("سعار" للروائية الكويتية بثينة العيسى)

علا الأشقر
(لبنان)

أمام ظلال الأدمع المقمرة، أمام زورق الأحلام الغانية، وسحر النجم القصي، المتدثر قبة الوجود، ينحني قلم بثينة العيسى ليشارك في عملية تضميد جرح لا يزال ينزّ: جرح المرأة العربية. روايتها الجديدة، "سعار"، الصادرة حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، دعوة الى فكّ عقال المرأة، واعتبارها عنصراً يحرك المجتمع، واحترام رأيها ومشاعرها، وهي ثورة ضد الخنوع وممارسة الحجر. "سعار"، خطّ أحمر يفصل بين الهامش والمتن.
في الجزء الأول، الهامش، تنجلي قصة فتاة تدعى سعاد، ينهكها التعب والجمود. مهشّمة، راضخة، تعرض الزواج على حبيبها السابق مشعل بعدما رفضته، وابتعدت عنه لخمسة أعوام. ترسم الراوية ملامح الدهشة التي تنتاب هذا الشاب الطيّب حيال تصرّفات الفتاة. ما الذي حثّها على فعل كهذا؟
من النهاية تبدأ الرواية، تعود بالأحداث الى الوراء: اللقاء الأول بمشعل، والرسائل المتبادلة، التي تتخللها بعض الأحداث الوطنية، والإستغلال الذي عانى منه الكويتي والعراقي في مجابهة الأجنبي. الجزء الثاني، على متن أرض تنجلي عليها حقيقة تصرفات الفتاة، ويعرض لأساليب "حضارية" لوأد البنات، بطريقة مغايرة عن دفنها تحت التراب. فالمجتمع الخليجي يدفنها حية، يزجّ عقلها، ثقافتها، أنوثتها، حياتها كلّها، في قمقم التخلف الذكوري.
بأسلوب انسيابي خال من الصنعة، وبلغة أدبية راقية، تلقي بثينة العيسى الضوء على طفولة صامتة - خليّة أجبرت على الخروج من رحم والدتها - لا تتكلم إلاّ نادراً، فالصوت هو الرعب في ذاته. لغتها القلم، يدوّن كل ما تسمع، وكل ما تريد قوله. تعيش البطلة طفولة فريدة، تمضي وقتها في الدولاب (الخزانة)، تستمع الى أحاديث زوّار أبيها الشاذة والمرعبة، من دون أن يراها أحد، أو حتى يشعر بوجودها. ترغب بمعرفة كل شيء، حتى خيانة والدها لأمها التي ماتت قديسة. يجسّد هذا الدولاب الألم الحاد الذي ينتابها، سببه رجل يكشف مكانها السرّي، فتحسّ معه بالمودة والأمان. قصة أوّلها الكلام الجميل والرقيق، واستجلاء أوجه الفضيلة والمشاعر. مشعل يحثّ حبيبته على القراءة والكتابة في سبيل التقدم، الى أن تبدأ عوارضه المنبعثة من الاستبداد والسلطة بالظهور. يخطط لامتلاكها بأنانيته وعجرفته، حتى انه يريدها أن تكتب كما يريد هو، ومتى يريد هو، الى أن تتجرأ وتصرخ: "أنا الراوي، سأرفع صوتي عندما أريد وكيفما أريد". يهزّه صوتها المدوّي الذي يهدّم أسوار الجهل والحرمان. يعتريه الوهن، يفقد توازنه حين تسأله عن المستقبل. تكبّل عزيمته وشرفه الملطخين بمحاولات الإغتصاب والتخدير، وتقطع مخالبه الحادّة.
"سعار" رواية تثور على القيود، تطرح قضايا إنسانية، وطنية، معادية للسلطة والإلغاء. بطلتها، سعاد، تتمنّى ما تتمنّاه كل امرأة عربية، أن تعيش أفكارها وحياتها ومشاعرها من دون قيد أو شرط، وبلا تصنّع. لهذا تطلب لقاء مشعل، تشعر بأنّها في أمس الحاجة إليه، "أرادت أن تلعب معه قصة سندريلاّ"، تقول العيسى، فهو لطالما أحبّها بصدق وبخجل قضى عليه، "فمع احتراقه حتى عظامه لم يتجرّأ ويتخلّى عن تكتّمه" إلاّ بعد فوات الأوان. في لقائهما على الشاطئ، عندما أصبحت يده "بارعة في القبض على كتفها وصنع دوائر"، لا تستطيع سعاد الا ان تتذكّر الرجل الجبان الذي كان يسكنه. تلعنه، وتاليا تفقده، ومعه تفقد الثقة بالرجال نهائياً، الذين في رأيها لا يبحثون إلا عن شهواتهم.
هذا العالم الروائي بما فيه من أبطال وأحداث وأشياء، يبدو مشدوداً الى محرّكات خفية، تديرها بثينة العيسى وفق خطة مرسومة وجريئة، تجسد الواقع المعيش بصدق وشفافية وتقنية أدبية، واقع القيم القبلية المجحفة والمكبلة بتقاليد مجتمع تسكنه سلطة التملّك الذكوري.