(سيرة موت معلن)

بشير البكر
(سوريا/باريس)

بشير البكركتاب "الألم" للعربي باطما، يستحق أكثر من قراءة. وإليكم القصة.
العربي باطما، فنان مغربي رحل منذ حوالى سبعة أعوام، كانت اهتماماته متعددة وموزعة بين الغناء والمسرح والتأليف، لكنه عرف على نحو خاص من خلال فرقة "ناس الغيوان" التي أسسها مع رفيقيه بو جميع وعمر السيد. "ناس الغيوان" تعني أهل التجوال أو "الدراويش الجدد"، وفي ذلك إشارة ذات معنى الى الطابع الاحتفالي. ذاع صيتها في العالم العربي في بداية السبعينات، حين بدأ الغناء السياسي يستهوي قطاعات الشباب الجديد، الذي وجد في الفن المختلف عن السائد ما يلبّي جوعه الى الحرية وحاجاته المقموعة، بسبب انسداد الآفاق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ليس من المبالغة القول ان "ناس الغيوان" كانت مشروعا يحاكي ال"بيتلز"، وقد طافت حفلاتها أوروبا وكندا، الى اكبر صالات العالم، ومنها "الأولمبيا" العريقة في باريس عام 1975. حتى ان المخرج مارتن سكورسيزي في كتابه "مسراتي كصانع سينما" يقول إن موسيقى "ناس الغيوان" هي التي ألهمته في فيلم "التجربة الأخيرة للمسيح". عرفت هذه الفرقة انتشارا واسعا رغم النكسات التي أصابتها، وكانت أول نكسة رحيل احد أقطابها بو جميع، وهو لم يبلغ سن الثلاثين، وكان في بداية مشوار العطاء. لقد بقي أمر غيابه المفاجئ سرا حتى ظهر شقيقه أخيراً في برنامج تلفزيوني، ليميط اللثام عن انه تعرض لتسميم سياسي، ما يذكّر باغتيال جون لينون.

بشير البكرلم تتمكن الفرقة من سد الفراغ الذي تركه بوجميع، لكنها استمرت مع العربي باطما، هذا الشاب القادم من البادية، المتدفق حضورا وحماسة للعمل الفني، فأعطاها زخما خاصا مكّنها من تنويع أعمالها الغنائية على موضوعات اجتماعية وسياسية: المرأة، الهجرة، حقوق الإنسان، السلام. وفي الوقت نفسه عملت على أحياء الغناء الجماعي، وأعادت الاعتبار الى المتلقي المتعدد، واشتغلت على المخزون المغربي من فن "الملحون" الشعري الإنشادي الذي يعد "ديوان المغرب وسجل حضارته"، والنغم "الكناوي" الآتي من مناطق جنوب الصحراء الأفريقية، والحضرة الصوفية، ونفضت الغبار عنه لحنا وميزانا، وأدخلت تغييرات طاولت الأشكال العربية الأندلسية أو المصرية - الشرقية، وكذلك الأنماط الزنجية الأفريقية. لذا تجذرت في الذاكرة الثقافية والشعبية المغربية بوصفها ظاهرة ثقافية سياسية جديدة أثرت وأضافت، ومن ثم تحولت مدرسة فنية مرجعية، ومحرضا غنائيا رفيع المستوى ارتبط بالخبرة وتطوير الإرث الموسيقي، وبالجانب الصوتي والتطويري للغة، وبالمعرفة العميقة للموسيقى.
لم يقل رحيل باطما فاجعةً وألماً عن ذلك الذي خلفه غياب رفيقه بوجميع. فإذا كان بوجميع هلك بالسم السياسي الذي خطفه سريعا، على ما تقول شهادة شقيقه، والقرحة وفق الرواية الرسمية، فإن باطما قضى بالسرطان بعد أكثر من عقدين من ذلك. على عكس صديقه، فقد أمهله المرض بعض الوقت ليدوّن جانبا من سيرته الذاتية التي جاءت تحت عنوان "الألم".
لم أتعرف الى باطما شخصيا، ولا أدري الى هذه اللحظة لماذا لم يحصل ذلك، طالما اننا نشترك ببعض الأصدقاء، مثل الكوميدي المشهور احمد السنوسي، "بزيز"، الذي يحتل مكانا مركزيا في هذه السيرة، كونه رافق باطما في الأشهر الأخيرة قبل ان يرحل. الغريب ان أحدا من أصدقائه الكثر الذين عرفتهم، لم يسبق له ان حدثني عنه كانسان. لذا لم اقترب من عالمه الشخصي وبقيت صلتي الوحيدة به عبر فنه. وحين عثرت على كتاب "الألم" (عن "دار توبقال للنشر في طبعة جديدة) على رف إحدى المكتبات، شدني العنوان مباشرة. ومع ذلك اعترف بأني لم أتمكن من قراءة الكتاب، على قلة صفحاته (90 صفحة)، دفعة واحدة، واضطررت الى تجزئته على مراحل، لأن أخذه على جرعة واحدة صعب الاحتمال.

بشير البكرباطما في سيرة ألمه أشبه بشهريار، يريد الاحتيال بالكتابة على الموت، قبل ان يدركه. البداية واضحة في لعبة العربي باطما، والخاتمة كذلك، فهو لن يبلغ نهاية المتاهة بسلام. رجل اكتشف خط الوصول الواهي وهو يسير فوقه، مثلما يعرف النهر طريقه. يكتب، وفي البيت المجاور حيث تسكن "امرأة قوادة"، تتردد أغنية محمد عبد الوهاب:"يا مسافر وحدك". هي سيرة عارية من دون رتوش. هذه الأغنية تصير تعنيه وحده فيرى الموت يقترب نحوه، لا يفر منه بل يأخذه على نحو رحب، بشجاعة، بما تبقّى لديه من رصيد حياتي، وحب للحياة، وقوة داخلية تتشبث بما فيها من كرم وجمال داخلي. الطاقة الروحية التي تمد بها الصحراء طائفة من أبنائها، الذين يكون زادهم الحلم، وهدفهم الرحيل الذي لا يتوقف، ذلك بعض من صفاء وتسام ونبل وقدرية وفروسية.
حين شرعت في قراءة سيرة الألم للمرة الأولى، توقفت أمام شخص يؤرخ لعلاقته مع الموت بلغة روائية سردية جميلة. تفاصيل حياته الشخصية وأسفاره، نجاحاته وإخفاقاته، علاقاته من النساء والأصدقاء، الفن والمال والسياسة والكحول والمخدرات، مصائر تتداخل بين الحلم واليقظة والحياة والموت. ويتبدى في كل زاوية من هذا العمل ان الكتابة ليست عملية سهلة، بل محفوفة بالقسوة والألم، تحتاج الى إرادة وطاقة كامنة لتفتيت حجر الرعب الذي يرميه "المرض الخبيث"، كما يسميه باطما، في قاع الذات. شخص لا يزوره الموت على نحو عابر، بل يمكث معه ليصير رفيق رحلة لا رجوع منها. كتابة تماطل لغز الموت، من هنا تفيض السيرة برؤى غيب وكشف وتأمل تحت خيمة الألم، ووجود مضيء ومعتم وحالم ونائم ومتألم وميت. كل المشاعر تلتقي في لحظة واحدة بحسية عالية تذهب نحو الأماكن الخفية في النفس التي تظهر فيها الاشياء على حقيقتها.
يقول باطما في ختام السيرة "انها كتبت في ظرف وجيز، أي سبعة أيام"، كأنه يريد ان يذكر بأسطورة خلق الكون على نحو معكوس. سبعة أيام كأنها كابوس، تفكير في الانتحار، مشاهدات ووقائع من المستشفيات وأحوال المرضى والمعاناة مع المرض، تساؤلات لا تنتهي حول هذه المحنة: "ما يخيفني هو الصمت، صمت المرضى في عمق الليل". لكن الراحل المتمهل كان يكتشف مع كل صباح جديد انه لم يزل حيا، وأنه يكتب سيرة "ألمه"، بينما كان المرض يدهم مساحة جديدة من جسده وروحه.

النهار
الأربعاء 16 تشرين الثاني 2005