صبحي حديدي
(سوريا/ باريس)

الشيطان في حقل التوتضمن الحدّ الأقصى من الترجيحات المحتملة ــ والواسعة المتشعبة المعقدة ــ التي تتيحها أواليات التخييل الإنساني في توافقها حول سلسلة المعطيات والعلاقات والروابط التي تصنع وتجيز هذه الصورة الشعرية أو تلك، ما الذي يمكن أن تصفه السطور التالية:

كُوني كما تصوّرتُكِ
ساعة إشراق الشمسِ
شعرٌ أخضر يخامر الأصابعَ
يطلع ناعساً من مخمله
ينام على قلبك الأبيض حتى الصباحْ
ويقبض على خصرك الذي يشبه
خاتم قدّيس
أنا منتشٍ هكذا
واسمكِ يمرّ كنسمة على فم المغنّي
أريد أن أذهب إلى السوق
وأشتري من أجلك أرواب زينةٍ
وأضواء مبهرةٍ
"يا أخت أبي" استسلمي لذراعيَّ
فأنا أحبّك حتى النهاية.

هذه أنثى على الأرجح، يقول قارئ. دون ريب، قد يضيف قارئ آخر، متكئاً ــ ليس دون مسوّغات، في الواقع ــ على معطيات بيّنة مثل تواتر ضمير المخاطب المؤنث، والشعر الأخضر، وأرواب الزينة، وأخت الأب. الشاعر، من جانبه، يخاطب كائناً أنثى بالفعل، ولكنها من نوع خاصّ يصعب أن يستدعيه البال من الخزين التصويري المألوف، ولعلّه يشقّ حتى على ذلك البال المدرّب على إطلاق العنان للمجاز: الشاعر يناجي أنثى بالفعل، ولكنها أنثى ـ نخلة!
السطور السابقة جزء من قصيدة "النخلة"، وهي عيّنة أولى على عدد كبير من طرائق التمثيل المجازي الخاصة التي تحفل بها مجموعة "الشيطان في حقل التوت" (1)، للشاعر المصري محمود قرني. ثمة هنا ما يشبه الغوص بالمعنى إلى قيعان الحسّ المحض، وليس بالضرورة ذاك الذي يتخلّق جرّاء اشتغال حاسّة واحدة أو عدد من الحواسّ مجتمعة، حيث يُنتفى التوافق البصري والدلالي المسبق على مجازات النخلة، وتحلّ محلّه تنافرات أكثر منها توافقات! بيد أنها من نوع محسوب، تلك التنافرات التي لا تبدو نافرة عن الموضوع الذي تجسّده إلا في سطوح المعنى المعطاة سلفاً، والمتعارف عليها في ترسانة التخييل الإنساني.
والحال أنّ ذلك الغوص إلى العميق لا يقتصر على استعارات "أخت الأب" أو "أرواب الزينة"، والتي تنتهك شروط التوافق المسبق لأنّ مساحة الدلالة، أياً كان اتساعها ورحابة موازينها، يندر أن تقدّم النخلة في مجاز العمّة أخت أب، أو تلك التي تُشترى لها أرواب الزينة. قرني لا يتوقف هنا، بل هو يهبط بالمعنى ــ وبالأحرى القول: يرتقي به ــ إلى مصافّ أخرى ليست أقلّ تأهيباً للحسّ المحض القادم من، والذاهب إلى، فضاءات ليست البتة من النوع الذي نعرف. إنه يردّ اللغة إلى غرائزيتها البكر، إلى جذورها الأقلّ تماسّاً مع الذاكرة التمثيلية الناجزة الراسخة في الوعي، والأكثر تشابكاً مع الكامن والغامض والخام وغير المستكشَف.
في مواقع أخرى من القصيدة ثمة غزل صريح مع النخلة ـ العشيقة هذه المرّة، يبلغ حدّ القول: "سكب في قلبها حليب أصابعه/ وعندما هبط كان صدره المعطوب/ يعلو ويهبط في هياج/ كأنه فرغ للتوّ من مضاجعة طويلة"؛ وثمة زجّ للنخلة في خضمّ وقائع البشر وحكاياتهم وتواريخهم، حتى يلوح مراراً أنها ليست نخلة بأية حال، بل هي أكبر بكثير من مجرّد كائن نابض بالحياة وشاهد على الحياة؛ وثمة، أخيراً، تلك البرهة الدرامية الكثيفة، التي يلتقطها قرني بإيجاز شديد البراعة، حين تصيبها صاعقة فلا تحترق فقط، بل تنقلب إلى ذكر: "لبستْ بعدها ثوباً بنياً محروقاً/ وفقدت أنوثتها الطاغية/ هي الآن ذكر نخيل لا ينبس"!
وهنالك قصيدة ثانية بديعة بعنوان "كائنات صغيرة"، تسير على منوال مماثل في ردّ اللغة إلى جذورها الغرائزية البكر، واعتماد نبرة إحيائية شاملة إزاء عنصر طبيعي آخر هو الزهرة هذه المرّة. نحن في الآن ذاته أمام طرائق أخرى في الغوص بالمعنى إلى قيعان الحسّ المحض، لأنّ ساحة التصارع على تقديم الزهرة ضمن مجازات مألوفة متناغمة وأخرى مباغتة متنافرة هي ذاتها ساحة التصارع على اللغة التي تنبش الحسّ أكثر من الإحساس، والخفيّ قبل الجليّ، والرؤية بعينين مفتوحتين أكثر من الرؤيا عن طريق الإغماض والاستيهام.
هذه زهرة شاردة، يقول قرني في مستهلّ القصيدة، ولكنها "شربت أرتالاً من الطين والتراب"، ومع ذلك فإنها "لا زالت تتعلّق بأسمائها القديمة". إنه، وكما فعل في استهلال الحديث عن النخلة في القصيدة السابقة، يغلق ألعاب التصوير عند فاتحة أولى حاسمة تدلّ على أنّ الموصوف زهرة، ولكنها ليست شاردة فحسب، ولم تشرب أرتالاً (لاحظوا هذه الوحدة الحسابية المباغتة!) من الطين والتراب فحسب أيضاً، بل هي "زهرة القناديل/ زهرة الأماسي الموجعةْ/ زهرة الحلم والمسرّةْ/ زهرة النزهات الإلهيةِ/ والقلوب العاشقةْ". أكثر من هذا، كأنّ قرني يدلّنا على أوالية الإبصار الأولى (صانعة الحسّ قبل الإحساس...)، حين يقول عن هذه الزهرة "اللبؤة بنت الشمس" إنها "تمضي بشراسة حجر/ وتنام بعينين مفتوحتين".

وثمة هنا أيضاً برهة درامية على غرار ما يفعل قرني في "النخلة"، إذْ أنّ الزهرة تنخرط في متتالية إثر متتالية من التحوّلات التي تردّها إلي صورة أمّها الشجرة، أو تخالف سحر الملاك النائم على ثدي أمّه ليأكل ملكاته الصغيرات، أو تخالف نواميسها فتَطْلُع جذراً في حديد، أو تغادر عطرها... حتى تبلغ ذروة التحوّلات حين تتماهى مع ضمير المتكلّم ــ الذي لا نميّز كثيراً ما إذا كان بشراً أم نباتاً أم جماداً، والقصيدة لا تترك لنا باعثاً ذا مغزى كي نميّز في الواقع ــ فتصبح هي هو، وينقلب هو إليها، حيث الإحيائية هنا مجرّد حصيلة حسّية جبّارة وليست بحال رؤيا ميتافيزيقية عجائبية.
المثال الثالث هو قصيدة "من أجل جزمته"، التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها تدير حوارية بين الرجل و"حذائه اللعين/ الذي اضطرّ لحمله تحت إبطه/ بعد أن أكل أصابعه العشرة"، وذلك طيلة ثلاثة أعوام من الضغينة قضاها الرجل في صمت. القصيدة، القصيرة نسبياً بالقياس إلى "النخلة" و"كائنات صغيرة"، تكاد أن تعيد القارئ إلى الحكاية الشهيرة عن أبي القاسم الطنبوري وحذائه الذي لا يفارقه في جانب أوّل، وهي في جانب ثان تعتمد نبرة سردية وتروي ما يشبه الحكاية البسيطة التي تنتهي إلى موت الرجل وهو يتوسّد حذاءه. وهي، في سطوح المعنى المباشر، أشبه بالأمثولة الواقعية التي يصعب أن تحمل أوزار ما يريده قرني من نصّه الشعري إجمالاً، أي الغوص بالمعنى إلى قيعان الحسّ المحض.

والحال أنّ القصيدة تفعل ذلك، بطرائق مختلفة عن سابقتيها، حين ينجح قرني في اقتيادنا إلى منطقة في التخييل تقليدية ومطروقة هي مزج الواقعيّ بالخيالي، ولكن ليس دون شحن أجواء الواقعيّ بعناصر عالية المجاز ومفتوحة الإيحاء (كما في الحديث عن حذاء يتوجب أن يفقد الذاكرة، أو أمّ تخترق منافذ الهواء بنعلها، أو موت يغافل كنسيج هفهاف، أو روح تصعد كما تمرّ شوكة في حرير، أو إنسان يدخل النار من أجل جزمة...)، وليس دون أن تُجرّ العناصر هذه إياها إلى سياقات حسّية ذات منعكسات ملموسة صارخة. كذلك لا يغفل قرني رياضته الأثيرة في جعل اللغة تتقلّب وتنقلب بين الدلالة الصريحة والدلالة المبطنة، وستولد علاقاتها المتبدّلة في الساحة ذاتها التي تشهد التصارع على بناء المعنى المجازي العالي أسوة بالخطوط الحكائية البسيطة في شبكة العلاقات الخاصة هذه، بين الرجل والحذاء.
مثال رابع يتجلى في قصيدة أخرى بديعة هي "إبراهيم الصحارى"، حيث يلجأ قرني إلى استراتيجيات الغوص العميق ذاتها ولكن عبر بناء شخصية إنسانية شبه روائية وشبه تسجيلية، غائمة الملامح وفردية معرّفة في آن معاً، قبل أن يُلقي بنا ــ عبرها، واعتماداً على تعدّد وجوهها ــ في ساحة اصطراع وتصارع المعنى بين المجاز المعطى الذي نبصره وندركه، والمجاز الغائب الذي يتوجّب اقتفاء أثره. ثمة في القصيدة، سوى شخصية إبراهيم الصحارى ذاتها، شبكة عجيبة تضع أنكيدو وجلجامش وأوروك في الحقل الدلالي ــ وربما الرمزي السياسي ــ لأمثال تروتسكي وروزا لوكسمبورغ وسيبل وألكساندرا وسيبيريا... في سياقات محلية ومصرية لا تخفى!

وثمة جدل خاصّ في انكشاف هذه الشبكة، حيث القاسم المشترك فيها إبراهيم نفسه، ثمّ مَن وما يقف خلفه: خلف تروتسكي إبراهيم، وخلف إبراهيم الماضي، وخلف الماضي إمرأة لا يبوح باسمها، وخلفها الموت... حتى أنّ الحلقة لا تبدو وقد فُتحت لكي تُغلق عند كلّ شخص/ رمز أو شخص/ دلالة، أو كأنّ فضيلة هذا التوالد هي أنّه يشرّد المعنى بعيداً عن ترجيحاته الشائعة. أهمية هذه القصيدة أنها بالفعل تعتمد الآدميّ استعارة مفتوحة على غرار استعارة النخلة والزهرة، ولكنها تخضعه لسيرورات إحيائية معاكسة إذا صحّ القول: إنه بشر من لحم ودمّ، ولكن الشبكة التي تزجّه فيها القصيدة تحيله إلى مجاز عائم، غنيّ ومتشابك ومتراكب وأخّاذ. القصيدة هي التي تولّت صناعته، والقصيدة هي التي تتولى خلاصه:

يا رفاقي
تذكّروا السفينة الجميلة
التي استقلّها الموت
إلي الفيضان
فنجا وحده
وعاش من أجلنا
إنه يسكن الكثير من خطواتنا
يسكن في سراديب سرّية لا يعلمها إلا مَن رآه
خلف إبراهيم
يجلس الموت
وسوف أكتب
قصيدة جديدة
عن صراعهما غير المتكافئ

الطرائق السابقة، وسواها كثير كما ينبغي القول ببهجة خاصة، تنطوي على مجازفة تعبيرية ليس الفاصل فيها بين المعنى واللامعنى، وبين المجاز واللغو، إلا ذلك الخيط الواهي الرفيع غير المرئي. وهكذا فإنّ ما نلذّ له حين نتوافق مع توافقات قرني التي تنتهك خزين مخيّلتنا المألوفة، يضعنا في الآن ذاته إزاء مشاقّ استقبال عدد آخر من تمثيلاته التصويرية، دَعْ جانباً احتمال فشلنا في تفكيك عناصرها وعجزنا بالتالي عن حُسْن تثمينها. إنه، مثلاً، يطلب من الحمّى أن تتمهل حتى يلقي نظرة أخيرة على خيبته، "هذه التي ذبحتني بين جحيم وجحيم/ وأضحكت منّي خرافاً صغيرة/ هي في الأصل نهودٌ مُغيْرة". وليس من اليسير، بل هي رياضة شاقّة للغاية في الواقع، أن تتفاعل أية مخيّلة، أياً كان مقدار نشاطها وتحرّرها من المعطيات المألوفة، أن تقيم الرباط التصويري الذي يريده الشاعر بين الخراف والنهود.
مثل هذا أيضاً قوله: "للشيخوخة التي حوّلت فمي/ إلى ساحة يتشاجر فيها الأحفاد"؛ وكذلك حديثه عن أميرة "تشبه برج كنيسة/ يحاول دائماً أن يغادر المحراب"؛ أو، أخيراً، قوله: "يقرص معونة الشتاء في أذنها/ قبل أن يسمّيها عبث الآلهة". غير أنّ هذه ضريبة مستحقة على القارئ، لقاء ما يوفّره قرني من مباهج تصويرية فاتنة حقاً:

ـ "بحيرة من الصراخ والعويل"؛
ـ "أدلق جردلاً من السبرتو/ على مدن هؤلاء الحمقى/ وبعود ثقاب يمكنني إنهاء المسألة"؛
ـ "ستعودين ـ قطعاً ـ إلى عرض البحر/ وبفضل التكنولوجيا التي تقدّسينها/ ربما تحوّلتِ إلى بارجة"؛
ـ "كانت رؤوماً كإبنة بارّة/ ونحيفة كأكاليل الغار"؛
ـ "كان أبوه قد ألقى به/ كنرد في خلاء"؛
ـ "تمضي بشراسة حجر"، "هذه الصبية التي تدمّر حقلاً/ بشارة إصبع/ ثمّ تملأ الأباريق/ بدموعها..."؛
ـ "ويكسرون زلّة لساني/ بكلام أفهمُ قليله/ وأترك بقاياه على أقرب قارعة"؛
ـ "آثرتُ الصمت/ وربطتُ لساني في عربة يدٍ صغيرة/ مات طفلُها"؛
ـ "كانت طرية هادئة/ تطفو بسهولة كأنبوب في غدير"؛
ـ "قالت له: يا بنيّ كُنْ هبة موشومة بالمحبة/ فكان غاراً عملاقاً لفأر في متاهة"؛
ـ "كان أمام البيت يرمق جدّته/ وينزع مسمارين دقّهما الفقر/ في عينيها"؛
ـ "المهمّ أن نبحث عن الجرادة/ التي اختبأت قروناً في قلب الوردة/ وتجمدت معها في ثلج سيبريا"؛
ـ "كانتا كنهارين شاسعين/ اخترَقَهما مساءٌ"...

والمجموعة تضمّ عشر قصائد متفاوتة الحجم، أقصرها "باب الأكاذيب" التي تقع في 30 سطراً، وأطولها "إحدى وعشرون طلقة على روحه" التي تزيد عن 330 سطراً. الدلالة الخاصة في هذا التفصيل هي طبيعة الضغوط التي يمكن أن يمارسها الحجم على شكل القصيدة من جانب أوّل، وعلى موضوعاتها من جانب ثان. فالقصيدة القصيرة والمتوسطة تبدو أقرب إلى الغنائية والإنشاد وبناء اللقطة الخاطفة وإحكام الإيقاع، كما في هذا المثال من قصيدة "ميدوزا":

أيّ شاطئ سيأخذني اليومَ
إلى المياه الدافئةْ؟
وأيّ الضحايا ستبكيها المفازة
التي ملأناها بالسعادينْ
أهي الأوجاع التي ذابتْ في عروق أصابعنا
أهو الضباب الذي جعل الغزالة تخطيء قاتلها
أم هي أوراق الأشجار التي حملتها المياه العميقة إلى الغائبين
هذه الأشياء العابرة التي لا أعرف شيئاً
عن مصيرها
تقطع الطريق جيئة وذهاباً
إنها الأغنيات الضالة
التي تركت العنان لأميرة
تتحدّث عن الحبّ أمام رجل ميت...

والقصيدة الطويلة تميل إلى النَفَس الملحمي والمسح البانورامي والسرد واستحضار التاريخ والتقطيع إلى أجزاء. قصيدة "إحدى وعشرون طلقة على روحه" تنقسم إلى أربعة أجزاء، ولا ريب في أنّ قرني بذل جهداً مضنياً كي يُبقي هذه الأجزاء مترابطة في الحدّ الأدنى، ليس بمعنى افتعال "وحدة عضوية" للقصيدة، بل وصولاً إلى تلك الحال المدهشة من تعدّد الأصوات والضمائر والنبرة والتشكيلات الإيقاعية. وفي القصيدة الكثير من عناصر السيرة الذاتية كما يلوح جليّاً، حول الذات والأب والأمّ وزوجة الأمّ والجدّ؛ وفيها استجماع مَزْجي لتجليات الخير والشرّ والحياة والموت والحاضر والماضي، حيث تُتاح الفرصة كي تتسلل غنائية شفيفة هنا وهناك، أو وقفة رثائية، أو ترتيل يمزج الغزل بالصلاة؛ وفيها عمارة للموضوعات ذات طابع تشكيلي وتعاقبي: فاتحة بضمير المتكلم عن الخيبة والحبّ، ثمّ تنويع للضمائر والشخوص والعناصر، بينها الماضي الشخصي والسيرة والحرب والتاريخ، ونقلة إلى المدينة وبوّابات العالم الواسع والجدّ والجدّة والحرب من جديد، واختتام بالعودة ثانية إلى عنصر الاستهلال والحبّ والحبيبة...
وتبقى إشارة إلى أمرين هامّين في سيرة محمود قرني الأسلوبية:

الأوّل أنه بدأ بقصيدة العمود؛ ثمّ انتقل إلى قصيدة التفعيلة بين سنوات 1985 ـ 1990، ومجموعته "خيول على قطيفة البيت" (2) تضمّ بدورها عشر قصائد في هذا الشكل؛ قبل أن يستقرّ نهائياً على قصيدة النثر في مجموعاته اللاحقة. وقارئ قصائد التفعيلة تلك يلمس بوضوح تمرّس قرني النسبي في هذا الشكل، وهذا يفسّر استجابته الملحوظة لإغواء الإيقاع والتشكيلات الإيقاعية في ما سيكتب بعدئذ من شعر في شكل قصيدة النثر.

الأمر الثاني أنه، في بدء حياته الشعرية، كان شديد التأثّر بشعر محمد عفيفي مطر، خصوصاً مجموعته الشهيرة الفارقة "ملامح الوجه الأنبادوقليسي"، وهذا بدوره يفسّر ذلك المزيج الخاصّ من حشد النبرة الفلسفية وميتافيريقا المكان والأسطورة، واستعادة المشهدية الرعوية ومناخات القرية المصرية والريفية إجمالاً. لكنّ حال قرني مع عفيفي مطر لم تختلف عن حاله مع قصيدة التغعيلة، لأنه سرعان ما تحرّر من ذلك التأثير (الذي، في قناعتي، لم يكن طاغياً على أية حال) فاستجمع صوته الشخصي، وأخذت مجموعاته تراكم نبرة متميّزة تلو أخرى، بحيث أننا نقرأ اليوم واحداً من أنضج شعراء مصر المعاصرين، وأكثرهم انفراداً في الموضوعات والأسلوبية والأدوات.