورة الفوتوغرافية، لحظة اندماجها بالشعر، فالأنوثة تبرز في المشهد كموضوع غير مكتمل قد خرج للتو من تدمير الجسد الآخر، حاملة لطاقة الامتلاك دون خطابه الأول مثلما ينخلع السياق التصوري من المرأة التي تبدو ملاكا، فتتجسد في بكارة ظاهرية تقبل التحول، والتداخل كطاقة مقدسة تحمل ضخامة التراث الصاخب للجسد في اختلاطها بالقرد، كما تخلع هذه القداسة وتدمرها، لتتحول طاقة العدم في الشبق اللا واعي، كأنه يطل علينا شبحا وحيدا ناقصا في المشهد.
ألم ترتبط ملائكية المرأة بصباح الراصد تبدو ملاكا هذا الصباح ؟ انه حضور مهدد بانفلات اللحظة التي تبلور فيها المشهد هكذا دون غيرها.
ثمة تعارض آخر بين زيف التاريخ الحامل للسمعة السيئة، حيث تأكيد التحسين والتطور والطفرة التداخلية المتجهة نحو تناثر للقوي والطاقات دون حدود للهوية أو الجسد. الطفرة تعلق السمعة السيئة، وتسائل المسار التطوري بالكشف عن تداخلاته الإبداعية، وطاقته المجردة في لحظة التحول الأقرب للتناثر الأفقي للصور، والأجزاء معزولة عن جذرها الغائب.
و عن صورة يمتزج فيها الطيران بالرقص يقول في مرآتي صخب محبوس / في مرآتي قوادة وفريقان / أحد عشر رجلا / واحدي عشرة صرخة غائرة / في مرآتي امرأة .. اشتعلت .. وغريق / في مرآتي روح تلعب بحقيبة جلد .
المرآة تجسد فرح الانتشار خارج حدود الذات من داخل انعكاس زائف، ان واقع الذات هو تأويلها لا هويتها، هو تلك الرقصة الصالرحيل.املة لصرخات التدمير الملازمة لمحاولات الخروج من أسر التحديد والنسق، أما اشتعــال الأنـــوثة فهو حلم الحـــــب ممزوجا باتساع الغرق في مياه الأنــــوثة ضمن نطاق المرآة في أسطوريتها التي تسائل امتلاك الأنا الكامن في مرآتي حيث يوشك الصخب أن يكتسب حضور الطاقة الهوائية في الصورة ليهرب من الأنا رغم تمثيله المستمر لتحوله الأول كبديل عن الوصف والتحديد.
وعن صورة لاعبة تجـــري وقــــد اختلطت ملامحهــا بســرعة الحركة أنا مثقلة برصيد هائل / من خطوات / يجب علي صرفها قبل الرحيل .
ما الرحيل ؟ هل هو استنزاف للجسد؟ أم أنه حدث يعلق الرحيل باستدعاء مزيد من اللعب الشكلي كبديل عن الرحيل، أو تأويل له بالسرعة التي تخفي ملامح الذات بعيدا عن مراقبة الحدود المهددة للكينونة بالرحيل، هل يناهض الرحيل خطواته بالاختفاء؟ ان اللاعبة تنتظر الرحيل ضمن صيرورة للنص تخترق الواقع، وتعيد تمثيله لتحجب الرؤية الموضوعية بالاختباء في اللعبة كحياة متجددة للحظة التي تحول فيها الانتظار المثقل بهم الوجود إلى جريان شكلي يطارد الهواء ليصير محض قوة.
وعن مصارع للثيران لحظة انتصاره علي الثور / الضحية لم يدر / لماذا بعد أن طعنها مرتين / شعر بدمها / يسيل دافقا / تحت جلده
هل يمحو القاتل ذاته المختلطة بموقع الانتهاك / الثور؟
انه يستعيد دماء حسد تاريخي متجدد دائما في القاتل والفريسة معا، فاللا وعي يستحضر انتشار الدماء، والزيادة المفرطة المهددة للذات بدمار فرويدي مقدس، أو فضاء نري فيه حكاية الثور في تمثيلها لوجود الذات خارج الفاعلية، حيث يستبدلها دم الفريسة ويحتل كثافة الجسد في المشهد بالكشف عن الغياب لما هو ملكي أو مقدس فيه. من ثم يواجه الإنسان حكاية موته مقتولا دائما حين يجري في فضائه دم الثور وشبح الأب.
وحول صورة امرأة ينسدل الشعر بكثافة علي جانبي وجهها، كأنما هو آت من فضاء غير مرئي يقول عندما تنضج الشجرة / ستسقط ثمارا كثيرة / ويبدأ الغصن في الدوي لم تكن الشجرة نفسها أبدا، بل كانت فضاء لبدائلها المجازية / المؤولة لغياب يختلط بحضور مقدس للعلامات الأخرى، المرأة واتساع الفراغ والغصن المقدس وانتشار الثمار والسقوط ضمن النضج والضخامة، هل كان نضج الشجرة هو تحولها؟ أم صيرورتها الزمنية المهددة بالعدم ؟
من هذا المنظور يحتل موقع الشجرة خدر أنثوي مقاوم لسطوة الزمن أو سطوة العدم المحتمل، أو هو قلق ذكوري من غياب القداسة في انتشار الثمار المناهضة للمركز، في حضور مؤقت يعيد تكوين المركز وفقا لغيابه.
وعن رجل يحمل ماكينة خياطة يبرز وجهه من الماء يقول قالت الحكيمة للشاعر / اخجل من تأملك / ولا تكن من يبحث / في أحشاء العنادل عن غناء .
هل تحمل الماكينة تشيؤ الرجل؟ أم أن الشاعر يحمل صليبه / سقوطه حال تأمله ؟
انه الخروج من شاعرية المشهد حين يكون الخروج بحد ذاته ممثلا لشاعرية جديدة تلائم بكارة التكوين (ماء ورجل وماكينة) انه تحول للواقع في اتجاه كولاج إبداعي متناثر . هذا الكولاج يستلب تأمله وماهيته في لحظة لا تنتمي إلى الوعي أو الحضور، بل التساؤل حول إمكانات تفاعل جديدة يخلفها هذا الواقع تتحدي الشعرية والوجود الإنساني في بحثه الدائب عن معني.
و عن لقطــــة يبدو فيها الثور وحيدا حال مصارعته عندما تركه أحباؤه / علي سريره مهملا / عندما انطلقت الدعوات التي يجب أن / يحمل وحده عبء تحقيقها / عندما رموا غرفته بالغرباء / وتشاغلوا بالصراخ مات .
هل كان الغياب كامنا في لقطة الثور وحيدا منذ البداية ؟ لقد احتل موقع الأب المقتول، واستبق الحدث في اللعبة لكي يفسح المجال لدم آخر سيحتل موقعه الفارغ بالأساس رغم ضخامته، هل جرد واقع الثور الموت من خطاب الموت ليصير لعبة احتفالية متكررة؟
أم أنه الموت بدا كحكاية منعزلة في الممارسة كبديل عن الواقع؟
لقد حدث في مخيلة الواقع المفجرة للواقع قبل أن يقع في تكرار لعبي للغياب يستلب الغياب أيضا. انه تاريخ يحمل معني الصيرورة لا الكلية لحضور العائلة، لقد تخلي الواقع العائلي الكامن في التأويل عن شموليته فصار أثرا، ويطلق رولان بارتRoland Barthes علي النزوع الجمعي العائلي أسطورة العائلة البشرية الكبرى The family of man، وهي تقوم علي وضع الطبيعة في عمق التاريخ وشاعرية ذات نزعة آدمية Adamisme في النظر للموت والولادة، هذه النزعة تبطل صيرورة الإنسان وتحوله الفريد، لأننا إذا نزعنا التاريخ من الموت والولادة لن يبقي شيء نقوله (راجع / بارت / أسطوريات / ت / قاسم المقداد / مركز الإنماء الحضاري بحلب / ط1 / 1996 ص 226 و227)
اللعبة هنا تسخر من حتمية قتل المقدس، وتستبدل قوته الغائبة بتجدد القوة مجردة من الحدث، أما الثور فيسخر من اللعبة ويستبدلها بموت الليل.يد من الداخل فيحوله إلى حدث حرفي يناهض التمثيل المتعالي، ويفترض الإهمال كبديل عن القداسة ليصير موته الواقعي ملتبسا دائما.
وعن رجل يجسد صرخة العنف والتوحش الليلي يقول ليل متأنق / يخلع ملابسه مثل بصلة / واحتفال يومي يبدأ بطعنة غادرة / يبرمها شعاع ضال الليل .. القتل الممزوج بوحشية مفرطة يجسد نزوعا تدميريا نقيا يقع في قلب الواقع، ويؤثر في صيرورته المستقبلية، دون انعزال في نطاق الصورة التي تؤطر تلك الوحشية، هل هو تآكل الوجود في الألم والتحلل المفاجئ للجسد؟
تكتب سوزان سونتاج حول زوال الحدود بين الصورة الفوتوغرافية والموقف الذي أخذت منه، وتــــؤكد ذلك بأن جرائـم التعذيب نفسها لم تكن أكثر أهمية من الصور، فالرعب الكامن في الصورة له فاعلية في تشكيل الذاكرة. من ناحية أخري تعامل القتلة مع الصور كما لو كانت ضمن فعل أو إجراء جماعي Collective action شعروا فيه بتبرير متقن أو مثالي للقتل (راجع / Susan Sontag / Regarding the Torture of Others / New York Times magazine / Published: May 23, 2004)
لم تكن الصرخة الوحشية إذن بعيدة عن ذاكرتنا.
انها تعبث فوق الأجساد المقتولة لتستعيد الألم المتولد عن الصرخة لا الصمت، هل هي عودة للموتى ليتجدد الشعور بالقتل؟
ويظل التشويه في لقطة الرجل يذكرنا بحضور الفن ضمن حرفية الواقع فيذكرنا بتشويه فرانسيس بيكون الوحشي للوجوه، لينزع واقعيتها التي حضرت الآن في تأويل يمزجها بالليل ليصير العنف مخبوءا وراء الألم.
وعن لبؤة تتثاءب الذبابة مثلي.. علي سجيتها تماما / الذبابة تجهل قيمة النساء اللواتي تحط عليهن / كالثورة أو كالحرية مثلا يعلو هنا صوت اندفاع الغرائز في تجزؤها ووحشيتها المنفصلة عن المفاهيم تلك التي تتحرك وفق طاقة غير واعية تناهض ما قامت عليه من أصل معرفي، وتذكرنا بنقد الحماسة لدي ليوتار، وأصولها الحدسية تلك التي تتجسد فيها الغرائز في صمت مختلط بوحشية توشك أن تنفجر، أو تتحول إلى ذبابة.
وعن صورة فتاتين في سياق مجاعة يقول أنا كاذبة / فقد رأيت ذات مرة سحابة / تنام في سكون / علي جلبة الشمس) التشكيك في واقعية العري والجوع تؤكده سحابة تعيد تشكيل المشهد وتستبق لعب العالم المنتظر، الجسد يكذب وجوده لكي يدخل في حالة الإغواء بالتحول والتعالي الواقعي الخفي، تماما مثل السحابة المؤولة.
وعن رجل يفترش الإسفلت ثمر هذا الصباح طازج / فقد قامت البائعة بكل ما في وسعها لإنضاجه / لكن اللون حامض.
اللون الحامض يعمل كبديل للتهميش، لكنه بديل يقاوم طلب التهميش، فاللون سخرية من الحالة برمتها، لأنه متحول، وطازج. هكذا تظل البائعة مستلبة في حالة اللون المقاوم للهامشية ومقاييس المجموع جميعها.

m-sameer@hotmail.com