"أپارتييد" لميشيل غاريوس

مي منسى
(لبنان)

ميشيل غاريوسالشعر ثورة مسالمة تطلق أصوات خافتة قبل أن تتساقط زخاتها على الورقة، من غيمة صيف أو من أوراق خريفية مبللة. هكذا تتفاعل ميشيل غاريوس، في "أپارتييد"، مع الكلمة الشعرية، بأمان من يسوّر ذاته بسياج من ذكريات مزينة، ضاحكة، دعوب، ذكريات منسوجة على نول طفلة كبرت وظلت تلعب في خيالها مع الأطفال.
"أپارتييد" (تمييز عنصري) مجموعتها الشعرية الأولى الصادرة عن "دار النهار"، ليست نافذة على الآخرين، بقدر ما تحفر كاتبتها في تربة ذاتها لتستنبش ما في الباطن من الشيء وعكسه، من الهناء والقلق، من الذكريات والأقفال على بعضها حتى لا يعلو البوح مستكشفاً نواة الثمرة، تلك التي منها يولد الفرح والأسف، ومنها الأسرار المطوية في ثنايا القلب وبقايا أمس ما زالت تهدر بأصداء الحرب والموت.
ميشيل غاريوس لا تقول الأشياء بأسمائها. كلمتها استعارات توشح الحقيقة، تخفف من الاصطدام بها، تدمل جروحها. فقبل أن تكون شاعرة، ولدت بروح شفافة، ولها رنة الكريستال ولا تنكسر مهما تشققت. في عينيها قطرة حبر تغمس فيها حين لا يعود بد من تجاهل الوجود، وقساوته الملطفة بنداوة الكلمات.
المقدمة للشاعرة مي المر: "في ديوانها الأول "أپارتييد" تعطينا ميشيل غاريوس من قصائدها ذات النفس الليريكي القصير، متعة للقراءة. كلماتها غالباًَ ما تقترح أكثر مما تقول. لعبة شاعرية يحبّذها العارفون". من قصيدة الى أخرى يدخل القارئ في لعبة المجازات، كمن يحاول حل أحاج بنزع القشرة الرقيقة التي تحمي سر الشاعرة وكينونتها. وبعدل، حتى لا تضيع في هذا البحث غير المجدي، غنائية القصيدة وأناقة لفظ الكلمات في قامة القصيدة الممشوقة.
في مجموعة أولية تحمل عنوان "سيد قاتم"، نتعرف ونحن على عتبة الديوان الى النَفَس المنظوم في مقطع يعيدنا لا شعورياً الى صورة الشاعرة، على الغلاف وبين المكتوب والملامح صورة واحدة وهوية:

"على أبواب الشرق
فتاة ضائعة
حافية
والعينان لوزيتان
في انتظار عصور حرة
بحثاً عن مسكن
لماذا الدرب المزهرة
اقفلت
على خطى
الفتاة الضائعة؟".

موسيقى عذبة ترشح من جسم القصيدة، يقرع إيقاعها في البال من دون قصد. أما قالت

"كمن آت من قطف غلات الكروم من أعمال رقادي
أرهف الأذن
أسمع موسيقى
إيقاعاً ناعماً
يصنعه الصمت
ومن المنامات يستفيض".

القصيدة في سلوك ميشيل غاريوس من مألوف الحياة، تأتي الى حاجتها كشهيتها للحب، للحلم، كعطشها للماء، كجوعها للخبز. القصيدة الملقاة على وسادة سريرها، تحرس مناماتها، تحرس ظلها والوقت. تستفيق من رحلة الأحلام لتجدها في انتظار.
هل يدهشها وجودها؟ هل هي في مأمن معها؟ بلى، في أمان الشعر الشعر تستريح لأن بين الكلمات تختبئ، تحتمي، تهرب، "حيث لا أحد بوسعه ان يبلغ قلقي". سيرتها تقول إنها كتبت الشعر باكراً ونشرته في مجلة معهدها. وفي العام 2000 قرعت الكتابة بابها وفرضت نفسها ضيفة شرعية. في العام 2004 شاركت في مسابقة نظمتها "فوروم نساء المتوسط" وحازت قصتها جائزة الامتياز. أم لثلاثة أولاد تذهلك حين تقول أعمارهم فيخال لك أنهم ولدوا قبلها. تصفحت الديوان لأجد لهذه الأمومة حضوراً فكأني في قصيدة الطفل وجدتها:

"رأيت عينيه
الضاحكتين
تحت مطر
من القبل
قال أود أن أصدق
لكن السماء اكفهرت
سيصبح كبيراً عما قريب
ها أنا أرى أوضح
أخذت بيده
درنا دورة أحلامنا وكذبنا
نظر إلي
تأمل
وبكيت".


من قصيدة الى أخرى تتبدل وجوه الشاعرة، قطعاً مبعثرة لا تلتئم في امرأة واحدة. هي الخفية، السرية، تبحث بدورها عن سر الأشياء وغموضها. هذه هي إغراءات الشعر، يطل كشمس خلف ضباب ويعود الى ما وراء الإبهام. والقارئ في انتقاله من قصيدة الى أخرى يشعر بمرور الوقت بين الواحدة والأخرى، كأن حقبات مرت على سهول من القمح اليانع، أصبح تحت شمس السنين أكثر نضجاً، أكثر سنابل ذهبية، وأكثر جهوزية لأن يؤكل خبزاً.

may.menassa@annahar.com.lb

النهار
الاثنين 5 كانون الأول 2005