("هل جرحتُ يدك؟ هل جرحتَ خدّك؟" لفادي طفيلي)

سيلفانا الخوري
(لبنان)

فادي طفيلي"هل جرحتَ يدك؟ هل جرحتَ خدّك؟"، بهذا السؤال المزدوج الذي يحمل القارئ على التساؤل عمّا خلف هذين القلق العاطفي واللهفة الشعورية الظاهرين، يعنون الشاعر فادي طفيلي مجموعته الاخيرة الصادرة لدى "دار النهضة العربية". لاحقاً، عندما نقرأ العبارة في السياق الذي وردت فيه، يخفّ إلحاحها العاطفي ويتّضح بعدها الأكثر تعقيداً: "هل جرحت يدك؟/ هل جرحت خدّك؟/ ذقنك... رقبتك...؟/ هل سقط مطر خلال دقائق وأنت تطيل النظر/ بالزجاج". يتحوّل فعل بسيط ونافل كالنظر عبر الزجاج او اليه، الى حركة ذات طبيعة اشكالية، وذلك ضمن تصوّر عام تساعد المجموعة بكاملها في تبلوره.

يكتب طفيلي قصيدة تبدو مستغنية الاّ عن ذاتها، قصيدة لا تتوسل بأي بعد شعوري بحيث تبدو مفرغة منه تماماً، ولا يسع القارئ في كثير من اللحظات الا ان يشعر بتعاظم المسافة بينه وبينها. من هنا تصير المقاربة الذهنية سبيلاً وحيداً الى القصيدة التي تنزع في معظم الاحيان الى مقابلة بين طرفين: ثمة من جهة، عناصر واشياء وكائنات غارقة في حيادٍ سالب، ومن جهة اخرى، نظرة مقابلة لا تبدو مبالية الا بتوكيد حيادها الخاص وتجذيره، فيما يتّخذ التفاعل بين هذين الحيادين بعداً ارتدادياً شبيهاً بالصورة المتكررة الى ما لا نهاية والتي تعكسها مرآتان متقابلتان.

"تذكرتُ أنني/ أقف على الشرفة/ قرب الزريعة تماماً/ وأراقب الشرفة المقابلة/ ورجلاً آخر/ يقف كأنه يتذكّر/ قرب الزريعة/ تماماً.../ تذكرت". أهي خدعة بصرية اذاً ام إقرار بأن الشيء لا يُنتج الا صورته؟ ام هجسٌ باللحظة المتكررة ابداً؟: "كدتُ أبصرك وأنت لا تتوقف عن الموت/ حياتك الجديدة موت يتبع موتاً"، يقول الشاعر في مكان آخر. في كل الاحوال، لا ينفكّ هذا المنحى يعود الى القصيدة، وها هو في السطور الآتية يكشف مرة اخرى عن الهجس نفسه باللحظة المرصودة الى لانهائية تكرارها: "في ضوء القمر الذي ليس لهذه البلاد وعلى/ خلفية معزولة طويلة لا تنتهي على الطريق/ السريع الذي لا ينتهي في السيارة السريعة التي/ لا تتوقف، على الطريق السريع الذي يخترق/ الجبل (...)". اما تحت عنوان "رأس متأرجح ينظر الى الظلال"، فيكتب: "التراب المقلوب منذ اقلّ من يوم يثير الرائحة/ ذاتها التي ليدك الملقاة على الملاءة. وعلى/ الطاولة الصغيرة بمحاذاة السرير كانت الصورة/ القديمة مصفرة قليلاً داخل برواز له لون التراب/ ذاته، التراب المقلوب منذ اقل من يوم، وربما له/ رائحته ايضاً اذ كانت يدك تلامسه دوماً بقصد/ او عن غير قصد".

هكذا تحقّق اشياء العالم بتزامنها، اي بوجودها في مكان واحد، وفي لحظة واحدة، تواصلاً أشبه بانتقال العدوى. هي عدوى قد تتخذ احياناً بعداً مشهدياً غرائبياً تدخل فيه الكائنات والاشياء في "حركة" جماعية وذلك في صلب سلبيتها ومن دون الحاجة الى الخروج منها ولو للحظة: "البيت مثقوب في جبينه. البيت لا يشعر بذلك/ الثقب. الرجل النائم ترك ساعته في الدرج/ كي لا يزعجه دبيبها./ النمل يخرج من أذن الرجل ومن علبة دواء كاذب/ صُنعت أقراصه من سكّر يرفع المعنويات". أحياناً، لا يتوانى الشاعر بنفسه عن افتعال هذا التزامن، فيستحثّه بين اشياء، ارتباطها ليس اكيداً. ينعكس هذا الواقع على بنية القصيدة نفسها بحيث تغيب الجملة بمعناها الناجز والمكتمل، فكل شيء هنا جزء من كل، والشيء لا يؤكد حضوره الا الشيء الآخر. في كل الاحوال، يبقى هذا التواصل سالباً، كأنما الشاعر غير معنيّ بإعادة توظيفه في مسار حدثيّ. ما يهمّه من تزامن الاشياء هو فقط المشهد الممدّدة لحظته الى ما لا نهاية: "إلتفتوا حولكم/ حيث يتكوّم الراديو/ مسترخياً/ باب الحمّام مفتوح/ وينسرب الماء/ حيث يتكوّم الراديو/ مسترخياً/ قرب البراد العصبي".

في القصيدة التي تفتتح المجموعة، يغيب الحدث ولا يحضر الا من خلال اشياء تحضّر له، يكتفي الشاعر بتعدادها ليبني من خلالها مشهداً لم يحصل بعد. نحن حيال ما يشبه الاطلال المتقدِّمة هذه المرة على الحدث والممهِّدة له: "جلبوا ابريق الماء/ والصحن/ والحبل/ والسكين/ جلبوا الخروف/ وابريق ماء آخر/ وصحناً آخر/ وسكيناً آخر/ وكبريتة/ ومنشفة/ وموسى/ ومرآة/ وملقط شعر/ واظافر اصطناعية/ ورموشاً/ واسناناً (...)"،
وهكذا دواليك في عملية تعداد تمهيدية شبه طقسية لا تفضي الى "واقعة" ما بل تصير هي نفسها الواقعة.

على غير المتحقِّق هذا، تنبني القصيدة، لا يحتاج الشاعر الى حدث او واقعة او مشهد او سوى ذلك من الذرائع الشعرية المعتادة. احياناً "وحدها الولاعة تقود/ الى انسداد الرئتين"، فغياب الشيء لديه يعادل حضوره، وما لا يحدث يكتسب اهمية ما يحدث، بحيث تصل به الحال الى حدّ البناء على النفي وحده: "لا اعرف كم حيواناً أليفاً يعيش مع صاحبه في/ هذا البناء. لم اشاهد كلباً واحداً مع صاحبه لا/ في المدخل ولا في المصعد ولا على الدرج ولا/ عند سفرة الدرج، حيث بابي وباب جاري/ معدنيان صامتان وموصدان على اغراض/ حملها كلانا ستّ طبقات./ لم اسمع نباحاً واحداً في هذا البناء/ من شبه المؤكد ان لا كلاب تعيش هنا في الشقق/ مع اصحابها".

(Sylvana.elkhoury@annahar.com.lb )

النهار
19–11-2007