مصطفى غلمان
(المغرب)

أحمد الشهاوييستحث الشاعر المصري أحمد الشهاوي خطوات صيرورته السحرية ليضيف ويستبطن ويجمل إعجازه اللغوي بفعالية أكثر إغواء وأوعر مما لمسناه حتى في كتابه "الوصايا في عشق النساء". بل إن ديوانه الجديد "لسان النار" يكاد لا يضاهيه في الحضور الروحي والتنوع الحكمي سوى ديوانه السادس "كتاب الموت"، الذي كان الأبلغ إشارة وعبارة. وعموما يمكن تصور الشاعر الشهاوي، ما إن كان حريصا على تنويع أنفاسه بشكل يفاضل فيه بين أشعاره في الحسن، على تساويها في الجنس، وذلك حقيقة إكسير شاعريته وقلبها النابض.

مفتاح الولوج ل"لسان النار" لغته التي تجمهر المعنى في الحد الذي تصير فيه أدغال الجسد موثوقة بالألوان والأمزجة والحركات التي تؤثث قوائم "النار" بما هي أرجل نافرة وأيادي باطشة وأعين ناظرة وفؤاد مسجى ورأس محذور!

لغة الشهاوي لا تستعين بالتأويل نسقا قائم الذات، ولا بالسر المتشابه صورا تحجب عين الكلام، بل تتخون مواطئ الحدس الذي ليس بعده تأويل، ورؤيا تعارض بداهة الأشياء وفراغاتها:(صدقي لغتي/ فإن حروفها خلقت/ لما فتحت بادية الحدائق) ص 202، رؤيا تفسح للروح التباسات "الإحلال" أو "الحلول" ، مجردة من أي تحامل مخل أو فحاشة معنى لا يطابق موضعا سخر لمنزلة بذاتها ولذاتها.
وهنا يكون الولوج خروجا، والزمان نفضا للمتاهة، والكلام "إلهاب مسخر للمادة":(هل تحتاجين إلى لغة/ كي يتكلم جسدانا؟) ص 217 . هذا الاختيار الذي يتولد عن استفهام منكوص، لا يجد غضاضة في توحيد قيامة الجسد المسخر، تنويها ومكاشفة. ومن هنا تنبني رؤية الشهاوي للغة الشعرية. لغة تحفر في السؤال، وتضع علامات النفي عائقا في وجه "التوارد"، الذي أراد له صاحب"لسان النار" أن يطفح بموارد التصوف وشاهد الغيب! وقد صاحبنا هذا الإحساس طيلة عمليات الحرق الشبيهة بنيران العشق الملغومة، فبدا الزمان كأنه قطعة من قطع التنجيم، لا يتأتى إلا للسالكين ممن حجبتهم مسافات الموت عن حياض الحياة، وفي ذلك "لا نهاية" لما تملكته أوعية الذات الشاعرة، التي تمنع إفراز ضربات الحر ووجوم الخيال العنيد:(لا وقت لي في الزمان/ فأقرئيني/ أنا الحرف/ الذي لم تلده اللغات/ لم تكتشفه يد) ص 72 ، وأي لغة تلك، التي لا تولد من أظهر النار الباردة والملاذ النائي عن معاقرة الذات، ناطقة بلسان الحلي والوشي المزينين بمعاني "العقل" و"البيان" . علاقات تجذر في لغة الشهاوي تجاورا شديد العتمة. فهو يدشن حتمية الوجود، من خلال الإنصات للذات في بعديها المعرفي والدلالي. كما تمزج إشاراته الباذخة، والتي جاءت على شكل كولاج أو باستيش، لتغالي من إيحاء النص الكثيف المكثف تقوم فيه اللغة بدور الوسيط، بل تتماهى فيه/ من خلاله، لتمنح للمعنى بعدا آخر، هو نتاج الروح وعصيرها الأبدي. يقول مالارميه:( إن المعنى، إذا كان هناك معنى، يثار من خلال التزاوج الداخلي للكلمات ذاتها عندما نتركها تذهب مع الوشوشات مرات عديدة لكي تثير إحساسا سحريا إلى حد ما) ، وهي الصفة ذات التأثير المباشر في "لسان النار"، حيث يبدو الشهاوي مميزا بإبداعيته اللغوية، دون أن يفقد حساسيته التأثيرية.
في حدود رؤيتنا للكون الشعري، بما هو ارتباط وظيفي ودلالي بالحياة وبالوجود وبالكينونة، يمكن تأمل ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل لغة الشهاوي، عن المنحى العام لقصيدته، في مكونها الداخلي الإيقاعي، والصورة الشعرية التي تحاذيه. ف"المعنى الأنثروبولوجي للعالم الذي يعيشه الإنسان، ينكشف عنه النقاب داخل الصورة الشعرية ومن خلالها"(1)، لهذا فالعالم الشعري هو العالم الإنساني. والشعر هو الخطاب الذي يصف حقيقته، حسب تعبير هايدجر. من ثمة الحديث عن تجربة الصورة الشعرية في "لسان النار" والتي تحفر عميقا في حمولاتها التاريخية والثقافية والنفسية، كرهان حداثوي، يندرج ضمن سياق الرؤية الشعرية الخاصة، والتي تعكس لغة تفصل بين مظاهر فن الخطاب، من حيث الصناعة والنسج.

وإذا كان الشهاوي يحيلنا في لغته الشعرية، وهو يناهض مناطق الإشارات التي تبصرها عينه الديباج، يحيلنا إلى أوجه بلاغة نصه الشعري، والذي يغترف من صبيب واد تمده (2) سيول جارية من شعاب ملتوية، كطيوب تركبت من أخلاط جمة من الحيوات والأكوان والعوالم واللانهايات، فإن حسه الصوفي المرهف والمادة الروحية التي ترافقه، تماثلان انزياح أسئلة الكتابة والذاتى والوجود والزمن والتيه والموت:( أما آن لي أن أنام/ وأحمل حبري معي/ كي يؤرخ موتي الصغير/ ويمنحني نفخة ثانية) ص 173 . وقوله:( صرت لا شيء/ ربما خيط ضوء يفك طلاسم عرشك/ أو نقطة من مياه يقاس الوجود بأسرارها/ توزعت فيك/ تناثر جسمي/ لما تنزل حب علي) ص 215، حتى إن الشاعر غالبا ما ينفلت من بين أصابع شعره ليثير أبحرا من الشك والريبة، المدلهمين المخلوطين بالأنانية المتحذلقة، إشعارا بمدى انتمائها ل "القدسية" و"الحجاب" و"بلاغة الروح" و"قبلة القبلة" و" طلاسم العرش" و" الصلاة السادسة" ...إلخ ، وكلها إغواءات علوية تقع في الهوة السحيقة التي تجمع تلك اللاءات الثائرة، كما في قصيدة " لا أحد يفكر في اسمي"، ومنها:" لا أحد يفكر في كهف صامت/ لا أحد يطرز نارا بنجوم/ لا أحد يحط العاشق في عينيه/ لا أحد يورث مصباحا منطفئا لحفيد... ص 86"، ولا ترتبط الصورة الشعرية بمخيلة الشاعر، إلا عندما تصير اللغات مسرودة بالأشباه، مسعورة بسموم الأضداد. وهنا تثقل حلقة الوصل بين إغفائها داخل "الكلام المهتوك" وإسرافها في البوح بمكنونات الروح وأسرار الشهادة:( لست اسما شريدا ينام/ في شارع من لسان العرب/ تظهرين لي في الكتب/ كتابا من الماء/ ليس له ساحل من ورق/ فكيف سأكتم/ كيف أبوح/ وسرك في كتب الأقدمين/ خفاء علن) ص 154.

ومع أن الشهاوي ينفتح على الظاهر الباطن، ويتمنع عن معاقرة أتباع الغموض المدجن، إلا أنه في صوره الشعرية، يستغفلنا في ارتماءاته الشبيهة بحدوس الحكيم، ليطوق لا وعينا بتلك الأمارات الدافعة إلى معانقة قيم الشعر، في توازنها النفسي والروحي والإنساني. قيم يؤصلها الشهاوي بنيران ألسنته النارية الملتهمة الملهمة، يروضها ويطوعها لتصير قادرة على تشفير الحروف والألفاظ والعبارات والكلام أيضا وأيضا...يفك طلاسم "الإحراق والحرق" لينير أوردة دم الوجود، جديدا ومتجددا. ولا غرابة إن كان هذا الفعل الشعري الديناميكي، يؤول حقائق الكتابة الشعرية عامة، حيث يضعها في صميم سؤال "الحداثة والتحديث"، إذ إن الشهاوي يعتبر من ضمن شعراء مصر المتنورين، الذين يشتغلون من خلال مشروع شعري لغوي، ينحو الإنصات للذات، بقوة تتجاوز الشاعر المبدع ذاته، حيث تتحايث اللغة بالتراث، والبناء اللغوي بالسياق الجديد للكتابة الشعرية. وقد ظل صاحب "لسان النار" وفيا لنهجه المتفرد، خصوصا بعد أن أضفى على معالمه روح لغة التشوف والإيقاظ والتدبر، وكلها صفات عظمى لاتتأتى إلا للعارفين أصحاب المقامات الصفية والكرامات المحظية. وقد كان الشهاوي شاعر النار بامتياز وهو يشد بسملة عشقه السادر برحلات ألسن ذائبة مقدسة.

ماذا عساه يحرق، وهو الفلاح الأليف: (في نارك/ أحرف خجل الفلاح/ وأفعل ما لاعين شافت) ص 260 . دون أن يطيل الانتظار ويزيد : ما لا أذن حذرت ولا خطر على بال شاعر...!!!!·
شاعر وناقد، صحفي من مراكش