محمد الأسعد
(فلسطين/الكويت)

حسونة المصباح وآخروه: منفى الداخل والخارجمع صدور روايته (الآخرون) مجددا، يكون حسونة المصباحي قد قطع مسافة طويلة نسبياً في عالم الرواية تكاد تترافق مع المسافة التي قطعها بعدا بين وطنه تونس وعواصم الغرب التي استقر في واحدة منها هي ميونخ الألمانية. فقد غادر تونس في العام 1985، ومع المغادرة صدرت أول رواية له تحت عنوان (حكاية جيران ابنة عمي هنية)، ومر برواية (السلحفاة) (1955) ثم (هلوسات ترشيش) (1995) فرواية (ليلة الغرباء) و(كتاب التيه) و(الآخرون)، وأخيرا (وداعا روزالي) ( 2001 ).
هناك كتابات أخرى بالطبع ودراسات عن الثقافة العربية أعدها مع المستشرقة أردموته هيلر، وهناك ترجمة لكتاب (أصوات مراكش) للبلغاري إلياس كانيتي، ولكن الفنان فيه كما يبدو، أو روح التجوال التي استولت عليه، بعد أن كانت قد استولت على روح جيل كامل في الستينيات والسبعينيات، ظلت تأخذه إلى رغبة السرد الروائي، ليس لأنه ولد روائيا، فلا أحد يتحدّد قبل أن يرحل ويتشكل في سياق، بل لأن كل الرواة يولدون عادة لأن حالة الشتات تستدعيهم، بل وتخلقهم هذه الرغبة في السرد والقص لإنقاذ العالم من الزوال والعدم، أو ليعيشوا بالأحرى.

***

لا ينكر حسونة أنه متأثر إلى أبعد الحدود بأسلوبين: أسلوب حياته الشخصية كجوال، وأسلوب الروايات الأميركية، وبخاصة روايات الصعلكة التي كتبها (جاك كيرواك) مثل (على الطريق) و(الجوالون السماويون)، وروايات (هنري ميلر) مثل (مدار السرطان) و(ربيع أسود). ويمكننا أن نجد بالفعل أن رغبته المحمومة في معرفة كل شيء وتجريب كل شيء (كما تُظهر عيناه الواسعتان وحركاته المتوترة ونفاد صبره) تنداح إلى محاولة الاستحواذ على أكبر قدر من الشخصيات والحياة التي لا تخصه وحده، بل وتخص الآخرين.
هم آخرون لغة، ولكنهم هنا لا علاقة لهم بآخرين كتب عنهم سارتر في مسرحية (الجحيم هو الآخرون)؛ إنهم رفاق الطريق والحانات والحياة المترددة بين كونها واقعا يشبه الخيال وخيالا يشبه الواقع.
حسونة يكثف الملامح الواقعية ويكثر من التفاصيل لينهض نصه بشخصيات رواياته إلى مستوى الشخصيات الخيالية. ومن الصعب أن يقتنع قارئ رواية من رواياته مثل (وداعا روزالي) أن التصوير والرسم الأخيولي الذي يلجأ إليه في تخطيط وتلوين شخصيات مشرب (جوزيفين) هي شخصيات واقعية بالفعل. الأمر يعتمد على مهارة الكاتب، كما يقول، وعلى قدرته في أن يجعل القارئ يقرأ الشخصية الواقعية وكأنه يقرأ أخيولة. ولا عجب في هذا حين يصدر عن راوية يمضي أيامه ولياليه في مراقبة من حوله، وفي ملاحقة أحلامهم أيضا.
عرفت حسونة المصباحي لأول مرة في موقف غريب. كان هناك رجل منفعل يتصدر مائدة وقد أخذ منه التأثر كل مأخذ، وبدأ يروي مأساة أو شيئا من هذا القبيل. ولفت نظري إلى جانبه شخص يقطع الخطاب الانفعالي المأساوي بتعليقات ساخرة بين فترة وأخرى، بل ويصر على مقاطعة المتحدث الصارخ. كان هذا هو حسونة المصباحي وهو ينقض كل توقع من توقعات المستمعين، فبدلا من أن يواسي الرجل أو يعانقه متعاطفا كما توقعت، رأيته يثير الضحك من حوله. لم أفهم شيئا مما يجري، ولن تأتي لحظة التنوير إلا بعد أن سألته مستغربا: (الرجل غارق في مأساته.. وأنت تهرّج؟)، فيقول لي: (بالطبع.. يجب أن نكسر حدّة المأساة، وإلا تخيل ماذا سيحدث لو انخرطنا جميعا في البكاء والنواح).
وثبّت هذا التفسير حسونة المصباحي في ذاكرتي، ولهذا حين التقيت به في زحمة مؤتمر هنا في الكويت، كنت كمن يلتقي صديقا مألوفا عرفته منذ زمن طويل.

في مواجهة ميدوزا
المأساةُ ليست من المشاهد المحببة ولا المحبذة، ويجب أن تنكسر حدّتها، أي يجب أن نحوّلها إلى فن، ربما كي لا نتحجر في مواجهة (ميدوزا) الواقع. وهذا هو ما يفعله الراوية بأكثر المشاهد والشخصيات مأساوية. فبعد أن يلتقطها، وهو قابع في زاويته، ويلتقط معها تاريخ القمع والاضطهاد والجنون والبراءة القتيلة، ينظر إليها مواربة في مرآة الكلمات لكي ينجو من نظرة الموت التي يسلطها هذا الواقع، تماما مثلما تخيل (ايتالو كالفينو) فعل الإبداع الفني.
يقول المصباحي إن العالم رديء، فقد فكرنا مع عدد كبير من أفراد جيلنا بتغيير العالم، ولكن هذه الفكرة الجميلة أصبحت بلا معنى لأن المافيات وعصابات الجريمة المنظمة أصبحت تحرك الأحداث وتؤثر في الواقع أكثر مما تحركه الأحزاب والمنظمات الثورية. وأمام هذا لا نجد سبيلا إلا الدفاع عن النفس، إلا إعادة الصفاء إلى اللغة التي فقدت مصداقيتها بسبب الذين حوّلوها إلى بكائيات أو إلى لغة التهديد والوعيد.
هو إذن لم يعد يفكر بتغيير العالم، بل بالرحيل في أعماقه المنسية والمجهولة حاملا روحا؛ روحا تحس بثقل هذا العالم ولكنها تجاهد لتجعله شفافا بالفن.
الأنا من خلال الآخرين، والآخرون من خلال الأنا؛ هذا هو مغزى هذا الحشد من الوجوه التي تجتمع في الحياة وفي الموت أيضا؛ جنسيات مختلفة، وألوان وأعراق متنوعة، ورغبات وأحلام متنافرة أو متناغمة، وأمكنة ذابت وظلت في المخيلة، وأمكنة يضغط حضورها على الراوية وعلى حواف صوره وسخرياته وزاوية نظره. مهما ابتعد الكاتب في تخطيه للثقيل والمأساوي، ووصل إلى عالم صاف وخاص، لن يستطيع الإفلات من مادة هذا العالم، سواء تمثلت في خيبة وفشل فكرة التغيير أو تمثلت في سطوة المافيات والبشاعة.
لهذا السبب ربما لا يستطيع المصباحي الإفلات من سطوة المكان، فهو يتردّد في رواياته بين الخارج والداخل، أو بين منفى الخارج ومنفى الداخل كما يقول، بين أوروبا ووطنه، بين حاضره وذاكرته. ولئن عرّف هذا بالداخل والخارج، فسيظل منجذبا في كلتا الحالتين إلى النظر والتحديق حتى في أدق التفاصيل وأبعد الجهات رغم ظاهره اللامبالي في حياته العادية.
لا يعيش الكاتب (هاجسه) الخاص، بل هواجس جمعية، فقد تقاطعت سيرة حياته مع سير حياة الآخرين، وتقاطع كل هذا مع أحداث وتواريخ. صحيح أن كل فرد يعيش زاويته الخاصة، ولكن من هذه الزاوية يمكنه أن يرفع نظره ويرى انفجار كوكب أو مرور مذنب مثلما ينظر الآخرون، وتنشأ هذه العلاقة الغامضة بين البشر. هذا العالم الذي ينعكس في روايات الجوال المتوحد هو عالم مشترك، يتعارف فيه الناس حتى وإن لم يتعارفوا، فلا بد أن كل واحد من زاويته راقب النجم نفسه الذي هوى، أو استمع إلى الخبر نفسه الذي بثه التلفاز، ولا بد أن كل واحد منهم حلم ذات يوم أنه أكبر من هذا الوجود الضيق الذي حشره فيه نظر حسير وبصيرة عمياء.

السفير
2005/08/05