علي حبش
(العراق)

حسين حبشفي قصيدته الأخيرة "رسالة إلى ايلوار" يقترح الشاعر محمد مظلوم على شاعر المقاومة الفرنسية بول ايلوار ان يعيد كتابة كلمة الحرية على دبابة أمريكية تتجول في شوارع بغداد أو على ثياب احد جنود المارينز الذين دخلوا العراق، وتعد هذه القصيدة من القصائد القلائل التي كتبت ضد الاحتلال ويمكن ان تدخل ضمن أدب المقاومة العراقية الذي بدأت ملامحه بالظهور، غادر مظلوم العراق عام 1991 إلى بيروت ثم استقر في دمشق اصدر خلال مسيرته الإبداعية خمس مجموعات شعرية كان آخرها (اسكندر البرابرة) في دمشق 2004 عاد مظلوم إلى بغداد بعد سقوط النظام السابق ولم يمكث بها إلا أياما ثم عاد إلى محل إقامته في دمشق واليوم بعد مرور عامين من احتلال العراق عاد ثانية إلى مدينته بغداد.
"الخليج" التقت مظلوم في مقهى الشابندر ببغداد وكان هذا الحوار:

كيف شاهدت بغداد بعد عامين من الاحتلال..؟
- مدينة ليس لها من رسمها إلا اسمها... هكذا صور ابن بطوطة صورة بغداد بعد أن رأى خرابها، في القرن الرابع عشر الميلادي، ويبدو أن خرابها يتدحرج عبر القرون ليرسم صورة فجائعية متكررة للمدينة التي يتغنى بمآثرها الجميع، دون أن تجد من يوقف خرابها.
لعل بغداد الآن صورة نموذجية لمدينة الأحزان العربية.. ربما طغت بفجائعيتها الحالية على صورة القدس، وحتى صور المدن الأوروبية بعد الحربين العالميتين، ما يضاعف معضلة المدينة اليوم هو صورة (الفوضى الخلاقة) التي صنعها بناة العالم الجديد! إضافة إلى ما خلفته ثلاثة عقود من القمع والإذلال للبشر، والتخريب والإهمال، كل ذلك يجعل من بغداد عاصمة الفوضى بامتياز، إنها سوق عشوائية تطرح نفاياتها في كل اتجاه، ومعنى السوق هنا ينطبق على البضاعة وعلى أشياء أخرى جرى تسليعها وتسعيرها كذلك.. أتحدث بشيء من التركيز عن الضواحي وأحياء الفقراء، تلك التي تبدو اليوم وكأنها معزولة تعيش في غابة من الجذام، حتى دبابات الاحتلال لا تتمركز فيها بكثافة، وبلدان تركت لقدرها وكأنها ليست من العراق، بل ليست من العالم.
لقد قدمت مرثية مبكرة لبغداد في قصيدتي الديوان ( أندلس لبغداد ) حتى قبل سقوطها على يد الأمريكان، لكنها ليست مرثية للتفجع فحسب بل لإحياء الصورة المشعة للمدينة حتى تلك التي يغيب شعاعها في الركام.
بغداد بعد عامين من الاحتلال تزداد ابتعاداً عن اسمها وليس عن رسمها فحسب.. رأيتها مدينة غريبة رغم إنها لم تغب عن خاطري في المنفى صورة حلمية وحتى كوابيسية، لكن صورتها في الكابوس تبدو الآن أكثر رأفة من صورتها الحالية..
ليس هذا هجاء للمدينة التي لم أحب سواها لكنه توصيف لاختلاط الحلم بالكابوس ذلك ما صنعه الاحتلال في المدينة وما خلفته الدكتاتورية من خراب مزدوج.
عندما زرتها قبل عامين كنت أظن ان الخراب الذي تركته الحروب على جسدها، سرعان ما يمحى لكن الواضح حتى الآن أن مشهد الخراب سيبقى ملتصقاً بالعاصمة إلى حين من الدهر.
ما هي ملاحظاتك عن واقع الثقافة العراقية؟
- لا يمكن عزل المشهد الثقافي عن الواقع البائس للمدينة، كانت الثقافة العراقية، تزدهر عندما يكون ثمة مجتمع أهلي على الأقل ولا أقول مدنياً، وحتى عندما كانت هناك دولة قمعية كانت فكرة مقاومة القمع واحدة من المحرضات الأساسية للثقافة العراقية في تواصل عطاءاتها.
بيد أن الواقع اليوم ملتبس إلى الحد الذي يجعل مشهد الثقافة مشهداً هلامياً لا يمكن توصيفه بدقة، الحرية المزعومة لم تنتج أدباً حراً حتى الآن، حتى تلك الكتابات المتذمرة من تاريخ الدكتاتورية تقع ضحية لعدو لم يعد موجوداً، إنها نوع من تزييف الوعي، وتوجيهه خارج المعضلة القائمة الآن، اعني وجود هذا الحشد من جيوش القتل في شوارع العاصمة، بيد أن الثقافة العراقية التي تبدو منتكسة الآن سرعان ما تنفض عنها الرماد، كما هو شأنها دائماً ولكن ليس بالنوايا الطيبة بل عندما يكون المثقف صلباً أمام الكوارث وحياً حين يغطي الموات كل شيء من حوله. ذلك عن الثقافة في واحدة من معانيها تمثل الانبعاث وتتمثله في صيرورتها.
على أن اخطر ما يواجه الثقافة العراقية في هذه المرحلة هي الصحافة الحزبية والأوراق الصفراء والخضراء التي تستدرج الأدباء، بعد فترة قمع ليست باليسيرة، ولهذا تجد كثيرا من الأدباء تفرغ لملء تلك الأوراق بكلام أقل ما يمكن توصيفه به بأنه عابر وسطحي ومبتسر، فيما بقيت المادة الأساسية، التي يمكن أن تمثل شهادة كبرى حول ما جرى، بقيت ضائعة وفي أحسن الأحوال مؤجلة.
هل ظهر أدب مقاومة في العراق؟
- في قصيدتي ( رسالة إلى إيلوار ) التي ضمها ديواني الأخير ( إسكندر البرابرة ) اقترحت على شاعر المقاومة الفرنسية أن يعيد كتابة كلمة الحرية على دبابة إبرامز أو على ثياب المارينز المشتعلة بجغرافيا ملونة.. ففكرة أدب المقاومة صار ينظر لها اليوم وكأنها من الآداب القديمة التي تنتمي إلى عالم قديم هو الآخر أو لم يعد موجوداً، العصر الإمبراطوري الذي نعيشه جعل من فكرة الرفض والاحتجاج وكأنها من تركات حقبة زائلة، ولعلك تتذكر أنني في زيارتي الأخيرة استغربت من أن لا يقوم اتحاد الأدباء في العراق بتوقيع بيان احتجاج ضد الاحتلال أو على الأقل ضد وجودهم في شوارع العاصمة، فبدا استغرابي وكأنه دعوة للعنف، وثمة من أشاع عني بأنني أدعو المثقفين العراقيين للانخراط في المقاومة!
طبعاً تعلم خطورة مثل هذه التقولات في بلد يحكمه الأمريكان، إذن أين يمكن أن نجد مثل هذا الأدب، هل من الممكن أن تجد صحيفة واحدة من بين أكثر من مائتي صحيفة تصدر في العراق اليوم، واحدة تتحمل مجرد وجود فكرة أدب مقاوم.. طبعاً أنا واثق إن ثمة أدباء، وهم قلة بالتأكيد لم يهادنوا الدكتاتورية ولا الاحتلال هؤلاء وحدهم هم الأدباء الأحرار والمقاومون.. المطلوب الآن هو مقاومة سلمية من المثقفين، أن لا ينخرطوا في الخطاب الذي يديم الاحتلال ويشرعنه أو على الأقل مقاطعته، لكن الواقع يشير إلى إن كثيرين ممن يسمون بالمثقفين في العراق اليوم هم أدوات طيعة بيد الطبقة السياسية كما كانوا دوماً وهي طبقة تجيد التجارة بمثل هؤلاء كما تتاجر بأشياء كثيرة، نفيسة ورخيصة، من أجل نزعات السلطة.
عاجلاً أم آجلا سيجد ( أدب المقاومة ) شرعيته في البلاد مع ما يقدمه من نماذج ناضجة وحقيقة تقدس الجمال وتعيد ابتكاره ضد صناع الحروب واستعباد الإنسان!
لماذا رفضت إقامة أي احتفالية بك في بغداد؟
- عندما زرت بغداد قبل عامين كان كل شيء ينهار، بينما بقي مقهى الجماهير في الباب المعظم عنواناً للأدباء الهامشيين يقيم النشاطات الثقافية بانتظام! ولعلك تذكر قدمت في هذا المقهى يومها قراءات شعرية بين الأصدقاء الذين قالوا لا للدكتاتورية، اليوم وجدت المؤسسات الثقافية يعاد صياغتها من جديد لتقول ( نعم للاحتلال) إنه سيرك حقيقي هكذا نظرت للمشهد ولم أكن مستعداً أن أكون مهرجاً في هذا السيرك..
لقد اعتبرت عدم إجراء لقاء في الصحافة أو التلفزيون أو إقامة أمسية هو نوع من ممارسة الحرية، في التعبير ضد ما يجري، البعض ذهب بعيداً في تفسير الأمر، واخذ بالتشنيع ضدي ولك أن تتصور تأثيرات الديماغوجية الإعلامية التي يرددها البعض ضد شاعر عراقي قادم من دمشق!
ربما لو رضيت بما يجري لانتهى الأمر بسلام ووئام! لكنني مستعد لتلقي المزيد من التشنيع فقط لأكون حراً في التعبير عن رأيي.
وهل هناك دور لاتحاد الأدباء العراقيين في مسيرة الثقافة العراقية؟
- لقد تحول اتحاد الأدباء إلى محفل لمراقبة الآداب العامة ومنتدى وصاية على المثقف، وفي الواقع إن هذا هو دوره في السابق! لقد مضى في النهج ذاته وعلى الحرص ذاته في تحويل مقر الاتحاد إلى غنيمة سياسية!
إن مثل هذه الممارسات هي التي تجعل شاعراً مثل عقيل علي يموت على الرصيف بينما يطرد من الاتحاد ومن موائد أدبائه.. الغريب أنني في زيارتي الأخيرة وجدت قراراً معلقاً في المدخل يمنع دخول عدد من الأعضاء إلى نادي الاتحاد بينما، قوبلت دعوتي بإصدار بيان يدين الاحتلال بكثير من الريبة..
من المؤسف حقاً أن يتحول الاتحاد إلى جمعية خيرية لدفن الشعراء الذين يموتون على الأرصفة بينما بإمكان أمانة العاصمة أو أهل الخير فعل ذلك.. هل يعي اتحاد الأدباء معنى الرسالة في الثقافة؟ إنني أوجه غضبي نحو المثقفين لأنهم صورة الضمير الإنساني، الذي لا ينبغي أن يتبدد هكذا، لكنني أعتقد في الوقت نفسه إن غضبي سيبقى شخصياً، كما كان دوماً، إذ من الصعب أن تتحول إلى واعظ ينشر تعاليمه في كل اتجاه من هذا العالم الذي لا يحتاج الكثير منها

الخليج- 2005-06-03


إقرأ أيضاً: