عزت عمر
(مصر)

لينا الطيبيتؤكّد الشاعرة لينا الطيبي في مجموعتها الجديدة "أهزّ الحياة" أنها تمتلك ذاكرة مستفيضة تضوع بياسمين الشام وشفافية بردى وطعوم فاكهة الغوطة، فيأسرك كلّ ذلك، وأنت الذاهب في زمن الحداثة وكرنفالاتها الصاخبة، الغارق في لجّة الاستهلاك الفتّاكة، والمطالب على الدوام أن تلهث وراء أحلام زيّنتها لك أساليب الدعاية والإعلان المعاصرة، فتتساءل مراراً وأنت تقرأ هذه الأشعار الموغلة في شاعريتها، عن جدوى كلّ هذا الجنون الذي عصف بنا باسم الحداثة وسلعها البلاستيكية التي وضّبتنا في ما يشبه الزنازين الصغيرة، ليعيش كلّ منا غربته منفرداً حتى الإدمان! وإذا ما أتيح له قليل من الأوكسجين لتجديد هواء الزنزانة، فإن الحنين إلى تلك الأيام سيعصف به، سيهزّه من أعماقه، فما يني يفكّر في الفردوس الذي أضاعه، والخطيئة التي ارتكبها بحقّ نفسه وبحقّ أحبائه، وبحقّ ثقافته التي أمست تنزوي في حيّز ما خجلاً من الظهور للعلن!

لينا الطيبي ستشق عصا الطاعة على زمن الحداثة هذا، بل على أزمنة بعينها، وستسعى إلى طعنها بالصميم عبر ما ستبدعه من نصوص ودروب جديدة سعياً إلى ذلك الفردوس المفتقد، إلى حاضنة ملأتها ذات يوم بالدفء والغبطة والسرور، ومن هنا من كلّ توقها إلى استعادة ما يمكن استعادته، سنبدأ:

نعناع الأهل

"من بعيد، نهتدي بالأهل
نشمّ روائحهم
كأنا ما غرفنا من ثواب
غير أصواتهم في حناجرنا"

بهذا الاستهلال الموغل في الشفافية تبدأ الشاعرة نصّها المعنون بـ "نعناع الأهل".. النعناع ذلك النبات السحري، والذي دون غيره من النباتات تجتمع فيه خواص عديدة: الرائحة الجميلة والطعم الخاص والقيمة العلاجية، وبالإضافة إلى ذلك فإن له خصائصه وطقوسه الشامية، التي نحنّ إلى شايها أبداً برفقة الأهل أو الأحبة في البيوت والمقاهي. ومن هنا سيكون التخصيص في العنوان بمثابة تعميم، والأهل قد يكونون الأسرة الصغيرة، وقد يكونون الأسرة الكبيرة، أو الجغرافيا بذاتها، والنعناع بذلك سيكون باعثاً للحنين إلى "فردوس" افتقدته الشاعرة ذات يوم، فنأت المسافات بينها وبينه، فراحت من "بعيدها" تسعى لاستعادته، ولكن دون أن تتساءل لحظة واحدة إن كان هذا الفردوس قد بقي على حاله، ولم تنتهكه عوارض التقدّم والتطوّر، أو لم يصب بأزمات المدينة العربية وتعقيداتها.

سيبدو لنا هنا أن الشاعرة غير معنية بالواقع ومتغيّراته، وذلك لأن "فردوسها" حالة خاصّة تكمن في اللاشعور، ما تلبث أن تبرز كلّما تزايد الحنين على شكل "روائح وملاعب وبشر مفعمين بالطيبة"، على العكس تماماً مع ما يجري في الواقع من علاقات شائهة بين بشر مملوئين بالخطيئة، وبالتالي فإن الحنين إلى أهل ذلك "الفردوس" الذين باتوا بعيدين، وربّما في الأعالي، حيث المكان الطبيعي للفراديس، والذي يقتضي الوصول إليها صعوداً أو انتقالاً، بحسب الميثولوجيا الشائعة، من المستوى الأرضي الدنس، إلى المستوى الطهراني:
"فنرتفع إليهم وننحفر على امتداد حبالهم؛ هكذا نتعرّف إلى تاريخ بصمتنا.."

وتلك هي حال الشعر في سعيه إلى تكرار حالة الطّرد من الجنة، والسعي من جديد للعودة إليها خلاصاً من الألم الذي سببته حال الافتراق، وإلى ذلك فإننا في كثير من النصوص سنقع على مثل هذه الرغبة من الشاعرة في الصعود إلى الأعالي:

"عالياً
عالياً
أريد أن أموت
برفّة وحيدة
وعلى جناح مائل في سماء عطوف
تمدّ لي بين الغيمة والغيمة سريراً
وتوسّدني في ارتجافتي الأخيرة
جناح غبطتها.."

ومما يلفت في أشعار المجموعة أنها لن تسعى إلى اتّهام أحد بالتسبب في معاناتها، ولن تكيل التهم للذكورة على النحو الذي نشهده في الأدب النسوي عادة، وذلك لأنها غير معنية إلاّ بإطلاق رغباتها وأشواقها عبر الصور والرموز التي تقطفها من حديقتها الفردوسية، كي تغزل أثوابها الوجدانية منها، فتتحول إلى أثير وتطير "بلاجناحين" هناك في السماء "مثل قوس قزح وحيد، لليلة واحدة، أضيء، ومن ثمّ يحرقني المغيب.

والمواظبة على قراءة المجموعة ستكشف لنا الإيقاع الخفي لذلك الألم الذي استوطن النفس، فبان على الجباه، ولم يعد بمقدور الشاعرة احتماله، فهو ليس ألماً عارضاً يمكن للمرء تحمله لأيام معدودة، وإنما هو ألم دائم طالما ظلّت حالة الانفصال قائمة بين الشاعرة وأهلها، أو بين الشاعرة وفردوسها.. ألم يمزّق النفس، ولكنه على حدّ تعبير هيدغر لا يحيل ما يمزقه إلى أشلاء مبعثرة، إنه يميّز، ولكنه إذ يفعل ذلك يجذب في الوقت نفسه كلّ شيء في اتّجاهه، ويجمع كلّ شيء فيه :

"الألم في ما يتبدى من الألم
في الصور
وفي خطوة تشكّل موطئها
كان لا بدّ من سيف عاجل، ومن ممر طويل، ومن سخرية سوداء تجرح ماضيها، كان لا بدّ من أحزان تمسّ الشواطئ وتلازمها، ولا بدّ من رمل ينزاح كلما اكتمل.."

أطياف أيلول

في هذا النصّ الطويل المؤثّر، تستعيد الشاعرة أسطورة الغروب، فتستلهم حكايتها من الطبيعة التي عبر تعاقبها في فصول، تتشابه وحياة الإنسان بدءاً من طفولته وحتى موته مروراً بالشباب والشيخوخة، وبحسب "نورثروب فراي" أنه إذا كان طور الفجر يتمثّل في الربيع والميلاد وأساطير مولد البطل والازدهار والبعث وانهزام قوى الظلام، فإنه في طور الغروب يعني الخريف والإله المحتضر وانعزال البطل، والشعر في تعبيره عن كلتا الحالتين، فإنما يخضع بالضرورة للحالة النفسية المتوازية مع حالة الطبيعة. ومن هنا فإن النموذج النمطي لقصيدة الفجر أو الربيع سيكون فرحاً وحماسياً وعاطفياً، بينما سينقلب مأساوياً في طور الغروب. وإلى ذلك فإننا سنشعر بذلك التوتر والقلق اللذين يغشيان النصّ ويغلفان بالحزن صوره ورموزه، فالخريف الذي يتساقط في أيلول، يأتي في موعده المحدد، وكأنه حالة قدرية لافكاك للإنسان منها، وبالتالي ليس لديه القدرة على تغييرها، إنها لحظة الاحتضار التي تنتاب الطبيعة. فكما تغيب الزرقة عن السماء، وتختفي الشمس بين طيّات الغيوم، وكما تنتاب الأشجار وسائر النبات عوارض الاحتضار والاستسلام لموت مقبل، فإن الشاعرة سوف تعبّر عن كلّ ذلك من خلال التعبير الرمزي المكثف عن حالة الاحتضار التي تعيشها بطلتها، وكأن الطبيعة والبطلة هنا ذات واحدة، ذات قلقة وحائرة، وإلى ذلك قانعة بأن تلك هي سيرورة الحياة: "أسلمت لهنّ جميعاً أقداري، ورحت أصلّي خفية"، والضمير "هنّ" يعود إلى أربعة نساء ذكرن في النصّ: "سالومي، بينيلوب، تسبين، وهيرا"، ولا شكّ أن لكلّ واحدة منهنّ حكاياتها الخاصّة، والإحالة هنا إليهنّ كانت موفقة برأينا لأنّ الشاعرة دفعت بهنّ لمشاركتها أحداث حكايتها كحالة أنثوية، للربط بين حالتها والعبرة المستفادة من حضورهنّ الرمزي المكثّف، هذا على الرغم أنه كان بإمكانها أن تنشغل بتفعيل الحدث سردياً على طريقة بناء الملحمة الهوميرية، وليس الانشغال بإقامة جملة من الإنشاءات الاستفهامية الضعيفة الأغراض، وذلك لأن بنية النصّ كانت تحتمل البناء الملحمي، وتفترق إلى حدّ ما عن بنية القصيدة الغنائية:

"من رسمه هذا الأيلول؟ من ذا الذي قسّم لي إرثاً فيه؟ من ذا الذي خطف ضحكتي وأشعلني كنار قديمة تداعت بالمرايا وانطفأت بالرماد؟
أتعرفينها تلك الحائكة العمياء؟ هل كانت هي نفسها بينالوب.. حاكت لك شالاً طويلاً وزينتك لليلة العرس؟ هل كنت أنت تعرفينها وهي تغرز إبرتها في دمك وتسهر طويلاً؟ هل كنت تعرفينها لما امتدت يد "تسبين" بمنديل بيرام؟ ..."

أهزّ الحياة

أفكار كثيرة تحملها نصوص "أهزّ الحياة"، وتمتاز في عمومها بشفافيتها المعبّرة عن نفسية الشاعرة الذاهبة في الرقّة، بل الساعية إلى التماهي مع الطبيعة في أوج لحظات عطائها، وبعاطفة أمومية لا يمكن وصفها بالطارئة، وإنما كشجرة الحياة؛ كالنخلة التي تعطي ثمارها في وقت انكسار الأشجار الأخرى أمام الخريف، إنها الأنوثة فيّاضة بالماء والظلّ والثمر؛ المتفهمة لحالات انكسار الذكورة في هذا الزمان الصعب، ولذلك فإنها بكلّ وداعتها ولطافتها تتفهّم أو تتألم، وعندما تتأزم فالرغبة بالخلاص والصعود إلى الأعالي ستغويها، ولكن "بينيلوب" الحاضرة، كرمز للوفاء والصبر، في ذاكرتها القصيّة، ستعيدها إلى سيرة الحبّ:

"كأنها واحدة وأنت الكثير
ندى يرعش في طلاوته
وإذ تناديك تبسم ظلالها
صوتك يرسم ابتسامتها."

لينا الطيبي تغزل شعرها بدقّة الصانع ومهارة الفنان، وإن أصاب نسيجه بعض الهشاشة أوالتكرار في بعض المواضع، فإن ذلك يعود بالتأكيد لانشغالها بالحكاية أكثر من انشغالها باللغة؛ التي من المفترض أن يكون حضورها مشعّاً كحضور أفكارها وصورها ورموزها.

  1. *أهز الحياة، لينا الطيبي، دار المدى، دمشق، 2002 .
  2. في هذا الصدد انظر الصفحة 18 من كتاب "أنشودة المنادي" قراءة في شعر هولدرلن وتراكل. لمارتن هيدغر، ترجمة بسّام حجار، منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت 1994.

عن موقع عزت عمر