(في مدار( الملاك الشهواني) مثالاً)


إبراهيم محمود
( سوريا)

Ebrahimأن يكون الهوى مذموماً في حيثيات الموضوعات ذات الطابع الأخلاقي المعتبر صرفاً، أو طي المنحى الديني الوعظي تحديداً، وكما يروَّج له سلباً بالتأكيد على أكثر من صعيد، وكأن صاحب المعتقد أنى كان موقعه، وكيفما تحرك،أو كيفما فكر وتفكَّر يتجنب الهوى المذموم ذاك، ومن باب الحمية القيمومية، هذا شيء، وأن يكون الواقع متضمناً ما لا حصر له من مغذيات الهوى، وأن لا مناص من هوى معين، حتى بالنسبة لذاك الذي يدعي العفة في ذاته، كون الالتزام بأي شيء كان، لا يخرج عن جادة هوى معين ، وأن ما يتم التفكير فيه والتحرك من خلاله مشفوع بهوى ما، شيء آخر.
في هذه الحالة، أجدني متنكباً القول المتعلق بخفة الكائن الأهوائي، إنما أي كائن؟ إنه الكائن الذي يستسيغ العالم شعراً، ويتنفس ما حوله شعراً بالمقابل، ليس لأن شيطان الشعر تملكه، بقدر ما أن الشعر ذا التاريخ المثير للشبهات في جل مواقفه وحالاته التعبيرية، هو الذي يستحضر شيطانه،يكون مرجوَّه العدني وإن كان هذا بعيداً عن كل حالات التوصيف القيمية المقحمة عليه.
كائن هو الإنسان، ذاك الذي يحيل مفردة الكينونة إلى ضرب من ضروب التعبير عما تتوق إليه إرادة الشعر، إرادة الكائن في جمهورية أفلاطون المضادة: مثل الشعر هنا, وليس الفلسفة طبعاً.
ليس في الشعر ما يخيف، بقدر ما يخيف في حال عدم وجوده، لأنه يشكل معبراً جلياً إلى الداخل الحيوي للإنسان، يقربه مما هو فيه، وهو غريب عليه، وهو مجانب له، رغم معاشته له.
قدرة القول الشعري هي في لاتناهي قدرته، طالما ثمة متخيل يتنفس الصعداء، ويستشرف أفق الأدب والشعر تخصيصاً، وبذلك يكون الشعر رحباً بقدر رحابة كائنه وانفتاحه عليه.
إنه صندوق باندورا المدهش وليس الرهيب بأدوائه، صندوق عجائب دنيا الشعر، وفق سلسلة لا متناهية من التوريات والاستعارات والمجازات التي تحرر الكائن: الإنسان من تاريخه الأرضي بالمعنى الضيق، تمنحه اللاخانية في الانتماء جهات التعبير في تفتحه الروحي.
بين يدي، أمامي، معي، ديوان شعري للعراقي المحلق بروحه الشعرية رحباً" أسعد الجبوري" جديد في ولادته، وربما حق لي القول: جدير بالتحليق في جمهورية الشعر اللاحدودية، اسماً ومحتوى ( الملاك الشهواني: فيض المواقف ومخاطبات العاشقين) الصادر عن الشركة العربية الأوروبية للآداب والنشر، 2005، وفي أكثر من مئتي صفحة من الحجم الصغير والطويل.
ما يثير ويستثير هو المتضمَّن، لكأن الجبوري أراد لإرادته الشعرية أن تخرج على دنياه، على ما فيه من لحم ودم، معتمدة خصلة روحية فيه، وتفيض بجموحات ملاكها الشهواني الشفيف.
لكأن الشاعر يريد من قصيدته ولها في وحدتها الديوانية وتنوعها الموضوعاتي( حيث الديوان أقسام متعددة لا تخفى وشائج القربى الشعرية فيما بينها)، أن تكون أكثر من قصيدة، أن تكون شعراً ليس كالذي يُتداول، إنما كالذي يراد له أن يقرأ، إنه الشعر المتحوَّل إليه.كعادته الخاصة، يتجنب الجبوري التوضيح الذي يلهم القارئ البليد بالصور البليدة، في ديوانه الرمزي ثمة رفض للتوضيح، على طريقة أوكتافيو باث، ليس لأن الشاعر أراد ذلك من خلال الشاعر المكسيكي، إنما لأن الشاعر في حقيقته أكبر وأكثر من كونه حامل هوية حدودية، وفي الوقت نفسه، لا يكون لاحدودياً وكأنه كائن فضائي مجهول الكوكب.
ما يتحرك نحوه( وهذا أقصى ما يمكنني قوله) هو إطلاق سراح الشعري بوصفه إشعالاً لعالم يشهد سواداً حالكاً، تفجير الكلمات في معانيها قدر مستطاعه الفني، تاركاً المسافة القابلة للرؤية والتخيل المشترك كما لو أنها الرهان الحيوي والنفاث، ليقول كل منهما ما شأنه ممارسة الأداء الشعري وفي الآن عينه الإصغاء الشعري.
أقول كل ذلك، بعيداً عن شبهة المجانية في العبارة، إذ أن الصعوبة هي في التوقف عند ما يسمى بـ" مقطع شعري" تأكيداً على مصداقية القول، ونبضية المستشهَد الشعري.
رغم ذلك لا مناص من الاقتباس، حيث أرى أن مجمل المواقف تتساوى وتتهاوى في مجرى المعاش الروحي شعرياً.
الشاعر متصوفاً( النفري في مواقفه أو سواه)، الشاعر معولم صورته الشعرية في تعددية مناخاتها، لتبقى القصيدة كما لو أنها منزوعة البداية والنهاية، حيث أنه، كما أرى، يستحيل قراءة موقف ما، وكذلك في ( مخاطبات العاشقين)، الربع الأخير من الديوان، والخلوص إلى يقين رؤيوي ما، إلى استرداد نفس معين، طالما أن القلق يشنشل هيئاته الشعرية، ويدورم ( من الدراما) مناخاته الأدبية، فالكلمة في اللحظة التي تتم قراءتها في حيّز الصورة المادة، حتى تتوارى وراء شبكة من التصورات الخاصة بالقارئ( أتحدث باستمرار عن نفسي، عن قارئ يخصني، عن قارئ ما، عني بوصفي قارئاً ولا أؤدلج فعل القراءة هنا، أو أوجه المتخيل القرائي لأي كان، إلا أنني أمارس جزماً في القراءة، يخص ما لا يمكن القبض عليه، والتوقيع عليه بوصفه نهاية المبتغى، لأن في ذلك اغتيالاً لروح الشعر، وإخماداً ارهابياً لوقدة الملاك الشعري)، ليبقى القارئ طليق مقروئه وقد تبدد المكان والزمان، ربما في أبدية ما لا تتزمن.

- النظرات أنهار،
أصدافها خطواتي.
وما أنا إلا رضيع شيطاني،
يبشّر بشهوات لا تنقطع عن الفنادق
السوداء.
- إنها الموسيقى.
ستعيد للسيقان أبصارها.
- أهو أنا القائم بأسمائي
خلاصة جنون العارف
- مرحباً أيها السيف. أيها المرهق بدم الروايات.
يا ناقل المعلوم إلى المجهول.
- وحدث وأن همس معلقاً:
كل شهوة إعلان عن نبوءة.
- ما أفظع أن أقول هكذا:
التراب كاريكاتير الفاجعة
- يا شعوبي
يا ضبابي
يا باكورة نزوة في ظهيرة خريف.
- السلطة دوام الحطب في الفرن
ومنها نسل الجرذان ممتداً
بلا نهايات.
- يا عبد أن الجنس خندق للاستسلام
في الطين الإلهي
- والعيون شاشات
يتساقط من أبراجها العاشقون
- ومن جسد لم يبق إلا الغلاف
يتوكأ بموسيقى
- ولا كأس كالسكران
- هيئة الموت انكسرت
والقبر صار افتراضياً
-الهذيان قبة حولها ملائكة متخيلون
تلك هي صورنا في النسل.

إنها مجموعة من المقبوسات التي اضطررت إلى تثبيتها هنا، وهي تتوزع داخل الديوان، ولا أظن أن ثمة تفاوتاً مخلاً ببنية المتخيل الشعري في أبهائه الصوفية خارج التأطير التابوي المتعالي، بقدر ما أن الصوفي الشاعر أو الشاعر الصوفي ها يتوسل إلى الأرضي، وبوصفه ملاكاً أرضياً، وتكون السماء حالة مجازية أكثر مما هي حقيقة متصورة، ويكون الإله بالذات استعارة فضائية تفضي إلى تشكيل حدث شعري، أو تكوين صوت شعري ناهض، عبره أو من خلاله وبه، يبدأ سفر تكوين الشاعر، وأسمائه الكونية المتداخلة، وهي تتوسل بعضها بعضاً، ربما في نوع من طقوس الشهوة المقدسة هنا، وإلا لكان الملاك خلاف معهوده المشار إليه، حيث أن الجبوري هو نفسه داخل أو محمول في رحلة المنطاد الشعرية المفتوحة، بنوع من المسح الجغرافي للكائنات في لحمة متجوية.
ثمة شعر يُقرأ ولا يترجم، أعني لا يقبل التفسير، ليس لأنه موضوع ، أو متحوَّل نصاً شعرياً في الأصل، ليتدون في خانة المقروء اللامؤول، إنما لأن ما يقال تالياً يظل في إطار مقول القول الأدبي، ذاك الذي يبقي المقروء الشعري جانباً، كونه مهمازاً كلما تمت قراءته ، حرك وحرض قوى المتخيل، على عصيان الثبات، ومداومة تأصيل معنى محدد، ما هو شعر هنا، مباح للقارئ كنص يقبل التحول معان، ولكنها المعاني الخاصة بالقارئ الناقد، ليس لأن الشاعر أتى متفرداً، وإنما تمَّكن بطريقة ما، من مكاشفة بعض من أغواره النفسية، قارب ما هو عليه وليس ابتعد عما يحركه عميقاً، كون الشعر ليس في أن تقول ما يلامس قوى الآخر الخافية، وإنما أن تخرجها من سديميتها، وفي الحالة هذه يبقى الشعر الفعلي قول المفاجئ، ما لا يمكن الوصول إليه.
الجبوري هو نفسه الملاك الشهواني، أنا، أي كان، عندما يكون الهوى متقدمه، ومن منا بلا هوى، فقد هوى( سقط) في هوة العدم السلبية؟ من ستحرك، يفعّل قولاً ما دون جائحة هوى يكون له بالمرصاد المحلق، من ساءل نفسه، استنطق حقيقة من حقائق وجوده دون وجود هوى ما؟

مثال حي:
ماذا يعني أن تكون النظرات أنهاراً، والخطوات أصدافاً؟
استخدمت مفردة، كلمة( يعني)، وهي في الحقيقة مستخدمة تجاوزاً، وما أكثر التجاوزات المستخدمة، خصوصاً في القراءة الشعرية، لأن الـ( يعني) هذه، لا محل لها من الإعراب الشعري، لأن ما يقوله الشاعر ليس متحفاً ينتظر من يسمي له أدواته( نزلاء فراغه المتحفي)، لأن الـ( يعني) هي في أفضل الحالات صورة من صور المقاربة الشعرية ذات التأويل الذاتي للقارئ، ولو أن الـ( يعني) هذه، كانت جادة في مسعاها، لما كان الشعر شعراً، ولما كان الفن فناً وكذلك الأدب أدباً، ولبات كل شيء مكشوفاً، ولما كان هناك شك لصيق يقين، فالمعاني افتراضات، وأجملها أكثرها عرضة للتكهنات وحتى للتسويق الرغبي ليس إلا.
ليس في النهر في تدفقه ما يمكّن من سبر قاعه والماء ساكن، والحوار المتواصل بين القاع والماء الجاري أو المنساب جامد، ما يمكن من اختراق سر الماء بذراته المتلاحمة والصاخبة، بشفافية مسراه، ووحشية( براءة) مرماه لحظة التدقيق في المغيَّب فيه، فالمنشود بين النظر والنهر، هو إعادة بكل منهما إلى حالة اللاحالة المنظورة ، إلى اللاتأطير، يكفي الشاعر هنا أنه نهَّر النظر، أو نظَّر النهر، وأطلق سراح الكلمة حيث لا يعود ثمة معنى قادراً على ضبط اتجاه أي منهما.
ضمناً ثمة تلاقح بين النظرة والخطوة، بين ملامسة الأرض ومقاربة الأفق، بين مجرى النهر الذي لا يتوقف، وما في لجيّه من مخزون، يمثل ذاكرة ماض، شهي الانعتاق، لكأن الجبوري يريد منا، من قارئه أن يستنهر الشعر( يقدمه في هيئة نهرية)، أن يحيل الذوق إلى شأن داخلي، وهنا لا يعود الذوق ممكناً ضبطه أو تقعيده، وكأن الشاعر يريد تأميم الشعر من كل احتكار من جهة الدلالات المتعارف عليها، كما يقال، وفق مخطط معجمي أو قاموسي، يصل القارئ إثر ذلك إلى قناعة ما بكونه تمكن من معرفة مقصود الشاعر، وهي أكبر ترَّهة لنقاد الأدب الثكناتيين، ليكون التأميم بالذات خطوة لما هو أبعد، وهو عدم رهن الشعر بجهة ما، تطليقه في كليته.
ثمة مقايضة وتصفية حساب ما، يحاول الشاعر من خلالهما، منح الشعر قيمة ذوقية أكثر، لا تكون المقاييس الخارجية بالذات مؤطرة له، وفي الآن عينه، تبقى رغبة في رغبة الشعر خارج المتداول، حيث نشهد هنا وهناك الكثير من الميتات الشعرية، في إهاب عولمة حاسوبية( بالصياغة العربية الباهتة هنا)، ودعوة صامتة للإصغاء إلى الشعر عبر ملاكه الشهواني.
كل عبارة في الديوان القصيدة، مشغولة بأكثر من إشارة، إنها عبارة عبَّارة إلى حقيقتها التي هي أكثر من حقيقة، كونها جماع حقائق، وتكون في آن أمَّارة بالسوء من جهة تعددية وتنوع المعاني، وليس بالامكان الرهان على معنى محدد، سوى أن الملموس هو قدرة المقروء على إبقاء القارئ مشغولاً بالفائض من المعاني، لأن بناء الجملة بالذات ممارسة زمكانية صوب اللازمكان، في محاولة متصاعدة لتفعيل المعاني داخل الفضاء الشعري في ( الملاك الشهواني).
في مجمل المقبوسات يظل كل رهان على معنى محدد، إلزاماً ذاتياً بصورة ملونة، وقياساً شخصانياً لما هو مراد، رغبة في إبقاء الديوان القصيدة داخل المجتبى الأدبي : النقدي هنا.
والمؤثر هنا هو أن العنوان بالذات صعود إلى عرفات الدهشة، وحنين إلى أصول لا تاريخ لها إلا عبر توليفات سعى فيها مدونو النصوص الكبرى: الميثولوجية خصوصاً، إلى وضع نوع من االبرمجة لذاكرة مشتبَه في بنيتها، عبر التعريف بها جماعية، ولا ذاكرة موثَّق بها، خصوصاً حين تكون المعاني كعهد الحقيقة بها، متجاوزة للألفاظ، أو المفردات التي جّردت من تواريخها التي تلبستها ذات يوم، والشاعر فيما يعتمده: تصورات شعرية، أو بناءات لفظية، أو زحزحة كلمات عن مواقعها وفق تراكيب تثير الادهاش، هو ذاته يعيش حالة جذب مع الشعر، كأنه يريد هتكاً لشعور رسمي، وارتحالاً صوب لاشعور هو الأساس في معايشة الهواء الطلق للشعر، لأن الملاك المتحرك داخل قاطرته التوربيدية المتعددة الطوابق تروم اللامتناهي في الشعر.
إنه صراع بين ذات محكومة بتاريخها، وذات متعددة محكومة بسلطتها الباطنية التي تبوصل عناصر قوتها في الاستشعار القولي عن بعد، كما يتضح ذلك في الحراك الشهواني لملاكه، الذي يكون خلقاً من خلائقه النفيسة، إنما من ابتداع متخيله، بوصفه الملاك العاشق الذي يحيل جسده في وحدته وتنوع رؤاه معاً إلى عالم ضاج بنفاذ البصيرة الشعرية.
رهاني في ما تقدمت به، هو إلى أي مدى يمكن للقارئ أن يرفض المقولة التي ارتكز إليها مقالي، وهي أن الشاعر الشهواني الجبوري وعبر ملاكه، قد مارس هذياناً متبصراً، ومن خلال مختلف مقاطع ( مواقفـه) الديوان، بالتشديد على خلاف المثار، عبر مقبوسات تكون معانيها عائمة على سطوحها، ولا يعود الملاك الشهواني سوى التجديف في قول ما لا يولّد معنى أو أكثر!؟