(إسكندر البرابرة) لمحمد مظلوم

حسين بن حمزة
(سوريا/ لبنان)

(إسكندر البرابرة) لمحمد مظلومقصائد مجموعة (إسكندر البرابرة) للشاعر العراقي محمد مظلوم هي قصائد موضوعات، أو هي قصائد تنشغل بموضوعات وتشتغل عليها. وهي أيضا، أو غالبا، موضوعات كبيرة. ويبدو أن ضخامة هذه الموضوعات استدعت ضخامة ما في الأداء. ضخامة الواقع وجسامة ما يحدث فيه تفسران ضخامة أداء هذا الواقع والتعبير عنه شعريا. والقصد من ضخامة الأداء الشعري يتعلق بإيجاد صفة لصوت القصائد العالي وطابعها النشيدي وطيفها الحدثي والتاريخي والأسطوري والسياسي الواسع والمتعدد الطبقات والمعالجات والزوايا.

تضم المجموعة، وهي السادسة للشاعر، أربع عشرة قصيدة. تعتمد كلها (باستثناء جزء كبير من قصيدة (دعوا الشرفة مفتوحة) المهداة إلى صديق راحل، وبعض السطور القليلة هنا وهناك) على بنية كتلوية تنطوي على عوالم كبيرة ومشاهد حشدية واقتباسات تاريخية وشعرية وجغرافية قديمة وحديثة. سيادة العوالم الكبيرة تقلل من حضور التفاصيل، والحشود تخفف من تبيّن ما هو فردي وحميم وصغير. أما الاقتباسات فتؤكد ضخامة ما يجري نقله من الواقع إلى القصائد.

أعباء إضافية

لا يحتاج القارئ إلى بذل أي جهد ليعرف المزاج الذي كُتبت وفقه قصائد الكتاب، فهي تواجه الحدث العراقي في معناه الواقعي المباشر الذي يمثله الاحتلال الأميركي للعراق، وفي معناه المجازي والمتخيل وغير المباشر الذي تمثله كل التكوينات الشعرية التي تتحرك تحت سطح القصيدة.
ومن أجل مواجهة هذا الموضوع الكبير والواسع والمولد لأعباء إضافية على أي عمل أدبي أو شعري، لا بد، وهذا ما يحدث فعلا، أن تحشد في القصائد كل عدة الشاعر ومهاراته اللغوية والتخييلية والتاريخية ومواقفه الوطنية والسياسية ووجهة نظره في الوضع العراقي اليومي والمآلات التي ترسم له والتغيرات التي يمكن أن تنتج عن كل ذلك. حيث يمكن القول إن ثمة تناسبا طرديا بين ما يحدث وبين ما يُكتب، فالقصيدة التي تمتلئ بمشهد العراق الراهن اليوم تمتلئ، في الوقت نفسه، بتاريخه وماضيه وطبقاته الحضارية والوجدانية. وهذا هو ما سيبقى ويدوم حتى ولو (جاء الغزاة مضى الطغاة) كما يقول مظلوم في وصف الحال فبالنسبة إليه (ثمة دائما برابرة)، وذكر البرابرة وكثافة حضورهم في الكتاب يستدعي حشدا هائلا من الأسماء الملائمة والتواريخ والمدن والأساطير والشعوب... إلخ. وهذا، على الأرجح، أحد مبررات الأداء الشعري المبني على طبقات عديدة وأصوات كثيرة واستثمارات شتى. حتى أن الشاعر يختار اقتباسات من نوعية ما يحدث في الواقع وفي الكتابة ويضعها كمفاتيح أو استئناسات تعين القارئ والشاعر معا على ولوج عالم مشابه يكون الاقتباس بمثابة خلاصة فلسفية وشعرية وتاريخية له. هذا ما يحدث حين يستشهد مظلوم بابن خلدون والطبري والقرآن والحسين ولوركا. أما في داخل القصائد فمن الطبيعي، بحسب رؤية الشاعر، ان تكتظ باستدعاءات مفصلية وأخرى تفصيلية فنجد فيها: (هوميروس، الإغريقي، بيزنطة، أوغسطين، مأرب، بابل، كلكامش، كولومبس، السومري، الكوفة، اكدي، حميري، أور، نوح، آدم، واشنطن، الحسين، انكيدو، روما، هرس، أوديسا، هدهد، الاسكندر، مقدونيا، الصين، بلقيس، الماراثون، أولمبياد، الرحلة الهلينية، أثينا، الفراعنة، الرومان، الترك، الأكراد، الهنود، الياذة، طروادة، نرسيس، معجم البلدان، أطلس، آخيل، إيثاكا، أوروك، الخضر، لوركا، غرناطة، العباسيين، بغداد، المغول، العباس، الأندلس، الأباتشي، قندهار، سدوم، بوش، الأنبياء، التكساسي، الأباطرة، الديناصورات، الرخ، الغيلان، السعلاة، الآسيويين، الأوروبيين، صواريخ كروز، قنابل نووية، البوذيين، القراصنة، الهنود الحمر، الخلفاء، العبراني، الهندوس، المروحيات، المصفحات، ناقلات الجند، الخوذ، المعري، دانتي، المجوس، أوديسيوس، الحضارات، إيلوار، دبابة ابرامز، كلاشينكوف، خليل صاوي، همنغواي، المارينز، أراغون، رينه شار، القياصرة، الباهاما، الجنرال، الباب المعظم، أربيل، شارع السعدون، شارع الرشيد، الكرادة، أرض السواد، الشرق، قاسيون، العنقاء، درابين، نخل الفرات، الرافدين، نهر عيسى، نهر موسى، البلم، الأهوار، الكرخ، أغاني الريف، الانترنت، دالي، ماكدونالد، الوجبات الجاهزة، مجوقلة... إلخ).

تعمدت الإكثار من ذكر هذا النوع، أو هذه الأنواع، من المفردات في محاولة لنقل جزء من مزاج وعصب تجربة محمد مظلوم في هذه المجموعة المكتوبة تحت إلحاح شعري وتاريخي وسياسي ووجداني وعقائدي... الخ. والواقع ان هذا قد ينجح في أشعار القارئ بفكرة ان كتابة تنوجد فيها كل هذه الإشارات والإحالات لا بد ان تتدخل، في النهاية، في صياغة وتكوين وخلق نبرة هذه الكتابة ومعناها وطموحها الشعري.

هكذا يسهل على القارئ فهم التقابل بين كلكامش وكولومبوس، وبين بوش وصدام، وبين الشعوب والبرابرة. وستلفت نظره فكرة ان يموت الاسكندر بالعدوى الصاعدة من جثث أعدائه:

وها أنا
بعد ان ملأت الوديان بجثثهم
يقتلني الهواء الفاسد المتصاعد من سهراتهم
ومعارك الجثث المتفسخة
وهي تتزاحم في ما بينها
وتلهث في الطيران
للوصول قبلي إلى المدن التالية
وها أنا
أموت بعدوى أعدائي
الميتين لا بجيوشهم

وسيصدق الشاعر حين يطابق إبادة الهنود الحمر وقتل العراقيين:

فالعراقيون في الأرض
قطيع الله
لا قود، لا عمد، ولا دية
لا ذنب ولا ذنب
فلا تسمح يديك
إنهم آخر لون لهنود الله

وفي مثل هذه الكتابة تظهر ثقافة الشاعر ورؤيته الفكرية والسياسية والوجدانية، والأرجح ان الشاعر، وهو يرى بلاده تدمر وتحترق، لن تكتفي قصيدته بمكونات شعرية واستعارية وإيقاعية بحتة أو ذاتية أو مجردة، ولا بد لهذه المكونات ان تنشحن بما يحصل في الواقع، هذا إذا لم تتبدل هذه المكونات المفترضة بشكل شبه كلي، كما هو الحال في كثير من مقاطع الكتاب، حيث تنعقد الأولوية للفكرة والموضوع والرؤية أكثر من سبل معالجة ذلك وكتابته، حتى ان مظلوم لا يتوانى عن محاسبة الآخرين إزاء ما يحدث كما في قصيدة (رسالة إلى ايلوار) وفيها يتحدث عن قصيدة ايلوار الشهيرة (الحرية):

ما أبسط الحرية إذن
ما دام العبيد المحوّمين
حول تمثال هوى في الربيع
صاروا اليوم محومين
في صيف الحرية

والمقارنة أو المماثلة واضحة في المقطع بين من هللوا لسقوط تمثال صدام وصاروا يستعسغون الحرية القادمة فوق دبابة أميركية، ولذلك يخاطب الشاعر إيلوار:

إمحها يا ايلوار
فليس للكثير من أصدقائي اليوم
جباه عريضة لأكتب فوقها كلمتك الأخيرة

أما الصورة التي يراهن محمد مظلوم عليها في المشهد الراهن فهي صورة
الشاعر الذي ظل وفياً أيام الدكتاتور وسيظل كذلك في زمن الاحتلال:

ما بين قلاع المحتل وإرث الدكتاتور
رصيف بلاد ظل لنا
ما بين طوائف أزمنة عمياء
وجيوش تسبقها الغربان
وقف الشاعر منفرداً أجمل ما كان

القصائد، بهذا المعنى، ليست ترفا. إنها شهادة على واقع، كما لو أنها مدعوة إلى التحلي عن جزء كبير من ممارساتها المحض شعرية لصالح مشاغل واقعية وحديثة ضاغطة.

السفير
2005/07/20