عباس بيضون
(لبنان)

عراقي في باريسيصعب أن نجد في العربية كتاباً مثل كتاب "صموئيل شمعون عراقي في باريس" بل لن نجد فيها كتاباً مثله على الإطلاق، الكتاب سيرة لكن علينا أولا ان نخرجه من نطاق السير التي كتبها أدباء عرب ورووا فيها تجاربهم في الغرب. هذه ليست من سير الأدباء وليست سيرة شرقي أمام الصدمة الغربية. لن نجد في الكتاب غرباً وشرقاً ولن نجد فيه بالطبع صدام ثقافات وأيديولوجيات، كتاب صموئيل شمعون لا يحتاج الى أطروحة. بل لا يحتاج الى شيء لقد كتب مؤخراً لا ليعلق على تجربة ولا ليستخلص دروساً. كتب لان التجربة لم تنته ولأنها لم تتحول الى عظة وإلى عبر، ولان الكتاب الذي طال انتظاره جزء من حياة تعيش على الحكاية كما تعيش على غيرها، ليس "عراقي في باريس" نوستالجيا من أي نوع ولا هو على مفرق أو منعطف. انه الحياة الجارية التي لا تزال تتدفق مظهرة في حركتها عجائب وفنوناً، تبدأ السيرة من حكاية، حكاية أكثر من ان تصدق، حكاية الأب الأخرس الأطرش الذي أحب ملكة انكلترا التي رأى صورتها على علبة التبغ، أكثر من ان تصدق ايضا رحلة دونيرو. صدق أو لا تصدق ثم لا تتحدث بعدها عن صدمة الحضارات ولا عن تنازع الشرق والغرب فلا الأب الذي وقع صريع صورة على علبة ولا الفتى الذي سافر وراء حلم ليس أكثر حقيقة من صورة الملكة الانكليزية موجودان هنا ليطرحا قضية من أي نوع. لا شيء هنا سوى انبجاس خيال رهيب من قوة واقع عجائبي، لا شيء هنا سوى حياة لا تترك فسحة لسؤال. إنها تتلاحق كشريط سينمائي، كفيلم غير منقطع، كسيولة صور ووقائع ومصادفات بلا حد. ليس "عراقي في باريس" ايضا كتاب رحلات فمنذ حل الفتى في باريس وكتب عليه ان يسلخ فيها عشر سنوات بلا مأوى فإن المدينة هي التي تدور أمام أعيننا شارعاً شارعاً ومقهى مقهى وباراً باراً وحياً حياً. ليس العراقي الذي في باريس سوى مدينة محمولة على ظهر العراقي والخارطة الباريسية المرسومة على جسده، ستكون هناك حياة سيّالة كالنهر ولا وقت فيها لوقفه. إنها حياة في الشارع مع كؤوس بلا حصر وحانات وبيوت ومطارح لكنها ايضا أحلام سينما مستمرة وكتب تقرأ بشغف كبير، ثم أنها ايضا حياة ولود على حافة الفانتازيا والخيال وصموئيل شمعون يعيش ويتخيل في الوقت نفسه. يعيش ويحكي ولا بأس من ان تتقاطع الحياة والحكاية لا بأس من ان تخترق الحياة الزمن وتدخل في واقع سحري، لا بأس للفتى الذي استعان على حياته بقدر كبير من الشطارة والاختراع ان يخترع في معرض الحكاية وأن يتركنا معلقين أمام هذه الحدود الممحوة بين لعب الخيال ولعب الواقع، اذا كان لا بد لنا من ان نقول شيئا في سيرة صموئيل فهي أيضا صندوق أعاجيب، وإنه يعيشها ويخترعها في الآن نفسه.
الحياة والحكي متدفقان معاً، ولا بد بعد ذلك ان يكون كل شيء عاريا صرفا، ولا بد ان يكون هذا العري مؤسلبا الى حد، أنيقا الى حد، ان يكون التشرد ايضا فاتنا وأنيقا، فصموئيل شمعون لا يكتب ليتحسر، لا يكتب "لينق" ولا لينشد أو يرمي أو يعظ ولا ليملحم. انه يكتب لأنه تبادل مع الحياة اللعب ولأنهما ضحكا من بعضهما البعض، ولان شهية الحكي وشهية الحياة لا تنتهي بدرس ولا بعبرة، شيء يذكر بهنري ميلر، قوة الحياة قوة الحكي.

(عن السفير، 1 نوفمبر 2005).

*******

صموئيل شمعون في سيرة مزدوجة ... الآشوري التائه في باريس بعدما خاب حلمه الأميركي

عبده وازن

يتأرجح النصان اللذان ضمهما كتاب صموئيل شمعون "عراقي في باريس" (دار الجمل، 2005) بين الرواية والسيرة الذاتية، ويبدو النص الأول الذي حمل الكتاب عنوانه، مختلفاً عن النصّ الثاني "البائع المتجوّل والسينما" اختلاف السيرة الذاتية عن الفن الروائي، على رغم أن فعل السرد يرتكز على ضمير المتكلم (الأنا) الذي يروي بدوره سيرة تتميّز ببعدها الصوري أو السينمائي بالأحرى. وقد شاء صموئيل شمعون ككاتب، أن يقدم سيرة الشباب على سيرة الطفولة، وهذه كتبها أصلاً في صيغة "سيناريو" طالما حلم بتحقيقه، وعندما خاب حوّله نصّاً ملتبساً بين السيرة والرواية. إلا أنّ النص الأول الذي تجري معظم وقائعه في باريس بدا كأنّه يمهّد للنصّ الثاني، فهاجس الراوي - الكاتب تمثل في انجاز هذا "السيناريو" الذي لم يتحقق.
كلا النصين إذاً سيرة ذاتية ذات تصوّر روائي، مع أنّ الكاتب يفضح "أناه" تمام الفضح وتكاد الكتابة تمسي حقيقية صرفة، ولو غدت محفوفة في أحيان ببعض "التخيّل" (لا التخييل) لا سيما عندما ينظر الكاتب الى نفسه نظرته الى "بطل" ما هو "الآخر" الكامن فيه. في هذا الصدد يقول بول فاليري: "في الأدب الحقيقة غير معقولة". ولعلّ هذا ما فعله صموئيل شمعون، عندما سعى الى "أسطرة" شخصيته الواقعية متمسكاً بحذافير السيرة الذاتية. فالسيرة أولاً وآخراً وهي كما يقول الناقد الفرنسي فيليب لوجون: "سرد استعادي نثري يكتبه شخص حقيقي عن وجوده الخاص، مركزاً على حياته الفردية".
منفى "ربع قرن"
لعلّ الفترة الزمنية التي تدور خلالها السيرة الأولى تقع بين العامين 2004 و 1979. فعندما يلتقي الكاتب أمّه في إحدى مدن كاليفورنيا في العام 2004 وكانت آتية من بغداد تسأله للتو: "أين كنت طول هذه السنين يا ولدي؟". هذا السؤال يشي بحال "الغياب" الذي غابه الكاتب أو حال "النفي" الذي عاشه خلال 25 سنة (ربع قرن) متنقلاً من منفى الى آخر، منذ أن غادر بغداد في العام 1979. وليس مستغرباً أن تكون حياة هذا الكاتب المشرّد حافلة بالآلام والمفاجآت والمصادفات التي حملته من مدينة الى أخرى ومن تحقيق الى زنزانة الى تعذيب وضرب وإذلال. وفيما كان يخيّل اليه أنه بدأ يسلك الطريق الى هوليوود سعياً وراء حلمه السينمائي وجد نفسه مضطهداً في دمشق ومشتبهاً به تبعاً لاسمه الغريب ذي الدلالة "اليهودية". فبعدما تأكد رجال الأمن في دمشق بأنه "ليس يهودياً عراقياً" يخلون سبيله وينصحه الضابط بأن يبدّل اسمه. هذا الاسم ذو البعد الديني - الآشوري - كون الكاتب من الآشوريين العراقيين - كانت الأم انتبهت الى أنه سيكون عبئاً على ابنها وقد قالت مرّة: "بهذا الاسم الثقيل نضع الكثير على كتفي هذا الطفل". ومثلما أوقف الكاتب في دمشق أوقف أيضاً في بيروت الشرقية التي لجأ إليها وفي ظنه أن أشوريته تساعده على تدبر أمره ريثما يسافر الى "أميركا". لكن عناصر في حزب الكتائب اللبنانية يعتقلونه مشتبهين به أيضاً كجاسوس، فيضربونه ويحققون معه ويقرران قتله، لكن ذاكرته السينمائية التي صنعها له قرياقوس ابن بلدته العراقية (الحبانية) وأستاذه، ستنقذه في اللحظة الأخيرة. فالشاب الذي أوكلت اليه مهمة قتله كان من المتحمسين للسينما ولا سيما الفرنسية، فدخل في نقاش معه، وما كان للكاتب الموقوف إلا أن يُسمّي له أكثر من أربعين اسماً من السينما الأميركية مما أثار فضول الشاب الميليشيوي فأخلى سبيله. في عمّان التي لجأ إليها بعد بيروت يكابد العذاب نفسه، علماً أنه كان شرع في كتابة القصص. وبعد أن يُوقف ويُضرب ويُحقق معه يفرّ مرة أخرى الى بيروت ولكن الغربية حيث الأحزاب اليسارية والفلسطينيون. يقيم في الفاكهاني الشارع الذي يعرفه المناضلون العرب - على اختلاف هوياتهم - ثم يعمل مع الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، الى أن "يشتري" وثيقة سفر لبنانية فيسافر الى تونس ثم الى عدن حاملاً رسالة توصية من مكتب ياسر عرفات فيحصل على جواز سفر يمني مثله مثل الكثيرين من العراقيين والفلسطينيين. يسافر الى قبرص ثم الى طرابلس اللبنانية التي حوصر فيها الفلسطينيون في مطلع الثمانينات، ثم الى قبرص مجدّداً فإلى تونس. وينتقل من تونس الى فرنسا لاجئاً سياسياً. وهنا يبدأ منفاه الباريسيّ الذي سيكون المادة الأشد طغياناً في النص الأول "عراقي في باريس".
يعيش الكاتب أو الراوي حياة من التشرّد التام في باريس بعد فترة أمضاها في مركز "لوروشتون للاجئين" مع مهاجرين من العالم الثالث، بل هو راح يكتشف في باريس معنى البوهيمية والصعلكة مختبراً إياهما بروحه وجسده. ونام معظم تلك الأيام في محطة أوسترليتز للقطارات وكان هناك يغتسل مثل "كلوشار" عراقي أو "آشوري هارب من المتاحف" كما يقول أحدهم عنه. وعلى رغم الحال المزرية التي عرفها كان أشبه بـ "المشرّد السعيد"، يتنفس بحرية تامة ويعمل بيديه دهّاناً أو طابعاً على الآلة الكاتبة حينذاك. ولم يكن يتردد في الاستدانة من أصدقاء له أو معارف ومنهم أشخاص أفقر منه. شخص عراقي يحمل بطاقة لجوء، أميركي الهوى واللغة، يقرأ فيتزغرالد ويعيش في عالم السينما الأميركية ويحاول تعلّم اللغة الألمانية في مركز بومبيدو. "لم يكن العيش بلا مأوى أمراً صعباً فقط بل كان أمراً متعباً جداً"، يقول صموئيل شمعون. لكن خريطته "البوهيمية" لن تستحيل خريطة لعالم سفليّ وان أمضى وقته بين البارات وبعض المغامرات الجنسية. وعندما كان ينام في الشارع نهاراً كان يسير حانياً رأسه لئلا يبصره المارّة. فهو صعلوك مهذّب وخجول ولكن على كثير من الطرافة والسخرية. ولعنة اسمه ستلاحقه في باريس أيضاً ولكن سلمياً: أحد الإسلاميين العرب ينعته بـ "اليهودي" ويقول له حارس البناية التي سكن في إحدى شققها: "عربي وتحمل مثل هذا الاسم".
ولئن غيّب الكاتب الملمح الثقافي عن شخصه أو شخصيته فهو تناول العلاقة التي ربطته بالشاعر آدامس (أدونيس في الواقع) الذي وفّر له دخلاً متقطعاً عبر طبعه قصائده ونصوصه على الآلة الكاتبة، وقد سرّ تماماً عندما تلقى نبأ فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل والتقى الكاتب الاسباني فرناندو أرابال وأبصر صموئيل بيكيت ذات يوم في الشارع. عدا هذه الأمور لم يملك الكاتب أيّ همّ ثقافي أو أدبي، فهو كان مأخوذاً بحلمه السينمائي الأميركيّ. وانطلاقاً من هذا الحلم راح ينظر الى نفسه وكأنه يؤدّي دوراً في الحياة وليس على الشاشة. وتمكّن من خلال هذه الحياة الحرة كل الحرية أن يرسم "مدينته" الخاصة، هذه المدينة التي لم يقطنها بقدر ما جال فيها وتصعلك. وعندما يسأله صديقه "زياد" عمّا يكتب فيقول له انه "حائر بين السيناريو والرواية" ويضيف: "إنني أكتب شيئاً عن حياة أبي". هذه الجملة قد تكون مفتاح النص الثاني الذي حوّله رواية أو سيرة ذاتية روائية بعدما عجز عن جعله سيناريو لفيلم لن يصوّر البتة.
مديح الأب
على خلاف محمد شكري الذي فضح "الأب" وكسر صورته في سيرته الروائية "الخبز الحافي" يسعى صموئيل شمعون الى مديح الأب وتلميع صورته في هذه السيرة التي تلائمها صفة الرواية أكثر من النص الأول، لأسباب عدّة أولها وقوع أحداثها في بيئة تاريخية معيّنة، وثانيها تعدّد الأشخاص فيها أو الشخصيات، وثالثها النظرة السردية - السينمائية التي كتبها المؤلف من خلالها. وهنا يبدو من الصعب فصل البعد السينمائي عن البعد الروائي في هذه السيرة، مما يؤكد أنها كانت في الأصل مادّة سيناريو ظلّ غير ناجز. ويمكن ببساطة تحويل هذه السيرة - الرواية سيناريو لفيلم إن هي وجدت مخرجاً: فاللقطات والمشاهد السينمائية كثيرة فيها، علاوة على حركة الجماعة وحضور الأمكنة وبروز الشخصيات ذات "الكاريكتيرات" النموذجية. ومن المشاهد أو اللقطات البارزة: المرحاض العمومي في القرية (الحبانية، شمال العراق)، المغسلة العمومية، بحيرة الملح، الحريق في منزل العائلة، جولة قاسم على أهل القرية بالشرشف الملطّخ بالدم، التشرد الجماعي، المجازر المستعادة من الذاكرة، جرافات النظام الجديد التي هدمت البيوت...
يكتب صموئيل شمعون هذا النص معتمداً على ذاكرته البصرية وإحساسه المشهدي المرهف والذكريات الأليمة التي عاشها خلال الطفولة السعيدة بعض السعادة والأليمة الشديدة الألم. لكنه لا يقع لحظة في "الميلودراما" الذاتية ولا في الجوّ المأسويّ على رغم البؤس الشديد الذي يحل بعائلته. بل هو يوظف السخرية المرّة خير توظيف ليهزأ من الحياة والقدر وكأنّه يركّب الرواية تركيباً سينمائياً على طريقة الأفلام الايطالية الساخرة ("قذرون بشعون وأشرار" و "سينما باراديزو"...). فالأب الفرّان، الأخرس - الأطرش، "كيكا" يهوى زيارة الحانة ويحن دوماً الى زمن الانتداب الانكليزي ويحتفظ بعلبة فضية تحمل صورة الملكة البريطانية. أما الأم "كرجية" فامرأة محافظة تنجب بلا تبرّم، مؤمنة وبريئة في إيمانها، تتلفظ ببعض الجمل الآشورية، لكنها مثل زوجها لا تفرّق بين أولادها وأولاد جارتها المسلمة، بل ان العائلتين المتجاورتين تعيشان معاً وكأنهما عائلة واحدة. ولم يكن يضير العائلة الآشورية المسيحية أن يحفظ ابنها (صموئيل) آيات من القرآن يتلوها في الليل أو في لحظة الخوف والخطر. لكن الأم، مثل صديق العائلة قرياقوس الآشوري، كانت تميّز بين العرب والآشوريين كأن تقول لأولادها: "انتبهوا من الأولاد العرب فرؤوسهم مملوءة بالقمل".
بدا الصبيّ (صموئيل) على علاقة باكرة بالسينما، هو الذي كان يجيد التحدّث مع أبيه بالإشارات، وقد وصفه قائلاً: "أبي مثل السينما، صور، صور، صور". وتحامل عليه مرة الفتى الأرمني "خاجيك" قائلاً له: "انك تفضّل الأفلام الصامتة لأنك ابن أخرس وأطرش". الا ان علاقة الفتى بالسينما ترجع الى صديق العائلة "قرياقوس"، فهو الذي علّمه صغيراً "الفباء" السينما وجعله يحفظ أسماء نجوم هوليوود وتواريخ ميلادهم. وكان الفتى يصلّي في الليل متوجّهاً الى السماء: "يا رب، يا مسيح، أقسم أنني لن أكون إلا سينمائياً". وكانت أمّه تشتمه ناعتة إياه: "يا ابن الكلب، كأنك ابن السينما ولست ابني". لكنّ المفاجئ أن الفتى لم يلتحق بالمدرسة الا في الثامنة من عمره: "أريد أن أتعلم القراءة والكتابة لكي أصنع الأفلام". وخلال هذه الفترة يخصص قبواً مجاوراً للمنزل لما يسمّيه "سينما الظل" ويسمّي القبو "غرفة السينما"، وعلى جدرانها يعلّق الملصقات السينمائية وصور بعض الممثلين.
شخصية سينمائية
وسواء بالغ صموئيل شمعون في رسم الهاجس السينمائي للفتى أم لم يبالغ، فإنّ "قرياقوس" شخصية سينمائية بامتياز، وقد سعى الى تحقيق حلمه الذي لم يتحقق من خلال الفتى. فهو الذي حالت ظروفه المأسوية دون أن يصبح سينمائياً، كان يصرّ على تعليم الفتى ما كان تعلّمه على يد العسكري البريطاني مايك الذي أنقذه من المجزرة التي ارتكبها الأكراد في حق الأقلية الآشورية، وجعله مساعداً له في سينما القاعدة الجوية البريطانية في القرية (الحبانية). وعندما توفّي مايك حلّ قرياقوس محلّه حتى انسحاب البريطانيين من العراق. وخلال هذه الفترة اكتسب قرياقوس خبرة في شؤون السينما وثقافة كبيرة.
عمل الفتى في بيع المرطبات البلدية صيفاً وبيع "الساندويشات" شتاء قبل أن يلتحق بالمدرسة وبعد التحاقه بها... ولم يكن يخجل من تسمية نفسه التلميذ - البائع أو "البائع المتجوّل" الذي يقود عربته بين مدخل المدرسة ومدخل الصالة السينمائية، إضافة الى عمله اليدوي في جمع الملح عن سطح البحيرة مع أولاد الجار نصرت شاه الذي كان له بمثابة أب ثان. لكن السيرة لن تقتصر على الملامح الشخصية للفتى بل ستكون في الحين عينه سيرة العائلة والقرية أو "البيئة". فسيرة الفتــى جزء من سيرة العائلة الآشورية الصغرى (البيت) والكبرى (القريــة) ولكن عبر انفتاحها على العائلة الأخرى (المسلمة) المجاورة والتي كان الفتى ينتمي إليها انتماءه الى عائلته. وعندما تهجر العائلتان من القرية بعدما قرّر الحزب الحاكم تحويلها معسكراً، اختار الفتى أن يمضي مع العائلة المسلمة ويعيش في كنفها ثلاث سنوات، ليلتقي بعدها أهله المهجّرين بدورهم. ومشهد "التهجير" أليم جداً وحزين وواقعي - شاعريّ، وقد نجح الكاتب في رسمه وسط العراء في تفاصيله: العربة، الحقائب، الطريق، الغبار...
الوقائع التي تتخلل هذه السيرة كثيرة جداً وكذلك الشخصيات التي تمرّ وكأنها في شريط وثائقي. فعلاوة على الأخوة (شمشون، روبن، تيدي...) والأخت (شاميران)، يحضر الجار الفارسي الأصل (نصرت شاه) ذو الأصابع الثلاث المقطوعة، وزوجته سكينة، ويحضر يوشيا البقال، وخاجيك الأرمني، والعم "إسرائيل" المصوّر الفوتوغرافي اليهودي، والخالة زهرة ونسرين التي يقع الفتى في حبها، وقاسم وسمر وجاكلين والأب روفائيل... وقرياقوس طبعاً، الشخص البارز جداً والذي كان يصرّ على أن الأشوريين هم "أصل هذه البلاد". وعندما حلّ الجنود المصريون في القرية وأقاموا فيها مخيمات التدريب استعداداً لتحرير فلسطين سمّاهم قرياقوس بـ "الأفارقة". وبعض هؤلاء الجنود سيعيشون قصص حب مع بعض النسوة والفتيات في القرية ومعهم تدخل الأفلام المصرية الصالة السينمائية اليتيمة.
فشل صموئيل شمعون في تحقيق حلمه السينمائي بل حلمه الأميركي، لكنّه ألّف كتاباً هو من عيون ما وضع في أدب السيرة الذاتية في العصر الحديث، عصر الصورة والثورة المشهدية. ولا أخفي شخصياً، أنني بقدر ما قرأت هذا الكتاب بألم قرأته بمتعة ناجمة عن السخرية الذكية والعبث الكامنين في صميم السيرة المزدوجة، علاوة على الفرادة والسلاسة اللتين وسمتا الكتاب.

(صدر الكتاب مؤخرا عن منشورات "الجمل")

الحياة - 02/11/05