( ديوان الشعر العربي الجديد)

عناية جابر

محمد عظيمة(ديوان الشعر العربي الجديد) بلاد الشام، لبنان، هو إصدار الشاعر محمد عضيمة الثالث، بعد كتابيه الاول والثاني الخاصين بالشعر في العراق والجزيرة العربية. كتاب عضيمة يفصح عن علاقة الشاعر نفسه بالشعر، وعن متابعته الدؤوبة لتفاصيله وانشغالاته في بلده سوريا، وفي البلدان العربية المحيطة. حتى ان إصداره السابق (الشعر الحديث واغتيال الحاضر) يؤكد هذه العلاقة بما هو دراسة تبحث في إمكانية تبيان هوية شعرية ناضجة ومتميزة للشعراء المعاصرين، عن هوية الأسلاف أولا، وعن هويات الشعر في بلدان العالم ثانيا. إي يبحث الشاعر في إمكانية هوية جديدة للشعراء المعاصرين لا مرجع لها إلا حاضرها.

تعب

في كتابه الصادر حديثا عن (دار الكنوز الأدبية) (ديوان الشعر العربي الجديد بلاد الشام، لبنان) يبدأ عضيمة من كرهه القصائد الطويلة كيفما بلغت فنيتها. وهو يلتف على القول متعللا بتعبه من الكلام الكثير داخل العمل الشعري، كما ويتساءل في ذلك التراكم وعدم تقديم الطاقة الشعرية بالكامل، في سبيل خبر شعري بالشكل الأبهى والأقصر. وفي كتابه أيضا المتضمن كل القصائد غير المنبرية، غير المعرضة للمنابر والصياح والتشبير أمام الجماهير. كما ليس في الكتاب قول شعري واحد يستدعي التصفيق بحسب عضيمة بل هو مدرسة لرفع القبعات بكل الحبور والغبطة والهدوء، وهو للابتسامات الداخلية، لافترار الشفاه قليلا، لكن بدهشة عازبة وعذراء، بدهشة لم تستخدم من قبل. كتاب عضيمة تضمن التافه الشعري كما يقول، من وجهة نظر تقليدية سائدة، وغير الأخلاقي من وجهة نظر رجال الدين، والذي يلتقط الأشياء التي تمتاز بجاذبية وإثارة خاصتين، والفارغ من أي معنى، والعبثي غير انه وهنا امتيازه الخاص من مكونات الوجود البشري، وهو، أي القول الشعري، الذي نذر له الشاعر عضيمة بعض الحبر، واختاره صديقا داخل هذا الكتاب.

ميول

قبل الخوض في رغبات وميول محمد عضيمة الشعرية، وقبل مقاربة اختياراته التي ينحاز الى تراكيبها بعنف وخيلاء، ويدافع عنها كما لم يحلم أصحابها بالدفاع كما جاء في سطور مقدمته نفسها، لا بد من تسجيل ميلي الشخصي الى كم الطرافة التي تتمتع بها كتابة محمد عضيمة، الطرافة التي نأت بالكتاب عن وقوعه في شرك التحزب الأكاديمي الجاف والتنظيري، الذي ينتهجه بعض نقادنا المعادين لقصيدة النثر، الموغلين في محاولة امحائها وتفنيد موتها المفترض. وليست رغبة عضيمة في قصيدة النثر كخيار حياتي وأسلوبي وشعري، بل هي لا مبالاته الروحية والرقيقة، حيال كل من يعادي هذا الصنف الإبداعي الذي تغلب على معوقات وجوده، ويقول عضيمة في مقدمته: (جميع شعراء العالم يكتبون اليوم قصيدة النثر. انتهت أوزان مالارميه وأوزان (أزهار الشر) لبودلير، وانتهت أوزان (باشو)، و(إيسا) وانتهت أوزان المتنبي وأبو تمام. انتهت جميع هذه الأوزان، وصار الشاعر الديمقراطي هو من يكتب بحرية خارج أي وزن، من أميركا اللاتينية الى أميركا الشمالية، الى أوروبا الى المشرق الأقصى، صارت قصيدة النثر هي الرئة التي يتنفس من خلالها أي شعب من الشعوب، والرمز الصريح للحرية والانعتاق.. إلا شعراء اللغة العربية اليوم، يريدونها خليلية حتى العظام، وتفعيلية حتى النخاع. شعرهم هو الشعر، وشعر الشعوب الأخرى ليس شعرا. لكن ما ذنب هذه الأخيرة إذا كانت لم تعرف الفراهيدي ولا بحوره، ولم ترقص وتجن على إيقاعاته وألحانه. سيقولون أنها خصوصية اللغة العربية دون غيرها، ولكن اللغات الأخرى أليست لها خصوصية أيضا. استطاعت الفرنسية ان تتجاوز شعريا، قضية الوزن ودون مشكلة. استطاعت اليابانية ان تتجاوز أوزان (باشو) دون مشكلة. ضاق الشعر في العالم بالوزن، وبالقيود. وحدهم فقهاء العرب يصرون على الوزن كي يكون الشعر شعرا، وإلا فهو ناقص، مكسور ويحتاج الى إصلاح وترميم. أو عليه علامة استفهام عريضة. باسم الأصالة والخصوصية يثيرون هذه المشكلة، وباسم الهوية الأدبية: أين نضع قصيدة النثر، كيف نصنفها، الى أي جنس أدبي تنتمي، الى آخر ما هنالك من أسئلة استغرب من أين وكيف يولدونها؟.

شعراء

من لبنان، اختار الشاعر عضيمة، أسماء شعرية لبنانية عديدة ناسبت نصوصها ذائقته الشعرية، وعمد الى نشر بعض أقوالها الشعرية مستلة من القصائد، دون تغيير في التسلسل والترتيب. غير انه يعترف بابتعاده في ترتيب الأسطر عن وضعها الشعري الأصلي، اذ هو خان الأصل قليلا؟ بل كثيرا، مع عدم إضافته كلمة واحدة، في رغبة لعبته الشعرية الخاصة القائلة بوضع لمسته التعديلية بحسبه أو صوته الخاص في قراءة الأشياء، ونيته الصريحة في إبراز ما اعتبره (ضربة معلم) إبرازا يفصح عن الحس الجديد إزاء العالم، بشيء من المغامرة في التدخل من الشاعر عضيمة، وإعادته كتابة المكتوب أو إعادة ترتيب ذلك المكتوب وفق هواه، واعدا بتصويب الأقوال في طبعات لاحقة، إذا ضايق هذا التدبير أحدا من الشعراء المدرجة قصائدهم في الكتاب.

بول شاوول وعباس بيضون وبسام حجار ووديع سعادة ويوسف بزي ويحي جابر وشارل شهوان واسكندر حبش وصباح زوين وعبده وازن وعقل العويط هم بعض من الشعراء الذين تناوبت مشاركاتهم الشعرية على أجزاء واسعة من الكتاب، متكررة وذات عناوين مغايرة للأصل، انتقاها عضيمة كجزء من لعبته الشعرية التي (اقترفها) في هذا الكتاب.
في باب حرية الشعر والشاعر الذي تصدر اغلب صفحات مقدمة عضيمة لكتابه، أرى شخصيا انه بلعبته الشعرية التي عالج فيها قصائد شعرائه، بدا مخالفا لفعل الحرية ذاك ومحيدا قليلا عن نيته الحسنة ومتعديا الى حد، على فنيات خاصة اعتمدها كل في عمله مما أرخى جوا من عدم الجدية في محصلة رغبة عضيمة، وكتابه العامين.

الكتاب: (ديوان الشعر العربي الجديد) بلاد الشام لبنان
الكاتب: محمد عضيمة
الناشر: (دار الكنوز الأدبية)

*****

مختارات من الشعر السوري "غير المكرس"

راسم المدهون

الكتاب الرابع من مشروع الشاعر السوري المقيم في اليابان محمد عضيمة "ديوان الشعر العربي الجديد"، ضمّ مختارات منتقاة من نتاجات 17 شاعراً، يقول عضيمة إنها كانت حوصلة لما يقارب 300 اسم، وهي انتقائية مقصودة يعللها بأسباب متعددة من بينها عدم أهلية ما يصدر من مجموعات شعرية عن المؤسسات الرسمية. ومع ذلك فإن السبب الأهم الذي يسوقه عضيمة لتفسير عزوفه عن كثير من التجارب الشعرية السورية هو التزام أكثرية الشعراء السوريين بما هو سائد من أشكال شعرية ـ التزاماً يفسّره بالخوف من التجريب "الأمر الذي يجعل اللغة خطابية معهودة وإنشائية موزونة ومعروفة".
الملاحظة الأبرز أن معدّ هذه المختارات تقصد أن تخلو من نتاجات الشعراء السوريين المعروفين على الصعيد العربي وكرّس جزءاً كبيراً منها، إن لم نقل معظمها لمساهمات شعراء غير معروفين، أو فلنقل غير مكرّسين بالمعنيين الإعلامي والمؤسساتي وهي نقطة إيجابية تسجل لصالح المختارات، كما يلاحظ قارئ المختارات أن محمد عضيمة قد تقصّد أن يمنح الأشعار المختارة عناوين من عنده غير التي حملتها في الأصل، وهي مسألة مقبولة نسبياً بالنظر الى أن المختارات هي غالباً ـ مقطوعات منتزعة من سياقات شعرية أطول وأكثر اكتمالاً.

محمد عضيمة بهذه المختارات الجديدة يواصل مشروعه لرؤية الشعر العربي الجديد من نافذة مختلفة، حداثية بالتأكيد وإن تكن ـ وهذه مفهومة ومشروعة ـ حداثة محمد عضيمة الخاصة أو بالأدق مفهومة هو للحداثة، الذي نعثر عليه في مقدمته الضافية لهذه المختارات والتي قال فيها كلمته بشأن الإبداع والنشر في سوريا. وقارئ المختارات الجديدة يعثر بالتأكيد على تنوع وغنى من نوع خاص إذ يقف على موضوعات شبه محرّمه في النتاج الشعري السوري المعروف والذي يراه عضيمة تقليدياً ومحافظاً الى حد بعيد، تماماً كما يعثر على أساليب وتقنيات فنية جديدة يراها تواكب مثيلاتها في الحركة الشعرية العربية الجديدة في الأقطار الأخرى وإن يكن الشعراء السوريون المعروفون والقائمون على منابر النشر في سوريا لا يتعاطفون معها ولا يسمحون بتمريرها عبر منابرهم ما يجعل الحركة الشعرية عموماً قاصرة ومختلفة عن مثيلاتها.

أسئلة كثيرة تطرحها هذه المختارات وتفتح باب نقاش جدياً من حولها، لعل أهمها صدمة ارتطام الشعراء المعروفين بغياب أسمائهم ونتاجاتهم، وهي مسألة تطرح من جديد موضوعة جدارة الشهرة الإعلامية وأحقية نجومها في احتلال مواقعهم الثقافية فيما الحياة من حولهم تمور بالشعر الحقيقي والجديد.

المستقبل
السبت 17 نيسان 2004

*****

ديوان الشعر الجديد (بلاد الشام)

تهامة الجندي
(سوريا)

منذ صدور الكتاب الأول من السلسلة المتعددة الأجزاء للشاعر السوري محمد عضيمة المعنونة بـ "ديوان الشعر العربي الجديد" قبل ثلاثة أعوام، أوضح المؤلف أنه إذا كان لهذا الديوان بداية محددة، فالأمر يختلف بالنسبة للنهاية التي قد تصل الى مئات الآلاف من الصفحات، فيما لو قيض له الوصول الى كل ما كُتب من الشعر الحديث في القرن العشرين، فالديوان خطوة أولى لمشروع شعري مفتوح على جميع الحالات والأقوال الجميلة دون حظر قضائي على أحد، كما أنه حدد المنطلقات العامة التي اعتمدها أساسا لمشروعه الكبير هذا، مؤكدا أنه يعمل على أرشفة وتوثيق الحساسيات الجديدة في الشعر العربي المعاصر، ويطرح مفاهيم ومعايير مغايرة في كتابة الشعر وتقديمه وتوثيقه، ويختلف مع ما يُعرف بـ "الحداثة الشعرية العربية" وممثليها من الشعراء الرواد وأتباعهم، حيث ربط الحداثة بالديمقراطية وتحرر اللغة الشعرية من أوزانها وقوافيها، ونادى بما أسماه بحداثة الفرح أو "القصيدة الفرحانة"، وهاجم شعراء القصيدة العمودية والتفعيلة، واتهمهم بالولاء للسلطة السياسية والدينية، وقد تتالى صدور أجزاء المشروع: الأول عن شعراء العراق، والثاني خاص بشعراء الجزيرة العربية، والثالث حول شعراء لبنان، الى الكتاب الرابع من السلسلة الذي صدر حديثا، ويخص الشعراء السوريين.
يضم الكتاب الرابع بين دفتيه مقدمة طويلة تتوزع على ثمانين صفحة، تتبعها نماذج من تجارب مئة وأربعين شاعرا وثلاثين شاعرة، ممن نُشرت أعمالهم خلال العقدين الأخيرين عن جهات رسمية أو خاصة أو في الدوريات العربية، والشعراء ينتمون الى أجيال ومدارس مختلفة، منهم من صدرت له عدة مجموعات شعرية، ومنهم من لم تصدر له أي منها، لكن يغيب عنهم أهم رموز الشعر السوري الحديث من أمثال: أدونيس ومحمد الماغوط وعلي الجندي وفايز خضور ونزيه أبو عفش، ومنذ البداية كتب المؤلف في مقدمته "لم أقصد إعطاء صورة، أو تقديم دراسة نقدية، بقدر ما أردت إشباع رغبة ذاتية في الاطلاع" مما يعفي الكتاب من أية ملاحظات قد تثار حول جدية المشروع ومنهجه ونوعية الاقتباسات المطروحة للتدوال على أنها الحساسيات الجديدة والجميلة في الشعر السوري، وفي مقدمته أيضا سجل العضيمة ملاحظاته حول الشعر السوري، وأعاد نشر مقاطع من مقدمات الأجزاء السابقة، لكن دون أي تدقيق يحرص على عدم تكرار الأفكار وضبط المعلومات، حيث نُفاجأ مثلا ونحن نقرأ الكتاب الرابع بالمقطع التالي "لدينا في هذا الكتاب الثاني 115 شاعرا وشاعرة من مختلف بلدان شبه الجزيرة العربية".
أول ملاحظات العضيمة التي سجلها حول الشعر السوري، كانت أن "القارئ سوف يُفاجأ بهذا العدد من الشعراء الذين لا يتجاوز المعروف منهم داخل سوريا وخارجها عدد أصابع اليد، وهذا العدد هو حويصلة لما يقارب 300 اسم"، وغالبية الأسماء التي لم يستطع أن يجد لديها ما يناسب هذا المشروع قد نشرت أعمالها "لدى اتحاد الكتاب العرب" وثاني ملاحظات المؤلف تتعلق بالشكل والموضوعات، حيث أشار الى ما أسماه "مجاملة فنية داخل الشعر السوري تصل حدود الجبن، فالموضوعات هي هي، والصور كأنها عين واحدة، وكأن الشعراء لم يقرأوا نتاج غيرهم من الشعراء العرب والأجانب" وثالث الملاحظات أنه "لم تبدأ حركة شعرية في سوريا إلا بعد منتصف الثمانينيات، حيث تكرست أطواق ثقافية عديدة، وتكشفت الوجوه التي كانت تختفي وراء أقنعة الأيديولوجيات الهشة، وحيث بدأت أجيال شابة، تقترح لغة شعرية مغايرة، تحتضن موضوعات مغايرة، لكن ليس بالقدر المطلوب من الحرية والجرأة، حتى الذين طبعوا أعمالهم خارج سوريا، أي خارج إطار الرقابة المعروف" لكن بعد ذلك بسطور يناقض المؤلف نفسه، حيث يقول "أذكر جيدا في السبعينيات كيف كان التأثر بأدونيس أو بواحد من جماعة شعر تهمة يحاسب عليها أي ساع للنشر في المنابر الرسمية، تهمة فنية بالدرجة الأولى، تخريب اللغة والشكل" أما الملاحظة الرابعة فهي أن "الشكل يمتطي حمارين مشهورين ومألوفين حمار الوزن وحمار المجاز"
والملاحظة الأخيرة التي سجلها المؤلف هي أنه "ثمة عبوس مرضي وكز جماعي على الأسنان داخل الأعمال الشعرية... أما العفرتة والكياسة والزقاقية والابتذال والمجون والهزل والدعابة الأسلوبية والمزحة وغرابة الموضوع كل هذا مع الصرامة الفنية والذكاء، فهي أشياء تكاد تكون غير موجودة في غالب الأعمال، وما وجدته نزل في هذا الكتاب، وهي معدومة في شعر الستينيات والسبعينيات تحديدا، كأن هذا الشعر مكتوب فقط للاستهلاك المحلي، لقارئ سوري".
أما عن منهجه في اختيار المقاطع الشعرية التي وردت في الكتاب، فيقول العضيمة "لا أقدم في هذا الديوان قصيدة نثر تقليدية ولا قصيدة تفعيلة تقليدية، ما أقدمه هو أقوال أو أخبار لها صفات متعددة هي الشعر" "ص42" "أخذت من كل قصيدة وردتها المتفتحة"، "أخذت ما لمست فيه خبرة متحققة، بعيدة عن أن تكون من المخزون التراثي أو من الذهن والذاكرة. على أن تكون منارات في الطريق الى الشعر الجديد، منارات في الطريق الى التخلص من العقل التوحيدي الذهني الديني التجريدي الموزون فيه والمنثور" وهكذا تعبر المقاطع الشعرية بابها الخاص شاملة الكثير من الأسماء منهم الشعراء: بندر عبد الحميد، أمل جراح، منذر المصري، أنيسة عبود، حسين درويش، هالا محمد، نوري الجراح ولينا الطيبي، تعبر المقاطع الشعرية وتتكرر الأسماء من مكان لآخر،
ولكن تحت عناوين أقل ما يمكن أن توسم به هي الرعونة، وضعها العضيمة بنفسه، دون الإشارة الى اسم القصيدة أو عنوان المجموعة التي اجتُزئت منها، فتساوى بذلك شاعر مثل عادل محمود بدأت تجربته الشعرية في السبعينيات وله العديد من المجموعات الشعرية لشاعرة الشابة ميادة لبابيدي التي بدأت تجربتها للتو، والغريب أن أغلب المقاطع الواردة تسير عكس الافتراضات التي وضعها المؤلف أساسا لكتابه، فهي تكرس الصور والموضوعات الأكثر نمطية وتكرارا في الشعر عموما، وفي تجربة الشاعرات العربيات على وجه الخصوص، ومن أمثلة الكتاب المتباينة نقرأ المقطع المعنون بـ "على أي وقت" للتشكيلي طلال معلا، وهو من أجمل المقاطع التي اختارها العضيمة:
أول لوحة لم أرسمها
كانت واضحة جدا:

رغبة تسلك طريقها الخاص
أما في المقطع الشعري المعنون بـ "المرصد الثاني"لمرام المصري، فتتكرر صورة الأنثى الفريسة التي طالما عرفها الأدب العربي: من الأفضل ربما
أن لا آخذ معي فساتيني
وأدوات زينتي
هناك سيطرحني ترابا
وببطء سينتهي مني

قد تكون صحيحة معظم الملاحظات التي سجلها المؤلف محمد العضيمة حول تجربة الشعر السوري الحديث، لكن بتعميمها وافتقارها الى الشواهد والمعلومات وتكرارها العقيم من صفحة الى أخرى، قد تحولت الى ضرب من الثرثرة المجانيّة، وقد تكون المقاطع الشعرية التي اختارها، استطاعت أن تلتقط المفاصل الرئيسة في تجارب الشعراء المذكورين، واستطاعت أيضا أن تطلعنا على عدد كبير من الشعراء الجدد والمغمورين، لكنه بإغفاله ذكر أية معلومات عن جميع الأسماء الواردة، قد قلص جهده الى الحدود الدنيا، كما أن العناوين الغريبة التي وضعها للمقاطع، قد خرجت عن أي مبرر أو سياق معترف به، كذلك باستبعاده الشعراء الكبار والمؤسسيين للحداثة الشعرية في سوريا عن الكتاب، قد أحال المشهد الشعري الى أغصان طرية، جُردت عنوة من جذورها وجذوعها الأم.

تأليف: محمد عضيمة
الناشر: دار الكنوز الأدبية ـ بيروت ودار التكوين ـ دمشق 2003
الصفحات: 396 صفحة من القطع المتوسط

******

الناقد السوري محمد عضيمة يقطّع أوصال الشعر اللبناني

عهد فاضل

جرت العادة, في مؤلفات تضم مختارات شعرية, أن يكون التقريب بين الأجيال ركيزة في جمع الشعراء, أو مقاربة العالم الشعري, لكن قراءة الناقد السوري محمد عضيمة, في كتابه (ديوان الشعر العربي الجديد, شعراء لبنان). (الكنوز الأدبية, بيروت, 2002) للشعر اللبناني جاءت في انتقاء وابتسار حادّين رسما أكثر من علامة استفهام عن طريقة قراءة الشعر.

قدم عضيمة, في كتابه, نحو ستين شاعراً لبنانياً, من أجيال شعرية مختلفة, بدءاً من الستينات وانتهاء بالتسعينات. وحدد عضيمة ما يجمع قراءته للشعر بصفتها (ضد الميتافيزيقيا) التي اعتبرها (زواجاً بالقوة, مع الشعر, وان قرانها القسري مع الشعر تمّ من خلال (بلطجة) فرضت على الشعر العربي.
قبل الدخول الى آلية الانتقاء, تلك, نذكر بعضاً مما جاء في المقدمة, تمهيداً لقراءة عضيمة هو للشعر, وكيف له ان يقتطع مقطعاً ومن ثم يعنونه... بكلِّ حسن نية!!?

يخاطب شعراء التفعيلة بقوله: (إذا كنتم مع الوزن فلم لا تخترعون وزناً يناسبكم?) معتبراً شعراء الإيقاع (مساكين) وأن الإيقاع يدرّب شعراء التفعيلة على (الذل والتبعية) ولهذا (سرعان ما يستجيبون لأدنى إشارة من السلطة ومن الحاكم الثقافي والسياسي). ويستند عضيمة في هجومه هذا على ان معظم الشعراء الذين يلقون شعراً في المناسبات هم من شعراء التفعيلة. كذلك يجري مقاربات بين خطاب (السلطة) وخطاب شعراء التفعيلة بسبب استخدام الطرفين المفردات ذاتها (الإرهاب الحداثي, ميليشيات قصيدة النثر) منتهياً الى تحالفات قائمة (بين شعراء التفعيلة وبين الأنظمة الثقافية والسياسية السائدة). ويتكئ على انطباعه الشخصي, متجاوزاً رصانة النقد والاستقصاء, ومستلهماً أداء الطبيب النفسي يقرر انه لم يلتق بشاعر تفعيلة إلاَّ ووجده (متشنجاً موتوراً)! هذا عدا عن دعوته شعراء التفعيلة الى ترك كتابة الشعر وترك ذهنيتهم الديكتاتورية... وذهنية القمع... والاستبداد! حتى ليخال القارئ ان مقدمة عضيمة تصلح منشوراً حزبياً يمكن توزيعه في أميركا اللاتينية, وليس مقدمة - ينبغي - أن تكون نقدية وفكرية.

أما الآليات التي اعتمدها في اختيار الأشعار فيوضحها ويوجزها بأفكار شتى, كما انه يفصح عن تسامحه (وقلبه الكبير) عندما قبل أن يختار مقاطع من شعر التفعيلة دلالة منه على أن الدم لا يصير ماءً وأن الظفر لا يُسلخ عن اللحم(!!).
في رد استباقي على نقد سيوجه على طريقة الاختيار بصفتها إخراجا للمقطع الشعري من سياقه, يستبق عضيمة بقوله: (سياق بذاته مكثف بجماله) قاصداً ان المقطع الذي اختارته ذائقته يمكن فصله عن المتن لأنه يتضمن عناصره الجمالية الذاتية ويستغني عن السياق الذي جاء فيه. وان سلمنا بمثل اختيار كهذا, فما هو مبرر وضع عنوان للمقطع من عنده هو? أو عندما ينزع الى تبديل المفردات بأخرى? ان أي شاعر سيجد مقطعاً شعرياً له بعنوان مختلف وصيغة مختلفة سيعتبر أن اغتيالاً حقيقياً وقع على ملكيته الخاصة وأن عضيمة يمارس أبوة من حيث لا يحق له, فكثير من الشعراء يعرف عنهم اعتناؤهم الشديد بالحذف والانتقاء ولم ينتظروا أستاذ الإملاء ليحذف لهم فاصلة أو يضيف لهم عنواناً... وأنه كان حرياً بعضيمة أن يمارس هذا التعديل على ما يكتبه هو كونه من ملكيته واشتغاله وحاجته الى ذلك.
في مثل هكذا (اعتداء) على التجربة الشعرية لا يعود الكتاب (مختارات), بل مجموعة من التدخلات الخارجية الصرف المعزولة عن سياق الشعرية كون الأخيرة تفترض التجربة والعلاقة الذاتية بالصوغ. وفي هذا التدخل يقع المؤلف بما اتهم به شعراء التفعيلة إذ حوّل كتابه الى هيئة تحرير غير منتخبة تنشر ولا تنشر تحذف وتلغي وتضع عناوين وتمنع صوراً وتمنح نياشين وجوائز تشبه ما يُعطى للتلاميذ في الصف. إلا إذ كان عضيمة يريد القول في كتابه ان لا قصيدة تستحق النشر ان لم يحررها هو, لكنه لم يقدم له أحدٌ قصائده, بل تسلل هو الى النصوص وتخيل نفسه محرراً فاغتالها وزينها. الاستناد الثاني عند عضيمة, لمثل تلك الاختيارات هو أن الأثر المتبقي من أي عمل كبير لا يكون إلا قليلاً وكأنه يريد اختصار (موبي ديك) الى صفحتين, و(الأخوة كارامازوف) الى سطرين والمتنبي الى بيتين متجاوزاً الزمن والظروف وأسبقية التجربة.
لعل نزوع عضيمة الى المقطع هو بمثابة امتداد مباشر عن وعي وحدة البيت الشعري في العمود الخليلي, إذ كان للبيت استقلاله واكتفاؤه, وجاءت ثورات التغيير الشعري وطرحت وحدة القصيدة, ككل متكامل, ووحدة عالمها الشعري, في اتصال شديد بين التمهيد والمتن, اللغة والصور, وهذه إحدى قمم الثورة الفنية في الشعر, وهذا ما كان عضيمة ضده في كتابه, إذ استبدل وحدة البيت بوحدة المقطع, هذه كتلك, واحدة بواحدة. لكننا إذا استطعنا فهم وحدة البيت فكيف لنا قبول اجتزاء مقطع من قصيدة مبنية على التكامل? أي ان عضيمة يقرأ الشعر الحديث بعقلية خليلية آثرت الاستبدال الظاهري للمصطلح. فكيف لنا إذا تذكرنا ان من سمات الشعر اللبناني التكثيف والاختصار?... سيكون الاجتزاء في هذا الشعر نوعاً من التخريب الحقيقي ان لم نقل التشويه والإلغاء. وسبق لعضيمة ان نشر كتاباً, كهذا, عن الشعر العراقي, وتعرض لنقد للأسباب ذاتها, وهو الآن بصدد تأليف جزء ثالث عن الشعر السوري.
تؤكد عودة ثقافة الفراهيدي لاقتحام قصيدة النثر, من خلال استبدال وحدة البيت الشعري بوحدة المقطع معاكسة التبشير الذي قام به عضيمة بخصوص النثر, وقد تخفي إنكارا داخلياً لمنجزات قصيدة النثر من خلال إعادة كتابتها وعنونتها وتجاوز خبرات الشعراء الذين يسبقونه في تأصيل النثر شعراً ونقداً وتبشيراً, فهل من مكان لقراءة الشعر غير مكان التذوّق والمفهوم?! بالتأكيد لا مكان للقراءة خارج التذوق أو المفهوم, ولكن أي فضيلة يمكن الحصول عليها في اغتيال القصيدة بغطاء المقطع, وتجاوز التجربة بحجة اللقطة, والاستهتار بالحِرفة بحجة التعديل وادعائه?
ان أي شاعر يقف على مقطع شعري له ويجده بعنوان مختلف وصوغ مختلف لا بدَّ سيشعر بما يشبه الشروع في القتل أو الشروع في الإلغاء, فما هي الفائدة النقدية من هذه المقاطع الصغيرة التي تجمع ستين شاعراً جمعاً تعسفياً مبتسراً?!

الحياة
(1/6/2002)