"كلما لمست شيئاً كسرته" لعبد الإله الصالحي

ماهر شرف الدين
(لبنان)

عبد الإله الصالحي"لا تنشغل بتنقيح قصائدك/ الحياة بعد الموت من اختصاصنا/ ولدينا ما يكفي من النقّاد وحفّاري القبور"، هكذا تستدرك السخرية سوادها، متخففة من تورية وكناية، في الديوان الجديد للشاعر المغربي عبد الإله الصالحي، "كلما لمستُ شيئاً كسرته" الصادر لدى "دار توبقال" في الدار البيضاء. سخرية سوداء لا تحتاط من أدوات "مباشرة" يُخشى معها الوقوع في شرك التقريري والسطحي. فلنقل إنها سخرية ذات لكنة المهاجرين، الكارهين أنفسهم بعربية فصيحة، والمحتمين بعبارة قالها فيلسوف فرنسي انتحر برمي نفسه من النافذة: "الهجرة حق مقدس".
ولئن كانت الهجرة وملحقاتها قوام الكتاب، فهذا لا يعني أن السخرية رهينة موضوعها. لغة عبد الإله الصالحي هي لغة ساخرة في ذاتها، مكتفية بها. لغة لا تتوانى عن إشهار أكثر الكلمات عرياً، فتصوّب إلى الهدف كمسدس، ومن دون مقدمات: "الحقراءُ/ الذين يلاحقونك في عاصمة النور/ عرب المشرق والمغرب/ الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف/ لاحسو الأحذية/ يتفنّنون في الحطّ من معنوياتك/ كي تقع في الفخ وتكتب عنهم مثلما تفعل الآن".
أيضاً، هي سخرية لا تستثني المشهدية أداةً في إنتاج نفسها، لكنها المشهدية التي تلحظ القصّ في عملها. ربما لأن كثيراً من قصائد الكتاب أشبه بتسجيل اليوميات، لجهة أن التفصيل يقارب أن يكون أسّاً شعرياً في القصائد. هكذا في وسع القارئ مطالعة العمل عبر دفن الرأس بين قصاصات وكالات الأنباء، ووضع الضحايا بين مزدوجين حرصاً على الدقة، والاحتراس من واو العطف، وإبعاد الإحساس عن الذبذبات الصوتية.

ومن باب استخدام التفصيل، على ما يبدو، يأتي تسخير الخبر العادي في سياق شعري. ففي قصيدة تحمل عنوان "وحدة"، يورد الصالحي خبراً صحافياً يفيد بأن سبعمئة ألف امرأة تراوح أعمارهن بين الثلاثين والأربعين، يعشن وحيدات في باريس، عازبات أو مطلقات أو أمهات، معلّقاً على ذلك: "سبعمئة ألف امرأة وحيدة/ يا رجل/ وأنت تعذّب نفسك أمام شاشة الكومبيوتر منذ ساعتين باحثاً عن جملة مناسبة تعكس بؤس العيش بدون امرأة". بعد ذلك، ليس لفوات نقدي أن يطاول حضور التعريف الشعري، الساخر والمرير في آن واحد، بين دفّتَي الكتاب. لنا في ذلك أن نفهم أن الزحام وضع مثالي لخنق الأمل، وأن العاطفة كلب أجرب، أما شعار "اللحم بدل العاطفة" فهو راية القناعة وجنس قاحل تضيئه تكنولوجيا متطورة، كذا نيل اللذة: المقامرة التي يتساوى فيها الربح والخسران.

هذه الخيبة، التي لم تدع كلمة لشأنها، وسمت الكتاب بميسمها، مضيفة إلى السخرية وجعها كامتياز وحظوة، جاعلةً من جلد الذات وهجائها مادة شعرية منذ العنوان. يقول الشاعر: "أنتِ في مرمى ذراعيه/ وأنا هنا أنتظر إشارة الانطلاق كي أبدأ حياتي معكِ (...) أنت قربه وأنا هنا أتأهب لحبك/ لماذا يا إلهي كلما لمستُ شيئاً كسرته".

في كتاب استغرقت الهجرة فيه خطه البياني، يبدو "مبرَّراً" الحضور الظاهر للجنسيات والأعراق في ثنايا قصائده: فرنسي، برتغالي، عرب، زنوج... كذلك حضور المهن كرتب ومراتب: سعاة البريد، الزبّالون، المتقاعدون... والعكس يصح: الأثرياء الجدد، الشعراء المكرّسون، أبناء الجنرالات...
أيضاً، لا بد للحديث عن المباشرة أن يقود إلى الكلام عن حسيّة ظاهرة في التعبير، تجعل للرائحة ملمساً خشناً، وللصورة البصرية. كذا تتلاعب، هذه الحسية، في خواص الأشياء، وتستلف من الخيال ما يكفي لإنجاز لعبتها. الصحيح، أنه شعر اللامقدمات، حيث الحواس طازجة وغير مشذّبة، وحيث الشعر مرسَل مع النثر.
هو كتاب فيه انكسارات العائلة مغلقة بإحكام، وصمت البوّاب يساوي عشرين درهماً، والصفعات هي التي تتولى مهمة ترتيب القلوب، ولحم النساء ناقصاً الفهرس، والأب يشكر القدر في حانة...
"كلما لمست شيئاً كسرته" إضافة شعرية حقة بتوقيع عبد الإله الصالحي الذي قال: "لا بدّ من دراسة الخيبة في الميدان". ومع تحوير بسيط نقول: ولا بد من دراستها في الشعر أيضاً.

22 تشرين الأول 2005