رامي الأمين
(لبنان)

شوقي بزيشوقي بزيلكتاب الشاعر شوقي بزيع "صراخ الأشجار" الصادر لدى "دار الآداب" علاقة وثيقة بالزمن. إنه تعداد للسنين بالشجر. يبدو شوقي بزيع كمن يغرز عمره في التراب، أو كمن يشذّب وريقات حياته، كما لو أن ذبول الشجر يرتبط بشيب رأسه. أو أن تشقّق الجذوع إنعكاس لتجاعيد وجهه. يلعب الشاعر لعبة العمر بأدوات الطبيعة. يهرب من تسمية الأشياء بأسمائها، فيعطي نفسه كلّ حين إسم شجرة ما. هكذا يوازي بينه وبين الشجرات، حتى ليصير إحداها. ولأنه يريد أن يصرخ، ويعجز عن الصراخ، يهب كتابه عنواناً كهذا، يفتح فم الكتاب عن آخره، ويطلق صراخه من حناجر الشجر. إنها لعبة، على بساطتها الشعرية، ربما، أي على اعتمادها الرومنطيقية أساساً في تركيبتها، عبر العودة إلى الطبيعة، إلا أنها تدخل في صلب التعاطي الشعري مع الزمن بوصفه السؤال الأصعب. يخدعنا شوقي بزيع في كتابه هذا، إذ يجرّنا في بدايته إلى تصديق تلك الرومنطيقية المدّعاة، في حين أنه يحاكي بصوره العذبة تلك، أعمق الجروح في الروح، وبأغصان الأشجار يجلد أجسادنا حتى تنزف دم الأيام والساعات واللحظات الثمينة التي نخسرها كلّما اشتد عودنا، وكلّما عدنا، رويداً رويدا، إلى التراب

يبدأ شوقي بزيع ديوانه بقصيدة افتتاحية. قصيدته الأولى التي تحمل عنوان الكتاب، تبدو لكأنها توطئة له، أو مقدّمة تشرح سبب إقدام الشاعر على تناول الأشجار في كتابه هذا. يؤثر إذاً أن يشرح سبب اتجاهه صوب الشجر، بقصيدة وليس بنصّ نثري، "ذلك أنني منذ البداية/ لم أصخ يوماً/ لغير تنفّس الأوراق في صدري". يحكي لنا حكايته مع الشجر منذ الطفولة، أو بالأحرى منذ الولادة: "حين ولدتُ/ تحت سماء برج الجدي/ هدهدني بقائمتيه/ مهد من جذوع السنديان". يروي لحظات منقضية، زائلة، ولا وجود لها الآن في حياته. لحظات صارت من الماضي، من ذلك الماضي المكتمل، الذي صار ناقصاً لحظة إنتهائه: "الحبق الذي عرّته فيما بعد/ جائحة السنين المستبّدة/ كان يملأ راحتيّ بعطره الأخّاذ". لاحظوا استعمال الفعل الماضي الناقص هنا. العودة إلى الماضي في القصيدة، هي عودة إلى الفراغ، إلى المستحيل والوهم، وهذا يعرفه الشاعر جيداً. إنه لا يخترع ماضياً، ولا يتوق إليه بوصفه خيالاً مستحيلاً. إنه ماضٍ عاشه الشاعر، وخسره لمصلحة الزمن. دفنه تحت أحذية السنين التي تسحق كل شيء. إنه يكتب متأسفاً على خساراته. يكتب سلاماً إلى "الشجر الذي سأصبّ/ ذات عشيّة خضراء/ كالينبوع/ في أحضان تربته البتول". يكتب سلامه إلى الماضي الذي هو التراب، وإلى المستقبل الذي هو التراب أيضاً. يكتب لحارسات جسده بعد الرحيل، للشجرات التي تنبت في بلاد مطمئة "مثل مقبرة بلا موتى". في هذه القصيدة يمكن أن نشمّ رائحة التراب الرطب، كما يمكن أن نسمع حفيف الأوراق، وإنسلال الريح في الغصون، ويمكن أن نسمع صوت أحذية أنثوية تسحق الحصى. ثمة نساء مختبئات في هذه القصيدة. ثمة عويل، وزغاريد وشهوات تشتعل: "كلّ رؤاي أكملها/ تطاير شعر سنبلة/ على أفق الحنين"، "وظلّت زهرة الرمان/ ترمقني بحمرتها". الشاعر ثعلب يعرف كيف يحتال على اللغة، كيف من كلام عن الشجر والأرض والطبيعة، يأخذنا إلى رغبات وآهات وتنهدات.

في القصيدة الثانية من الكتاب يتابع ما بدأه في القصيدة الأولى. يشرح، أكثر، علاقة شعره بالشجر، أو علاقته "الوراثية" أو "البيولوجية" بالشجر: "من تراني أكون إذن؟/ عشبة في شقوق الثرى/ أم جداراً/ لصدّ الطفولة عن خوفها/ من عواء الذئاب/ ومن ظلمة الأقبية؟". يبدأ القصيدة بأسئلة من هذا النوع، وينهيها بأن يترك للشجر أن يصوغ نهايتها: "لن يتمّ القصيدة عني،/ إذا متُّ،/ غير الشجر". يكرّس الشجرات شاعرات ويهبها شرف إتمام القصيدة عنه بعد مماته. هذا شاعر يعرف كيف يقتل الوقت، وكيف يستمر. شوقي بزيع يخترع خلوده في هذا الكتاب. يضع الشجر حاجزاً بينه وبين العدم.

شجرةً شجرة، يعرّش شوقي بزيع في غابة الشعر. يدخل أدغال القصيدة بموضوعاتها الشائكة وعتمتها السرمدية والمتوهّجة. من الزنزلخت الذي "لكأنه شجرٌ لغير زماننا/ ولذا يظلّ بمأمنِ/ من قبضة المتربّصين به،/ غريباً/ لا تهشّ له الجرود"، إلى السنديان "أكثر الأشجار تعويلاً،/ على ما فات"، والصبار الذي "يتطلّع بعفّة راهب نحو الماء،/ لا يمتصّ من جريانه المغوي/ سوى ما يلزم امرأة/ تلامس نفسها/ لبلوغ رعشتها"، أو الرمّان الذي هو شجر "للتأمل من علٍ/ في ما يصيّر زهرةً جرساً"، والتين الذي "كان عليه لكي يكبر/ أن يتعهّد بالحسرات حليب براءته/ المتخثّر مثل دموع بيضاء/ على الأيدي"، أو اللوز الذي "كان جارحاً كمخلب الصقور". كما يكتب عن الزيتون الذي "دونما إجابة/ يغوص في تراب نفسه/ مؤاخياً/ بما له من خيال/ بين عثرة النبات وانحلاله/ وبين محنة الإنسان/ في صراعه مع الخلود/ قبل أن يكذّب الفناء/ حلمه الكسيح". هنا يفصح بصراحة عن معضلته مع الخلود والزمن. عن غيرته من الأشجار، عن توقه إلى البقاء واقفاً، حتى عندما تفارقه الروح، ويغدو جسداً مزروعاً في الأرض. ويكتب عن البابونج، الزهر الذي يبقى "منحنياً أبداً كالغصّة/ فوق خريف العمر".

شجرةً شجرة، يضرب شوقي بزيع بفأسه جذع الزمن، محاولاً إسقاطه، لكن بلا جدوى. شجرةً وراء شجرة، ينعقد زهر القصيدة ثمراً طيباً. القصيدة هي الشجرة المطعّمة بكل أنواع الثمر. لكن يبقى الدمع ندى الأشجار، معلّقاً فوق أهدابها وأغصانها الغضّة. يبقى الدمع، لأن الشاعر يعرف أن الفأس تنتصر دائماً على الجذع. ولذا سأسمح لنفسي بأن أستعير من عباس بيضون أحد عناوين كتبه "شجرة تشبه حطاباً" لأقول إن كل شجرة من أشجار شوقي بزيع تشبه حطاباً قاسياً، وفي الآن عينه يمكنها أن تكون أماً أو حبيبة أو حضن ابٍ رحيم.

النهار
8–1 1-2007